منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

فلأنّه لا يكاد يعتبر في الواجب إلّا (١) ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه ، والباعث على طلبه ، وليس (٢) الغرض من المقدّمة إلّا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدّمة ، ضرورة (٣) أنّه لا يكاد يكون الغرض إلّا ما يترتّب (٤) عليه من فائدته وأثره ، ولا يترتّب على المقدّمة إلّا ذلك (٥) ، ولا تفاوت

______________________________________________________

(١) إشارة إلى الأمر الأوّل ، والضمائر في ـ غرضه ـ و ـ إيجابه ـ و ـ طلبه ـ راجعة إلى الواجب.

(٢) إشارة إلى الأمر الثالث ، إذ الغرض الّذي لا يتفاوت فيه المقدّمة الموصلة وغيرها هو التمكّن الموجب لسدّ باب من أبواب عدم ذي المقدّمة ، فلو انعدم ذو المقدّمة مع وجود مقدّمة ، فلا محالة كان عدمه مستندا إلى انعدام غيرها من المقدّمات الموجب لانفتاح غيره من أبواب عدمه. وضمير ـ لولاه ـ راجع إلى الموصول المراد به : الاقتدار الناشئ من المقدّمة على إيجاد ذيها.

(٣) تعليل لكون الغرض من المقدّمة حصول التمكّن من إتيان ذي المقدّمة ، وحاصله : أنّ الغرض الداعي إلى إيجاب المقدّمة ليس إلّا الفائدة التكوينيّة المترتّبة عليها ، ومن المعلوم : أنّ الفائدة المترتّبة على المقدّمة ليست إلّا الاقتدار على إيجاد ذي المقدّمة ، وليست هي ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة ـ كما عن الفصول ـ ، لما سيأتي إن شاء الله تعالى. وضمير ـ أنّه ـ للشأن.

(٤) يعني : ترتّبا خارجيّا ، وهذا إشارة إلى الأمر الثاني ، وهو : كون الملاكات من الأمور الخارجيّة.

(٥) أي : الاقتدار الناشئ عن المقدّمة على إيجاد ذيها.

__________________

وبالجملة : فبعد البناء على عدم كون الترتّب معلولا لتعلّق الطلب بذات «المقدّمة ، لكشف سقوطه بها عن ذلك ، تكون القيود بأسرها متساوية الأقدام بالنسبة إلى هذه العلّة ، فلا أولويّة لها بالنسبة إلى بعضها دون بعض ، فالإشكال مشترك الورود بالنسبة إلى جميع القيود.

٣٠١

فيه (١) بين ما يترتّب عليه الواجب وما لا يترتّب عليه أصلا ، وأنّه (٢) لا محالة يترتّب عليهما ، كما لا يخفى.

وأما (٣) ترتّب الواجب ، فلا يعقل أن يكون الغرض (٤) الداعي إلى

______________________________________________________

(١) أي : الغرض ، يعني : ولا يتفاوت في هذا الغرض بين المقدّمة الموصلة وغير الموصلة.

(٢) أي : في الغرض ، وضمير ـ عليهما ـ راجع إلى ما يترتّب عليه الواجب ـ وهو المقدّمة الموصلة ـ وإلى ما لا يترتّب عليه وهو المقدّمة غير الموصلة ، يعني : أنّ الغرض من المقدّمة ـ وهو التمكّن الحاصل من ناحيتها ـ يترتّب على الموصلة وغيرها بوزان واحد ، فلا وجه لتخصيص الوجوب بالمقدّمة الموصلة.

(٣) غرضه : نفي كلام الفصول من كون ملاك وجوب المقدّمة ترتّب ذيها عليها ، بعد إثبات كون ملاكه الاقتدار على الإتيان بالواجب.

وحاصل ما أفاده في ردّ دعوى الفصول : أنّ الملاك الّذي يكون من الأمور الخارجيّة الداعية إلى تشريع الحكم لما يقوم به الملاك عبارة عن الاقتدار ـ الحاصل من المقدّمة ـ على إيجاد ذي المقدّمة ، وليس الملاك ترتّب الواجب على مقدّمته ليكون الواجب خصوص المقدّمة الموصلة ، وذلك لعدم كون وجود ذي المقدّمة أثرا لتمام المقدّمات ـ فضلا عن بعضها ـ في غالب الواجبات ، حتى يعتبر ترتّب ذي المقدّمة عليها ، نظرا إلى استحالة تخلّف الأثر عن المؤثّر.

وإنّما لم يكن كذلك ، لدخل إرادة المكلّف بعد إيجاد جميع المقدّمات في وجود الواجب ، فله اختيار فعل الواجب وتركه ، فليس وجود ذي المقدّمة أثرا لوجود المقدّمة حتى يختص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة.

وبالجملة : فلا يعقل أن يكون ترتّب ذي المقدّمة غرضا من المقدّمة ، وداعيا إلى إيجابها.

(٤) خبر ـ يكون ـ ، واسمه ضمير مستتر راجع إلى ـ ترتّب الواجب ـ ،

٣٠٢

إيجابها ، والباعث على طلبها ، فإنّه (١) ليس بأثر تمام المقدمات ، فضلا عن إحداها في غالب الواجبات ، فإنّ (٢) الواجب إلّا ما قلّ في الشرعيّات والعرفيات فعل اختياري يختار المكلّف تارة إتيانه بعد وجود تمام مقدّماته ، وأخرى عدم إتيانه ، فكيف يكون اختيار (*) إتيانه غرضا من إيجاب كلّ واحدة من مقدّماته ،

______________________________________________________

وضميرا ـ إيجابها ـ و ـ طلبها ـ راجعان إلى المقدّمة.

(١) أي : ترتّب الواجب ، وهذا تعليل لقوله : ـ لا يعقل ـ ، وأوضحناه بقولنا : ـ وذلك لعدم كون وجود ذي المقدّمة أثرا لتمام المقدّمات فضلا عن ... إلخ ـ.

(٢) هذا تقريب عدم كون وجود المقدّمة أثرا للمقدّمات ، وحاصله : أنّ غالب الواجبات من الأفعال الاختيارية التي يكون لإرادة المكلّف دخل في وجودها كالصلاة ، والحج ، والصوم ، وغيرها. نعم في الواجبات الّتي هي من المسبّبات التوليديّة الّتي تكون المقدّمة فيها علّة تامّة لوجودها ـ كالذكاة المترتّبة على فري الأوداج ، والملكيّة ، والزوجيّة ، والحرّية المترتّبة على عقودها ـ يكون أثر المقدّمة فيها ترتّب ذيها عليها قهرا.

