منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

بإرادة عدم المنع الشرعي من التّالي (١) في الشرطيّة الأولى ، لا (٢) الإباحة الشرعيّة ، وإلّا (٣) كانت الملازمة واضحة البطلان ، وإرادة (٤)

______________________________________________________

لم تصدق القضيّة الشرطيّة ، فالمراد بجواز الترك عدم المنع الشرعي ، لا الإباحة الشرعيّة. وحينئذ تصدق الشرطيّة ، ضرورة وجود الملازمة بين نفي الوجوب عن فعل المقدّمة ، وبين عدم المنع شرعا من تركها.

فالمتحصل : أنّ المقدّمة الّتي يحتاج إليها في إصلاح الشرطيّة الأولى وهي : «لو لم تجب المقدّمة ، لجاز تركها» هي : إرادة عدم المنع الشرعي من قوله : «لجاز تركها» ، لا الإباحة الشرعيّة ، وإلّا كانت القضيّة كاذبة ، لوضوح بطلان الملازمة بين عدم الوجوب الشرعي ، والجواز الشرعي بمعنى الإباحة.

وأما المقدّمة التي يحتاج إليها في إصلاح الشرطيّة الثانية ـ وهي قوله : «فان بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق» ـ فهي : إرادة الترك ممّا أضيف إليه الظرف أعني : «حينئذ» لا إرادة نفس الجواز ، لأنّ إرادته مع إيجاب الإتيان بذي المقدّمة لا توجب التكليف بما لا يطاق ، فتكون هذه الشرطيّة كاذبة ، وصدقها يتوقّف على إرادة الترك ممّا أضيف إليه الظرف.

وبهذين الإصلاحين تصدق كلتا الشرطيّتين.

(١) وهو قوله : «لجاز تركه» ، فإنّه التالي في الشرطيّة الأولى ، وهي : «أنّه لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها».

(٢) يعني : لا بإرادة الإباحة الشرعيّة.

(٣) يعني : وإن لم يرد من جواز الترك : عدم المنع الشرعي ، بل أريد به الإباحة الشرعيّة كانت الملازمة بين المقدّم ـ وهو عدم وجوب المقدّمة ـ وبين التّالي ـ وهو جواز الترك ـ واضحة البطلان ، لما عرفت آنفا ، فتكون القضيّة الشرطيّة الأولى كاذبة.

(٤) معطوف على قوله : «إرادة عدم المنع الشرعي» ، وهذا إشارة إلى : الإصلاح الثاني الّذي تقدّم توضيحه بقولنا : «وأمّا المقدّمة الّتي يحتاج ... إلخ».

٤٠١

الترك (*) عمّا أضيف إليه الظرف (١) ، لا نفس الجواز (**) ، وإلّا فمجرّد الجواز بدون الترك لا يكاد يتوهّم معه صدق القضية الشرطية الثانية ـ ما (٢) لا يخفى ،

______________________________________________________

(١) وهو قوله : «حينئذ» بعد قوله : «لجاز تركها» ، توضيحه : أنّ تنوين «حينئذ» عوض عن مقدّر أضيف إليه «إذ». فان كان ذلك المقدّر جملة : «جاز تركها» كما يقتضيه ظاهر العبارة بأن يكون الأصل : «حين إذ جاز تركها» لزم كذب الشرطيّة الثانية ، إذ يلزم من مجرّد جواز ترك المقدّمة مع بقاء الواجب النفسيّ على وجوبه محذور التكليف بما لا يطاق. وإنّما يلزم هذا المحذور إذا ترك المقدّمة ، ضرورة أنّه لا يقدر حينئذ على الإتيان بالواجب ، لصيرورته غير مقدور بسبب ترك مقدّمته. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل المتكفّل لإصلاح الدليل المزبور.

(٢) مبتدأ مؤخّر لقوله : «وفيه بعد إصلاحه ... إلخ». وهذا هو المقام الثاني المتضمّن لإبطال الدليل المذكور.

وحاصل وجه بطلانه : أنّ ترك المقدّمة المفروض جوازه شرعا لا يوجب شيئا من المحذورين اللّذين : أحدهما الخلف ، وهو خروج الواجب عن الوجوب.

والآخر : التكليف بما لا يطاق ، وذلك لأنّ المقدّمة وإن لم تكن واجبة شرعا ، لكن العقل يحكم بوجوبها إرشادا من باب حسن الإطاعة عقلا ، حذرا عن الوقوع في عقاب ترك الواجب ، فإذا ترك المقدّمة لزم سقوط أمر ذيها بالعصيان ، فلا أمر حينئذ ليجب به ذو المقدّمة. فإن أراد المستدلّ من خروج الواجب عن الوجوب هذا المعنى ، فلا بأس به. لكنّه ليس بمحذور ، لأنّ سقوط التكليف يكون تارة بالإطاعة ، وأخرى بالعصيان.

فقول المستدل : «بأن المقدّمة إن لم تكن واجبة لجاز تركها شرعا» صحيح ، لكن قوله : «انّ ترك المقدّمة يستلزم أحد المحذورين ، وهما : الخلف ، والتكليف بغير

__________________

(*) هذا ما احتمله المحقق السبزواري على ما نسب إليه في تقريرات الشيخ.

(**) هذا ما احتمله صاحب المعالم (قده).

٤٠٢

فإنّ (١) (*) الترك بمجرّد عدم المنع شرعا لا يوجب صدق إحدى (٢) الشرطيّتين ، ولا يلزم [منه] (٣) أحد المحذورين ، فإنّه (٤) وإن لم يبق (**) له وجوب

______________________________________________________

مقدور» غير سديد ، لعدم لزوم شيء منهما حين ترك المقدّمة المفروض جوازه شرعا حتى يكشف بطلان التالي عن بطلان الملزوم ، وهو عدم وجوب المقدّمة.

(١) هذا تقريب الإشكال على الدليل المزبور ، وقد عرفته بقولنا : «وحاصل وجه بطلانه ... إلخ».

(٢) يعني : لا يوجب عدم المنع شرعا عن ترك المقدّمة صدق شيء من الشرطيّتين المتضمّنتين لمحذوري الخلف ، والتكليف بما لا يطاق ، لارتفاع الوجوب بالعصيان.

(٣) يعني : لا يلزم من الترك شيء من المحذورين المذكورين.

(٤) الضمير للشأن. هذا تقريب قوله : «فإنّ الترك بمجرّد عدم ... إلخ».

