إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

محمّد بن إسحاق الخوارزمي

إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

المؤلف:

محمّد بن إسحاق الخوارزمي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

موسى ، قال : بما أمرت؟ قلت : بعشر صلوات كل يوم وليلة. قال : إن أمتك لا تستطيع عشر صلوات كل يوم وليلة ؛ وإنى قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، قال : فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم وليلة ، فرجعت إلى موسى فقال : بما أمرت؟ قلت : بخمس صلوات كل يوم وليلة. قال : إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وليلة ؛ وإنى قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، قال : قلت : قد سألت ربى حتى استحييت منه ولكن أرضى وأسلم ، فنفدت ، فنادانى مناد : قد أمضيت فريضتى وخففت عن عبادى» (١). وأخرجاه فى الصحيحين من حديث قتادة بنحوه (٢).

وقال أهل النقل فى رواية أخرى : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما كانت ليلة أسرى بى وأنا بين النائم واليقظان جاءنى جبريل ومعه ميكائيل عليهما‌السلام ، فقال جبريل لميكائيل : ائتنى بطست من ماء زمزم لكيما أطهر قلبه وأشرح له صدره ، قال : فشق بطنى وغسله ثلاث مرات ، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طاسات من ماء زمزم فشرح صدرى وما كان من غل وملأه حلما وإيمانا ، وختم بين كتفى بخاتم النبوة ، ثم أخذ جبريل بيدى حتى انتهى بى إلى سقاية زمزم ، فقال الملك : ائتنى بتور من ماء زمزم أو من ماء الكوثر ، فقال : توضأ ، فتوضأت ، ثم قال لى : انطلق يا محمد ، قلت : إلى أين؟ قال : إلى ربك ورب كل شىء ، فأخذ بيدى وأخرجنى من المسجد ؛ فإذا أنا بالبراق دابة فوق الحمار دون البغل ، وجهها كوجه الإنسان ، وخدها كخد الفرس ، وذنبها كذنب البعير ، وعرفها كعرف الفرس ، وقوائمها كقوائم الإبل ، وأظلافها كأظلاف البقر ، صدرها كأنه ياقوتة حمراء ، وظهرها كأنه درة بيضاء ، عليها رحل من رحال الجنة ، وله جناحان فى فخذيه ، يمر مثل البرق ، خطوه منتهى طرفه. فقال لى : اركب. وهى دابة إبراهيم عليه‌السلام التى كان يمر عليها إلى البيت الحرام ، فلما وضعت يدى عليه تشامس واستصعب علىّ ،

__________________

(١) أخرجه : البيهقى فى دلائل النبوة ٢ / ٣٧٥ ـ ٣٧٧ ، أحمد فى المسند ٤ / ٢٠٨ ، ابن الجوزى فى المنتظم ٣ / ٢٦ ، البغوى فى شرح السنة ١٣ / ٣٣٧ ، الدر المنثور ٤ / ١٤٠.

(٢) البخارى (٣٨٨٧) ، مسلم (الإيمان : ٢٦٤).

٦١

فقال له جبريل : مه يا براق ، فقال : يا جبريل مس صنما ، فقال : يا محمد ، هل مسست صنما؟ قال : والله إنى مررت على إساف ونائلة فمسحت يدى على رءوسهما وقلت : إن قوما يعبدونكما من دون الله لضلال ، فقال جبريل : يا براق أما تستحى ، فوالله ما ركبك منذ كنت قط نبى أكرم على الله تعالى من محمد ، فارتعش البراق وانصبّ عرقا حياء منى ، ثم خفض حتى لزق بالأرض ، فركبته واستويت عليه ، فأمّ جبريل نحو المسجد الأقصى يخطو مدّ البصر وجبريل معى لا يفوتنى ولا أفوته ، فبينا نحن فى مستوى إذ سمعت نداء عن يمينى ، فقال : يا محمد على رسلك ، يقولها ثلاثا ، فلم ألو عليه ، فجاوزته ، ثم نادانى عن يسارى ، فقال : يا محمد على رسلك ، يقولها ثلاثا ، فلم ألو عليه ، ثم مضيت حتى جاوزته ، فإذا أنا بامرأة عجوز رفعت عليها كل زينة وبهجة تقول : يا محمد إلىّ ، فلم ألتفت إليها ، فلما جاوزتها ، قلت : يا جبريل من هذا الذى نادانى عن يمينى ، قال : داعية اليهود ؛ والذى نفسى بيده لو أجبته لتهودت أمتك بعدك ، والذى ناداك عن يسارك داعية النصارى ، والذى نفسى بيده لو أجبته لتنصرت أمتك بعدك. وأما التى رفعت لك بهجتها وزينتها هى الدنيا ؛ فلو لويت عليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.