__________________

(*) الأولى تبديله ب : ـ ترتّب ـ ، بأن يقال : ـ فكيف يكون ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة غرضا ... إلخ ـ ، لوجوه :

الأوّل : تعبير صاحب الفصول نفسه بالترتّب ـ في عبارته الّتي نقلناها عند التعرض لكلام المعالم ـ الظاهر في كون وجوب المقدّمة مشروطا بإرادة ذيها.

الثاني : قول المصنّف : ـ مع عدم ترتّبه على عامّتها ـ ، وعدم قوله : ـ مع عدم اختيار إتيانه ـ.

الثالث : ما استدركه بقوله : ـ نعم فيما كان الواجب ... إلخ ـ ، وذلك للزوم السنخيّة بين ما قبل الاستدراك وما بعده ، ومن المعلوم : أنّ ما قبله ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة ، فكذا ما بعده.

الرابع : كلام المصنّف بعد ذلك : «ولأنّه لو كان معتبرا فيه الترتّب لما

٣٠٣

مع عدم ترتّبه على [تمامها] عامّتها ، فضلا عن كلّ واحدة منها (١).

نعم (٢) فيما كان الواجب من الأفعال التسبيبيّة والتوليديّة كان (٣) مترتّبا لا محالة على تمام مقدّماته ، لعدم تخلّف المعلول عن علّته.

ومن هنا (٤) قد انقدح : أنّ القول (٥) بالمقدّمة الموصلة يستلزم إنكار وجوب المقدّمة في غالب الواجبات ، والقول (٦) بوجوب خصوص العلّة التامة في

______________________________________________________

(١) أي : المقدّمات ، وضميرا ـ إتيانه وترتّبه ـ راجعان إلى الواجب ، وضمير ـ عامّتها ـ راجع إلى المقدّمات.

(٢) استدراك على عدم معقوليّة كون ترتّب الواجب على مقدّمته غرضا من إيجابها ، وقد عرفت تقريبه بقولنا : ـ نعم في الواجبات التي هي من المسبّبات ... إلخ ـ.

(٣) أي : الواجب ، ووجه ترتّبه على جميع مقدّماته هو : استحالة تخلّف المعلول عن علّته التامة ، فيختص كلام الفصول بمقدّمات خصوص الواجبات التوليديّة ولا يعم مقدّمات غير الواجبات التوليديّة ، ولازم هذا الاختصاص أمران :

أحدهما : إنكار وجوب مقدّمات الواجبات غير التوليديّة ، لما عرفت من عدم ترتّب ذي المقدّمة على جميع المقدّمات فضلا عن بعضها.

ثانيهما : اختصاص وجوب المقدّمة بمقدّمات الواجبات التوليديّة ، مع أنّ الفصول يصرّح بوجوب جميع أقسام المقدّمة الموصلة.

(٤) يعني : وممّا ذكرنا من عدم كون الغرض من المقدّمة ترتّب ذيها عليها.

(٥) إشارة إلى الأمر الأوّل الّذي أشرنا إليه بقولنا : ـ أحدهما إنكار وجوب ... إلخ ـ.

(٦) معطوف على ـ إنكار ـ ، وهذا هو الأمر الثاني الّذي أشرنا إليه بقولنا : ـ ثانيهما اختصاص وجوب المقدّمة بمقدّمات الواجبات التوليدية ... إلخ ـ.

__________________

كان الطلب يسقط» ، فإنّه جعل العنوان : ـ الترتّب ـ ، لا ـ اختيار إتيان الفعل ـ.

الخامس : أنّ الاختيار من مقولة الفعل ، والترتّب من مقولة الانفعال ، وهما ضدّان ، والّذي هو مورد البحث ومراد صاحب الفصول هو الثاني دون الأوّل ، كما لا يخفى.

٣٠٤

خصوص الواجبات التوليديّة.

فان قلت (١) : ما من واجب إلّا وله علّة تامة ، ضرورة استحالة وجود الممكن بدونها ، فالتخصيص بالواجبات التوليديّة بلا مخصّص.

قلت : نعم (٢) وإن استحال صدور الممكن بلا علّة ، إلّا أنّ

______________________________________________________

(١) هذا اعتراض على ما استدركه بقوله : ـ نعم فيما كان الواجب من الأفعال التسبيبيّة والتوليديّة ـ ، وحاصل الاعتراض : أنّه لا يلزم من القول بوجوب المقدّمة الموصلة اختصاص الوجوب بمقدّمات الواجبات التوليديّة.

توضيحه : أنّ لكلّ واجب سواء أكان توليديّا أم غيره علّة تامّة لوجوده ، ولذا قيل : «إنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» ، والعلّة التامة بجميع أجزائها واجبة عند صاحب الفصول ، لأنّها موصلة إلى ذي المقدّمة ، فمقدّمات الحج من المسير ، وبذل الزاد والراحلة مع إرادة المناسك واجبة ، لأنّها بأسرها توصل إلى الحج ، فتخصيص وجوب المقدّمة بخصوص مقدّمات الواجبات التوليديّة ـ كما ذكر في الاستدراك بقوله : نعم فيما كان الواجب ... إلخ ـ يكون بلا وجه ، فوجوب المقدّمة الموصلة لا يختص بمقدّمات الواجبات التوليديّة.

(٢) هذا دفع الاعتراض المذكور ، وحاصله : أنّ الفعل الاختياري المباشري وإن كان كالتوليدي في توقف وجوده في الخارج على العلّة التامّة ، إلّا أنّه لمّا كان من أجزاء علّة الفعل غير التوليدي الإرادة ، وهي غير اختياريّة ، إذ لو كانت اختياريّة لزم أن تكون مسبوقة بإرادة ، وهكذا إلى أن تتسلسل ، فلا محالة تكون الإرادة غير اختيارية ، ومن المعلوم : أنّ كل ما يخرج عن حيّز الاختيار لا يتعلّق به التكليف مطلقا ولو غيريّا ، فالعلّة المركّبة من الاختياريّة وغيرها لا تتصف بالوجوب الغيري ، إذ المقدّمة الموصلة حينئذ هي خصوص الإرادة ، وقد عرفت عدم تعلّق التكليف بها ، لعدم كونها اختياريّة. وغير الإرادة من سائر المقدّمات ليست بموصلة حتى تتّصف بالوجوب.