__________________

(*) هذا مذكور في تقريرات شيخنا الأعظم (قده) في مقام ردّ المحقّق السبزواري ، قال المقرر : «والظاهر : أنّ مجرّد الترك لا يلازم اللازمين المذكورين ، إذ التّرك على تقدير الوجوب بمنزلة ترك نفس الواجب ، فيختار ارتفاع التكليف ، ولا يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا ، لأنّ ارتفاعه إمّا بالامتثال ، أو بتحقّق المعصية ، وهذا الوجوب إنّما يرتفع بواسطة تحقّق العصيان».

وحاصله : أنّ ارتفاع التكليف بالعصيان كارتفاعه بالإطاعة أجنبيّ عن انقلاب الوجوب المطلق إلى المشروط الّذي هو مناط الخلف المذكور في الدليل المعبّر عنه بخروج الواجب المطلق عن كونه واجبا ، وذلك لاستحالة تقيّد التكليف بامتثاله كامتناع تقيّده بعصيانه ، إذ يلزم من التقييد بهما طلب الحاصل ، واجتماع النقيضين على التفصيل المتقدّم في مبحث التعبّدي والتوصّلي.

(**) لا يخفى أنّ هذا التعبير خلاف ما يقتضيه سوق البيان ، لأنّ غرضه من قوله : «فإنّه وإن لم يبق له وجوب ... إلخ» دفع توهّم ، وهو : أنّ ارتفاع وجوب

٤٠٣

معه (١) ، إلّا أنّه كان ذلك (٢) بالعصيان ، لكونه (٣) متمكّنا (٤) من الإطاعة والإتيان ، وقد اختار تركه بترك مقدّمته بسوء اختياره ، مع حكم العقل بلزوم إتيانها إرشادا (*) إلى ما في تركها من العصيان (٥) المستتبع للعقاب.

______________________________________________________

(١) أي : ترك المقدّمة ، وضمير ـ أنّه ـ في قوله : ـ إلّا أنّه ـ للشأن.

(٢) المشار إليه هو : عدم بقاء الوجوب لذي المقدّمة.

(٣) تعليل لكون علّة ارتفاع الوجوب عن ذي المقدّمة هي العصيان. ووجهه واضح ، إذ المفروض تمكّنه من امتثال أمر ذي المقدّمة ، فلم يفت الواجب النفسيّ إلّا بسوء اختياره ، فارتفاع الوجوب مستند إلى العصيان ، لا إلى ترك المقدّمة ، مع عدم المنع عنه شرعا حتى يقال : إنّ عدم المنع شرعا عن ترك المقدمة أوجب خروج الواجب المطلق عن إطلاق الوجوب إلى اشتراطه ، وهو خلف ، إذ المفروض إطلاق الوجوب بالنسبة إلى وجود المقدّمة ، فارتفاع الوجوب بترك المقدّمة يدلّ على عدم إطلاقه ، وأنّه مشروط بوجود مقدّمته ، وهذا خلف.

(٤) مع ترك المقدّمة من الإطاعة الواجبة بحكم العقل.

(٥) لأمر ذي المقدّمة المستتبع ذلك العصيان لاستحقاق العقوبة.

__________________

ذي المقدّمة بالعصيان عين المحذور أعني : خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا ، فهذا اعتراف بترتّب هذا المحذور على ترك المقدّمة المفروض عدم المنع عنه شرعا ، ولازم هذا المحذور الالتزام بوجوب المقدّمة.

هذا ملخّص التوهم ، ولم يذكره المصنّف قبل ذلك حتى يدفعه بقوله : «فإنّه وإن لم يبق ... إلخ» ، فالصواب أن تكون العبارة هكذا : «ولا يلزم منه أحد المحذورين لارتفاع التكليف بالعصيان ، وليس هذا خروج الواجب المطلق عن الوجوب ، لوضوح الفرق بينه وبين سقوط التكليف بالإطاعة ، أو العصيان» ، فتدبّر.

(*) هذا اعتراف من المصنف (قده) بكون أمر المقدّمة إرشاديّا ، إذ لا مصلحة فيها إلّا امتثال أمر ذي المقدّمة ، فلو تركها لا يترتّب على تركها غير عصيان أمر ذيها

٤٠٤

نعم (١) : لو كان المراد من الجواز (٢) جواز الترك شرعا وعقلا يلزم أحد المحذورين (٣) ، إلّا أنّ الملازمة (٤) على هذا (٥) في الشرطيّة الأولى (٦) ممنوعة (٧) ، بداهة أنّه لو لم يجب شرعا لا يلزم أن يكون جائزا شرعا وعقلا ،

______________________________________________________

(١) استدراك على قوله : «فإنّ الترك بمجرد عدم المنع شرعا ... إلخ».

وحاصله : أنّ عدم لزوم المحذورين ـ وهما : الخلف ، والتكليف بما لا يطاق ـ من جواز ترك المقدّمة مبنيّ على إرادة الجواز الشرعي.

وأمّا إذا أريد به جواز تركها شرعا وعقلا ، فيترتّب عليه أحد المحذورين المتقدّمين لا محالة ، إذ لا ملزم حينئذ بإتيان المقدّمة ، فتركها المؤدّي إلى ترك ذيها لا يكون عصيانا لأمر الواجب النفسيّ ، فيسقط وجوب ذي المقدّمة لا بالإطاعة ، ولا بالعصيان ، بل للخلف ـ وهو خروج الواجب المطلق عن الوجوب ـ وذلك باطل جزما.

(٢) يعني : في تالي الشرطيّة الأولى ، وهي : «لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها».

(٣) وهما : الخلف ، وتكليف ما لا يطاق. وقد تقدّم تقريب اللّزوم عند شرح قول المصنف : «نعم لو كان المراد من الجواز» ، فراجع.

(٤) بين الشرط وهو : «لو لم تجب المقدّمة» ، وبين الجزاء وهو : «لجاز تركها».

(٥) المشار إليه هو : جواز ترك المقدّمة شرعا وعقلا.

(٦) وهي : لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها.

(٧) وجه منع الملازمة بين عدم وجوب المقدّمة شرعا ، وبين جوازها شرعا وعقلا هو : ما أفاده بقوله : ـ بداهة أنه ... إلخ ـ.