ثم أتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر خمر ، فقال لى : اشرب أيهما شئت ، فأخذت اللبن فشربته ، فقال جبريل : أصبت الفطرة ؛ أما إنك لو أخذت الخمر لغوت أمتك بعدك.

ثم سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه جبريل ، فقال : انزل فصلّ قال : فنزلت فصلّيت ، قال : تدرى أين صليت؟ صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى.

ثم ركب وسار ، ثم قال : انزل فصلّ. قال : فنزلت فصليت. قال : تدرى أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه‌السلام.

ثم مضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس ، فلما انتهينا إليه فإذا أنا بملائكة قد نزلوا من السماء يتلقونى بالبشارة والكرامة من عند رب العزة ، يقولون : السلام عليك يا أول ويا آخر ويا حاشر. قلت : يا جبريل ، وما تحيتهم لى؟ قال : يقولون إنك أول من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع ، وأول مشفع ، وإنك آخر الأنبياء ، وإن الحشر

٦٢

بك وبأمتك.

ثم جاوزناهم حتى انتهينا إلى باب المسجد ، فأنزلنى وربط البراق بالحلقة التى كانت تربط بها الأنبياء عليهم‌السلام بخطام من حرير الجنة ، فلما دخلت الباب إذا أنا بالأنبياء والمرسلين ـ وقد ورد فى حديث أبى العالية : بأرواح الأنبياء ـ الذين بعثهم الله قبلى من لدن إدريس ونوح إلى عيسى فسلموا علىّ وحيونى بمثل تحية الملائكة ، قلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : إخوتك الأنبياء ، ثم جمعهم والملائكة صفوفا ، فقدّمنى وأمرنى أن أصلى بهم ركعتين ـ فى كتاب «المقتفى» : وفى طريق أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بالأنبياء فى السموات ـ ثم أتى بآنية ثلاث مغطاة أفواهها ، إناء فيه ماء فقيل له : اشرب ، فشرب منه يسيرا ، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن ، فقيل له : اشرب ، فشرب منه حتى روى ، ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر ، فقيل له : اشرب ، فقال : لا أريد قد رويت. قال له جبريل : قد أصبت ؛ أما إنه سيحرم على أمتك ، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا قليل ، ولو رويت من الماء لغرقت وغرقت أمتك.

ثم أخذ جبريل بيدى فانطلق بى إلى الصخرة فصعد بى عليها ؛ فإذا معراج لم أر مثله حسنا وجمالا ، ولم ينظر الناظرون إلى شىء قط أحسن منه ، ومنه تعرج الملائكة ، أصله على صخرة بيت المقدس ورأسه معلق بالسماء ، إحدى عارضيه ياقوتة حمراء والاخرى زبرجدة خضراء ، ودرجة من فضة ودرجة من زمرد ، مكلل بالدّر والياقوت ، وهو المعراج الذى يبدو منه ملك الموت فيقبض الأرواح ، فاحتملنى جبريل حتى وضعنى على جناحه ، ثم ارتفع إلى السماء الدنيا من ذلك المعراج ، فقرع الباب ... وساق الحديث إلى آخره (١).

__________________

(١) أخرجه : أحمد ٢ / ٣٧٠ ، البيهقى فى دلائل النبوة ٢ / ٣٣٥ ، الشفا ١ / ١٨١ ، والسيوطى فى الجامع الكبير ٢ / ٤٥٢ ، وعزاه لأحمد ، والبيهقى ، وابن جرير الطبرى ، وابن أبى حاتم ، والحاكم ، والبزار ، وأبى يعلى.

