منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

المطلوب بالمطلوبيّة بواسطة مفهوم الطلب ، فإنّ الفعل يصير مرادا بواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها (١) ، لا بواسطة مفهومها ، وذلك واضح لا يعتريه ريب».

ففيه (٢) : أنّ مفاد الهيئة كما مرّت الإشارة إليه ليس الأفراد ، بل هو مفهوم الطلب ، كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف ، ولا يكاد (٣) يكون فرد (*)

______________________________________________________

(١) وهي : وجود الإرادة خارجا ، وضميرا ـ حقيقتها ومفهومها ـ راجعان إلى الإرادة.

(٢) هذا جواب قوله : ـ وأمّا ما قيل ... إلخ ـ ، وحيث كان إشكال الشيخ (قده) على التّمسك بإطلاق الهيئة لدفع الشك في النفسيّة والغيريّة مؤلّفا من مقدّمتين.

إحداهما كون المعنى الحرفي الّذي يكون منه مدلول الهيئة جزئيا خارجيا غير قابل للإطلاق والتقييد.

والأخرى : كون اتّصاف الفعل بالمطلوبية لأجل تعلّق مصداق الطلب وفرده الخارجي القائم بنفس الطالب به ، لا لأجل تعلّق مفهوم الطلب به ، فقد أشار المصنف إلى ردّ كلتا المقدمتين.

أما الأولى ، فبقوله : ـ ليس الأفراد ... إلخ ـ وحاصله : أنّ مفاد الهيئة ليس جزئيّا خارجيّا ، وهو الطلب القائم بالنفس ، بل مفادها مفهوم الطلب ، كما تقدّم في المعاني الحرفيّة.

وأما الثانية : فبقوله : ـ واتصاف الفعل بالمطلوبية ... إلخ ـ ، وسيأتي توضيحه.

(٣) يعني : ولا يكاد يكون مفاد الهيئة فرد الطلب ـ وهو الصفة الخارجيّة القائمة بالنفس ـ كما نسب إلى الشيخ (قده).

__________________

(*) الأولى : إسقاط كلمة ـ فرد ـ ، لأنّ الطلب الحقيقي بنفسه فرد لمفهوم الطلب ، ولا معنى لكون شيء فردا لهذا الفرد ، بعد كون أفراد كلّ طبيعة متباينة. ولعل في العبارة سقطا ، وكانت هكذا : ـ ولا يكاد يكون فرده وهو الطلب الحقيقي ـ ، أو سقط منها كلمة ـ أعني ـ ، أو ـ وهو ـ بأن كانت العبارة هكذا :

٢٤١

الطلب الحقيقي (١) ، والّذي (٢) يكون بالحمل الشائع طلبا ، وإلّا (٣) لما صحّ إنشاؤه بها ، ضرورة (٤) أنّه من الصفات الخارجية الناشئة من الأسباب الخاصة.

نعم (٥) ربما يكون هو السبب لإنشائه ، كما يكون غيره (٦) أحيانا.

______________________________________________________

(١) صفة ل ـ فرد ـ في قوله : ـ فرد الطلب ـ.

(٢) معطوف على قوله : ـ فرد ـ يعني : ولا يكون مفاد الهيئة الّذي يكون بالحمل الشائع طلبا ، حيث إنّ مصطلحهم في الحمل الشائع هو حمل الطبيعي على مصداقه الّذي هو منشأ الآثار الخارجيّة الموجب للاتّحاد الوجوديّ وإن كان أعمّ من ذلك ، لصدق الشائع على حمل الطبيعي على فرده الذهني والإنشائيّ أيضا.

(٣) يعني : وإن لم يكن مفاد الهيئة مفهوم الطلب ، بل كان فرده لما صح إنشاء الطلب بالهيئة ، لأنّ الطلب الخارجي القائم بالنفس إنّما يوجد بأسبابه ، وهي مباديه المعهودة الّتي ليس الإنشاء منها ، إذ لا يوجد التكوين بالإنشاء ، لمغايرتهما.

نعم ربما يكون الطلب الخارجي الّذي هو مصداق طبيعيّ الطلب داعيا إلى الإنشاء ، كما ربما يكون غيره كالتمنّي ، والترجّي ، والتهديد ، وغيرها من دواعي إنشاء الطلب الّتي تقدّمت في مبحث صيغة الأمر داعيا له.

(٤) تعليل لقوله : ـ وإلّا لما صحّ إنشاؤه بها ـ ، وقد مرّ تقريبه بقولنا : ـ لأنّ الطلب الخارجي القائم بالنفس ـ ، وضمير ـ أنّه ـ راجع إلى فرد.

(٥) استدراك على عدم صحة إنشائه ، وحاصله : أنّه لا يصح إيجاد الطلب الخارجي بالإنشاء ، لمغايرة الوجود الإنشائي للتّكويني ، لكنّه يمكن أن يكون وجود الطلب خارجا منشأ وداعيا لإنشائه.

(٦) أي : غير الطلب الخارجي ، وضمير ـ هو ـ راجع إليه أيضا ، وضمير ـ لإنشائه ـ راجع إلى مفهوم الطلب.

__________________

ـ ولا يكاد يكون فرد الطلب وهو الحقيقي ، أو أعني الحقيقي ـ ، ويمكن توجيه العبارة بجعل الإضافة بيانية ، فتدبّر.

٢٤٢

واتصاف (١) الفعل بالمطلوبيّة الواقعية ، والإرادة الحقيقيّة الداعية إلى إيقاع طلبه ، وإنشاء إرادته (٢) بعثا نحو مطلوبه الحقيقي ، وتحريكا (٣) إلى مراده

______________________________________________________

(١) هذا شروع في ردّ المقدّمة الثانية ، وهي : كون اتّصاف الفعل بالمطلوبيّة لأجل تعلّق مصداق الطلب به ، لا مفهومه.

ومحصل ردها : أنّ الطلب على قسمين : حقيقي وإنشائي ، والنسبة بينهما عموم من وجه ، حيث إنّه قد يتّصف فعل بكليهما ، كما إذا قال لعبده : ـ صلّ ـ وأراد منه الصلاة حقيقة ، فإنّه يصدق على الصلاة أنّها مطلوبة بكلا الطلبين الإنشائيّ ـ كما هو واضح ـ والحقيقي ، إذ المفروض تعلّق إرادته الجدّية بإيجاد العبد لها.