٣٠٥

مبادئ (١) اختيار الفعل الاختياري من أجزاء علّته (٢) ، وهي لا يكاد تتّصف بالوجوب ، لعدم كونها بالاختيار (*) ، وإلّا (٣) لتسلسل ، كما هو واضح لمن تأمّل.

ولأنّه (٤) لو كان معتبرا فيه الترتّب لما كان الطلب يسقط بمجرّد الإتيان بها

______________________________________________________

وعلى هذا ، فيختص القول بوجوب المقدّمة الموصلة بمقدّمات الواجبات التوليديّة كالإحراق ، والقتل ، والتذكية ، ونحوها من المسبّبات التوليديّة التي لا تناط بالإرادة.

(١) وهي : الإرادة ومباديها من الخطور ، وتصوّر فائدته ، والتصديق بها ، والميل ، وهو هيجان الرغبة إليه ، ثم الجزم ، وهو حكم القلب بأنّه ينبغي صدوره.

(٢) أي : الفعل ، وضمير ـ هي ـ راجع إلى ـ مبادئ ـ ، وحاصله : أنّ العلّة المركّبة من الأمر الاختياري وغيره لا تكون اختياريّة ، فلا يتعلّق بها التكليف لا نفسيّا ، ولا غيريّا ، فالإرادة الّتي يتوقّف عليها الفعل الاختياري وتكون موصلة إليه لا تتّصف بالوجوب الغيري ، لعدم كونها اختياريّة.

(٣) أي : ولو كانت الإرادة من الأمور الاختياريّة لزم التسلسل ، ووجوب إرادة كلّ إرادة ، لوجود مناط الاتّصاف بالوجوب وهو المقدّميّة في كل مقدّمة ولو مع الواسطة ، فإنّ المقدّميّة سارية في جميع سلسلة الإرادات غير المتناهية ، وهي الموجبة لوجوبها.

(٤) معطوف على قوله : ـ فلأنّه لا يكاد يعتبر في الواجب إلّا ما له دخل في غرضه

__________________

(*) لكنّه عدل عن هذا المبنى في مسألة التجرّي الآتية في مباحث القطع إن شاء الله تعالى ، وقال هناك : «انّ بعض مبادئ الاختيار غالبا يكون وجوده بالاختيار ، للتمكّن من عدمه بالتأمّل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة» ، فالإرادة اختياريّة ، وليست اضطرارية ، وتكون اختياريّتها بنفسها من دون حاجة إلى إرادة أخرى. وعلى تقدير كون الإرادة غير اختياريّة عند المصنف ، لكنّها اختياريّة عند صاحب الفصول ، حيث إنّه جعل الإرادة كالأفعال ممّا يكون تحت اختيار الإنسان ، فالنزاع يرجع إلى الاختلاف في المبنى.

٣٠٦

من دون انتظار لترتّب الواجب عليها (١) ، بحيث لا يبقى في البين إلّا طلبه وإيجابه (٢) كما (٣) إذا لم تكن هذه بمقدّمة ، أو كانت حاصلة من الأوّل قبل إيجابه (٤) ،

______________________________________________________

الداعي إلى إيجابه ـ ، وضمير ـ لأنّه ـ للشأن ، وهذا إشكال آخر على الفصول أورده في التقريرات بقوله : «وأمّا ثالثا ، فلقضاء صريح الوجدان والعرف بخلافه ، ضرورة سقوط الطلب المتعلّق بالمقدّمة بعد وجودها من غير انتظار حالة هي ترتّب ذيها ... إلخ»

وحاصله : أنّ ترتّب ذي المقدّمة إن كان غرضا داعيا إلى إيجاب المقدّمة كان سقوط طلبها الغيري منوطا بوجود ذي المقدّمة ، لتبعيّة الحكم للملاك سعة وضيقا كما تقدّم ، مع أنّه لا إشكال بمقتضى الوجدان ، وحكم العرف في سقوط وجوب المقدّمة بمجرّد الإتيان بها من دون انتظار لوجود ذيها ، بحيث لا يبقى في البين إلّا طلب ذي المقدّمة ، كما إذا لم يكن المأتيّ به مقدّمة أصلا ، أو كانت حاصلة قبل إيجاب ذيها ، ومن المعلوم : أنّ سقوط الطلب المقدّمي ليس للعصيان ، أو انتفاء الموضوع كغرق الميت ، أو حرقه الموجبين لسقوط الأمر ، بل لأجل الإتيان بمتعلّق التكليف أعني المقدّمة ، فهذا السقوط يدلّ على عدم دخل ترتّب الواجب على المقدّمة في طلب المقدّمة ، وأنّ معروض الوجوب الغيري هو مطلق المقدّمة ، لا خصوص الموصلة.

(١) هذا الضمير وضمير ـ بها ـ راجعان إلى المقدّمة.

(٢) هذا الضمير وضمير ـ طلبه ـ راجعان إلى الواجب النفسيّ.

(٣) غرضه تنظير المقام ، وهو : سقوط طلب المقدّمة بسبب الإتيان بها بموردين :

أحدهما : فرض عدم كون المأتيّ به مقدّمة.

والآخر : فرض مقدّميته ، لكن مع وجوده قبل تعلّق الوجوب النفسيّ بذي المقدّمة ، فكما يمتنع إيجاب المقدّمة في هاتين الصورتين ، للزوم اللّغويّة ، وتحصيل الحاصل في الصورة الأولى ، ولزوم تحصيل الحاصل فقط في الثانية ، فكذلك في المقام ، وهو إيجاد المقدّمة المسقط لطلبها.

(٤) أي : الواجب النفسيّ الّذي وجوبه علّة لترشّح الوجوب على المقدّمة.

٣٠٧

مع (١) أنّ الطلب لا يكاد يسقط إلّا بالموافقة ، أو بالعصيان والمخالفة ، أو بارتفاع موضوع التكليف كما في سقوط الأمر بالكفن ، أو الدفن بسبب غرق الميّت أحيانا ، أو حرقه ، ولا يكون الإتيان بها (٢) بالضرورة من هذه الأمور غير الموافقة.

إن قلت : (٣) كما يسقط الأمر بتلك الأمور ، كذلك يسقط بما ليس بالمأمور به فيما (*) يحصل به الغرض منه (٤) ، كسقوطه (٥) في التوصّليات بفعل الغير ،

______________________________________________________

(١) هذا متمّم الإشكال ، وليس إشكالا آخر ، وغرضه من هذه العبارة : حصر مسقطات التكليف في أمور معروفة ، وهي : الامتثال ، والعصيان ، وارتفاع الموضوع ، وكون سقوط طلب المقدّمة بإتيانها بدون انتظار وجود ذي المقدّمة إنّما هو لأجل الامتثال ، دون العصيان ، أو ارتفاع الموضوع ، ولا رابع لمسقطات الأمر.