٦٣

الفصل الثالث

فى اختلاف الناس هل كان الإسراء ببدنه وروحه أم بروحه فقط

على قولين ؛ فالأكثرون من العلماء أنه أسرى ببدنه وروحه يقظة لا مناما. ولا ينكر أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى مناما قبل ذلك ورآه بعده يقظة ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، والدليل على هذا قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ)(١) ولو كان مناما لقال : «بروح عبده» ولم يقل : «بعبده». وأيضا : فإن التسبيح إنما يكون عند الأمور العظام ، ولو كان مناما لم يكن فيه كبير شىء ولم يكن مستعظما ، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه ، ولما ارتد جماعة ممن كان قد أسلم.

وأيضا : فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد ؛ وقد قال : (أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) ولم يقل بروحه ، وقد قال الله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)(٢) قال ابن عباس : هى رؤيا عين أريها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا رؤيا منام ، رواه البخارى (٣).

وقوله : (فِتْنَةً لِلنَّاسِ) : يؤيد أنها رؤيا عين ، وإسراء لشخص إذ ليس فى الحلم فتنة ولا يكذب به أحد ؛ لأن كل أحد يرى مثل ذلك فى منامه من الكون فى ساعة واحدة فى أقطار متباينة.

وقال تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى)(٤) والبصر من آلات البدن لا الروح.

وأيضا : لو كان مناما ما كانت فيه آية ولا معجزة ولا يقال أسرى ، ولما استبعده

__________________

(١) سورة الإسراء : آية ١.

(٢) سورة الإسراء : آية ٦٠.

(٣) أخرجه : البخارى (٤٧١٦).

(٤) سورة النجم : آية ١٧.

٦٤

الكفار ولا كذبوه فيه ولا ارتد فيه ضعفاء من أسلم ولا افتتنوا به ؛ إذ مثل هذه المنامات لا ينكر ، بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته.

وأيضا : فإنه حمل على البراق وهو دابة بيضاء برّاقة لها لمعان ، وإنما يكون هذا للبدن لا للروح ؛ لأنها لا تحتاج فى حركتها إلى مركب يركب عليه ، والله أعلم.

وقال آخرون : بل أسرى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بروحه لا بجسده.

قال محمد بن يسار فى السيرة : حدثنى يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس ، أن معاوية بن أبى سفيان كان أذا سئل عن مسرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كانت الرؤيا من الله صادقة.

وحدثنى بعض آل أبى بكر أن عائشة رضى الله عنها كانت تقول : ما فقد جسد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن أسرى بروحه.

وقال ابن إسحاق : فلم ينكر ذلك من قولها ؛ لقول الحسن : إن هذه الآية نزلت (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)(١) ولقوله تعالى فى الخبر عن إبراهيم : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى)(٢) ثم مضى ذلك فعرفت أن الوحى يأتى للأنبياء من الله يقظة ومناما ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «تنام عيناى وقلبى يقظان» ، فالله تعالى أعلم أى ذلك كان قد جاءه وعاين فيه من الله ما عاين على أى حالاته ، كان نائما أو يقظانا ، كل ذلك حق وصدق .. انتهى كلام ابن إسحاق.

وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير فى تفسيره بالرد عليه والإنكار والتشنيع بأن هذا خلاف ظاهر سياق القرآن ، وذكر من الأدلة على رده بعض ما تقدم.

وقال القاضى عياض : أما قول عائشة رضى الله عنها : «ما فقد جسده» فعائشة لم تحدث به عن مشاهدة ؛ لأنها لم تكن حينئذ زوجة له ولا فى سنّ من تضبط ، ولعلها لم تكن ولدت بعد على الخلاف فى الإسراء ؛ فإن الإسراء كان فى أول

__________________

(١) سورة الإسراء : آية ٦٠.

(٢) سورة الصافات : آية ١٠٢.