وقد يكون مطلوبا بالطلب الإنشائيّ ، فقط كالأوامر الامتحانيّة ، فإنّ الفعل حينئذ مطلوب بالطلب الإنشائيّ فقط.

وقد يكون مطلوبا بالطلب الحقيقي فقط ، كما إذا انقدح في نفسه الطلب بتحقق مباديه ، مع عدم قدرته على الإنشاء ، لوجود مانع ، فالفعل حينئذ مطلوب بالطلب الحقيقي ، دون الإنشائيّ.

إذا عرفت هذين القسمين من الطلب : ظهر لك فساد المقدّمة الثانية المبنيّة على توهم انحصار مطلوبيّة الفعل المتعلّق لإنشاء الطلب في المطلوبيّة الحقيقية الموجب لتخيّل كون مفاد الهيئة لا محالة هو الطلب الحقيقي.

وجه الفساد : انقسام الطلب إلى قسمين ، وعدم كون الفعل الّذي تعلّق به الإنشاء متّصفا بالمطلوبية الحقيقيّة فقط حتى يكون هذا الاتّصاف دليلا على كون مفاد الهيئة مصداق الطلب غير القابل للتقييد.

(٢) مرجع هذا الضمير وضمير ـ طلبه ـ هو الفعل.

(٣) معطوف على ـ بعثا ـ ومفسّر له ، و ـ بعثا ـ مفعول لأجله ، يعني : أنّ إيقاع الطلب يكون لأجل البعث نحو المطلوب الواقعي.

٢٤٣

الواقعي لا ينافى (١) اتّصافه بالطلب الإنشائيّ أيضا ، والوجود الإنشائيّ لكلّ شيء ليس إلّا قصد حصول مفهومه بلفظه ، كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن ، بل كان إنشاؤه بسبب آخر (٢).

ولعل (٣) منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق (٤) ، فتوهم منه : أنّ مفاد الصيغة يكون طلبا حقيقيّا يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع ، ولعمري أنّه (٥) من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق ، فالطلب

______________________________________________________

(١) خبر ـ اتصاف ـ ، يعني : أنّ مطلوبيّة فعل حقيقة لا تنافي مطلوبيّته إنشاء أيضا ، لما عرفت من : أنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، فتجتمعان. وقد عرفت : عدم إمكان إنشاء الطلب الخارجي ، فالهيئة موضوعة لإنشاء مفهوم الطلب ، ويتّصف الفعل بكونه مطلوبا إنشائيّا سواء أكان إنشاؤه بداعي الطلب الحقيقي ، أم غيره كالامتحان ، أو التعجيز ، أو غيرهما من الدواعي المصحّحة لإنشاء الطلب ، فإنّ الوجود الإنشائيّ لكلّ شيء ليس قصد حصول ذلك الشيء في الخارج ، من دون فرق بين وجوده في الخارج وعدمه.

(٢) غير الطلب الحقيقي من سائر دواعي الإنشاء ، وضمير ـ إنشاؤه ـ راجع إلى الطلب.

(٣) غرضه : التنبيه على منشأ تخيّل كون مفاد الهيئة الطلب الحقيقي ، وحاصل منشإ هذا التوهم هو : تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق من دون تقييده بالحقيقي ، أو الإنشائيّ ، وهذا التعبير صار موجبا لتوهّم كون مفاد الصيغة طلبا حقيقيّا ، وهو غير قابل للتقييد ، لكونه فردا يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع.

(٤) أي : من دون تقييده بالحقيقي والإنشائيّ ، وضمير ـ منه ـ راجع إلى الطلب المطلق.

(٥) يعني : هذا الاشتباه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق ، حيث إنّ الطلب غير القابل للتقييد هو الحقيقي القائم بالنفس ، والطلب القابل للتقييد هو مفهومه

٢٤٤

الحقيقي (١) إذا لم يكن قابلا للتقييد لا يقتضي (٢) أن يكون مفاد الهيئة قابلا له وإن تعارف تسميته (٣) بالطلب أيضا ، وعدم (٤) تقييده بالإنشائي ، لوضوح (٥) (*)

______________________________________________________

فتوهّم : أنّ مفاد الهيئة هو المصداق ـ أعني الطلب الخارجي ـ فهذا من اشتباه المفهوم بالمصداق.

(١) يعني : ما هو مصداق لمفهوم الطلب الّذي ذهب الشيخ (قده) إلى أنّه مفاد الهيئة ، فإنّ عدم قابليّته للتقييد لا يوجب عدم قابليّة مفهوم الطلب له وإن جرى الاصطلاح على تسمية مفاد الهيئة بالطلب أيضا ، وذلك لكمال الفرق بين الطلبين ، إذ الأوّل مصداق خارجي ، ووصف نفسانيّ غير قابل للتقييد. بخلاف الثاني ، لأنّه مفهوم كلّي قابل له ، وقابليّة المفهوم للتقييد لا تستلزم قابليّة المصداق له ، كما أنّ عدم قابليّة المصداق له لم يستلزم عدم قابليّة المفهوم له أيضا.

(٢) خبر ـ فالطلب ـ ، وضمير ـ له ـ راجع إلى التقييد.

(٣) أي : مفاد الهيئة ، وقوله : ـ أيضا ـ يراد به تسمية الطلب الحقيقي الخارجي بالطلب ، يعني : كتعارف تسمية الطلب الحقيقي الخارجي به.

(٤) مبتدأ ، والغرض من هذه الجملة : الاعتذار عن عدم تقييد مفاد الهيئة ، ـ وهو الطلب ـ بالإنشائي ، وبيان وجه حمل الطلب المطلق عليه.