(٢) أي : المقدّمة ، يعني : أنّ سقوط الأمر المقدّمي بإتيان متعلّقه ليس إلّا لأجل الموافقة ، لا لأجل العصيان ، ولا ارتفاع الموضوع ، وهذا كاشف عن وجوب مطلق المقدّمة ، لا خصوص الموصلة.

(٣) هذا اعتراض على انحصار مسقطات الأمر في الثلاثة المتقدّمة ، وهي : الموافقة ، والمخالفة ، وارتفاع الموضوع.

ومحصل الاعتراض : أنّ هناك مسقطا رابعا للأمر ، وهو ما يسقط الأمر مع عدم كونه مأمورا به ، لوفائه بالغرض الداعي إلى الأمر ، كما في الواجبات التوصّليّة ، فإنّ الأمر فيها يسقط بفعل الغير ، كسقوط الأمر بتطهير البدن والثوب مثلا الحاصل بفعل الغير مع وضوح عدم كون فعل الغير واجبا ، فيسقط الأمر بما ليس مأمورا به ، فيمكن أن يكون المقام من هذا القبيل ، فسقوط الأمر أعم من الامتثال ، فلا يدلّ على كون مسقطه مأمورا به.

(٤) أي : من المأمور به ، وضمير ـ به ـ راجع إلى الموصول المراد به الفعل.

(٥) أي : الأمر بفعل الغير ، كما عرفت في مثال طهارة البدن الحاصلة بفعل الغير.

__________________

(*) هكذا في النسخ الموجودة ، لكن الصواب ـ ممّا ـ بدل ـ فيما ـ ، ليكون بيانا للموصول في قوله : ـ بما ليس ـ ، فكأنّه قيل : كذلك يسقط الأمر بما ليس مأمورا به من الأفعال المحصّلة للغرض القائم بالمأمور به.

٣٠٨

أو المحرّمات (١).

قلت : نعم (٢) لكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض من الفعل الاختياري للمكلّف متعلّقا للطلب فيما لم يكن فيه مانع (٣) ، وهو كونه بالفعل محرّما ، ضرورة (٤) أنّه لا يكون بينهما (٥) تفاوت أصلا ،

______________________________________________________

(١) كتطهير البدن ، أو الثوب بالماء المغصوب.

(٢) هذا جواب الاعتراض ، وحاصله : أنّ سقوط الأمر بغير الثلاثة المتقدّمة أحيانا وإن كان مسلّما ، إلّا أنّ المحصّل للغرض إن كان فعلا اختياريّا للمكلّف ، ولم تعرضه جهة من الجهات الموجبة لحرمته ، فلا محالة يكون واجبا ، كغيره من الأفعال الاختياريّة المتّصفة بالوجوب ، لوجود المقتضي لوجوبه ، وعدم المانع عنه ، وهو الجهة المحرّمة ، واتّحاد حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز ، ويكون الإتيان به مسقطا للأمر ، لأجل الامتثال.

وسقوط الأمر بالمقدّمة في مورد البحث من هذا القبيل ، أي : أنّه لأجل الامتثال ، لتعلّق الطلب به حسب الفرض ، فيختص سقوط الأمر ـ لا لأجل الامتثال ـ بما إذا لم يتعلّق به الطلب ، إمّا لخروجه عن حيّز اختياره ، كما إذا كان فعل الغير كتطهير الغير الثوب ، أو البدن. وإمّا لحرمته ، كالتطهير بالماء المغصوب ، فإنّه لا يتعلّق به الوجوب ، للتّضاد بين كون الفعل للغير ، وبين تعلّق الطلب به ، كما في الأوّل. وكذا بين كونه حراما ، وتعلّق الطلب به ، كما في الثاني. وعليه ، فلا يمكن أن يقال : إنّ المقدّمة غير الموصلة ليست بواجبة وإن كانت مسقطة للأمر ، لحصول الغرض.

(٣) يعني : كالمقام من المقدّمة غير الموصلة ، فالمانع من اتّصافها بالوجوب وهو الحرمة مفقود ، كما هو المفروض في كلام الفصول ، فلاحظ.

(٤) تعليل لقوله : ـ لا محيص ـ.

(٥) يعني : بين هذا الفعل الاختياري المحصّل للغرض الداعي إلى الطلب الغيري ، وبين غير الموصل إلى ذي المقدّمة ، فإنّ عدم التفاوت بينهما في وجود

٣٠٩

فكيف (١) يكون أحدهما (٢) متعلّقا له فعلا ، دون الآخر (*).

______________________________________________________

المقتضي في كلّ منهما ، وفقد المانع أوجب اتّصاف كليهما بالوجوب ، لاتّحاد حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز.

(١) إشارة إلى : أنّه مع عدم التفاوت بينهما في وجود المقتضي للوجوب الغيري ، وعدم المانع عن الاتّصاف بالوجوب يكون وجوب أحدهما ـ وهو الموصل إلى ذي المقدّمة دون الآخر غير الموصل ـ ترجيحا بلا مرجّح. وضمير ـ له ـ راجع إلى الطلب.

(٢) يعني : الموصل إلى ذي المقدّمة ، وقوله : ـ الآخر ـ يعني غير الموصل.

فتحصل من جميع ما أفاده المصنّف (قده) : أنّ معروض الوجوب الغيري هو مطلق المقدّمة ، لا خصوص الموصلة ، لأنّ الغرض من المقدّمة ـ وهو سدّ باب عدم ذيها من ناحيتها ـ موجود في مطلق المقدّمة ، لا خصوص الموصلة.

__________________

(*) فما عن شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) من : «أن وجوب مطلق المقدّمة يستلزم اتّصاف مقدمة واحدة يؤتى بها مرارا عديدة بالوجوب ، وكون الآتي بها آتيا بواجبات عديدة ، كمن يمشي مرارا إلى سور البلد مثلا للخروج مع الرفقة إلى مكّة ، وهو بعيد» ، لا يخلو من الغموض ، وذلك لأنّه لا مانع من اتّصاف كلّ مشى بالوجوب وإن سقط الوجوب المقدّمي بالمشي الأوّل ، لكنّه بعد تعجيز نفسه بالرجوع إلى البلد يصير عاجزا عن الإتيان بذي المقدّمة ، فيجب تحصيل القدرة عليه بإتيان المقدّمة ثانية ، وهكذا كلّما عجّز نفسه عن الإتيان بذيها وجب عليه تكرارها ، فيسقط وجوبها حينئذ لتحقّق الغرض الداعي إليه ، فالغرض الداعي إلى إيجاب المقدّمة ـ وهو الاقتدار على إيجاد ذيها في كلّ مشي ـ موجود ، فلا بأس باتّصاف كلّ مشي بالوجوب.