ومحصله : أنّ نفي الوجوب شرعا لا يستلزم الجواز شرعا وعقلا ، لإمكان

__________________

الموجب لاستحقاق العقوبة. وهذا الاعتراف ينافي ما أفاده سابقا من قوله : «والأولى إحالة ذلك إلى الوجدان ... إلخ» ، لأنّ غرضه من التمسك بالوجدان إثبات الوجوب المولوي للمقدّمة ، فلاحظ وتأمّل.

٤٠٥

لإمكان أن لا يكون محكوما بحكم شرعا وإن كان واجبا (*) عقلا إرشادا ، وهذا واضح.

وأمّا التفصيل بين السبب وغيره (١) ، فقد استدلّ على وجوب السبب بأنّ (٢)

______________________________________________________

خلوّ المقدّمة عن الحكم الشرعي ، وكفاية حكم العقل بلزوم الإتيان بها إرشادا ، فليس جواز ترك المقدّمة عقلا وشرعا من مقتضيات عدم وجوبها حتى يعدّ من لوازمه.

فالمتحصل : أنّه يرد على الدليل المزبور أحد إشكالين : إمّا كذب الشرطيّة الأولى ، وهي : «لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها» إن أريد جواز الترك شرعا وعقلا ، وإمّا كذب الشرطيّة الثانية ، وهي : «فإن بقي الواجب على وجوبه ... إلخ» إن أريد جواز الترك شرعا فقط ، إذ لا يلزم التكليف بما لا يطاق بمجرّد جواز الترك شرعا مع حكم العقل بلزوم إيجاد المقدّمة إرشادا.

والحاصل : أنّه ـ بناء على عدم وجوب المقدّمة شرعا ـ لا يلزم شيء من المحذورين المتقدّمين.

(التفصيل في وجوب المقدمة : ١ ـ بين السبب وغيره)

(١) بالوجوب في السبب ، وعدمه في الشرط ، وهذا التفصيل منسوب إلى علم الهدى (قده) ، وقد نقل هو والتفتازاني والبيضاوي وبعض شرّاح المختصر : «الإجماع عليه» ، وأنت خبير بما في هذا الإجماع.

(٢) هذا ثالث الوجوه المذكورة في البدائع ، وهو مؤلّف من أمرين :

أحدهما : أنّه لا ريب في اعتبار القدرة في متعلّق التكليف ، فيقبح تعلّقه بغير المقدور ، لقبح مطالبة العاجز عقلا.

ثانيهما : أنّ المسبّبات خارجة عن حيّز القدرة ، وإنّما المقدور هو الأسباب ،

__________________

(*) الأولى أن يقال : «واجبة» وكذا تأنيث الضمائر التي قبله ، لرجوعها إلى «المقدّمة» وإن كان الأمر في التذكير والتأنيث سهلا.

٤٠٦

التكليف لا يكاد يتعلّق إلّا بالمقدور ، والمقدور لا يكون إلّا هو السبب ، وإنّما المسبّب من آثاره المترتّبة عليه قهرا ، ولا يكون (١) من أفعال المكلّف وحركاته أو سكناته ، فلا بد (٢) من صرف الأمر المتوجّه إليه عنه إلى سببه (٣).

ولا يخفى ما فيه (*) من أنّه (٤) ليس بدليل على التفصيل ، بل على

______________________________________________________

والمسبّبات تعدّ من آثارها المترتّبة عليها قهرا.

ونتيجة هذين الأمرين : لزوم صرف الأمر المتعلّق بالمسبّب في ظاهر الخطاب إلى السبب ، لامتناع الأخذ بظاهره ، وهو تعلّق التكليف بغير المقدور ، فإنّ هذا قرينة عقليّة على صرف هذا الظاهر ، كالقرينة اللفظيّة الحافّة بالكلام الصارفة للظهور.

وعليه : فإذا أمر الشارع بالتزويج ، أو بتحصيل الطهارة الحدثيّة ، ونحو ذلك ، فلا محيص عن صرفه إلى الأسباب المحصّلة للزواج كالعقد ، وللطهارة كغسل البدن ، أو غسل الوجه واليدين ، ومسح مقدّم الرّأس والرّجلين ، لعدم القدرة على الزواج ، والطهارة ، بل المقدور أسبابهما.

(١) أي : المسبب ، وضميرا ـ آثاره ـ و ـ عليه ـ راجعان إلى السبب.

(٢) هذه نتيجة الأمرين اللذين أشار المصنّف إلى أوّلهما بقوله : «بأنّ التكليف ... إلخ» ، وإلى ثانيهما بقوله : «والمقدور لا يكون إلّا هو السبب».

(٣) هذه الضمائر الثلاثة راجعة إلى المسبّب ، كما هو واضح.

(٤) محصله : أنّ هذا الوجه ليس دليلا على التفصيل في مورد البحث ـ وهو الوجوب الترشّحي الثابت للمقدّمة الّتي هي سبب وجوب ذيها ، دون المقدّمة الّتي هي شرط ـ حتى يفصّل بين السبب والشرط : بوجوب الأوّل ، دون الثاني.

توضيحه : أنّ مقتضى البرهان المزبور : انحصار التكليف في واحد متعلّق بالسبب ، ومن المعلوم : أنّ هذا التكليف نفسيّ ، فيكون السبب واجبا نفسيّا ، وليس هذا الوجوب محلّ البحث عند من فصّل بين المقدّمة الّتي هي سبب ، والّتي

__________________

(*) هذا ثالث الأجوبة الّتي ذكرها في البدائع.

٤٠٧

أنّ الأمر النفسيّ إنّما يكون متعلّقا بالسبب ، دون المسبّب. مع (١) (*) وضوح

______________________________________________________

هي شرط ، بل المبحوث عنه هو الوجوب الترشّحي. والبرهان المزبور لا يقتضي وجوب السبب ترشّحيّا ، إذ ليس وجوبه على هذا للتوصّل به إلى واجب آخر ، وإنّما وجوبه نفسيّ ، وأين الوجوب النفسيّ من الغيري؟

(١) هذا جواب آخر عن البرهان المزبور ، وحاصله : عدم تسليم صرف الأمر بالمسبّب إلى السبب لأجل عدم مقدوريّة المسبب.

توضيحه : أنّ القدرة المعتبرة في التكاليف أعمّ من المباشريّة والتسبيبيّة ، فالأمر بالإحراق صحيح ، لكونه مقدورا بواسطة الإلقاء ، ولا موجب لصرفه عن الإحراق إلى سببه وهو الإلقاء. ولا دليل على اعتبار خصوص القدرة المباشريّة في الخطابات ، بل بناء العقلاء على اعتبار مطلق القدرة فيها.