٦٥

الإسلام على قول الزهرى ومن وافقه بعد المبعث بعام ونصف ، وكانت عائشة فى الهجرة بنت نحو ثمانية أعوام ، وقد كان الإسراء قبل الهجرة بعام وشهرين ، والحجة لذلك تطول وليست من غرضنا ؛ فإذا لم تشاهد ذلك عائشة دل على أنها حدّثت بذلك عن غيرها فلم يرجح خبرها على خبر غيرها ، وغيرها يقول خلافه مما وقع نصّا فى حديث أم هانئ وغيره ، وأيضا فليس حديث عائشة بالثابت والأحاديث الأخر أثبت. وأيضا فقد روى فى حديث عائشة رضى الله عنها قالت : «ما فقدته» ولم يدخل بها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بالمدينة ، وكل هذا يوهنه ، بل الذى يدل عليه صحيح قولها أنه بجسده ؛ لإنكارها أن تكون رؤيا لربه رؤيا عين ، ولو كانت عندها مناما لم تنكر.

فإن قيل : فقد قال تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى)(١) فقد جعل ما رآه للقلب وهذا يدل على أنها رؤيا نوم ووحى لا مشاهدة عين وحس؟ قلنا : يقابله قوله تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى)(٢) وقد أضاف الأمر إلى البصر.

وقد قال أهل التفسير فى قوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أى لم يوهم القلب العين غير الحقيقة بل صدق رؤيتها ، وقيل : ما أنكر قلبه ما رأته عينه ـ انتهى كلام القاضى.

فائدة حسنة جليلة مفيدة على أن الإسراء بالجسد وفى اليقظة : ما قاله الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية فى كتابه «التنوير فى مولد السراج المنير» ، وقد ذكر الإسراء من طريق أنس ، وتكلم عليه فأجاد وأفاد ، ثم قال : وقد تواترت الروايات فى حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب ، وعلىّ ، وابن مسعود ، وأبى ذر ، ومالك ابن صعصعة ، وأبى هريرة ، وأبى سعيد ، وابن عباس ، وشداد بن أوس ، وأبى بن كعب ، وعبد الرحمن بن قرظ ، وأبى حية البدرى ، وأبى ليلى الأنصارى ، وعبد الله ابن عمر ، وجابر ، وحذيفة ، وبريدة ، وأبى أيوب ، وأبى أمامة ، وسمرة بن جندب ، وأبى الحمراء ، وصهيب الرومى ، وأم هانئ ، وعائشة وأسماء ، بنتى أبى بكر الصديق رضى الله عنهم أجمعين ؛ منهم من ساقه بطوله ، ومنهم من اختصر

__________________

(١) سورة النجم : آية ١١.

(٢) سورة النجم : آية ١٧.

٦٦

على ما وقع فى المسانيد. وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين ، واعترض فيه الزنادقة والملحدون بفساد اعتقادهم فى دين الله وتعطيل نبوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١).

__________________

(١) سورة الصف : آية ٨.

٦٧

الفصل الرابع

فى اختلاف الناس فى رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل رآه بعينه أو بقلبه (١)

عن ابن عباس قال : إنه رآه بعينه.

وروى عطاء : أنه رآه بقلبه.

وذكر ابن إسحاق أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس يسأله : هل رأى محمد ربه؟ فقال : نعم.

والأشهر عنه أنه رأى ربه بعينه ، روى ذلك عنه من طرق. وقال : إن الله تعالى خص موسى بالكلام ، وإبراهيم بالخلّه ، ومحمدا بالرؤية. وحجته قوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى)(٢).

وقال الماوردى : قيل : إن الله قسّم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، فرآه محمد مرتين ، وكلمه موسى مرتين.

وحكى عبد الرزاق : أن الحسن كان يحلف بالله إنه لقد رأى محمد ربه.

وحكى ابن إسحاق ، أن مروان سأل أبا هريرة : هل رأى محمد ربه؟ فقال : نعم.

وعن ابن عطاء فى قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)(٣) قال : شرح صدره للرؤية ، وشرح صدر موسى للكلام.