وبالجملة : لا يصلح الاستبعاد المزبور لرفع اليد عن البرهان ، ولإثبات كون معروض الوجوب الغيري خصوص المقدّمة الموصلة ، هذا.

ومثله في الغموض : ما في تعليقة سيّدنا الأستاذ مد ظله على المتن من :

٣١٠

وقد استدل صاحب الفصول على ما ذهب إليه (١) بوجوه ، حيث قال بعد

______________________________________________________

(١) من : وجوب خصوص المقدّمة الموصلة.

__________________

«أنّ الواجب الغيري ما يجب لغيره وهو الواجب النفسيّ ، فالغرض من الواجب الغيري هو نفس الواجب النفسيّ ، ولا ريب في أنّ الغرض من الوجوب النفسيّ وجود موضوعه فلا بد أن يكون الوجوب الغيري مختصّا بحال وجود موضوع الوجوب النفسيّ ، لأنّه مقتضى تلازم الوجوبين ، وكون أحدهما معلولا للآخر ، هذا. مع أنّ لازم كون الغرض من الوجوب الغيري مجرّد التمكّن من الواجب النفسيّ ـ كما هو مقالة القائلين بوجوب المقدّمة مطلقا ـ هو القول بوجوب فعل المقدّمة ولو مع تعذّر بقيّة المقدّمات ، لترتّب الغرض وهو التمكّن من الواجب على فعلها حينئذ وإن لم يترتّب الواجب خارجا عليها. والوجوب منوط بغرضه الداعي إلى تشريعه ، ولا يلتزم به أحد» انتهى ملخّصا.

وجه الغموض : أنّ الغرض من الوجوب النفسيّ هو إيجاد موضوعه ، وهو لا يترتّب على جميع المقدّمات ـ فضلا عن بعضها ـ ، وإنّما المترتّب على جميعها هو التمكّن من إيجاد ذيها ، وهو بمجرّده ليس علّة تامّة لإيجاد ذيها ، إذ الجزء الأخير من العلّة التامّة لإيجاده هو الاختيار ، فلا محالة يكون الغرض من وجوب المقدّمة هو الاقتدار على إيجاد ذيها.

والحاصل : أنّ الغرض من الوجوب النفسيّ وإن كان إيجاد موضوعه ، إلّا أنّه لا يقتضي تخصيص الوجوب الغيري بحال وجود الواجب النفسيّ ، لما عرفت : من عدم كون وجود ذي المقدّمة أثرا للمقدّمات حتى يكون الغرض من وجوب المقدّمة قائما بخصوص المقدّمة الموصلة ، لأنّها الّتي يترتّب عليها الأثر.

فالحق ما عن المشهور المختار للمصنّف : من القول بوجوب المقدّمة مطلقا.

وأما ما أفاده مدّ ظله بقوله : «مع أنّ لازم دعوى كون الغرض من الوجوب الغيري ... إلخ» ، فيتوجّه عليه : أنّ تعذّر بقيّة المقدّمات إن كان موجبا لسقوط

٣١١

بيان أنّ التوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب (١) ما هذا لفظه (٢) : «والّذي يدلّك على هذا (٣) يعني الاشتراط بالتوصّل : أنّ (٤) وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقليّة ، فالعقل لا يدلّ عليه زائدا على القدر المذكور (٥).

______________________________________________________

(١) لأنّ اشتراط وجوب المقدّمة بوجود ذيها يقتضى اشتراطه بوجود نفسها أيضا ، إذ المفروض كونها من علل وجود ذيها ، ولا معنى لوجوب شيء بشرط وجوده ، لامتناع طلب الحاصل.

(٢) هذه العبارة مذكورة في الفصول في أوّل تنبيهات مقدّمة الواجب.

(٣) عبارة الفصول كما تقدّمت عند التّعرض لقول صاحب المعالم هكذا : «والّذي يدلّ على ذلك».

ومحصل ما أفاده الفصول في كلامه المحكيّ في المتن مؤلّف من براهين ثلاثة :

الأوّل : أنّ المتيقّن من حكم العقل بوجوب المقدّمة هو خصوص الموصلة.

(٤) هذا إشارة إلى البرهان الأوّل.

(٥) وهو الاشتراط بالتوصّل ، وضمير ـ عليه ـ راجع إلى وجوب المقدّمة.

الثاني : أنّ العقل يجوّز تصريح الآمر الحكيم بعدم مطلوبيّة المقدّمة غير

__________________

الوجوب النفسيّ المتعلق بذي المقدّمة ، فلا وجه لوجوب المقدّمات الميسورة ، إذ المفروض سقوط علّة وجوبها الغيري ـ وهي الوجوب النفسيّ ـ كجامع الطهور ، فإنّ فاقده في وقت الفريضة يسقط عنه وجوب الصلاة في الوقت ـ على قول لعلّه المشهور ـ ، فلا وجه لوجوب تحصيل الساتر وغيره من المقدّمات الميسورة. وإن لم يكن موجبا لسقوط الوجوب النفسيّ ، كما في موارد مزاحمة الوقت لما عدا جامع الطهور من الأجزاء والشرائط ، فلا وجه لسقوط وجوب المقدّمات الميسورة ، إذ المفروض بقاء الوجوب النّفسي على حاله ، فسقوط الوجوب الغيري يكون مختصّا بالمقدّمات المتعذّرة ، كما لا يخفى.

٣١٢

وأيضا (١) لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم : ـ أريد الحج ، وأريد المسير الّذي يتوصّل به إلى فعل الواجب ، دون ما لم يتوصّل به إليه (٢) ـ ، بل (٣) الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك (٤) كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيّتها له مطلقا (٥) ، أو على تقدير

______________________________________________________

الموصلة ، فيجوز أن يقول : «إنّي لا أريد المسير غير الموصل إلى مناسك الحج ، بل أريد خصوص السير الموصل إليها» ، ولو كان الواجب مطلق المقدّمة لم يكن وجه لهذا الجواز.