__________________

(*) هذا ما ذكره جماعة منهم صاحب المعالم ، وجعله في البدائع أوّل الأجوبة.

ولا يخفى أنّ الأنسب تقديم الجواب الثاني على الأوّل بأن يقال : «إنّ في الاستدلال المزبور : أوّلا : عدم تماميّته في نفسه ، لابتنائه على عدم مقدوريّة المسبّب وهو فاسد ، لكونه مقدورا مع الواسطة ، فلا وجه لصرف الأمر المتعلّق بالمسبّب إلى السبب ، بل المسبّب واجب نفسي ، ويكون مقدّمته الّتي هي سبب كسائر المقدّمات من الشرط وغيره داخلة في محلّ النزاع من دون خصوصيّة للمقدّمة الّتي هي سبب.

وثانيا : ـ بعد تسليم عدم مقدوريّة المسبّب ـ أجنبيّته عن المدّعي ، لأنّ مقتضى الدليل كون وجوب السبب نفسيّا ، وهو غير الوجوب الترشّحي التّبعي المبحوث عنه.

وثالثا : أنّ الدليل المزبور لو تمّ لجرى أيضا في الجزء الأخير من الشروط ، كما لا يخفى». وقد عدّ هذا الوجه في البدائع ثاني الأجوبة.

بل مقتضى الدليل المذكور : وجوب كلّ فعل مباشري سواء أكان سببا ، أم شرطا ، أم معدّا ، لكون الجميع مقدورا بلا واسطة.

٤٠٨

فساده ، ضرورة أنّ المسبّب مقدور للمكلّف ، وهو متمكّن عنه بواسطة السبب ،

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ثم إنّ تحرير التفصيل بين السبب وغيره على ما في المتن ، وسائر الكتب الأصوليّة ليس تفصيلا في الوجوب الترشّحي بين المقدّمة الّتي هي سبب ، وغيرها ، بوجوب الأولى دون غيرها ، بل مرجعه إلى إنكار وجوب المقدّمة رأسا ، أمّا السبب ، فلكونه واجبا نفسيّا ، وأمّا غيره ، فلإنكار الملازمة. فالمفصّل بين السبب وغيره منكر حقيقة لوجوب المقدّمة مطلقا ، لا مفصّل بين السبب وغيره.

وتحرير التفصيل على ما أفاده الشيخ المحقق الأصفهانيّ (قده) في حاشيته على المتن بقوله : «بل الصحيح في تحرير التفصيل إمّا بالقول بوجوب غير المقدّمة الّتي هي سبب ، لعدم المحذور ، وبعدم وجوب السبب مقدّميّا ، حيث لا وجوب لمسبّبه ، ووجوبه نفسيّا لا دخل له بمورد التفصيل ، وهو الوجوب المقدمي. وإمّا بأن يحرّر النزاع في وجوب المقدّمة في خصوص غير المقدّمة الّتي هي سبب ، فإنّ المقدّمة الّتي هي سبب لا يعقل وجوب مسبّبها حتى يتكلّم في الملازمة بين وجوبه ووجوبها».

وإن كان متينا في نفسه ، لكنّه أجنبيّ عن موضوع كلام المفصّلين ، لتصريحهم بوجوب المقدّمة الّتي هي سبب ، دون غيرها من المقدّمات.

فحمل كلامهم على وجوب غير المقدّمة التي هي سبب ، لعدم المحذور ، وعدم وجوب السبب مقدّميّا ، إذ لا وجوب لمسبّبه حتى يترشّح منه وجوب مقدّمي على سببه مناف لتصريحهم بعدم وجوب غير المقدّمة الّتي هي سبب ، واختصاص الوجوب الغيري بالسبب.

وكذا حمل كلامهم على كون موضوع النزاع عندهم في وجوب المقدّمة خصوص غير المقدّمة الّتي هي سبب ، وأمّا هي ، فلا يعقل وجوب مسبّبها حتى يتكلّم في الملازمة بين وجوبه ووجوبها. فإنّ ذلك كلّه خلاف تصريحاتهم بتعميم محل النزاع في وجوب المقدّمة لجميع المقدّمات ، وبيان مصبّ الأقوال.

٤٠٩

ولا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة ، كانت بلا واسطة (١) أو معها (٢) ، كما لا يخفى.

وأمّا التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره (٣) ، فقد استدلّ على الوجوب في الأوّل : بأنّه لو لا وجوبه (٤)

______________________________________________________

(١) كالصلاة ، والصوم ، والحج ، وأكثر الواجبات.

(٢) كالطهارة الحدثيّة بناء على كونها حالة نفسانيّة مترتّبة على أفعال خاصّة.

٢ ـ التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره

(٣) الشرط الشرعي كالوضوء ، والغسل ، والستر بالنسبة إلى الصّلاة ، وغير الشرط الشرعي كالمسير إلى الحج. ثم إنّ هذا التفصيل منسوب إلى الحاجبي.

(٤) أي : الشرط الشرعي ، وضمير ـ بأنه ـ للشأن. وحاصل هذا الدليل الّذي جعله أوّل أدلة التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره هو : أنّ الشرطيّة لا بدّ أن تكون عقليّة ، أو عاديّة ، فإن لم تكن كذلك ، فلا بدّ أن تكون بالوجوب الشرعي الغيري ، وكلّما كان كذلك فهو شرط شرعي. وعليه : فتكون شرطيّته موقوفة على

__________________

فإن أراد (قده) تحرير ما هو محل النّزاع بين القوم ، فذلك توجيه لا يتحمّله كلامهم. وإن أراد (ره) تحريره على وجه يصح في نظره وإن لم يكن مرتبطا بكلامهم ، فلا بأس به.

وكيف كان ، فالحق أن يقال : إنّ تحرير التفصيل بين السبب وغيره بالوجوب المقدّمي في الأوّل ، وعدمه في الثاني على النحو المذكور في الكتب الأصوليّة صحيح غاية الأمر : أنّ أدلّتهم لا تفي بإثبات مرامهم ، إلّا الإجماع إن تمّ.

والإشكال على الدليل لا يسري إلى عنوان المدّعى ، ولا يوجب عدم صحّته ، بداهة أنّ غفلة المستدل عن ترتّب اللوازم الباطلة على دليله لا توجب بطلان عنوان مدّعاه ، لإمكان أن يكون له برهان وثيق على صحّته وإن لم يتفطّن هو له ، فتأمّل جيّدا.

