إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

محمّد بن إسحاق الخوارزمي

إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

المؤلف:

محمّد بن إسحاق الخوارزمي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

الفصل الحادى والخمسون

فى ذكر الإشارة فى سر السعى بين الصفا والمروة

واعلم يا أخا الصفا بالوفا وتفكر فى ترددك بينهما كتردد العبد الخاطئ المذنب فى فناء حضرة مالكه خاشعا متفرعا متذللا إظهارا لمحبته ، ومواظبا لخدمته ، ورجاء لملاحظته بعين الجود والمرحمة ، وعفوا لزلاته ، ومحوا لسيئاته ، وطمعا فى قبول طاعته وخدمته ولم يعلم هل قبله أم لا.

أسير الخطايا عند بابك واقف

على وجل مما به أنت عارف

يخاف ذنوبا لم يغب عنك غبّها

ويرجوك فيها وهو راج وخائف

ومن ذا الذى يرجى سواك ويتقى

وما لك فى فصل القضاء مخالف

فيا سيدى لا تخزنى فى صحيفتى

إذا نشرت يوم الحساب الصحائف

وكن مؤنسى فى ظلمة القبر عند ما

تصد ذوو القربى ويجفو المحالف

لئن ضاق عنّى عفوك الواسع الذى

أرجّى لإسرافى فإنى تالف

وافتح بصرك وأبصر ببصر بصيرتك ، واعلم أن الصفا والمروة بمثابة كفتى الميزان ؛ كأنه توزن فيه أعمالك ، وترددك بينهما كتردد كفتى الميزان كيف يميل إلى الرجحان أو النقصان ، مترددا بين خوف العذاب ورجاء الغفران متمسكا بذيل عناية الرحمن قائلا بلسان الترجمان :

تعاظمنى ذنبى فلما قرنته

بعفوك ربى كان عفوك أعظما

ولولاك لم يعبد بإبليس عابد

فكيف وقد أغوى صفيك آدما

واعلم أن السعى فى الوادى هو انكماش العبد فى طاعة الله سبحانه وتعالى ، وإجابته إلى ما دعاه إليه. وقد كانت هاجر أم إسماعيل ـ سريّة خليل الرحمن عليه‌السلام ـ عند السدرة التى نزل بها إبراهيم استغاثت وعلت على هذين

٢٦١

الموضعين تطلب مغيثا عند ذلك الجهد ، فلما سعت بين الصفا والمروة نزلت عليها الرحمة ، وفرّج الله عنها الكربة ، وفجّر لها وأنبع لها عينا معينا وهى زمزم شراب الأبرار ، وكذلك من اقتدى بفعلها وعمل مثل عملها ؛ يتوقع له الرحمة والمغفرة ، ويخرج من مضيق عالم الكربة إلى فضاء عالم المغفرة كما رحمها الله تعالى وفرّج عنها ، وذلك أعظم الفرج إذ هى أعظم الكربة ـ قال الله عزّ وجلّ : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ)(١). فعظمهما الله تعالى وأعلمهم أنها من شعائر حجهم ونسبهما إليه.

ثم يخرج من مكة فى اليوم الثامن من ذى الحجة من الباكر إلى منى ليوافى بها صلاة الظهر ، ويسمى هذا اليوم يوم التروية ؛ لأنهم كانوا يتروّون فيه من الماء ويحملون إلى منى وعرفات ؛ لأنه ما كان فيهما من الآبار كما هى فيها الآن (٢).

وقيل : لأن جبريل عليه‌السلام أرى إبراهيم عليه‌السلام مناسكه فى هذا اليوم.

وقيل : لأن آدم عليه‌السلام رأى حواء فيه بعد ما هبط إلى الأرض (٣). والأول المشهور.

وينزل بمنى مع الناس اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويستحب أن يقيم فيها يوم التروية ويصلى بها الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، ويبيت تلك الليلة بها حتى يصلى صلاة الصبح من يوم عرفة بها. وهذه البيتوتة ليست بواجبة ، وإنما هى للاستراحة والهيئة ؛ فإن فعلها فقد أحسن ، وإن تركها فلا شىء عليه إلا أنه يكون مسيئا ؛ حيث ترك الاقتداء بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وترك السنة مكروه إلا لضرورة (٤).

فإذا صلى الصبح بها من يوم عرفة ، يمكث هنيهة إلى أن تطلع الشمس على ثبير (٥). وهو أعلى جبل بمنى. وإن راح قبل طلوع الشمس جاز ؛ إلا أن الأفضل

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٥٨.

(٢) هداية السالك ٢ / ٩٧٢ ، المجموع ٨ / ٢٩ ، المغنى ٣ / ٤٠٦.

(٣) ينظر عن ذلك فى : طبقات ابن سعد ١ / ٣٦ تفسير الطبرى ٢ / ٨٧ ، مثير الغرام (ص : ١٧٧).

(٤) شرح اللباب (ص : ١٢٧) ، المجموع ٨ / ٩٢ ، المغنى ٣ / ٦٠ ، الشرح الكبير للدردير مع الدسوقى ٢ / ٤٣.

(٥) هو جبل مشرف على منى ، وهو أعلى جبل بمنى ، وقيل : هو جبل عظيم بالمزدلفة على يمين ـ ـ الذاهب إلى عرفة ، والمشهور الأول.

٢٦٢

ما ذكرنا ؛ لمتابعة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم يروح إلى عرفة ملبيا وينزل بها فى أى موضع شاء وأحب ؛ ولكن يجتهد أن ينزل بقرب الجبل فإنه الأفضل عندنا (١).

وعند الشافعى : النزول بعرفة بوادى نمرة (٢) أفضل ؛ لما روى : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل نمرّة وأمر بقبة من شعر. وروى : من أدم حمراء (٣). ولنا أن عرنة ليست من الموقف ، والجبل وحواليه من الموقف وأنه موضع أداء القربات والطاعات ومجمع العباد والرجال ؛ فكان النزول به أولى ، ونزول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تلك السنة بعرنة كان بحكم الاتفاق ؛ لأنه كان قاصدا به.