الثالث : أنّ الأمر تابع للغرض الداعي إليه سعة وضيقا ، كما مرّ سابقا ، والعقل يدرك أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة ليس إلّا التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ، فلا يحكم إلّا بوجوب خصوص الموصلة.

(١) هذا إشارة إلى البرهان الثاني.

(٢) أي : الواجب ، وضمير ـ به ـ راجع إلى الموصول المراد به المسير.

(٣) أي : الضرورة العرفيّة ، فإنّها قاضية بجواز تصريح الآمر الحكيم بعدم مطلوبيّة المقدّمة غير الموصلة ، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيّة مطلق المقدّمة وإن كانت موصلة ، أو بعدم مطلوبيّة خصوص الموصلة ، فإنّ جواز التصريح عرفا بترك مطلوبيّة غير الموصلة ، وقبح التصريح بعدم مطلوبيّة مطلق المقدّمة ، أو خصوص الموصلة آية عدم الملازمة عقلا بين وجوب ذي المقدّمة وبين وجوب مطلق المقدّمة ، ضرورة عدم جواز التصريح بترك مطلوبيّة مطلق المقدّمة ، أو خصوص الموصلة مع الملازمة المذكورة ، بل الملازمة تكون بين وجوب الواجب ، وبين وجوب خصوص مقدّمته الموصلة.

(٤) أي : إرادة السير الموصل إلى الحج ، وعدم إرادة السير غير الموصل إليه.

(٥) أي : مطلق المقدّمة ، وضمير ـ أنّها ـ راجع إلى الضرورة ، وضمير ـ مطلوبيّتها ـ إلى المقدّمة ، وضمير ـ له ـ إلى الآمر.

٣١٣

التوصّل بها إليه (١) ، وذلك (٢) آية عدم الملازمة بين وجوبه ووجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها إليه (٣). وأيضا (٤) حيث إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل (*) بها إلى الواجب وحصوله (٥) ، فلا جرم يكون التوصّل بها إليه

______________________________________________________

(١) أي : الواجب ، وضمير ـ بها ـ راجع إلى المقدّمة.

(٢) أي : جواز التصريح وقبحه دليل عدم الملازمة.

(٣) هذا الضمير ، وكذا ضميرا ـ وجوبه ـ و ـ مقدّماته ـ راجعة إلى ـ الواجب ـ وضمير ـ بها ـ راجع إلى المقدّمة.

(٤) هذا إشارة إلى البرهان الثالث المذكور بقولنا : «الثالث أنّ الأمر تابع للغرض الداعي إليه ... إلخ» ، فلاحظ.

ثم إنّ الفرق بين البراهين الثلاثة :

أن الأول ناظر إلى : أنّ العقل يحكم بوجوب خصوص الموصلة من باب القدر المتيقّن ، فكأنّه متردّد في أنّ موضوع الوجوب الغيري هل هو مطلق المقدّمة أم خصوص الموصلة؟

والثاني ناظر إلى : أنّ عدم إباء العقل ، وحكم الضرورة دليلان على أنّ الواجب هو خصوص المقدّمة الموصلة.

والثالث ناظر إلى : أنّ العقل يدرك أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة هو التّوصّل بها إلى ذيها ، ومن المعلوم : تبعيّة الوجوب سعة وضيقا للملاك ، فالغرض الداعي إلى إيجاب المقدّمة ليس إلّا في المقدّمة الموصلة ، فإيجاب غيرها خال عن الملاك ، فيختصّ الوجوب بما فيه الملاك ، وهو الموصلة.

(٥) أي : الواجب ، وضمير ـ بها ـ راجع إلى المقدّمة.

__________________

(*) الأولى تبديله ب : ـ الوصول ـ ، ليكون مقابلا لقوله : ـ وحصوله ـ ، وكذا ينبغي تبديل : ـ التوصل ـ الثاني ب : ـ الوصول ـ ، وذلك لظهور التوصّل في دخل القصد في اتّصاف المقدّمة بالوجوب ، كما هو مذهب شيخنا الأعظم. وليس ذلك

٣١٤

وحصوله (١) معتبرا في مطلوبيّتها ، فلا (٢) تكون مطلوبة إذا انفكّت عنه ، وصريح الوجدان قاض بأنّ من يريد شيئا لمجرّد حصول شيء آخر ، لا يريده إذا وقع مجرّدا عنه (٣) ، ويلزم منه (٤) أن يكون وقوعه على الوجه المطلوب منوطا بحصوله» انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه.

وقد عرفت (٥) بما لا مزيد عليه : أنّ العقل الحاكم بالملازمة دلّ على وجوب

______________________________________________________

(١) معطوف على ـ التوصّل ـ وضميره راجع إلى الواجب ، وضميرا ـ بها ـ و ـ مطلوبيّتها ـ راجعان إلى المقدّمة.

(٢) متفرّع على كون المطلوب من المقدّمة حصول الواجب ، وترتّبه عليها ، فالضميران المستتران في ـ تكون ـ و ـ انفكّت ـ راجعان إلى المقدّمة ، وضمير ـ عنه ـ إلى الواجب.

والحاصل : أنّ المقدّمة المنفكّة عن ذيها ليست مطلوبة ، لقضاء صريح الوجدان بأنّ من يريد شيئا لا لنفسه ـ بل لغيره ـ لا يريده مجرّدا عن الغير ، فوقوعه على النحو المطلوب منوط بحصول ذلك الغير.

(٣) هذا الضمير ، وكذا ضمير ـ بحصوله ـ يرجعان إلى ـ شيء آخر ـ.

(٤) أي : من قضاء الوجدان ، وضميرا ـ وقوعه ـ و ـ يريده ـ يرجعان إلى ـ شيئا ـ.

(٥) يعني : في ردّ قول الشيخ (قده) بكون قصد التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها دخيلا في اتّصاف المقدّمة بالوجوب ، حيث قال المصنف هناك : «أمّا عدم اعتبار قصد التوصّل ، فلأجل أنّ الوجوب لم يكن بحكم العقل إلّا لأجل المقدّميّة والتوقّف ، وعدم دخل قصد التوصّل فيه واضح ... إلخ».

وحاصله : أنّ العقل الحاكم بالملازمة بين وجوبي المقدّمة وذيها يحكم بوجوب مطلق المقدّمة ، لا خصوص الموصلة ، لاشتراك علّة الوجوب ـ وهي المقدّميّة والتوقّف ـ في مطلق المقدّمة ، فلا وجه لتخصيص الوجوب بالموصلة ، فالوجوب ثابت

__________________

مذهب الفصول ، لأنّ مذهبه هو كون الترتّب ووجود الواجب النفسيّ شرطا لاتّصاف المقدّمة بالوجوب.