وحاصل تقريب الاعتذار : أنّ وضوح امتناع إيجاد الطلب الحقيقي التكويني بالإنشاء قرينة على إرادة خصوص الطلب الإنشائيّ من الهيئة وإن حمل الطلب عليه مطلقا غير مقيّد بالإنشائي ، فلا حاجة إلى تقييده بالإنشائي. وضمير ـ تقييده ـ راجع إلى مفاد الهيئة.

(٥) خبر قوله : ـ وعدم ، وضمير ـ خصوصه ـ راجع إلى الإنشائيّ.

__________________

(*) بل لامتناع اتّصافه بالإنشائيّة ، لأنّ هذا الوصف متأخر عن الاستعمال ، وقد قرّر في محله : امتناع أخذ ما ينشأ عن الاستعمال في المعنى الموضوع له.

فالأولى أن يقال : إنّ الهيئة إنّما وضعت لإنشاء النسبة الطلبيّة ، ولم توضع للطلب أصلا.

٢٤٥

إرادة خصوصه ، وأنّ (١) الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها ، كما لا يخفى (٢).

فانقدح بذلك (٣) : صحة تقييد مفاد الصيغة بالشرط ، كما مرّ هاهنا (٤) بعض الكلام ، وقد تقدّم في مسألة اتحاد الطلب والإرادة ما يجدي في المقام (٥).

هذا (٦) إذا كان هناك إطلاق. وأمّا إذا لم يكن ، فلا بد من الإتيان به فيما

______________________________________________________

(١) معطوف على إرادة ، وضمير ـ بها ـ راجع إلى الهيئة.

(٢) لما مرّ من امتناع إيجاد الطلب الحقيقي التكويني بالإنشاء الّذي لا ينشأ به إلّا أمر اعتباريّ كالزوجيّة ، والملكيّة ، والحريّة ، ونحوها من الاعتبارات العقلائية ، ويمتنع إيجاد الأمر التكويني بالإنشاء ، لعدم السنخيّة بين الوجود التكويني والاعتباري.

(٣) أي : بما ذكره من كون مفاد الهيئة الطلب الإنشائيّ الّذي هو كلّي ، لا الطلب الخارجي الّذي هو جزئيّ ، وعليه فيكون الواجب المشروط المشهوري أعني : كون الشرط قيدا لنفس الوجوب ممكنا ، إذ المفروض جعل مفاد الهيئة مفهوم الطلب القابل للتقييد.

(٤) أي : في الواجب المطلق والمشروط عند التّعرض لكلام التقريرات في رجوع القيد إلى المادّة ، والإشكال عليه بصحة رجوعه إلى الهيئة.

(٥) لما ذكره هناك : من كون معنى الهيئة هو الطلب الإنشائيّ القابل للتقييد ، فراجع الجهة الرابعة من الجهات المتعلّقة بمادّة الأمر.

(٦) أي : الرجوع إلى إطلاق الهيئة. وأمّا إذا لم يكن في البين إطلاق ، كما إذا كان دليل الوجوب لبّيّا من إجماع ونحوه ، أو لفظيّا مجملا ، فقد ذكر المصنف (قده) له صورتين :

إحداهما : ما أشار إليه بقوله : ـ فلا بد من الإتيان ... إلخ ـ ، وحاصله : وجوب الإتيان بالواجب الّذي شك في نفسيّته وغيريّته فيما إذا كان وجوبه فعليّا

٢٤٦

إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له (١) فعليّا ، للعلم (٢) بوجوبه فعلا وإن

______________________________________________________

بفعليّة وجوب ما يحتمل كون هذا الواجب شرطا له ، كما إذا علم بوجوبه مطلقا ، يعني سواء أكان نفسيّا أم غيريّا.

أما على الأول ـ وهو فرض كونه نفسيّا ـ فواضح.

وأما على الثاني ـ وهو فرض كونه غيريّا ـ فللعلم بفعليّة وجوب ما يشك في كون هذا الشيء المشكوك وجوبه نفسيّا أو غيريّا من مقدّماته ، ضرورة أنّ فعليّة وجوب ذي المقدّمة تستلزم فعليّة وجوب مقدّمته. مثلا إذا شكّ في وجوب الوضوء نفسيّا أو غيريّا مع فرض فعليّة وجوب الصلاة مثلا ، فلا بد حينئذ من الإتيان بالوضوء ، للعلم بفعليّة وجوبه على كلّ حال.

أما على نفسيّته فواضح. وأما على مقدّميته ، فلكون وجوب ذي المقدّمة فعليّا.

وبالجملة : فالعقل يحكم بلزوم الإتيان بمثل الوضوء ، للعلم بوجوبه على كلّ تقدير ، والجهل بكيفيّة وجوبه من النفسيّة والغيريّة لا يقدح في هذا الحكم العقلي ، كما لا يقدح فيه جريان البراءة في تقيّد الصلاة بالوضوء ، لكونها من الأقل والأكثر كما لا يخفى.

(١) المراد به : ـ الواجب النفسيّ ـ ، وضمير ـ كونه ـ راجع إلى : ـ ما شكّ في وجوبه نفسيا أو غيريا ـ. والمراد ب ـ ما ـ الموصول : الواجب النفسيّ.

يعني : فلا بدّ من الإتيان بالمشكوك وجوبه نفسيّا أو غيريّا ـ كالوضوء ـ فيما إذا كان التّكليف بالصلاة مثلا الّتي احتمل كون الوضوء شرطا لها فعليّا.

(٢) تعليل لقوله : ـ فلا بد من الإتيان به ـ ، يعني : أنّ وجوب الإتيان به إنّما هو لأجل العلم بوجوبه الفعلي الّذي هو موضوع حكم العقل بلزوم الإطاعة وإن لم يعلم جهة وجوبه من حيث النفسيّة والغيريّة. هذا تمام الكلام في الصورة الأولى.