فإذا زالت الشمس اغتسل إن أمكنه اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووقف عند الصخرات السود الكبار المفترشة ؛ وهو موضع وقوف النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموقف آدم عليه‌السلام والأنبياء من بعده عليهم‌السلام (٤).

ويقف هنالك إلى أن تغرب الشمس باكيا خاشعا خائفا ملبيا مكبرا مهللا مصليا على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم داعيا لنفسه ولجميع المسلمين ، وأفضل الدعاء المروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى هذا اليوم : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير» (٥).

وجاء فى فضيلة هذا الدعاء يوم عرفة بأسانيد صحيحة متصلة إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس فى الوقفة بعرفة قول ولا عمل أفضل من هذا الدعاء ، فأول من ينظر الله إليه صاحب هذا الدعاء».

وقال بعض أصحابنا وأكثر العلماء رحمهم الله : ينبغى أن يكون أكثر دعاء الحاج بعرفة يوم عرفة الدعاء الذى رواه علىّ رضى الله عنه عن النبى عليه‌السلام

__________________

(١) حاشية الدسوقى ٢ / ٤٤ ، هداية السالك ٣ / ٩٧٩.

(٢) نمرة ناحية بعرفة ، وقيل : هى الجبل الذى عليه أنصاب الحرم عن يمينك إذا خرجت من المأزمين تريد الموقف.

(٣) الحديث فى : صحيح مسلم ٤ / ٧٢.

(٤) ودليل ذلك ما جاء فى صحيح مسلم ٤ / ٤١ ، ٤٢ فى حديث جابر الطويل.

(٥) أخرجه : البيهقى فى السنن ٥ / ١١٧ ، الترمذى فى السنن (٣٥٨٥) ، أحمد فى مسنده ٢ / ٢١٠.

٢٦٣

أنه قال : «أكثر دعاء النبيين قبلى ودعائى يوم عرفة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيى ويميت وهو حى لا يموت ، بيده الخير وهو على كل شىء قدير».

فإذا وقف يستقبل البيت الحرام بوجهه ويبسط يديه كهيئة الداعى ثم يلبى ثلاثا ويكبر ثلاثا ، ويقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير ؛ يقول ذلك مائة مرة ، ثم يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، أشهد أن الله على كل شىء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شىء علما ؛ فيقول ذلك مائة مرة. ثم يتعوذ من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم. ويقول : ذلك ثلاث مرات. ثم يقرأ فاتحة الكتاب ثلاث مرات يبدأ فى كل مرة ببسم الله الرحمن الرحيم ، وفى آخر الفاتحة يقول مرة واحدة آمين. ثم يقرأ قل هو الله أحد مائة مرة ، ثم يقول : بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم يصلى على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقول : إن الله وملائكته يصلون على النبى الأمى الطيب المبارك والسلام عليه ورحمة الله وبركاته مائة مرة ، ثم يدعو لنفسه والمسلمين ويجتهد فى الدعاء لوالديه ولأقربائه ولإخوانه فى الله عزّ وجلّ من المؤمنين والمؤمنات. فإذا فرغ من دعائه عاد فى مقالته هذه يقولها ثلاثا ، ولا يكون له فى الموقف قول وعمل غير الدعاء حتى يمسى.

فإذا أمسى باهى الله تعالى ملائكته به ، ويقول : يا ملائكتى أنظروا إلى عبدى ، استقبل بيتى وكبّرنى وهلّلنى ولبّانى وسبّحنى وحمدنى ، وقرأ بأحب السور إلىّ ، وصلى على نبيّى ، وأشهدكم أنى قد قبلت عمله ، وأوجبت له أجره ، وغفرت له ذنوبه ، وشفعته فيمن يشفع له ولو شفع فى أهل الموقف لشفعته (١).

ويجتهد فى ذلك ويقوى رجاء الإجابة ولا يشتغل فى شىء من هذا اليوم بغير

__________________

(١) أخرجه البيهقى فى الشعب (٧٠٧٤) مختصرا ، وقال : هذا متن غريب ، وليس فى إسناده من ينتسب إلى الوضع ، وذكره ابن الجوزى فى الموضوعات ٢ / ٢١٢.

قلت : فيه عبد الرحيم بن زيد العمى متروك. وقيل : لا يكتب حديثه. وكذبه ابن معين (الجامع فى الجرح والتعديل ٢٥٨٧) ، وعزاه السيوطى فى اللآلئ ٢ / ١٢٦ ، وابن عراق فى تنزيه الشريعة ٢ / ١٧١ إلى أبى يوسف الجصاص فى فوائده ، وابن حجر فى أماليه.

٢٦٤

الدعاء والابتهال ، والتضرع والبكاء ؛ فهناك تسكب العبرات ، وتغفر الخطيئات ، وتنال الطلبات ؛ فإن الموقف عظيم والرب كريم والوقت شريف والرحمة واسعة والمنعم جواد.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يهبط إلى السماء الدنيا فيباهى بكم الملائكة فيقول : هؤلاء عبادى جاءونى شعثا غبرا من كل فج عميق يرجون رحمتى ، فلو كانت ذنوبهم كعدد الرمل ، وعدد القطر ، أو كزبد البحر ، لغفرتها. أفيضوا عبادى فقد غفرت لكم ولمن شفعتم له» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا أو أمة من يوم عرفة» (٢).

وعن بلال بن أبى رباح ، أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى يباهى ملائكته بأهل عرفة عامة ، وباهى بعمر بن الخطاب خاصة».

وعن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تطّول على أهل عرفة فيباهى بهم الملائكة فيقول : انظروا إلى عبادى شعثا غبرا أقبلوا يضربون إلىّ من كل فج عميق ، فاشهدوا أنى قد غفرت لهم إلا التبعات التى بينهم» (٣).