٤١٠

شرعا لما كان شرطا ، حيث إنّه (١) ليس ممّا لا بدّ منه عقلا ، أو عادة.

وفيه (٢) : ـ مضافا إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي ـ أنه

______________________________________________________

وجوبه الشرعي كالوضوء ونحوه من الشرائط الشرعيّة ، ولذا عبّر عن هذا الدليل في القوانين : «بأنّه لو لم يكن واجبا لم يكن شرطا» فشرطيّة الشرط الشرعي متقوّمة بالوجوب الثابت له بالفرض.

(١) أي : الشرط الشرعي ، وهذا إشارة إلى وجه توقّف شرطيّته على وجوبه الشرعي.

وحاصل وجهه : أنّ شرطيّة الشرط الشرعي ليس عقليّة ولا عاديّة ، إذ لا يحكم العقل ولا العادة بشرطيّته ، فلا بدّ أن تكون شرطيّته بالوجوب الشرعي المتعلّق به ، فمقوّم شرطيّته هو الوجوب الشرعي ، فلا بدّ من الالتزام بوجوبه.

والحاصل : أنّ دليل شرطيّة الشرط الشرعي هو وجوبه ، ومن البديهي : انتفاء المدلول عند انتفاء الدليل ، فلذا صحّ أن يقال : إنّه لو لا وجوبه لم يكن شرطا.

(٢) قد أورد المصنّف (قده) على الدليل المذكور بوجهين :

أحدهما : ما أفاده في التقريرات ، وذكره المصنّف في الأمر الثاني في تقسيم المقدّمة إلى العقليّة والشرعيّة بقوله : «ولكنه لا يخفى رجوع الشرعيّة إلى العقليّة ... إلخ» وذلك لأنّ للشرط مطلقا معنى واحدا ، وهو : ما ينتفي المشروط بانتفائه ، فشرعيّته إنّما هي لأجل عدم إدراك العقل دخله في المشروط ، وكون التنبيه على شرطيّته منحصرا ببيان الشارع ، وبعد البيان صار كسائر الشروط العقليّة الّتي يوجب انتفاؤها انتفاء المشروط. وعلى هذا ، فالتفصيل بين الشرط الشرعي وغيره لا مورد له ، لأنّ كلّ شرط يرجع إلى الشرط العقلي ، والشروط العقليّة كلّها واجبة.

ثانيهما : ما أشار إليه بقوله : «أنه لا يكاد ... إلخ» وملخصه : لزوم الدور من الدليل المزبور ، وذلك لأنّ كلّ حكم مترتّب على موضوعه ، ومتأخّر عنه تأخّر المعلول عن علّته ، فلو توقّف الموضوع على حكمه لزم الدور. وعلى هذا يكون الحكم ـ وهو الوجوب الغيري ـ متأخّرا عن موضوعه ـ وهو الشرطيّة والمقدّميّة ـ ، فلو

٤١١

لا يكاد يتعلّق الأمر الغيري إلّا بما هو مقدّمة (١) الواجب ، فلو كانت مقدّميّته (٢) متوقّفة على تعلّقه (٣) بها لدار (٤).

والشرطية (٥) وإن كانت منتزعة عن التكليف ، إلّا أنّه (٦)

______________________________________________________

توقّفت المقدّميّة على الأمر الغيري ـ كما هو مقتضى دليل المستدل ـ كان ذلك دورا ، لتوقّف الحكم على الموضوع ، وبالعكس. وببيان أوضح : لا يترشّح الأمر الغيري إلّا على ما هو مقدّمة ، فلو توقّفت المقدّميّة على ذلك كان دورا باطلا بالضرورة.

(١) لكون المقدّميّة علّة للوجوب الغيري.

(٢) أي : مقدّميّة ما هو مقدّمة ، فإنّ هذا التوقّف مقتضى كلام المستدل : «بأنّه لو لا وجوبه شرعا لما كان شرطا».

(٣) أي : تعلّق الأمر الغيري بالمقدّمة.

(٤) فالشرطيّة في الاستدلال كاذبة ، لعدم توقّف الجزاء ـ وهو الشرطيّة ـ على الشرط أعني الوجوب ، لأنّ توقّفها عليه مستلزم للدور الباطل ، كما تقدم ، فيبطل التوقّف أيضا ، فلا تدل على وجوب الشرط الشرعي دون غيره ، كما ادّعاه المستدل.

(٥) غرضه : أنّه يمكن للمستدل أن يلزمنا بالدور ، كما ألزمناه به ، بأن يقول : إنّكم تلتزمون باستحالة جعل الشرطيّة مستقلّة ، وتقولون بأنّها منتزعة عن التكليف ، فلو توقّف التكليف على الشرطيّة كما هو قضيّة توقّف كلّ حكم على موضوعه لدار. نعم بناء على كون الشرطيّة مجعولة بالاستقلال لا يلزم الدور.

(٦) هذا دفع إشكال دور الخصم على المصنّف ، ومحصله : عدم لزوم الدور بناء على مبنى عدم الجعل بالأصالة للشرطيّة ، وكونها منتزعة عن التكليف.

توضيحه : أنّ الشرطيّة وإن كان منتزعة ، لكنّها ليست منتزعة عن الوجوب الغيري المقدّمي حتى يلزم الدور ، بل هي منتزعة عن الوجوب النفسيّ المتعلّق بالشيء المقيّد بالشرط الشرعي ، مثلا : إذا أمر الشارع بالصلاة عن طهارة ، فينتزع للطهارة عنوان الشرط ، فمنشأ انتزاع الشرطيّة لها هو هذا الأمر النفسيّ ، لا الأمر الغيري حتى

٤١٢

عن التكليف النفسيّ المتعلّق بما قيّد بالشرط (*) ، لا عن الغيري (١) فافهم (٢).

______________________________________________________

يلزم الدور. بل الأمر الغيري دليل إنّيٌّ على كونه شرطا ، لا لمّيٌّ حتى يلزم الدور. نعم الأمر الغيري يكون بحسب الظاهر ومقام الإثبات علّة للشرطيّة ، فقد اشتبه على المستدل مقام الإثبات بمقام الثبوت.

(١) يعني : حتى يتوهم تماميّة كلام المستدل ، وهو : «أنّه لو لم يكن واجبا لما كان شرطا» ، وحتى يلزم علينا الدور أيضا.