وحكى النقاش ، عن أحمد بن حنبل أنه قال : أنا أقول بحديث ابن عباس :

__________________

(١) انظر آراء العلماء فى هذه المسألة فى : سبل الهدى والرشاد ٣ / ٨٨ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٢٥٠ ، شرح مسلم للنووى ٣ / ٨.

(٢) سورة النجم : ١١ ـ ١٣.

(٣) سورة الشرح : آية ١.

٦٨

بعينه رآه ، رآه ، حتى انقطع نفسه : يعنى نفس أحمد.

وقال سعيد بن جبير : لا أقول رآه ولا لم يره.

وقال أبو الحسن الأشعرى وجماعة من أصحابه : إنه رأى الله تعالى ببصره وعينى رأسه. وقال : كل آية أوتيها نبى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد أوتيها نبينا عليه الصلاة والسلام وخص من بينهم بتفضيل الرؤية.

وقيل : بات موسى مشتاقا إلى لقاء ربه فلما كانت ليلة معراج نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبكى ، فلما رجع نبينا من سفر قاب قوسين ردّه فى الصلوات ليسعد برؤية من قد رآه.

وقيل بلسان الحال :

إن تشق عينى بهم فقد

سعدت عين رسولى وفزت بالنّظر

وكلّما جاءنى الرسول لهم

رددت شوقا لطرفه نظرى

تظهر فى طرفه محاسنهم

قد أثّرت فيه أحسن الأثر

خذ مقلتى يا رسول الله عارية

فانظر بها واحتكم على بصرى

وقال أبو الحسن الثورى قدس الله سره : شاهد الحق تعالى القلوب فلم ير قلبا أشوق إليه من قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأكرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة.

وبعضهم روى أنه رأى نورا.

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق ، قال : قلت لأبى ذر : لو رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسألته قال : وما كنت تسأله؟ قال : كنت أسأله هل رأى ربه؟ فقال : إنى قد سألته ، فقال : «رأيته نورا ، أنّى أراه» هكذا وقع فى رواية الإمام أحمد.

وأخرجه مسلم فى صحيحه عن أبى بكر بن أبى شيبة ، عن وكيع ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبى ذر ، قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل رأيت ربك؟ قال : «نور ، أنّى أراه».

٦٩

وعن محمد بن يسار ، عن معاذ بن هشام ، حدثنا أبى ، عن قتادة ، عن عبد الله ابن شقيق ، قال : قلت لأبى ذر : لو رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسألته ، فقال : عن أى شىء كنت تسأله؟ قال : كنت أسأله هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر : قد سألته. قال :«رأيته نورا».

* * *

٧٠

الفصل الخامس

فى ذكر أسامى هذه البلدة الشريفة المباركة عظّم الله قدرها (١)

اعلم يا أخا الصفا صفا الله باطنك بنور معرفة علم الأسماء أن كثرة الأسامى عند العرب تدل على شرف المسمى ، فمن أسمائها : مكة وإنما سميت بذلك لأنها تمكّ الذنوب ، أى : تذهبها.

وقيل : لأنها يؤمها الناس من كل مكان فكأنها تجذبهم ؛ وهذه الأقوال ترجع إلى قول العرب : أمتكّ الفصيل ضرع أمّه إذا امتصه وجذب بقية ما فى الضرع من اللبن.

وقيل : لأنها تمك من ظلم فيها ، أى : تهلكه.

وقيل : لأنها تجهد أهلها ؛ من قولك : تمككت العظم إذا أخرجت مخه.

والتمكك الاستقصاء (٢).

ومنها : بكة ؛ قيل : لازدحام الناس فيها يبكّ بعضهم بعضا أى : يدفع فى زحمة الطواف وغيره.

وقيل : لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أى : تدقها ، وما قصدها جبار إلا قصمه الله تعالى ، وقيل : لأن الناس يتباكون فيها أى : يزدحمون ، قال قتادة : إن الله بكّ به الناس فتصلى النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها.