وعن العباس بن مرداس السلمى : أن النبى عليه‌السلام دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة فأجيب : أنى قد غفرت لهم ما خلا ظلم بعضهم بعضا ؛ فإنى آخذ للمظلوم من الظالم ، فقال النبى : «أى رب ، إنك لقادر على أن تغفر للظالم وتعوض المظلوم من عندك خيرا من مظلمته» فلم يجب صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذلك فى تلك العشية ، فلما كان من الغد وقف صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند المشعر الحرام وأعاد الدعاء لهم وتضرع

__________________

(١) أخرجه : البغوى فى شرح السنة (١٩٢٣) ، وابن عبد البر فى التمهيد ١ / ١٢٠ ، ابن منده فى التوحيد ١ / ١٤٧ ، ابن خزيمة (٢٨٤٠) ، الأصبهانى فى الترغيب (٣٨٤) ، ابن حبان (١٠٠٦) ، البيهقى فى الشعب (٤٠٦٨).

(٢) أخرجه : مسلم (الحج : ٤٣٦) ، ابن ماجه (٣٠١٤) ، النسائى (٣٠٠٣) ، الحاكم فى المستدرك (١٧٠٥) ، البيهقى فى السنن ٥ / ١١٨ ، الدارقطنى ٢ / ٣٠١.

(٣) أخرجه : الهيثمى فى مجمع الزوائد ٣ / ٢٥٧ ، وعزاه لأبى يعلى. وفيه : صالح المرى وهو ضعيف.

٢٦٥

إلى الله تعالى فى أن يتحمل عنهم المظالم والتبعات ، فلم يلبث صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تبسم ، فقال له أصحابه : مم ضحكت أضحك الله سنك يا رسول الله؟ فقال : «إن عدو الله إبليس لما علم أن الله تعالى قد استجاب دعائى فى أمتى وغفر لهم المظالم فذهب يدعو بالويل والثبور ويحثو على رأسه التراب ، فأضحكنى ما رأيت من جزعه» أخرج ابن ماجه (١).

فإذا غربت الشمس أفاض إلى المزدلفة ذاكرا باكيا ملبيا مكبرا ، ويؤخر المغرب إلى العشاء ليجمع بينهما فى المزدلفة فى وقت العشاء ، ويبيت تلك الليلة بها اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينزل بها حيث شاء وأحب إلا الجادة ؛ فإن النزول عليها مكروه.

ويستحب أن ينزل بقرب الجبل الذى عليه الميقدة ، يقال له : قزح (٢). وهذه البيتوتة سنة وليست بواجبة. وقال الشافعى وأحمد : هى واجبة على الأصح منهما. وبه قال مالك ، حتى لو لم يبت بها ودفع منها قبل نصف الليل فعليه الدم على الأصح.

وقال الشعبى والنخعى : البيتوتة فيها ركن حتى لو تركها لم يصح حجه (٣).

قال أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ : إن القوم إذا أفاضوا من عرفات إلى جمع ، فقال الله تعالى : يا ملائكتى انظروا إلى عبادى وقفوا فعادوا فى الطلب والرغبة والمسألة ، اشهدوا أنى قد وهبت مسيئهم لمحسنهم ، وتحملت عنهم التبعات التى بينهم (٤).

فإذا أصبح يصلى الصبح بغلس ويقف عند المشعر الحرام ويدعو إلى أن يسفر جدا ، وهذه الوقفة واجبة عند أبى حنيفة حتى لو تركها من غير عذر يجب عليه

__________________

(١) أخرجه : ابن ماجه (٣٠١٣) ، أحمد فى مسنده ٤ / ١٤ ، البيهقى فى السنن ٥ / ١١٨ ، المزى فى التهذيب ٢ / ٦٦١ ، ولم يصب ابن الجوزى بذكره فى الموضوعات ٢ / ٢١٤ ، وتعقبه السيوطى فى اللآلئ ٢ / ١٢٢.

(٢) قزح : هو آخر المزدلفة ، وهو المشعر الحرام.

(٣) ينظر فى هذا : المجموع ٨ / ١٢٧ ، الأم ٢ / ٢١٢ ، هداية السالك ٣ / ١٠٤٧ ، ١٠٤٨.

(٤) ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد ٣ / ٢٥٧ ، وعزاه لأبى يعلى ، وفيه : صالح المرى وهو ضعيف.

٢٦٦

دم ، وإذا لم يقف يكون حجه ناقصا وذلك يقتضى الوجوب ؛ هذا إذا تركها من غير عذر ، فإن كان به عذر أو علة أو ضعف أو يخاف الازدحام : لا بأس أن يتعجل بليل ولا شىء عليه.

وقال الشافعى : المستحب أن يبيت بها إلى أن يطلع الفجر الثانى ويصلى بها ، فإن لم يبت بها إلى الفجر الثانى وخرج من المزدلفة بعد نصف الليل ـ وهو النصف الثانى ـ فلا شىء عليه ؛ فإن المأمور والواجب عليه عنده أن يحضر بمزدلفة فى جزء من النصف الثانى من الليل.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء بجمع مستجاب» وهو المشعر الحرام.

ويستحب أن يجمع من المزدلفة سبع حصيات مثل حصى الحذف ويحملها معه إلى منى ويرمى بها جمرة العقبة.

ثم اختلفوا فى قدرها ، قال بعضهم : أصغر من الأنملة طولا وعرضا ، وقال بعضهم : مثل بندقة القوس ، وقال بعضهم : مثل الباقلاء. وهذه المقادير كلها متقاربة ؛ لأن الحذف لا يكون إلا بالصغير ، يقال : حذف الحصاة إذا وضعها على رأس سبابته ووضع إبهامه عليها ، وحذف بها إذا رمى بها. يقال : الخذف بالحصا والخذف بالعصا (١).

فإذا أفاض إلى منى يرمى جمرة العقبة بسبع حصيات ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصارى الذى سأل النبى عليه‌السلام عن الرمى : «أما رميك الجمار فلك بكل رمية رميتها كبيرة من الكبائر الموبقات الموجبات» (٢) أى تغفر لك.