٢٤٧

لم يعلم جهة وجوبه ، وإلّا (١) فلا (*) ، لصيرورة الشك فيه بدويّا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) أي : وإن لم يكن التكليف بما احتمل كون هذا الواجب مقدّمة له فعليّا ، فلا يجب الإتيان به. وهذا إشارة إلى الصورة الثانية ، وحاصلها : عدم وجوب الإتيان بما احتمل كونه واجبا نفسيّا ، أو مقدّمة لما لا يكون وجوبه فعليّا ، كما إذا احتمل قبل وقت الصلاة كون الوضوء مقدّمة له ، وذلك لأنّ وجوب الوضوء حينئذ مشكوك فيه بالشك البدوي ، لكون وجوبه نفسيّا غير معلوم. وكذا لو كان مقدّمة لغيره ، إذ المفروض عدم فعليّة وجوب ذلك الغير قبل الوقت ، فلا محيص حينئذ عن جريان أصالة البراءة في ما احتمل كونه واجبا نفسيّا ، أو مقدّميا لما لم يثبت فعليّة وجوبه.

وبالجملة : فالمرجع في الصورة الأولى قاعدة الاشتغال ، وفي الصورة الثانية

__________________

(*) قد يتوهم قصور العبارة عن تأدية المراد ، لأنّ قوله : ـ وإلّا ـ معطوف على قوله : ـ كان التكليف ـ ، فإذا جمعنا بين المعطوف والمعطوف عليه كانت العبارة هكذا : «وأمّا إذا لم يكن ـ أي إطلاق ـ فلا بد من الإتيان به فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليّا ، ولا بدّ من الإتيان به فيما إذا لم يكن التكليف به فعليّا ، فلا يجب الإتيان به». وهذا لا معنى له ، إذ العامل في المعطوف والمعطوف عليه ، وهو قوله : ـ فلا بد من الإتيان به ـ يقتضي خلوّ العبارة عن معنى صحيح ، فالأولى إبدال قوله : ـ وإلّا فلا ـ بقوله : ـ ولا يجب الإتيان به فيما إذا لم يكن كذلك ـ.

لكنه توهم فاسد ، لأنّ قوله : ـ فلا بد من الإتيان به ـ ليس ممّا يتعلق بالمعطوف عليه حتى تقدح إعادته في العبارة ، وحينئذ فإذا جمعنا بين المعطوف والمعطوف عليه كانت العبارة هكذا : «وإن لم يكن التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليا ، فلا يجب الإتيان به ، لوجود البدّ منه» ، فالمصنّف إنّما نفي بقوله :

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

أصالة البراءة (*).

__________________

ـ وإلّا فلا ـ ما أفاده بقوله : ـ فلا بد من الإتيان به ـ ، إذ معناه : أنّه يجب الإتيان به ، فنفي معناه هو قولنا : ـ لا يجب الإتيان به ـ.

نعم كان الأولى بسلاسة العبارة أن يقول : ـ وإن لم يكن التكليف به فعليا ، فلا يجب الإتيان به ـ.

(*) لا يخفى : أنّ صور الشك في النفسيّة والغيريّة وإن كانت كثيرة لكنّه لا بأس بالتعرّض لواحدة منها ، وهي : ما إذا علم تفصيلا بوجوب كلّ واحد من فعلين ، وشك في أنّ أحدهما مقيّد بالآخر أولا ، كما إذا علم بوجوب الإحرام والطواف مثلا ، وشكّ في تقيّد الطواف به ، قد نسب إلى شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) ذهابه إلى جريان البراءة في تقيّد الطواف به ، فتكون نتيجتها إطلاق الإحرام ، فله الإتيان به قبل الطواف ، وبعده ، هذا.

لكن أورد عليه ب : «معارضة البراءة في التقييد للبراءة في النفسيّة ، إذ المفروض كون المعلوم هو الوجوب الجامع بين خصوصيّتي النفسيّة والغيريّة ، فالخصوصيّة مشكوكة ، والعلم الإجمالي بوجود إحدى الخصوصيّتين مانع عن جريان الأصل في كلّ منهما ، فلا محيص حينئذ عن الاحتياط عقلا بالإحرام أوّلا ، ثم الطواف بعده.

فالنتيجة معاملة الوجوب الغيري مع الإحرام ، فالمقام نظير العلم الإجمالي بين المتباينين في كونه مانعا عن جريان الأصل في كل منهما».

والحق ما أفاده المحقّق النائيني (قده) ، وذلك لأنّ النفسيّة ليست أمرا وجوديّا ، وخصوصيّة زائدة على نفس الوجوب ، كالغيريّة ، وإلّا لما صحّ التمسك بإطلاق الصيغة لإحرازها إذا شكّ فيها ، لكون الإطلاق نافيا لكلتا الخصوصيّتين ، مع أنّ بناءهم على التمسك بالإطلاق المزبور النافي لخصوصيّة الغيريّة ، والمثبت

٢٤٩

تذنيبان :

الأوّل : لا ريب (١) (*) في استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسيّ ،

______________________________________________________

(١) قد تعرّض لهذا الأمر جلّ الأصوليّين كالشيخ في التقريرات ، والمحقق القمّي ، وصاحبي الفصول والبدائع ، وغيرهم ، وحاصله : أنّ ترتب الثواب على إطاعة الأمر النفسيّ ممّا لا كلام فيه ، كما لا إشكال في استحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلا.

__________________

للنفسيّة من غير نكير. وعليه ، فتجري البراءة في الغيريّة ، وهي قيديّته لغيره ، ونتيجته إطلاق كلّ من الوجوبين ، فيأتي بالإحرام قبل الطواف أو بعده.

وبالجملة : تكون الغيريّة كسائر القيود الّتي تجري فيها البراءة بلا كلام عند من يرى جريانها في الأحكام غير المستقلة ، كما هو واضح.

(*) في نفي الريب عن الاستحقاق المزبور ريب ، وذلك لعدم تسالمهم عليه ، وإنّما هو مذهب جمهور فقهاء العامة ، وأكثر المتكلمين ، وقد خالفهم الأشاعرة وجماعة منّا كالمفيد قدس‌سره ومن تبعه ، حيث إنّهم ذهبوا إلى عدم كون الثواب بالاستحقاق ، بل بالتفضل.