__________________

(١) للبلد الشريف أسماء كثيرة قاربت الخمسين ، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى. وينظر عن ذلك فى. شفاء الغرام ١ / ٧٥ ـ ٨٤ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ٢٢٥ ـ ٢٣١ ، القرى (ص : ٦٥٢) ، أخبار مكة للأزرقى ١ / ٢٧٩ ، أخبار مكة للفاكهى ٢ / ٢٨٠ ـ ٢٨٢ تهذيب الأسماء واللغات للنووى ٣ / ١٥٦ ـ ١٥٧ ، المناسك للحربى ٣ / ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٢) المعجم الوسيط ٢ / ٩١٧ ، والقرى (ص : ٦٥٠).

٧١

وعن ابن عباس قال : مكة من الفج إلى التنعيم ، وبكة من البيت إلى البطحاء.

وقال عكرمة : البيت وما حوله بكة وما وراء ذلك مكة.

وقيل : بكة موضع البيت وما سوى ذلك مكة.

وقال الضحاك : إن بكة ومكة اسمان مترادفان لهذا البلد ، والباء بدل من الميم.

وقيل : بكة بالباء اسم لموضع البيت والمسجد ، ومكة بالميم اسم للحرم كله.

وقيل : بكة بالباء : موضع البيت ، ومكة بالميم : القرية (١).

ومنها : أم القرى ؛ لقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى)(٢) يعنى : مكة.

قيل : سميت بذلك ؛ لأن الأرض دحيت من تحتها ؛ كذا عن ابن عباس رضى الله عنهما.

وقال ابن قتيبة : لأنها أقدمها.

وقيل : لأنها أعظم القرى شأنا.

وقيل : لأن فيها بيت الله تعالى ؛ واطردت العادة بأن بلد الملك وبيته متقدم على الأماكن ، والأم متقدمة أيضا.

ومنها : البلد قال الله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ)(٣).

والبلد فى اللغة : صدر القرى.

ومنها : القرية : قال الله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً)(٤) يريد مكة.

ومنها : البلدة قال الله تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ)(٥) ؛ يعنى مكة.

__________________

(١) القرى (ص : ٦٥٠).

(٢) سورة الأنعام : ٩٢.

(٣) سورة البلد : آية ١.

(٤) سورة النحل : آية ١١٢.

(٥) سورة النمل : آية ٩١.

٧٢

ومنها : البلد الأمين قال الله تعالى : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ)(١).

ومنها : أم رحم بضم الراء وإسكان الحاء المهملة ؛ لأن الناس يتراحمون ويتواصلون فيها.

ومنها : الباسّة بالباء الموحدة والسين المهملة ؛ لأنها تبس من ألحد فيها أى : تحطمه ، ومنه قوله تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا)(٢).

ومنها : صلاح بكسر الحاء وفتح الصاد كحذام وقطام ، سميت بذلك لأمنها وصلاحها.

ومنها : النّاسّة ؛ لأنها تنس الملحد ، أى : تطرده.

وقيل : لقلة مائها. والنّس اليبس ، والنّاسّة بالنون والسين المهملة.

ومنها : الحاطمة لأنها تحطم من استخف بها.

ومنها : كوثى بضم الكاف وبالثاء المثلثة وهو اسم محلة لبنى عبد الدار.

ومنها : الرأس ؛ لأنها أشرف الأراضى كالرأس بين الناس أشرف الأعضاء.

ومنها : العرش بضم العين والراء.

ومنها : العرش بفتح العين المهملة وإسكان الراء.

ومنها : القادس.

ومنها : العريش.

ومنها المقدسة ،

ومنها : القادسية.

ومنها : الحرم.

ومنها : المسجد الحرام.

ومنها : برّة.

ومنها : الرباح.

ومنها : الكعبة ؛ وإنما سميت الكعبة لأنها مكعبة على خلقة الكعب.

__________________

(١) سورة التين : آية ٣.

(٢) سورة الواقعة : آية ٥.

٧٣

ومنها : البيت العتيق

؛ وإنما سميت الكعبة البيت العتيق ؛ لأنها أعتقها الله تعالى من الجبابرة فلا يتجبرون فيه إذا طافوا.

وعن مجاهد رضى الله عنه قال : البيت العتيق أعتقه الله تعالى من كل جبار ؛ فلا يستطيع جبار أن يدعى أنه له ، ولا يقال بيت فلان ولا ينسب إلا إلى الله عز وجل.