ثم يذبح هديه إن كان له ؛ فإن كان مفردا لا يجب عليه ذبح الهدى بالإجماع بل يحلق. ويحل له كل شىء إلا النساء ، وله أن يذبح إن كان معه هدى ؛ لأنه طاعة وقربة واليوم قابل لذلك. وإن كان قارنا أو متمتعا يجب عليه الذبح فيذبح

__________________

(١) المجموع ٨ / ١٢٩ ، الأم ٥ / ٢١٣ ، الإيضاح (ص : ٢٤١ ، ٢٤٢) ، المدونة الكبرى ٢ / ١٨٣ ، الشرح الكبير ٢ / ٤٦ ، المغنى ٣ / ٤٢٤. والخذف : الحصى الذى ترمى به الطيور والعصافير لتصاد.

(٢) سبق تخريجه.

٢٦٧

أولا ثم يحلق. والترتيب واجب عندنا يقدم الذبح ثم يحلق ؛ فإن لم يجد ما يذبح صام ثلاثة أيام فى الحج آخرها يوم عرفة وسبعا إذا رجع.

وقال الشافعى : الترتيب مستحب غير واجب حتى لو قدّم الحلق على الذبح جاز قولا واحدا ، وإن قدّم الحلق على الرمى فله فيه قولان (١).

وعند مالك : إذا قدّم الحلق على الذبح جاز ولا شىء عليه ، وإن قدّمه على الرمى لزمه دم (٢).

وقال أحمد الترتيب واجب فى الكل على ما ذكرنا ، مثل مذهبنا (٣).

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما عمل ابن آدم يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم ، والدم يقع من الله تعالى بمكان قبل أن يقع إلى الأرض». ثم قال : «ولك بكل صوفة من جلدها حسنة ، وبكل قطرة من دمها حسنة» (٤).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصارى الذى سأله عن النحر : «أما نحرك فمدخر لك».

ثم يحلق رأسه والأصح أن الحلق عند الشافعى نسك كما هو مذهبنا وهو قول مالك (٥).

فإذا فرغ من رمى جمرة العقبة يوم النحر على الوجه الذى ذكرنا لا يتحلل فى حق اللبس والطيب وغير ذلك حتى يحلق أو يقصر.

وفى أحد قولى الشافعى يتحلل حين يفرغ من الرمى والأول أصح ؛ لما مر أنه

__________________

(١) المجموع ٨ / ١٤٢ ، الإيضاح (ص : ٣٥٣).

(٢) الشرح الكبير ٢ / ٥٠.

(٣) المغنى ٣ / ٤٢٩ ، الفروع ٣ / ٥١٣.

(٤) أخرجه : الترمذى (١٤٩٣) وقال : حديث حسن ، ابن ماجه (٣١٢٦) ، البيهقى فى السنن ٩ / ٢٦١ ، والشعب (٧٣٣٣) ، الحاكم فى المستدرك ٤ / ٢٢١ ، وقال : صحيح الإسناد ، وتعقبة الذهبى بأن سليمان ـ أبا المثنى ـ واه ، وبعضهم تركه. وقال البخارى : لم يسمع أبو المثنى من هشام بن عروة (ترتيب علل الترمذى : ق ٤٤). وأخرجه : ابن حبان فى المجروحين ٣ / ١٥١ ، وابن الجوزى فى العلل (٩٣٦).

(٥) المنهاج وشرحه مغنى المحتاج ١ / ٥١ ، هداية السالك ٣ / ١١٥٣.

٢٦٨

نسك على القول المنصور له ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصارى الذى سأل عن الحلق فقال عليه‌السلام : «فلك بكل شعرة حلقتها حسنة وتمحى بها عنك خطيئة» (١).

ويحكى عن أبى سهل بن يونس أنه قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المنام فقلت : يا رسول الله استغفر لى ، فقال : حججت؟ قلت : نعم ، قال حلقت رأسك بمنى؟ قلت : نعم ، فقال : رأس حلق بمنى لا تمسه النار (٢).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله المحلقين» ، قالوا : يا رسول الله والمقصرين؟ قال : «رحم الله المحلقين» ، قالوا : يا رسول الله والمقصرين؟ قال : «رحم الله المحلقين» ، قالوا : يا رسول الله والمقصرين؟ قال : «والمقصرين» فى الرابعة (٣).

اعلم أن الإتيان بالحلق أفضل من التقصير للحديث المروى آنفا ؛ حيث دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة ، فدل على أن الحلق أفضل.

ثم الحلق أو التقصير لا يجوز عندنا أقل من ربع الرأس كما فى مسح الرأس فى الوضوء ؛ فإن حلق أو قصّر أقل من النصف أجزاه عندنا وهو مسىء فى ذلك ؛ لأن السنة حلق جميع الرأس أو تقصير جميع الرأس ، فإن ترك ذلك فيكون مسيئا.

وقال الشافعى : إن اقتصر على حلق ثلاث شعرات أو تقصيرها أجزأه كما فى مسح الرأس عنده ، ثم قال : ولا فرق بين أن يقصر من الشعر الذى يحاذى الرأس أو من الشعر الذى نزل من الرأس ؛ لأن المقصود تقصير الشعر من الرأس وذلك به (٤).

وذكر ابن الصباغ من أصحابه : أنه لا يجوز فيما نزل من الرأس. والأول أصح.

وقال مالك : لا يجوز الحلق والتقصير إلا بالأكثر اعتبارا بمسح الرأس عنده.

هذا فى حق الرجال ، أما النساء فليس عليهن الحلق ؛ لأن فيه نوع مثلة فى

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) أخرجه ابن جماعة فى هداية السالك ١ / ١٠٠.

(٣) أخرجه : البخارى ٢ / ١٧٤ (الحج : الحلق والتقصير) ، مسلم ٤ / ٨١ (الحج : تفضيل الحلق).

(٤) المجموع ٧ / ٢٥٢ ، مغنى المحتاج ١ / ٥٢١ ، وانظر مسألة الشعرة فى : المجموع ٨ / ١٥٧ ، ١٥٨.

٢٦٩

حقهن فلا يؤمرن به ، وإنما عليهن التقصير ؛ لقوله عليه‌السلام : «ليس على النساء الحلق وعليهن التقصير ، ويكفيها قدر أنملة نافذ من شعر رأسها» (١).