وتفصيل الكلام : أنّ محتملات الاستحقاق كثيرة :

منها : أن يراد به العلاقة اللزومية المعاوضيّة بين الفعل والثواب الموجبة لصيرورة الأجر ملكا للعامل بإزاء عمله ، نظير مالكيّة الأجير لأجرة عمله ، بحيث لو منع عن الأجر كان ظلما وتعدّيا عليه ، لأنّه منع له عن حقّه ، وكفّ للفيض عن مستحقّه. وعلى هذا ، فالمراد بالاستحقاق : ثبوت حقّ للعبد عقلا عليه سبحانه وتعالى ، بأن يعطيه الأجر بإزاء عمله كالأجير.

وأنت خبير بفساد هذا الاحتمال وإن كان يوهمه تعريف الواجب ب : «أنّه

٢٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ما يستحق فاعله المدح والثواب ، وتاركه الذم والعقاب» وجه الفساد : استقلال العقل بلزوم انقياد العبد لمولاه في أوامره ونواهيه جريا على رسم العبوديّة ، وقانونها ، حيث إنّ كفران المنعم الحقيقي الّذي هو وليّ النعم ومفيضها ظلم عليه ، فيوجب استحقاق العقوبة. فاستحقاق العقاب عقلا في طرف المخالفة ، لكونها طغيانا وتجرّيا على المولى ، وهتكا لحرمته لا بأس به. بخلاف إطاعة الأوامر ، فإنّ استحقاق الثواب عليها بهذا المعنى في غاية الإشكال ، لما عرفت من حكم العقل بكون الإطاعة من وظائف العبوديّة ورسومها ، ولا أجر على أداء الوظيفة.

نعم يمدحه العقلاء على الانقياد لأوامر المولى ، لكنّه غير الأجر المستحق على مولاه بإزاء عمله.

ومنها : أن يراد به قابليّة العبد بسبب صدور أعمال حسنة منه للفيض إن لم تكن مقرونة بالمعاصي المانعة عن هذه القابليّة ، فالمراد بالاستحقاق ما هو خلاف ظاهره من ثبوت حقّ للعبد على مولاه ، لأجل إطاعته. وهذا المعنى صحيح في نفسه ، ضرورة أنّ قابليّة المحل للألطاف الإلهيّة والفيوضات الربّانيّة من المسلّمات ، ولا ينبغي الارتياب فيها. لكن الاستحقاق بهذا المعنى ليس محلّ النزاع بين المتكلّمين.

ومنها : أن يراد به الاستحقاق الشرعي ، بمعنى : وجوب إعطاء الأجر على الباري جلّت عظمته ، لأجل وعده عزوجل لعباده الصالحين والمطيعين بالجنّة وغيرها من النعم الّتي لا زوال لها ، ووعده صدق ، ولا خلف فيه ، لقبحه ، فيجب عليه الوفاء بالوعد ، وهذا الوعد تأكيد لدعوة العامة ، وسبب لمزيد رغبتهم في التمكين من المولى ، والانقياد له ، هذا.

٢٥١

وموافقته ، واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلا. وأما استحقاقهما (١) على امتثال الأمر الغيري ومخالفته ،

______________________________________________________

(١) أي : الثواب والعقاب على امتثال الأمر الغيري ، وعصيانه.

__________________

وأنت خبير بما فيه ، ضرورة أنّ الاستحقاق أجنبيّ عن لزوم الوفاء بالوعد ، لقبح خلفه ، فإنّ الاستحقاق ناش عن الفعل الصادر عن العبد الموجب له حقا على من ألزمه بإيجاده ، وقد عرفت : أنّ هذا المعنى الظاهر من الاستحقاق لا يثبت للعبد على مولاه أصلا ، لأنّ العبد يؤدّي وظائف العبوديّة ، ولا معنى لاستحقاق الأجر على أداء الوظيفة.

فالمتحصل : أنّ الاستحقاق بالمعنى الأوّل ممّا لا يمكن الالتزام به ، حتى في الواجبات النفسيّة فضلا عن الغيريّة. وبالمعنيين الأخيرين أجنبي عن الاستحقاق المتنازع فيه عند المتكلّمين وإن أمكن الالتزام بهما ، لكنّهما خلاف ظاهر الاستحقاق المأخوذ في تعريف الواجب.

وبالجملة : فنفي المصنّف الرّيب عن استحقاق الثواب على امتثال الأمر النّفسي لم يظهر له وجه.

ثم إنّ جعل الأمر الغيري موردا لهذا النزاع مبنيّ على كونه أمرا حقيقيّا ، بأن يكون صادرا بداعي البعث ، ليكون البعث المترتّب عليه عين الانقياد الّذي هو مناط الثواب ، فلا محيص حينئذ عن الالتزام بترتّب الثواب تفضّلا عليه.

وأما بناء على عدم كونه أمرا حقيقيّا ، كما هو كذلك ، حيث إنّه لا شأن له في قبال الأمر النفسيّ بعد أن كان ملاكه التوصّل به إلى متعلّق الأمر النّفسي ، فكأنّ الأمر الغيري ملحوظ آلة للوصول إلى الأمر النّفسي ، كلحاظ المعنى الحرفي آليّا ، فيخرج عن موضوع كلام المتكلّمين ، ولا وجه حينئذ للبحث عن أنّ امتثال الأمر الغيري هل يوجب استحقاق الأجر والثواب أم لا؟

٢٥٢

ففيه إشكال (١) وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق (٢) على موافقته ومخالفته بما هو موافقة ومخالفة (١) (*) ، ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلّا لعقاب واحد ،

______________________________________________________

(١) من كونه امتثالا لأمره تعالى ، ومن أنّ هويّة الأمر الغيريّ ليست إلّا البعث إلى إيجاد الواجب النفسيّ بإتيان مقدمته الوجودية ، فلا مصلحة في الأمر الغيري إلّا هذا ، وهو لا يوجب قربا حتى يترتّب عليه الثواب ، لأنّه وكذا العقاب مترتّبان على القرب والبعد المترتّبين على موافقة الأمر النفسيّ ومخالفته.