(٢) لعلّه إشارة إلى : عدم اندفاع إشكال الدور بجعل منشأ انتزاع الشرطيّة الأمر النفسيّ ، توضيحه : أنّ الطهارة مثلا ما لم يكن لها دخل في الصلاة أو الطواف لم يتعلّق الأمر النفسيّ بالصلاة عن طهارة ، فالشرطيّة ثابتة قبل تعلّق الأمر النفسيّ ، لأنّها حينئذ جزء من موضوعه ، فإذا فرض انتزاعها عن الأمر النفسيّ لزم الدور. فجعل منشأ انتزاع الشرطيّة الأمر النفسيّ لا يحسم إشكال الدور.

وهنا بحث يأتي إن شاء الله تعالى في الأحكام الوضعيّة.

__________________

(*) لا يقال : إنّه ـ بناء على تعلّق الأمر النّفسي بالشرط ـ كيف يصح تعلّق الأمر الغيري به. فإنّه يقال : الأمر النفسيّ تعلّق بالمقيّد بالشرط ، ولم يتعلّق بنفس الشرط كالطهارة ، حتّى يصح أن يقال : إنّ الأمر تعلّق بشيئين : الصلاة والطهارة.

والحاصل : أنّ متعلّق الأمر النّفسي هو الصلاة عن طهارة ، والمقيّد بهذا القيد يتوقّف وجوده في الخارج على الطهارة ، فيترشح من وجوب الصلاة عن طهارة وجوب تبعيّ على الطهارة ، فالوضوء مثلا مقدّمة وجوديّة لوصف الصلاة ـ وهو كونها عن طهارة ـ ، فيصير واجبا غيريّا كسائر المقدّمات الوجوديّة ، فتأمّل جيّدا.

٤١٣

تتمة : لا شبهة في أنّ مقدّمة المستحب كمقدّمة الواجب (١) ، فتكون مستحبة لو قيل بالملازمة (٢).

وأمّا مقدّمة الحرام والمكروه ، فلا تكاد تتصف بالحرمة ، أو الكراهة ، إذ منها (٣)

______________________________________________________

مقدمة المستحب والمكروه

(١) لوحدة المناط ـ وهو : التوقّف والمقدّمية ـ في كلّ من مقدّمتي الواجب والمستحب ، وهذا المناط يقتضي الوجوب في مقدّمة الواجب ، والاستحباب في مقدّمة المستحب ، إذ لا فرق في نظر العقل ـ بناء على الملازمة ـ بين كون طلب ذي المقدّمة وجوبيّا وبين كونه استحبابيّا. واعتبار الإيصال وعدمه جار فيه أيضا.

(٢) بين وجوب الواجب ووجوب مقدّمته ، إذ مناط الملازمة ـ وهو التوقّف كما مرّ ـ موجود في المستحب ومقدّمته.

(٣) أي : من مقدّمات الحرام والمكروه ما يتمكّن مع فعلها من ترك الحرام أو المكروه. فالمراد ب ـ ما ـ الموصلة : المقدّمة ، وضمير ـ معه ـ راجع إلى ـ ما ـ.

وتوضيح ما أفاده المصنّف (قده) في مقدّمات الحرام والمكروه : أنّ المقدّمة على قسمين :

الأوّل : ما يتمكّن المكلّف مع فعلها من ترك الحرام أو المكروه ، لعدم كونها علّة تامّة لوجود الحرام أو المكروه ، ولا جزاء أخيرا من العلّة التامّة لوجودهما.

الثاني : ما لا يتمكّن مع فعلها من تركهما ، لكونها علّة تامّة أو جزءا أخيرا منها لوجودهما.

فإن كانت المقدّمة من قبيل القسم الأوّل ، فلا تكون حراما ، إذ المفروض عدم كون فعلها مستلزما لفعل ذيها ، لعدم كونها علّة تامّة ولا جزءا أخيرا منها لوجوده ، فلا وجه لاتّصافها بالحرمة ، لوضوح كونها فاقدة لملاك المقدّميّة ، وهو توقّف ترك الحرام أو المكروه على تركها. فلو فرض أنّ المكلّف أتى بذي المقدّمة بعد ما أتى

٤١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بهذه المقدّمة كان إتيانه به مستندا إلى سوء اختياره ، لا إلى هذه المقدّمة. فلمّا لم يكن ترك هذه المقدّمة دخيلا في ترك الحرام أو المكروه ، فلا يترشّح من طلب ترك الحرام أو المكروه طلب غيريّ على ترك هذه المقدّمة ، فلو أتى بجميع المقدّمات إلّا المقدّمة الأخيرة الّتي يترتّب عليها الحرام لم يأت بمحرّم ، ولا يتّصف شيء من تلك المقدّمات المأتيّ بها بالحرمة.

والسّر في ذلك : أنّ موضوع الوجوب الغيري هو ما يتوقّف عليه ذو المقدّمة ، لأنّ مناط الوجوب الغيري هو التوقّف والمقدّميّة ، ففي كلّ شيء وجد هذا المناط يحكم بوجوبه مقدّميّا ، وفي غير مورد هذا المناط لا يحكم بالوجوب المقدّمي.

ففي المقام ، حيث إنّ هذا المناط يوجد في خصوص المقدّمة الّتي هي علّة تامّة لوجود الحرام أو المكروه ، أو كالعلّة التامّة له يجب ترك خصوص هذه المقدّمة ، دون غيرها من المقدّمات الّتي لا يوجد فيها هذا المناط.

ووجهه واضح لا يحتاج إلى البيان ، لكونه من القضايا الّتي قياساتها معها.

وإن كانت المقدّمة من قبيل القسم الثاني كانت حراما ، لتوقّف التّرك الواجب على ترك هذه المقدّمة.