وفى «آداب المفتيين» : أن المرأة لو قصرت مقدار الأنملة من أحد جانبى رأسها وذلك يبلغ النصف أو دونه أجزأها.

وقال الشافعى : أحب أن تجمع المرأة ضفائرها وتأخذ من أطرافها قدر أنملة ؛ لتعم الشعر كله ، وإن قصرت ثلاث شعرات أجزأها كما فى الرجل على أصله (٢).

ثم الحلق عند أبى حنيفة ـ رضى الله عنه ـ نسك ؛ لأنه يستحق به الثواب والرحمة وأنه يختص بزمان ومكان. أما الزمان فأيام النحر ، وأما المكان فهو الحرم ؛ لأنه إذا ثبت كونه نسكا فمناسك الحج مختصة بزمان ومكان كسائر المناسك.

وقال أبو يوسف : الحلق يختص بالزمان دون المكان.

وقال محمد : يختص بالمكان دون الزمان (٣).

ثم أفاض إلى مكة فى يومه ذلك إن تيسر له ؛ لأنه الأفضل. فإن لم يتيسر له فى يوم النحر ففى الغد إلى آخر أيام النحر عندنا ، لكن الأفضل النزول فى يوم النحر وطاف طواف الزيارة على الوجه الذى وصفنا ، ويصلى الركعتين بعده كما ذكرنا قبل ، ويسمى هذا الطواف طواف الإفاضة أيضا وهو ركن الحج بالاتفاق (٤).

وإذا فرغ من الطواف رجع إلى منى ، ويبيت بها لياليها وهذه البيتوتة سنة عندنا ، وعند مالك والشافعى هى واجبة على الأصح إلا فى حق المعذور كأهل مكة ومن به عذر ومرض ، وكرعاة الإبل.

ثم عند الشافعى لو ترك المبيت بها هل يجب عليه الدم بتركه أو لا؟ فله فيه روايتان : إحداهما : يجب ؛ لأنه نسك ، والثانية : لا يجب ؛ لترك مبيتها ليلة عرفة.

__________________

(١) أخرجه : أبو داود ٢ / ٢٠٣ ، وينظر عن ذلك المبحث فى المجموع ٨ / ١٥٤ ، وبلوغ المرام للحافظ ابن حجر رقم ٢٨ ، وهداية السالك ٣ / ١١٥٢.

(٢) المنهاج وشرحه مغنى المحتاج ١ / ٥١.

(٣) هداية السالك ٣ / ١١٦٢.

(٤) هداية السالك ٢ / ٨٥٣ ، ٨٦٢ ، ٣ / ١١٦٣.

٢٧٠

وعلى قول أنه يجب فإن ترك المبيت فى الليالى الثلاث وجب عليه الدم ، وإن ترك ليلة أو ليلتين ففيه ثلاثة أقوال كما لو حلق شعرة أو شعرتين ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه يجب فى الشعرة ثلث دم ، وفى الشعرتين ثلثا دم ، وفى الثلاثة دم ، وما دونها فبحسابه.

والقول الثانى : يجب فى الشعرة درهم ، وفى الشعرتين درهمان.

والقول الثالث : ما ذكرنا فى الظفر يجب فى الشعرة مدّ ، وفى الشعرتين مدّان والظفر والأظفار على هذا.

ولو ترك مبيت الليلة الثالثة ولم يبت الليلة الأولى والثانية قبل ذلك يجب بترك الليلة الثالثة دم ، ولو بات الأولى والثانية لا يجب شىء (١).

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصارى الذى سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طواف الإفاضة فقال عليه‌السلام : «أما طوافك ـ يعنى الإفاضة ـ فإنك تطوف ولا ذنب عليك ، ويأتى ملك حتى يضع كفه بين كتفيك فيقول لك : اعمل لما قد بقى فقد كفيت ما مضى».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حج حجة الإسلام وطاف طواف الزيارة ؛ فإنه يطوف ولا ذنب عليه ويأتيه ملك يضع كفه ...» (٢) الحديث.

فإذا فرغ من الطواف والصلاة قام فى الملتزم ويدعو لنفسه وسائر المسلمين.

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الملتزم موضع يستجاب فيه الدعاء» (٣).

وقال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : الملتزم ما بين الحجر والباب ، لا يلتزم ما

__________________

(١) انظر ترتيب أعمال يوم النحر فى : بدائع الصنائع ٢ / ١٥٨ ، شرح اللباب (ص : ١٢٥) ، شرح المنهاج ٢ / ١١٩ ، شرح الزرقانى ٢ / ٢٨٠ ، شرح الرسالة بحاشية العدوى ١ / ٤٧٦ ، المغنى ٣ / ٤٤٦ ، هداية السالك ٣ / ١١٧٣.

(٢) سبق تخريجه.

(٣) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣٤٨.

٢٧١

بينهما أحد يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه (١).

وعنه أيضا : ما دعى عبد لله تعالى فيه إلا استجاب له.

ثم يشرب من ماء زمزم ويتضلع منه ؛ فإن التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق ، فإنه طعام طعم ، وشفاء سقم ، وإن ماء زمزم لما شرب له (٢).

ثم يرجع إلى منى لرمى أيام التشريق اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويبيت بها لياليها ؛ لما روى : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بات بمنى ليالى الرمى (٣).

وهذه البيتوتة سنة عندنا ، وعند مالك والشافعى ـ رحمهما الله ـ هى واجبة ـ على الأصح ـ إلا فى حق المعذور كأهل مكة ، ومن له عذر ومرض ، وكرعاة الإبل.

فإذا مضى أيام التشريق عاد إلى مكة ، فإن كان لم يعتمر من قبل اعتمر من التنعيم ، وهو ميقات المعتمرين لأهل مكة ، وهو أقرب الحل إلى مكة ، والأفضل أن يأتى بالعمرة عقيب الحج وهى سنة عندنا وعند مالك.

وقال الشافعى وأحمد : هى واجبة كوجوب الحج ولا ينوب عنها الدم (٤).

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قضى نسكه ، وسلم الناس من لسانه ويده ؛ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر».