٣١٥

مطلق المقدّمة ، لا خصوص ما إذا ترتّب عليها الواجب فيما (١) لم يكن هناك مانع عن وجوبه ، كما إذا كان بعض مصاديقه محكوما فعلا بالحرمة ، لثبوت (٢) مناط الوجوب حينئذ (٣) في مطلقها ، وعدم (٤) اختصاصه بالمقيّد بذلك (٥) منها.

وقد انقدح منه (٦) : أنّه ليس للآمر الحكيم غير المجازف بالقول ذلك

______________________________________________________

لمطلق المقدّمة ، إلّا إذا كان هناك مانع عن اتّصاف بعض أفرادها بالوجوب ، كما إذا كان محكوما فعلا بالحرمة.

وبالجملة : فبقول المصنف : «وقد عرفت بما لا مزيد عليه ... إلخ» يندفع جميع البراهين الثلاثة المذكورة في كلام الفصول ، حيث إنّه ـ بعد كون حكم العقل بوجوب المقدّمة لأجل المقدّميّة الموجبة للاقتدار على إتيان ذي المقدّمة ـ لا تردّد له حتى يحكم من باب القدر المتيقّن بوجوب خصوص الموصلة ، فيندفع البرهان الأوّل.

ومنه يظهر : بطلان البرهانين الأخيرين ، إذ مع عدم تردّد العقل لا يحكم بوجوب خصوص الموصلة ، كما لا يحكم بجواز التصريح بعدم وجوب غير الموصلة ، لعدم تردّده في الغرض الداعي إلى إيجاب المقدّمة ، وهو الاقتدار المزبور.

(١) قيد ل ـ وجوب مطلق المقدّمة ـ ، يعني : أنّ العقل يحكم بوجوب مطلق المقدّمة فيما لم يكن هناك مانع عن وجوب بعض أفرادها ، كما إذا كان محكوما فعلا بالحرمة.

(٢) تعليل لحكم العقل بوجوب مطلق المقدّمة وإن لم تكن موصلة.

(٣) يعني : حين عدم المانع عن وجوب مطلق المقدّمة ، وضمير ـ مطلقها ـ راجع إلى المقدّمة.

(٤) معطوف على ـ ثبوت ـ ، وضمير ـ اختصاصه ـ راجع إلى ـ مناط الوجوب ـ.

(٥) أي : بما يترتّب عليه الواجب ، وضمير ـ منها ـ راجع إلى المقدّمات ، يعني : أنّ ملاك الوجوب لا يختصّ بالمقدّمة المقيّدة بترتّب ذيها عليها.

(٦) أي : من ثبوت الملاك في مطلق المقدّمة ، وعدم اختصاصه بالمقدّمة الموصلة

٣١٦

التصريح (١). وأنّ (٢) دعوى : أنّ الضرورة قاضية بجوازه مجازفة (٣) ، كيف يكون ذا (٤) مع ثبوت الملاك في الصورتين (٥) بلا تفاوت أصلا ، كما عرفت (٦).

نعم (٧) إنّما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النفسيّ في إحداهما (٨) وعدم (٩) حصوله في الأخرى (١٠)

______________________________________________________

ظهر : أنّه ليس للآمر المراعي للحكمة في أوامره ونواهيه التصريح بعدم مطلوبيّة المقدّمة غير الموصلة ، لكونه خلاف حكم العقل. فما ذكره الفصول من : «أنّ الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بذلك» ممنوع.

(١) أي : التصريح بعدم مطلوبيّة المقدّمة غير الموصلة ، وقوله : ـ ذلك التصريح ـ اسم ـ ليس ـ.

(٢) معطوف على ـ انّه ـ ، وضمير ـ بجوازه ـ راجع إلى التصريح.

(٣) خبر ـ انّ ـ.

(٤) أي : جواز التصريح بعدم مطلوبيّة المقدّمة غير الموصلة مع ثبوت ملاك الوجوب وهو التوقّف الموجب للاقتدار على إيجاد ذي المقدمة في كلتا صورتي ترتب ذي المقدمة على المقدمة وعدمه ، ومع عموم الملاك لكلتا الصورتين لا وجه لتخصيص الوجوب بالموصلة.

(٥) وهما : ترتّب ذي المقدّمة عليها ، وعدمه.

(٦) يعني : في ردّ كلام الشيخ (قده) من اعتبار قصد التّوصّل في اتّصاف المقدّمة بالوجوب ، حيث قال : «وليس الغرض من المقدّمة إلّا حصول ما لولاه ... إلخ».

(٧) هذا استدراك على قوله : ـ بلا تفاوت أصلا ـ ، يعني : لا تفاوت بين الموصلة وغيرها إلّا في حصول الواجب النفسيّ في الموصلة ، وعدمه في غيرها ، لكن هذا لا يوجب تفاوتا بينهما في ملاك الوجوب الّذي هو المهم والمناط في وجوب المقدّمة.

(٨) أي : إحدى الصورتين ، وهي الموصلة.

(٩) معطوف على ـ حصول ـ ، وضمير ـ حصوله ـ راجع إلى المطلوب النفسيّ.

(١٠) وهي : غير الموصلة ، من دون دخل للمقدّمة في التفاوت المزبور ، وهو

٣١٧

من دون دخل لها (١) في ذلك أصلا ، بل كان (٢) بحسن اختيار المكلّف وسوء اختياره ، وجاز (٣) للآمر أن يصرّح بحصول هذا المطلوب (٤) في إحداهما ، وعدم حصوله في الأخرى. وحيث (*) إنّ الملحوظ بالذات

______________________________________________________

حصول المطلوب النفسيّ في الموصلة ، وعدم حصوله في غيرها أصلا ، لأنّ التفاوت المذكور ناش عن حسن اختيار المكلّف وسوئه ، لا عن ناحية المقدّمة ، لأنّ أثر المقدّمة ـ وهو الاقتدار على إيجاد ذي المقدّمة ـ موجود في كلتا صورتي حصول المطلوب النفسيّ ، وعدمه.

(١) أي : ل ـ المقدّمة ـ ، والمشار إليه في ـ ذلك ـ هو التّفاوت.

(٢) يعني : بل كان التفاوت مستندا إلى حسن اختيار المكلّف وسوء اختياره ، لا إلى نفس المقدّمة.