(٢) هذا أحد الأقوال ، وهو خيرة جماعة من محققي المتأخّرين ، كشيخنا الأعظم الأنصاري وغيره ، وحاصل وجهه : ما أفاده بقوله : ـ ضرورة استقلال العقل ... إلخ ـ من : أنّ الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة والعصيان ـ وهو العقل ـ لا يحكم بأزيد من استحقاق عقاب واحد على مخالفة واجب واحد وإن كان ذا مقدّمات كثيرة ، وترك جميعها. وكذا لا يحكم باستحقاق أزيد من ثواب واحد إذا أتى بالواجب وجميع ما له من المقدّمات.

(٣) أي : من حيث إنّها موافقة ومخالفة للأمر الغيري ، لأنّ البحث من هذه الحيثيّة لتكون في قبال الأمر النفسيّ.

__________________

(*) ومن الأقوال : ما نسب إلى السبزواري ، وصريح الإشارات ومحتمل كلام المناهل من : «ثبوت استحقاق المثوبة والعقوبة على الأمر الغيري» ، ويظهر ذلك أيضا من القوانين ، فراجع ما أفاده في المقدّمة السادسة والسابعة من مقدّمات مبحث مقدّمة الواجب. نعم اشترط في ترتّب الثواب والعقاب على الأمر الغيري كون الوجوب توصّليّا ، هذا.

ومنها : التفصيل بين الثواب والعقاب بالالتزام بالأوّل ، دون الثاني ، وهو المنسوب إلى الغزّالي.

ومنها : عكس ذلك ، وهو الالتزام بثبوت العقاب دون الثواب ، لكن لم يظهر قائله ، كما اعترف بذلك في البدائع ، حيث قال : «وهذا مجرد احتمال لم نعثر بقائله».

٢٥٣

أو لثواب كذلك (١) فيما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدّماته على كثرتها ، أو (٢) وافقه وأتاه بماله (٣) من المقدّمات.

نعم (٤) لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدّمة ، وبزيادة (*)

______________________________________________________

(١) أي : واحد فيما خالف الواجب ولم يأت بشيء من مقدّماته مع كثرتها. ثم إنّ قوله : ـ ضرورة ... إلخ ـ يظهر من تقريرات شيخنا الأنصاري (قده) ، فلاحظ.

(٢) معطوف على ـ وافقه ـ ، وهذا من اللّف والنشر المرتّب ، فإنّ استحقاق العقاب الواحد مع المخالفة ، والثواب الواحد مع الموافقة.

(٣) أي : للواجب ، وضميرا ـ وافقه وأتاه ـ راجعان إليه أيضا.

(٤) بعد أن نفي استحقاق العقاب على مخالفة الأمر الغيري بحيث يكون العقاب لأجل مخالفة ، لا لمخالفة الواجب النفسيّ ، استدرك عليه بما حاصله (**) : أنّ مخالفة الأمر الغيري وإن لم تكن علّة لاستحقاق العقوبة ، لكن استحقاقها على مخالفة

__________________

(*) معطوف على قوله : ـ باستحقاق ـ ، يعني : لا بأس بزيادة المثوبة ، لكن الأولى : إسقاط الحرف الجار ، ليكون معطوفا على ـ العقوبة ـ ، ليصير المعنى هكذا : ـ لا بأس باستحقاق زيادة المثوبة ـ ، إذ الكلام في الاستحقاق بالنسبة إلى كلّ من العقوبة والمثوبة ، والعطف على ـ باستحقاق ـ لا يدل على الاستحقاق بالنسبة إلى زيادة المثوبة ، كما لا يخفى.

(**) ومنه يظهر : الجواب عمّا حكي عن السبزواري من : أنّ العقاب على ترك المقدّمة ، لأنّ كونه على ترك ذي المقدّمة كالقصاص قبل الجناية ، فيتعيّن أن يكون العقاب على ترك المقدّمة.

توضيح الجواب : أنّ استحقاق العقاب إنّما هو على ترك الواجب عند ترك المقدّمة ، حيث إنّ الواجب بترك مقدّمته صار ممتنعا بسوء اختياره ، كامتناع الحج في الموسم بترك الخروج مع الرفقة اختيارا بلا عذر.

والحاصل : أنّ نسبة استحقاق العقوبة إلى مخالفة الأمر الغيري تكون مجازا.

٢٥٤

المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدّمات بما هي مقدّمات له من باب أنّه يصير (١) حينئذ من أفضل الأعمال حيث صار أشقّها (٢) ، وعليه (٣) ينزّل ما ورد في الأخبار

______________________________________________________

الأمر النفسيّ يكون من حين مخالفة الأمر الغيري ، لأدائها إلى عصيان الأمر النفسيّ من حين مخالفة الأمر الغيري. فلو قيل : باستحقاق العقوبة على الأمر النّفسي من حين مخالفة الأمر الغيري كان متينا ، فالعقاب حقيقة على ترك الأمر النفسيّ ، لا الغيري.

(١) أي : الواجب حين الإتيان بالمقدّمات بعنوان مقدّميتها لذلك الواجب ، وضميرا ـ له وأنّه ـ راجعان إلى الواجب : والوجه في زيادة الثواب حينئذ هو : ازدياد مناطه أعني الانقياد في نظر العقل ، فيزيد الثواب بازدياد مناطه الّذي هو التسليم والانقياد ، لصيرورة العمل مع كثرة مقدّماته أشقّ الأعمال.

(٢) إشارة إلى : ما ورد في الروايات من : «أنّ أفضل الأعمال أحمزها» ، فالمراد بالأشقيّة هو الأكثريّة من حيث الانقياد والتخضع للمولى.

(٣) أي : على كون الثواب على نفس الواجب مع كثرة مقدّماته ، وغرضه : دفع المنافاة بين نفي استحقاق الثواب على المقدّمات ، وبين ما تضمّنته الروايات من الثواب على المقدّمات في موارد :

منها : ما ورد في زيارة سيد الوصيين مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين ، كخبر الحسين بن إسماعيل الصيمري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من زار أمير المؤمنين عليه‌السلام ماشيا كتب الله له بكل خطوة حجة وعمرة ، فإن رجع ماشيا كتب الله له بكل خطوة حجتين وعمرتين» (١).