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العمرة الحج الأصغر» (٥).

وهذا آخر نسكه ، ولم يبق عليه إلا طواف الوداع.

__________________

(١) أخرجه : البيهقى فى الشعب (٤٠٦٠) ، عبد الرزاق فى مصنفه (٤٦ ـ ٩ ، ٤٧ ـ ٩) ، ابن أبى شيبة ٤ / ٣١٧.

(٢) أخرجه : مسلم (٢٤٧٤) ، البيهقى ٥ / ١٤٧ ، أحمد ٥ / ١٧٤ ، أبو نعيم فى الدلائل (١٩٧) ، ابن حبان (٧١٣٣).

(٣) الحديث فى أبى دواد ٢ / ١٩٨.

(٤) الإيضاح (ص : ٣٩٧) ، شرح الرافعى ٧ / ٣٨٩ ، مالك فى الموطأ ١ / ٤٠٦ ، الأم ٢ / ٢١٥.

(٥) أخرجه : الدارقطنى فى سننه ٢ / ٢٨٥ مرفوعا إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفس اللفظ. وموقوفا على ابن عباس بلفظ : «الحج الأكبر يوم النحر ، والحج الأصغر العمرة». والمحب الطبرى فى القرى (ص : ٦٠٣) وعزاه لابن الحاج فى منسكه.

٢٧٢

ويستحب أن يتصدق على جيران بيت الله الحرام بما تيسر ؛ لأن الإحسان إليهم من أسنى الرغائب وأسمى القرب. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما نفقاتهم فيخلفها الله تعالى فى دار الدنيا قبل أن يخرجوا منها ، وأما الألف ؛ فالألف فمدخر فى الآخرة ، والذى نفسى بيده إن الدرهم الواحد أثقل فى الميزان من جبلكم هذا ، وأشار إلى أبى قبيس».

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحسنة بمكة بسبعين من حسنات الحرم» قالوا : وما حسنات الحرم يا رسول الله؟ قال : «الحسنة بمائة ألف حسنة».

وقال الحسن البصرى ـ رضى الله عنه ـ : صوم يوم بمكة بمائة ألف ، وصدقة درهم بمائة ألف (١).

فإذا قضى أحدكم حجه فليتعجل إلى أهله فأنه أعظم لأجره.

وأما طواف الوداع فلا رمل فيه ولا سعى بعده بل يطوف سبعة أشواط كما تقدم. وهذا الطواف يسمى طواف الصدر. وهو واجب عندنا وبه أخذ أحمد إلا على ستة : المعتمر ، والمكى ، وكذا أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة ، وكذا الآفاقى إذا نوى الإقامة بعد فراغه من أفعال الحج والعمرة بمكة ؛ فلا وداع عليه ؛ هذا إذا نوى الإقامة والعزم عليها قبل أن يحل النفر الأول وهو اليوم الثانى من أيام التشريق وهو الثانى عشر من ذى الحجة بعد الزوال ؛ لأنه نوى الإقامة فى وقتها (٢).

وإن عزم على المقام ونوى بعد ما حل النفر الأول لم يسقط عنه ويلزمه طواف الصدر عند أبى حنيفة.

وقال الشافعى : يسقط كما قيل حل النفر الأول ؛ لأنه غير مفارق للبيت فلا يلزمه وداعه إلا إذا شرع فى الطواف ثم نوى ؛ فحينئذ لا يسقط عنه بحكم الشروع.

وكذا الحائض والنفساء ؛ لأنهما معذورتان فيه (٣) ، وقد روى : أن النبى عليه

__________________

(١) فضائل مكة للحسن البصرى (ص : ٢١) ، مثير الغرام الساكن (ص : ٢٣٥).

(٢) هداية السالك ٣ / ١٢٢٥.

(٣) يبحث عن ذلك فى : شرح اللباب (ص : ١٦٩) ، الشرح الكبير ٧ / ٤١٢ ، المجموع ٨ / ١٩٩.

٢٧٣

السلام رخص للحائض ترك الوداع ولم يأمرهن بإقامة دم ولا شىء مقامه ، والنفساء كالحائض فى ذلك (١).

وللشافعى فيه قولان :

أحدهما : أنه غير واجب ؛ وهو قول مالك اعتبارا بالمكى ، وعلى هذا لو تركه لا يجب عليه دم (٢).

وفى قوله الآخر : هو واجب مثل قولنا ، ولو تركه بغير عذر يجب عليه دم.

فإذا فرغ من الطواف يصلى ركعتين خلف المقام إن تيسر له ، وإلا فى غيره من المسجد. ثم يأتى زمزم ـ على المشهور من الروايات ـ وقيل : يرجع إلى الملتزم ثم يأتى إلى زمزم ، والأول هو الأصح. ويشرب من مائها ، وإن نزع الماء بنفسه من غير أن يستعين بأحد ، ثم يشرب منه ويمسح وجهه ورأسه وجسده كان ذلك أحسن ؛ لما روى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى زمزم ونزع لنفسه بدلو ولم ينزع معه أحد ، فشرب ، ثم أفرغ ماء الدلو عليه (٣).

ويستحب أن يستقبل البيت عند الشرب ويتنفس فيه ثلاث مرات ، ويرفع بصره فى كل مرة وينظر إلى البيت ، ويقول فى كل مرة : بسم الله والحمد لله والصلاة على رسول الله ، ثم يقول فى المرة الأخيرة بعد الصلاة : اللهم إنى أسألك رزقا واسعا ، وعلما نافعا ، وشفاء من كل داء وسقم ، يا أرحم الراحمين ، ثم يمسح به وجهه ورأسه ويصب عليه إن تيسر له لما ذكرنا.

ثم يرجع إلى الملتزم وهو ما بين الركن والباب ، فيضع وجهه وصدره عليه ، ويتعلق بأستار الكعبة ، ويتشبث بها ساعة كالمتعلق بطرف ثوب مولاه يتشفعه فى أمر عظيم ، ثم يتضرع إلى الله تعالى بالدعاء بما أحب ، والأشهر أن يقول : اللهم إن هذا بيتك الذى جعلته مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ، الحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لو لا أن هدانا الله ،

__________________

(١) ومن ذلك الحديث الذى أخرجه : البخارى ٢ / ١٨٠ (باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت).