إذا عرفت ذلك يتضح : أنّ الواجب ـ وهو ترك الحرام ـ يقتضي وجوب مقدّمته ، وهو ترك إحدى مقدّمات وجود الحرام ، لا ترك جميعها ، لأنّ ترك الحرام لا يتوقّف على ترك جميعها ، لوضوح حصول الترك الواجب بترك إحدى مقدّمات الحرام ، فمعروض الوجوب المقدّمي حينئذ هو ترك إحدى المقدّمات تخييرا. ففرق واضح بين مقدّمات الواجب ومقدّمات الحرام ، إذ في مقدّمات الواجب يحكم بوجوب جميعها ، لكون وجود كلّ واحدة منها ممّا يتوقّف عليه وجود الواجب النفسيّ ، فيجب جميع مقدّماته. بخلاف مقدّمات الحرام ، فإنّ ما يتوقّف عليه ترك الحرام هو إحدى المقدّمات تخييرا ، فمعروض الوجوب الغيري في مقدّمة الواجب هو فعل جميع المقدّمات ، وفي مقدّمة الحرام هو ترك إحداها على البدل ، لتحقّق الواجب

٤١٥

ما يتمكّن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارا كما كان (١) متمكّنا قبله ، فلا دخل له أصلا في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام أو المكروه ، فلم يترشّح من طلبه (٢) طلب ترك مقدّمتهما (٣).

نعم (٤)

______________________________________________________

وهو ترك الحرام به ، فلا مقتضي لوجوب ترك الجميع.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنّ المقدّمة المحرّمة من مقدّمات الحرام هي خصوص المقدّمة الّتي لا يتمكّن مع فعلها من ترك الحرام ، وهي العلّة البسيطة ، أو الجزء الأخير من العلّة التامّة المركّبة ، فقوله : «إذ منها ما يتمكن معه» إشارة إلى القسم الأوّل.

(١) يعني : كما كان المكلّف متمكّنا من ترك الحرام قبل الإتيان بتلك المقدّمة ، فلا دخل للمقدّمة الّتي يتمكّن معها من ترك الحرام أو المكروه اختيارا في حصول المطلوب ، وهو ترك الحرام أو المكروه. فلمّا لم يكن ترك هذه المقدّمة دخيلا في ترك الحرام أو المكروه ، لفقدان ملاكها ، وهو توقّف ترك الحرام أو المكروه على تركها ، فلم يترشّح من طلب تركهما طلب غيريّ على ترك هذه المقدّمة ، إذ المفروض عدم توقّف ترك الحرام أو المكروه على تركها ، فمع الإتيان بها يتمكّن أيضا من تركهما ، فلا وجه لوجوب هذه المقدّمة غيريّا.

(٢) أي : طلب ترك الحرام أو المكروه.

(٣) أي : الحرام والمكروه.

(٤) استدراك على ما أفاده : من أنّه لم يترشّح من طلب ترك الحرام والمكروه طلب غيريّ على ترك المقدّمة الّتي يتمكّن المكلّف مع فعلها من تركهما.

وهو إشارة إلى القسم الثاني من القسمين المتقدّمين ، وحاصله : أنّ الأمر الغيري المقدّمي لا يترشّح من طلب تركهما على كلّ مقدّمة ، بل على خصوص المقدّمة الّتي لا يقدر المكلّف مع فعلها على ترك الحرام أو المكروه ، وهذه المقدّمة هي الجزء الأخير من العلّة التامّة ، فلا محيص حينئذ عن ترشّح الطلب الغيري على هذه المقدّمة ،

٤١٦

ما (١) لم يتمكّن معه من الترك المطلوب لا محالة يكون مطلوب الترك (٢) ، ويترشّح من طلب تركهما (٣) طلب ترك خصوص هذه المقدّمة (٤) ، فلو لم يكن (٥) للحرام مقدّمة لا يبقى معها اختيار تركه لما اتّصف بالحرمة مقدّمة من مقدّماته.

______________________________________________________

فقوله : ـ نعم ـ إشارة إلى القسم الأوّل من قسمي مقدّمات الحرام والمكروه اللّذين تعرّضنا لهما بقولنا : «أحدهما : ما يكون علّة تامّة ... إلخ».

(١) المراد بالموصول هو المقدّمة ، وضمير ـ معه ـ راجع إليه.

يعني : المقدّمة الّتي لم يتمكّن المكلّف مع فعلها من الترك المطلوب ، وهو ترك الحرام أو المكروه ، فلا محالة تكون مطلوبة بالطلب الغيري.

(٢) يعني : بالطلب الغيري المقدّمي.

(٣) أي : الحرام والمكروه.

(٤) أي : الجزء الأخير من العلّة التامّة المركّبة ، أو نفس العلّة البسيطة.

(٥) هذا متفرّع على كون المقدّمة المحرّمة خصوص ما يتوقّف عليه وجود الحرام ، بحيث يترتّب عليها قهرا ، ولا يتمكّن المكلّف معها من ترك الحرام أصلا.

وحاصله : أنّه ـ بناء على ذلك ـ لو فرض أنّ الحرام أو المكروه ليس له مقدّمة من القسم الثاني ، بأن كانت جميع مقدّماته من قبيل القسم الأوّل الّذي لا يترتّب وجود الحرام أو المكروه عليها قهرا ، بل يبقى المكلّف مع إتيانه بتلك المقدّمات مختارا أيضا في فعله للحرام أو المكروه ، وتركه لهما ، كما إذا كان الحرام أو المكروه فعلا اختياريّا منوطا وجوده باختياره ، وإرادته ، لما اتّصف شيء من مقدّماته بالحرمة ، إذ لو أتى بجميعها ، ولم يرد فعل الحرام لا يتحقّق الحرام في الخارج ، لأنّ عدمه حينئذ مستند إلى عدم الإرادة ، لا إلى وجود المقدّمات ، حتى يكون التوصّل بها إلى الحرام موجبا لحرمتها الغيريّة.

فقوله : «لا يبقى معها ... إلخ» صفة لقوله : ـ مقدّمة ـ ، يعني : بأن كان جميع مقدّماته بحيث لو أتى بها المكلّف يبقى مع ذلك مختارا في فعل الحرام وتركه.

٤١٧

لا يقال (١) : كيف ولا يكاد يكون فعل إلّا عن مقدّمة لا محالة معها (٢) يوجد ، ضرورة أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

فإنّه يقال (٣) : نعم

______________________________________________________

(١) هذا اعتراض على قوله : «فلو لم يكن للحرام مقدّمة ... إلخ».

ومحصل الاعتراض : أنّه كيف يمكن وجود فعل في الخارج بدون مقدّمة وعلّة ، مع بداهة أنّ الشيء ما لم يجب وجوده من ناحية علّته يمتنع أن يوجد في الخارج ، ولذا قيل : «إنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وإنّ كلّ شيء محفوف بضرورتين : إحداهما سابقة ، وهي ضرورة وجوده من ناحية وجود علته ، والأخرى لاحقة ، وهي ضرورته بشرط وجوده» ، كما قيل :

«فبالضرورتين حفّ الممكن»

وبالجملة : فوجود الحرام بدون مقدّمة وعلّة ممتنع.