(٣) هذا من آثار التفاوت المزبور ، والتصريح بحصول المطلوب النفسيّ في المقدّمة الموصلة وعدم حصوله في الأخرى جائز بالضرورة. وليس هذا كالتصريح بعدم مطلوبيّة المقدّمة غير الموصلة ـ كما أفاده في الفصول ـ لما عرفت : من عموم ملاك الوجوب للمقدّمة مطلقا وإن لم تكن موصلة ، فالتصريح بعدم مطلوبيّة غير الموصلة مع عموم ملاك الوجوب له قبيح ، فالشاهد العرفي الّذي أقامه الفصول بقوله : «بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك ... إلخ» لا يشهد بما رامه.

(٤) أي : النفسيّ ، والمراد ـ بإحداهما ـ المقدّمة الموصلة ، وب ـ الأخرى ـ : غير الموصلة.

__________________

(*) سوق البيان يقتضي وجود كلمة ـ بل ـ قبل قوله : ـ وحيث ـ ، لأنّ مراده ظاهرا : أنّ الملحوظ بالذات للآمر لمّا كان هو المطلوب النفسيّ من دون نظر إلى المطلوب الغيري جاز له أن يصرّح بعدم حصول المطلوب النفسيّ ولو مع تحقّق المطلوب الغيري ، كما جاز له التصريح بحصول المطلوب الغيري مع عدم فائدة فيه ، فإنّ جواز هذا التصريح دليل على مقدّميّته ولو مع عدم ترتّب المطلوب النّفسي عليه ، فسوق البيان يقتضي الإتيان بكلمة ـ بل ـ الإضرابيّة ، كما هي موجودة في بعض النسخ.

٣١٨

هو هذا المطلوب ، وإنّما كان الواجب الغيري ملحوظا إجمالا بتبعه ، كما يأتي أنّ وجوب المقدّمة على الملازمة تبعيّ جاز (١) في صورة عدم حصول المطلوب النفسيّ التصريح بعدم حصول المطلوب أصلا ، لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدّمة فضلا عن كونها مطلوبة ، كما جاز التصريح بحصول الغيري مع عدم فائدته لو التفت إليها (٢) كما لا يخفى ، فافهم (٣).

إن قلت (٤) : لعلّ التفاوت بينهما في صحة اتّصاف إحداهما بعنوان الموصليّة دون الأخرى أوجب التفاوت بينهما في المطلوبيّة وعدمها (٥) ، وجواز (٦) التصريح بهما (٧)

______________________________________________________

(١) هذا جواب ـ حيث ـ في قوله : ـ وحيث إنّ الملحوظ بالذات ـ.

(٢) هذا وكذا ضمير ـ كونها ـ راجعان إلى المقدّمة ، وضمير ـ فائدته ـ راجع إلى الحصول.

(٣) لعلّه إشارة إلى : عدم منافاة جواز التصريح بحصول المطلوب الغيري مع عدم حصول المطلوب النفسيّ لعدم الوجوب ، لما مرّ من : أنّ سقوط الأمر يمكن أن يكون لسقوط الغرض بغير الواجب. ولكن قد تقدّم ما فيه.

(٤) غرض المستشكل : أنّ حكم العقل على أفراد طبيعة واحدة بحكم واحد مبنيّ على كونها متساوية الأقدام في نظره ، وإلّا كان حكمه عليها مختلفا ، وحكم العقل لا يختلف ، وحينئذ نقول : إنّه يمكن تفاوت المقدّمة الموصلة مع غيرها في نظر العقل بحيث يحكم بوجوب الموصلة دون غيرها.

وبالجملة : فاتّصاف بعض المقدّمات بالموصليّة أوجب التفاوت بين الموصلة وغيرها في نظر العقل الحاكم بالملازمة.

(٥) أي : المطلوبيّة ، وضمير ـ بينهما ـ راجع إلى الموصلة وغيرها.

(٦) معطوف على : ـ المطلوبيّة ـ.

(٧) أي : بالمطلوبيّة وعدمها.

٣١٩

وإن لم يكن بينهما (١) تفاوت في الأثر (٢) كما مر (٣).

قلت (٤) : إنّما يوجب ذلك (٥) تفاوتا فيها لو كان ذلك (٦) لأجل تفاوت في ناحية المقدّمة ، لا فيما إذا لم يكن في ناحيتها أصلا ، كما هاهنا (٧) ، ضرورة (٨)

______________________________________________________

(١) أي : بين الموصلة وغيرها.

(٢) وهو : التمكن من الإتيان بذي المقدّمة.

(٣) يعني : في ردّ كلام الشيخ (قده) القائل باعتبار قصد التوصّل ، وفي ردّ كلام الفصول بقوله : «وقد عرفت بما لا مزيد عليه : أنّ العقل الحاكم بالملازمة دلّ على وجوب مطلق المقدّمة ... إلخ».

(٤) هذا دفع الإشكال ، وحاصله : أنّ الموصليّة إن كانت موجبة للتفاوت في ناحية المقدّمة ومنوّعة لها ، كان التفاوت بين الموصلة وغيرها في نظر العقل ، وحكمه بوجوب الموصلة فقط مسلّما. لكنّها ليست كذلك ، ضرورة أنّ عنوان الموصليّة انتزاعيّ ، لكونه منتزعا عن ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة باختيار المكلّف ، ومن المعلوم : أنّ هذا الترتّب وعدمه الناشئين من اختياره أجنبيّان عن مقدّميّة المقدّمة ، ولا دخل لهما فيها ، فالمقدمة تامّة في المقدّميّة من دون فرق بين الموصلة وغيرها في نظر العقل.

(٥) المشار إليه : ـ التفاوت بين الموصلة وغيرها ـ ، وضمير ـ فيهما ـ راجع إلى الموصلة وغيرها ، يعني : إنّما يوجب التفاوت بين الموصلة وغيرها في اتّصاف إحداهما بالموصليّة دون الأخرى تفاوتا فيهما لو كان ذلك التفاوت لأجل الاختلاف في ناحية المقدّمة ، وقد عرفت عدم التفاوت من هذه الناحية.

(٦) أي : التّفاوت في صحّة اتّصاف إحداهما بالموصليّة دون الأخرى.

(٧) أي : المقدّمة الموصلة ، وضمير ـ ناحيتها ـ راجع إلى المقدمة.

(٨) تعليل لعدم تفاوت في ناحية المقدّمة ، وضمير ـ ترتّبه ـ راجع إلى الواجب ، وضميرا ـ عليها ـ و ـ ناحيتها ـ راجعان إلى المقدّمة.

٣٢٠