(٢) الأم ٢ / ١٨٠ ، المجموع ٨ / ١٩٩ هداية السالك ٣ / ١٢٣٣.

(٣) شرح اللباب (ص : ١٧٠) ، هداية السالك ٣ / ١٢٣٩.

٢٧٤

اللهم فكما هديتنا لذلك فتقبله منا ، ولا تجعل هذا آخر العهد ببيتك الحرام ، وإن جعلته آخر العهد فعوضنى عنه الجنة ، وارزقنى العود إليه وإلى زيارة قبر نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وأما عند الشافعى فالمنقول عنه أن يقول عند الوداع بين الركن والباب وهو الملتزم (١) : اللهم إن هذا البيت بيتك ، والعبد عبدك وابن عبدك ، حملتنى على ما سخرت لك من خلقك ، وسيرتنى فى بلادك حتى بلغتنى بنعمتك ، وأعنتنى على قضاء نسكك ، فإن كنت رضيت عنى فازدد عنى رضى وإلا فمنّ الآن قبل تناء عن بيتك ، وهذا وقت انصرافى ، إن أذنت لى غير مستبدل بك ولا بنبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا راغب عنك ولا عن نبيك ، اللهم فاصحبنى العافية فى بدنى ، والعصمة فى دينى ، وأحسن منقلبى ، وارزقنى طاعتك ما أبقيتنى ، واجمع لى خيرى الدنيا والآخرة ، إنك على كل شىء قدير.

ويستحب أن يدعو فى الملتزم بدعاء آدم عليه‌السلام ؛ لما روى عن عبد الله بن أبى سليمان ـ مولى بنى مخزوم ـ أنه قال : طاف آدم عليه‌السلام بالبيت سبعا بالليل حين نزل من الجنة ، ثم صلى تجاه باب الكعبة ركعتين ، ثم أتى الملتزم فقال : اللهم إنك تعلم سرى وعلانيتى فاقبل معذرتى ، وتعلم ما فى نفسى وما عندى فاغفر لى ذنوبى ، وتعلم حاجتى فأعطنى سؤلى ، اللهم إنى أسألك إيمانا يباشر قلبى ، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لا يصيبنى إلا ما كتبت علىّ ، والرضا بما قضيت لى. فأوحى الله تعالى إليه : يا آدم قد دعوتنى بدعوات فاستجبتها لك ، ولن يدعونى بها أحد من أولادك إلا كشفت عنه غمومه ، وكففت عليه ضيعته ، ونزعت الفقر من قلبه ، وجعلت الغنى بين عينيه ، وتجرت له من وراء تجارة كل تاجر ، وأتته الدنيا وهى راغمة وإن كان لا يريدها (٢).

قال : فمذ طاف آدم عليه‌السلام كانت سنة الطواف.

__________________

(١) هذا الدعاء ذكره الشافعى فى الإملاء ، وفى مختصر الحج. واتفق الأصحاب على استحبابه.

وقد ورد هذا النص أيضا فى المجموع ٨ / ٢٠٢ ، هداية السالك ٣ / ١٢٣٩.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٤٤. عن عبد الله بن أبى سليم ، ولم يسنده عبد الله إلى أحد ، فالله أعلم بمصدره.

٢٧٥

ثم ينصرف من البيت ويكن بصره إلى البيت حتى يغيب عنه ليكون آخر عهده به.

وفى رواية : يأتى زمزم ويشرب منها ـ على ما ذكرنا ـ ثم ينصرف من زمزم نحو باب المسجد ـ وهو باب الحزورة ـ وباب الوداع من الأسفل ، ويخرج من أسفل مكة ؛ لما روى : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها (١). وهو باب بنى شيبة.

ويقول حالة الانصراف والرجوع : آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ولرحمته قاصدون ، صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم (٢).

وإن كان حج قبل هذا حجة الإسلام فقد فاز فوزا عظيما وأدى فرضه والباقى له تطوع.

وعن ابن عباس رضى الله عنه أن الأقرع بن حابس سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الحج فى كل سنة أو مرة واحدة؟ قال : «بل مرة واحدة فمن زاد فتطوع».

وحكى الفضيل بن عياض عن شيوخ العرب : أن قوما أتوه فأعلموه أن جماعة من أهل الزيغ قتلوا رجلا وأضرموا عليه النار طول الليل فلم تعمل فيه شيئا وهو أبيض البدن. قال : لعله حج ثلاث حجات؟ قالوا : نعم ، فقال : حدثت أن من حج حجة واحدة أدى فرضه ، ومن حج حجة ثانية داين ربه ، ومن حج ثلاث حجج حرم الله شعره وبصره على النار.

وقال النهروانى : بلغنى أن وقادا لأتون حمام أتى بسلسلة عظام جمل ليوقد بها ، قال : فألقيتها فى المستوقد فخرجت منه ، ثم ألقيتها ثانية فعادت فخرجت ، فعدت فألقيتها الثالثة فعادت فخرجت بشدة حتى وقعت على صدرى ، وإذا

__________________

(١) الحديث الدال على ذلك أخرجه : البخارى ٢ / ١٤٤ ، ومسلم ٤ / ٦٢ (الحج : باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى).

(٢) أخرجه : البخارى ٣ / ٧ (العمرة : ما يقول إذا رجع) ، مسلم ٤ / ١٠٥ (الحج : ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره).

٢٧٦

بصوت هاتف يقول : ويحك هذا عظام جمل قد سعى إلى مكة عشر مرات كيف تحرقها بالنار؟!

فانظر يا أخا الصفا بالوفا إذا كانت الرأفة والرحمة بمطيهم فكيف بالحاج الأشعث الأغبر الذى أتى من كل فج عميق ، وفقنا الله وإياكم بطاعته ، وأعاننا على مرضاته إنه خير موفق ومعين. آمين.