ومنها : ما ورد في زيارة مولانا أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه من : «أن لكلّ قدم ثواب عتق عبد من أولاد إسماعيل عليه‌السلام» كما في رواية (٢)

__________________

(١) الوسائل ، كتاب الحج ، الباب ٢٤ من أبواب المزار وما يناسبه ، الحديث ١

(٢) الوسائل ، كتاب الحج ، الباب ٤١ من أبواب المزار وما يناسبه ، الحديث ٦

٢٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أبي سعيد القاضي.

ومنها : ما ورد في الحج ماشيا ، كرواية (١) أبي المنكدر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قال ابن عبّاس : ما ندمت على شيء صنعت ندمي على أن لم أحجّ ماشيا ، لأنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من حجّ بيت الله ماشيا كتب الله له سبعة آلاف حسنة من حسنات الحرم ، قيل يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال : حسنة ألف ألف حسنة ، وقال : فضل المشاة في الحج كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم.

وكان الحسين بن علي عليهما‌السلام يمشي إلى الحجّ ودابّته تقاد وراءه».

وكرواية الحلبي ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل المشي ، فقال : الحسن ابن علي عليهما‌السلام قاسم ربّه ثلاث مرّات حتى نعلا ونعلا ، وثوبا وثوبا ، ودينارا ودينارا ، وحجّ عشرين حجّة ماشيا على قدميه» (٢).

وجه المنافاة : أنّ الروايات (*) تدلّ على ترتّب الثواب على المقدّمات ،

__________________

(*) وكذا الآيات الشريفة ، كقوله تعالى : «ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون» ، وقوله تعالى : «إنّ الله لا يضيع أجر المحسنين» ، وقوله عزوجل : «لا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلّا كتب لهم ليجزيهم أحسن ما كانوا يعملون» وقوله تعالى : «ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا» إلى غير ذلك من الآيات والروايات الّتي استدلّ بها القائلون باستحقاق الثواب والعقاب على المقدّمات.

لكن الإنصاف : عدم ظهورها في كون الثواب على وجه الاستحقاق. ودعوى ظهورها في ذلك مجازفة ، فالوجوه المحتملة حينئذ كثيرة :

أحدها : التفضّل.

__________________

(١) الوسائل ، كتاب الحج ، الباب ٣٢ من أبواب وجوب الحج وشرائطه ، الحديث ٩).

(٢) المصدر المتقدم ، الحديث ٣.

٢٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كالخطوات ، فإنّها مع كونها مقدمة للزيارة والحجّ يترتّب الثواب عليها ، مع أنّ مقتضى حكم العقل عدم استحقاق الثواب إلّا على ذي المقدّمة.

والمصنف (قده) تبعا لغيره دفع هذا التنافي بأحد وجهين :

أحدهما : كون الثواب مترتّبا على نفس ذي المقدّمة ، فما يترتّب على المقدّمة من الثواب مترتّب حقيقة على ذي المقدمة ، قال في التقريرات ـ بعد حمل

__________________

ثانيها : كون الثواب على ذي المقدّمة ، لأنّ أمره كما يدعو إلى متعلّقه ، كذلك يدعو إلى مقدّماته ، ففعلها إذا كان بدعوة أمر ذيها كان إطاعة للأمر النفسيّ ، فالثواب حينئذ مترتّب عليه ، لكون الإتيان بالمقدّمة بهذه الدعوة شروعا في امتثال الأمر النفسيّ.

ثالثها : انطباق عنوان راجح على المقدّمة يوجب الثواب عليها ، كعنوان تعظيم شعائر الله المحبوب في نفسه ، فإذا انطبق هذا العنوان مثلا على المشي إلى زيارة إمامنا المظلوم عليه‌السلام كان الثواب عليه ، لا على مقدّميّته للزيارة.

نظير انطباق عنوان مخالفة بني أميّة لعنهم الله على ترك صوم عاشوراء ، أو التشبّه بهم على صومها الّذي هو عنوان مرجوح ، كما أنّ عنوان مخالفتهم راجح.

بل كلّ فعل مباح قصد به الطاعة يثاب فاعله عليه كما عن بعض المتكلّمين ، لصيرورته بهذا القصد من المطلوبات النفسيّة الّتي يترتّب على امتثال أوامرها القرب والمثوبة.

وبالجملة : انطباق مطلوب نفسيّ على المقدّمة ـ كانطباقه على مباح ـ وإن كان موجبا لترتّب المثوبة على فعله ، لكنه أجنبيّ عن عنوان المقدّمية. فإثبات الثواب بذلك للمقدّمة ـ كما عن بعض المحققين على ما في تقريرات شيخنا الأعظم ـ في غير محله ، لما عرفت من أنّ الثواب حينئذ يكون على المطلوب النفسيّ ، لا المقدّمي كما هو واضح.

٢٥٧

من الثواب على المقدّمات ، أو على التفضّل (١) ، فتأمّل جيدا ، وذلك (٢) لبداهة

______________________________________________________

الروايات الدالّة على ترتّب الثواب على المقدّمات على التفضّل ـ ما لفظه : «مع أنّه يحتمل أن يقال احتمالا ظاهرا : إنّ الثواب المترتّب عليها في هذه المقامات بالحقيقة هو الثواب المترتّب على فعل ذي المقدّمة ، ولكنّه إذا وزّع على الأفعال الصادرة من المكلّف في تحصيله يكون لكلّ واحد من أفعاله شيء من الثواب ، نظير ما يقول التاجر المسافر الساعي في تحصيل الأرباح عند توزيعه ما حصل له على أيّام مسافرته» ، ثم أيّد ذلك بما ورد في بعض الأخبار من ترتّب الثواب على الأقدام بعد المراجعة من الزيارة الحسينيّة عليه‌السلام ، حيث إنّها ليست من المقدّمات ، ولا سيّما بملاحظة أنّ ثوابها ضعف ثواب الرّواح ، هذا.

ثانيهما : حمل الأخبار على التفضّل ـ بناء على ظهورها في الاستحقاق ـ ، قال في التقريرات : «والإنصاف : أنّ منع ظهور هذه الروايات ودلالتها على ترتّب الثواب على فعل المقدّمات ممّا لا وجه له ، إلّا أنّه مع ذلك لا دلالة فيها على المدّعى ، إذا المقصود في المقام إثبات الاستحقاق ، ولا أثر من ذلك فيها ، فلعلّه مستند إلى فضل الرّب الكريم ، فإنّ الفضل بيده يؤتيه من يشاء».