(٢) أي : مع المقدّمة يوجد ، لأنّ الشيء لا يوجد إلّا بوجود علّته.

(٣) هذا دفع الاعتراض المزبور ، وحاصله : أنّه لا إشكال في احتياج كلّ فعل إلى العلّة التامّة ، وبدونها يمتنع وجوده ، لكن أجزاء العلّة على قسمين :

أحدهما : أن تكون بأسرها أفعالا اختياريّة ، كتيبيس الحطب ، وإلقائه في النار.

والآخر : أن تكون مركّبة من الفعل الاختياري وغيره ، كالإرادة الّتي هي غير اختياريّة.

فعلى الأوّل : لا مانع من اتّصاف جميع أجزاء العلّة بالحكم الشرعي ، فلو كان المعلول حراما اتّصف علّته التامّة بالحرمة.

وعلى الثاني : لا يتّصف شيء من أجزاء العلّة بالحرمة. أمّا غير الإرادة من المقدّمات الّتي هي أفعال اختيارية ، فلعدم توقف وجود الحرام عليه ، إذ المفروض قدرة المكلّف على ترك الحرام قبل إيجاد هذه المقدّمة وبعده ، فلا يترتّب عليها الحرام حتى تتصف بالحرمة المقدّميّة. وأمّا الإرادة ، فلعدم كونها اختياريّة ، وإلّا توقّفت على إرادة أخرى ، وهكذا ، فيلزم التسلسل.

٤١٨

لا محالة يكون من جملتها (١) ما يجب معه صدور الحرام ، لكنّه (٢) لا يلزم أن يكون ذلك (٣) من المقدّمات الاختياريّة ، بل من المقدّمات الغير الاختياريّة ، كمبادئ الاختيار الّتي لا تكون بالاختيار ، وإلّا لتسلسل ، فلا تغفل وتأمّل (*).

______________________________________________________

فتلخص : أنّ الفعل لا يوجد إلّا بالعلّة ، ولا إشكال في امتناع وجود الممكن بلا علّة. غاية الأمر : أنّ العلّة تارة تكون ممّا يصح تعلّق الحكم الشرعي به ، كما إذا كانت اختياريّة. وأخرى لا تكون كذلك ، كما إذا لم تكن اختياريّة ، كالإرادة.

وعلى هذا يمكن أن لا تكون للحرام أو المكروه مقدّمة اختياريّة ، بأن كانت علّة وجودهما غير اختياريّة ، كالإرادة ، ومن المعلوم : أنّ ما لا يكون بالاختيار يمتنع أن يكون موضوعا للتكليف حرمة أو كراهة أو غيرهما ، تعيينا أو تخييرا.

لكن قد تقدّم في محلّه : منع كون الإرادة غير اختياريّة.

(١) أي : من جملة المقدّمات.

(٢) الضمير للشأن.

(٣) أي : ما يجب معه صدور الحرام ، يعني : لا يلزم أن يكون العلّة التامّة للحرام من المقدّمات الاختياريّة ، بل يمكن أن تكون من غير الاختياريّة ، كالإرادة.

__________________

(*) تتمة : اعلم : أنّ المحقق النائيني (قده) قسّم المقدّمة المحرّمة إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : ترتّب الحرام على المقدّمة قهرا من دون إرادة واختيار للفاعل ، كالإحراق المترتّب على الإلقاء في النار ، وغيره من العلل والمعلولات. وحرمة المقدّمة في هذا القسم نفسيّة لا غيريّة ، لأنّ المقدور المتعلّق للحكم هو المقدّمة دون ذيها.

الثاني : أن يتوسّط بين المقدّمة وذيها اختيار وإرادة للفاعل ، بحيث يقدر على ارتكاب الحرام بعد فعل المقدّمة ، كقدرته عليه قبل فعلها ، لكن يأتي بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الحرام. والحكم في هذه الصورة هو : حرمة المقدّمة مردّدة

٤١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بين النفسيّة إن كان المورد من قبيل التجري ، وبين الغيريّة إن كان من باب السراية.

الثالث : أن يتوسّط بين المقدّمة وذيها اختيار وإرادة للفاعل ، ولكن لم يأت بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى الحرام ، بل له صارف عن إتيانه. والحكم في هذه الصورة عدم حرمة المقدّمة ، واختصاص الحرمة بذيها ، إذ لا وجه لحرمة المقدّمة مع فرض عدم كونها علّة تامّة للوقوع في الحرام ، وعدم قصد فاعلها للتوصّل بها إلى الحرام.

وأنت خبير بما في عدا القسم الثالث من الإشكال.

إذ في الأوّل : أنّه خلاف مبناه (قده) : من كون المقدور مع الواسطة مقدورا ، ومن صحّة التكليف بالمقدور التوليدي كالمقدور المباشري ، فالمحرّم النفسيّ حقيقة هو ذو المقدّمة ، والمقدّمة حرام غيريّ.

وفي الثاني : عدم حرمة المقدّمة لا نفسيّة ولا غيريّة. أمّا النفسيّة ، فلابتنائها على حرمة التجرّي ، وهي غير ثابتة شرعا ، والتفصيل في محلّه. وأمّا الحرمة الغيريّة فلفقدان ملاكها ـ وهو التوقّف ـ ضرورة أنّ المطلوب ـ وهو الاجتناب عن الحرام ـ لا يتوقّف على ترك المقدّمة ، إذ المفروض كونه قادرا على ترك الحرام بعد الإتيان بالمقدّمة أيضا.

وقياس المقام بمقدّمة الواجب فاسد ، حيث إنّ المحبوب يراد وجوده ، فتسري محبوبيّته إلى جميع مقدّمات وجوده ، لتوقّف وجوده على كلّ واحدة من مقدّماته ، فيتعذّر وجوده عند عدم واحدة منها. وهذا بخلاف الحرام المبغوض ، فإنّ المطلوب هو تركه المعلوم تحقّقه بترك إحدى مقدّمات وجوده ، فلا تسري المبغوضية إلى جميع مقدّماته ، بل إلى واحدة منها تخييرا. ففرق واضح بين مقدّمات الواجب وبين مقدّمات الحرام.

ومن هنا يظهر : صحة ما أفاده : من عدم الحرمة في القسم الثالث ، إذ

٤٢٠