* * *

٢٧٧

الفصل الثانى والخمسون

فى ذكر ثواب من مرض بمكة أو مات حاجا أو معتمرا

أو مات عقيب الحج أو عقيب رمضان أو عقيب غزوة

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مرض يوما واحدا بمكة كتب الله له من العمل الصالح الذى كان يعمل فى غيرها عبادة ستين سنة ، وإن مات : مات مغفورا له وشهيدا» (١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات بمكة فكأنما مات فى سماء الدنيا» (٢).

وعن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : من مات فى هذا الوجه من حاج أو معتمر لم يعرض ولم يحاسب وقيل له : ادخل الجنة (٣).

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من خرج مجاهدا فمات كتب الله له أجره إلى يوم القيامة ، ومن خرج حاجا فمات كتب الله له أجره إلى يوم القيامة ، ومن خرج معتمرا فمات كتب الله له أجره إلى يوم القيامة» (٤).

وعن خيثمة قال : من حج فمات فى عامه ذلك دخل الجنة ، ومن صام رمضان فمات فى عامه ذلك دخل الجنة (٥).

__________________

(١) أخرجه : الفاكهى فى أخبار مكة ٢ / ٣١٢. والحديث فى إسناده متروك.

(٢) ذكره ابن حجر فى لسان الميزان ١ / ١٨٧ ، وقال : رواه الحاكم فى تاريخه من رواية أحمد بن صالح عن عبد الله بن نافع عن مالك ، وذكره السيوطى فى الكبير ١ / ٨٣٦ ، وعزاه للديلمى ، والفاكهى فى أخبار مكة ٣ / ١٦٠.

(٣) أخرجه : ابن عدى فى الكامل ٥ / ١٩٩٢ ، من طريق عائذ بن بشير ، وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد ٣ / ٢٠٨ ، وعزاه لأبى يعلى ، وقال : فيه عائذ بن بشير ، وهو ضعيف. وأخرجه : الفاكهى فى أخبار مكة ١ / ٣٨٦.

(٤) ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد ٢ / ٢٠٨ ، وعزاه للطبرانى فى الأوسط ، وفيه جميل بن أبى ميمونة ذكره ابن حبان فى الثقات ، وأخرجه أبو يعلى بسند ضعيف لتدليس محمد بن إسحاق (المطالب العالية ١ / ٣٢٦).

(٥) القرى (ص : ٤٢) وعزاه لسعيد بن منصور.

٢٧٨

وعن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا أراد الله بعبد خيرا عسله» قالوا : وما عسله؟ قال : «يفتح الله له عملا صالحا قبل موته ثم يقبضه عليه» (١).

وقال الحسن البصرى رضى الله عنه : من مات عقيب رمضان ، أو عقيب حجة أو عمرة ، أو غزوة ؛ مات شهيدا (٢).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النفقة فى الحج كالنفقة فى سبيل الله الدرهم بسبع مائة» (٣).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا خرج الحاج من بيته كان فى حرز الله ؛ فإن مات قبل أن يقضى نسكه وقع أجره على الله ، وإن بقى حتى يقضى نسكه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» (٤).

__________________

(١) أخرجه : أحمد فى مسنده ٤ / ٢٠٠ ، الزهد للبيهقى (٨١٨) ، منتخب مسند عبد بن حميد (٤٨١) ، الحاكم فى المستدرك (١٢٥٨) ، وقال العراقى فى تخريج الإحياء ٢ / ١٥ : إسناده جيد.

والعسل : طيب الثناء ، مأخوذ من العسل ، شبه ما رزقه الله تعالى من العمل الصالح الذى طاب به ذكره بين قومه بالعسل الذى يجعل الطعام فيحلو به ويطيب.

(٢) مثير الغرام (ص : ٤٤٥).

(٣) أخرجه : أحمد فى مسنده ٥ / ٣٣٥ ، البيهقى فى الشعب (٤١٢٦) ، الديلمى فى الفردوس (٧١٤٨) ، وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد ٣ / ٢٠٨ : فيه أبو زهير لم أجده.

(٤) أخرجه : الديلمى فى الفردوس (١٢٦١) ، وقال ابن حجر : حديث موضوع (تنزيه الشريعة ٢ / ١٧٥).

٢٧٩

الفصل الثالث والخمسون

فى ذكر اختلاف العلماء فى المجاورة بمكة المشرفة

فذهب أبو حنيفة ومن تابعه وبعض أصحاب الشافعى وجماعة من المحتاطين فى دين الله من أرباب القلوب رضى الله عنهم إلى أن المقام بمكة مكروه.

وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد وجماعة من أصحاب الشافعى ومن تابعهم من العلماء رضى الله عنهم : أنه يجوز ذلك من غير كراهة بدليل النص ، قال الله تعالى : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ)(١) مطلقا يعنى : الكعبة إضافة إليه تشريفا وتفضيلا وتخصيصا ، وقوله للطائفين يعنى : الدائرين حوله.

وقوله : والعاكفين يعنى : المقيمين به المجاورين له.

قلنا : المراد من العكوف هو المقام دون المجاورة والإقامة وعلى هذا أكثر أصحاب القلوب والمحتاطون فى دين الله تعالى (٢).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المقام بمكة سعادة والخروج منها شقاوة» (٣).

قلنا : أى الخروج رغبة عنها لا مطلق الخروج.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مكة والمدينة تنفيان الذنوب كما ينفى الكير خبث الحديد ، ألا فمن صبر على لأوائهما كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة».

وقال الحسن البصرى رضى الله عنه : ما أعلم على وجه الأرض بلدة ترفع منها الحسنات من أنواع البر كل واحدة منها بمائة ألف ما يرفع بمكة.

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٢٥.

(٢) يراجع ذلك فى : إعلام الساجد للزركشى (١٢٩) ، مثير الغرام (ص : ٤٣٤) ، شفاء الغرام ١ / ١٣٥ ، إتحاف السادة المتقين ٤ / ٤٧٤ ، القرى (ص : ٦٠٠).

(٣) هذا ليس حديثا عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما هو جزء من رسالة الحسن البصرى المشهورة فى فضل مكة والسكن فيها.

٢٨٠