(١) هذا هو الوجه الثاني المتقدّم آنفا بقولنا : ـ ثانيهما حمل الأخبار ... إلخ ـ والوجه في هذا الحمل ـ بعد البناء على ظهورها في الاستحقاق ـ هو : حكم العقل بعدم استحقاق العبد الّذي أسبغ المولى عليه النعم الظاهريّة والباطنيّة ، وأقدره على الإطاعة ، ولا حول ولا قوّة له إلّا به لشيء من الثواب على مولاه ، فهذا الحكم العقلي يوجب صرف الظهور المزبور إلى الحمل على التفضّل ، لعدم معارضة الظاهر للحكم العقلي.

(٢) تعليل للتنزيل المزبور ، وحاصله كما عرفت : أنّ استقلال العقل بعدم استحقاق الثواب على امتثال الأمر الغيري قرينة عقليّة على صرف تلك الأخبار عن ظواهرها على تقدير ظهورها في الاستحقاق ، وحملها على الثواب على ذي المقدّمة ،

٢٥٨

أنّ موافقة الأمر الغيري بما هو أمر (١) لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسيّ لا يوجب قربا ، ولا مخالفته بما هو كذلك (٢) بعدا ، والمثوبة والعقوبة إنّما تكونان من تبعات (*) القرب والبعد.

______________________________________________________

أو على نفس المقدّمة ، لكن تفضّلا ، لا استحقاقا ، حيث إنّ المثوبة والعقوبة مترتّبتان على القرب من المولى ، والبعد عنه. وامتثال الأمر الغيري ومخالفته لا يوجبان قربا ولا بعدا ، فلا يترتّب عليهما ثواب ولا عقاب ، فإذا امتنع الاستحقاق ، فلا محيص عن حمل ما دلّ على الثواب على المقدّمات على أحد الوجهين المذكورين.

(١) يعني : في قبال الأمر النفسيّ ، إذ لو كان بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسيّ كان الثواب عليه ، لا على الأمر الغيري ، وقد عرفت آنفا : أنّه لا مانع من قصد امتثال الأمر النفسيّ بإتيان المقدّمات.

(٢) يعني : بما هو أمر في قبال الأمر النفسيّ ، لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسيّ.

__________________

(*) الأولى إبدالها ب ـ التوابع ـ ، أو ـ الآثار ـ ، أو نحوهما ، لأنّ «التبعة» ـ كما في المجمع ـ هي «المظلمة وكلّ ما فيه إثم ، ومنه ما ورد في الدعاء : ولا تجعل لك عندي تبعة إلّا وهبتها» ، واستعمالها في هذا المعنى في الأدعية شايع كقوله عليه‌السلام : «ولك عندي تبعة أو ذنب» ، فلاحظ.

نعم لا بأس بما في المتن تغليبا ، أو اعتمادا على ما في المنجد : «التبعة كل ما يترتب على الفعل من خير أو شر ، إلّا أنّ استعمالها في الشر أكثر» ، وفي المصباح : «التبعة وزان الكلمة ما تطلبه من ظلامة ونحوها».

وعليه : بعد فرض اعتبار المنجد يكون تعبير المصنف (قده) بالتبعة في محلّه ، فلا داعي إلى ارتكاب عناية التغليب لجانب البعد والعقوبة على جانب القرب والمثوبة كما هو ظاهر.

٢٥٩

إشكال ودفع : أما الأوّل فهو : أنّه (١) إذا كان الأمر الغيري بما هو لا إطاعة له ، ولا قرب في موافقته ، ولا مثوبة على امتثاله ، فكيف حال بعض المقدمات (٢) كالطهارات ، حيث لا شبهة في حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها (٣) ، هذا. مضافا (٤) إلى : أنّ الأمر الغيري لا شبهة في كونه توصّليّا ،

______________________________________________________

(١) الضمير للشأن ، وضمير ـ فهو ـ راجع إلى الأوّل المراد به الإشكال الّذي محصله : أنّه ـ بناء على عدم كون الأمر الغيري موجبا للقرب الّذي يترتّب عليه استحقاق المثوبة ـ يشكل الأمر في المقدّمات العباديّة ، كالطهارات الثلاث ، حيث إنّه يترتّب عليها الثواب بلا كلام ، مع كونها من المقدّمات ، وقد عرفت : أنّهم بنوا فيها على عدم استحقاق الثواب عليها.

(٢) أي : العباديّة الّتي يعتبر فيها قصد التعبّد ، وقوله : ـ حيث لا شبهة ـ تقريب للإشكال ، وقد عرفته آنفا.

(٣) أي : الطهارات الثلاث.

(٤) هذا إشكال آخر على المقدّمات العباديّة كالطهارات الثلاث ، وحاصله : عدم تمشّي قصد القربة فيها ، حيث إنّ الأمر الغيريّ المقدّمي توصّلي ، إذ الغرض منه هو التوصّل إلى ذي المقدّمة بمجرد وجود المقدّمة ، ولا يعتبر في متعلّق الأمر المقدّمي قصد القربة ، مع أنّه لا شبهة عندهم في عدم صحّة الطهارات الثلاث بدون قصد القربة ، فما المصحّح لاعتبارهم قصد التقرّب فيها؟

وبالجملة : الأمر الغيري لا يصلح للمقرّبية ، والصالح لها هو الأمر النّفسي ، فالإشكال على المقدّمات العبادية من وجهين :

أحدهما : ترتّب الثواب عليها ، مع أنّ أوامرها غيريّة.

ثانيهما : عباديّة هذه المقدّمات ، لاعتبارهم قصد التقرّب فيها كما عرفت ، مع أنّ أوامرها غيريّة كما مر ، والعباديّة من شئون الأمر النّفسي ، واتّصاف الأمر الغيري بها من قبيل اتصاف الضدّ بخاصّة ضدّه ، وهو غير ممكن ، لأنّ النفسيّة

٢٦٠