وقال الكلبى فى قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً)(١) قال : هى الكعبة. وقال غيره : إن أول بيت وضع للناس أول مسجد بنى للناس ، أى : للمؤمنين. للذى ببكة : وبكة ما بين الجبلين تبك الرجال والنساء لا يضر أحدا كيف صلى إن مر أحد بين يديه. ومكة الحرم كله.

والبيت قبلة أهل المسجد ، والمسجد قبلة أهل مكة ، والحرم قبلة الناس كلهم.

وقيل : بكة الكعبة والمسجد مبارك للناس. ومكة ذى طوى وهو بطن مكة الذى ذكر الله تعالى فى سورة الفتح.

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ٩٦.

٧٤

الفصل السادس

فى ذكر ما كانت الكعبة على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض وما جاء فى ذلك

بالإسناد عن سعيد بن المسيب ، قال : قال كعب الأحبار : كانت الكعبة غثاء على الماء قبل أن يخلق الله تعالى السموات والأرض بأربعين سنة ، ومنها دحيت الأرض (١).

وبالإسناد عن حميد ، قال : سمعت مجاهدا يقول : خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين (٢).

وعن عطاء ، عن ابن عباس ، أنه قال : لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض بعث الله ريحا هفافة فصفقت الماء ، فأبرزت عن خشفة فى موضع البيت كأنها قبة ، فدحا الله تعالى الأرضين من تحتها ، فمادت ثم مادت ، فأوتدها الله تعالى بالجبال ، فكان أول جبل وضع فيها أبو قبيس ، فلذلك سميت مكة أم القرى (٣).

وعن هشام ، عن مجاهد ، قال : لقد خلق الله تعالى موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفى سنة ، وإن قواعده لفى الأرض السابعة السفلى (٤).

__________________

(١) أخرجه : عبد الرزاق (٩٠٨٩) ، والأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣١. والغثاء : ما يجىء فوق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ.

(٢) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣٢.

(٣) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣٢. وابن الجوزى فى مثير الغرام (ص : ٢٤٥). صفقت : أى حركت. الخشفة : واحدة الخشف ، وهى حجارة تنبت فى الأرض نباتا ، وقيل : هو ما غلبت عليه السهولة ، أى : ليس بحجر ولا طين ، وقال الخطابى : الحشفة بمعنى الخشفة. وقال الأزهرى : يقال للجزيرة فى البحر لا يعلوها الماء : خشفة.

(٤) أخرجه : عبد الرزاق (٩٠٩٧) ، وأخرج بعضه الطبرانى فى الكبير ٣ / ٢٨٩ ، عن عبد الله بن عمرو ، ونقله ابن كثير فى التفسير ١ / ١٧٩ ، والأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣٢.

٧٥

الفصل السابع

فى ذكر بناء الملائكة الكعبة ـ عليهم‌السلام ـ قبل آدم

ومبدأ الطوفان وكيف كان

قال أهل التفسير : كان بناء الملائكة البيت الحرام قبل أن يخلق الله تعالى آدم عليه‌السلام بألفى عام.

وعن مجاهد ، عن علىّ بن الحسين بن علىّ ، قال : كنت مع أبى الحسين بن علىّ رضى الله عنهما بمكة وهو يطوف بالبيت وأنا وراءه ، إذ جاءه رجل شرحم من الرجال ، يقول : طويل ، فوضع يده على ظهر أبى ، فالتفت أبى إليه ، فقال الرجل : السلام عليك يا ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرد عليه‌السلام ، فقال الرجل : يا ابن بنت رسول الله ، إنى أريد أن أسألك ، فسكت أبى ، وأنا والرجل خلفه ، حتى فرغ من أسبوعه ، فدخل الحجر ، فقام تحت الميزاب ، فقمت أنا والرجل خلفه ، فصلى ركعتى أسبوعه ، ثم استوى قاعدا ، فالتفت إلىّ ، فقمت فجلست إلى جنبه. فقال : يا محمد ، أين السائل؟ فأومأت إلى الرجل فجاء فجلس بين يدى أبى ، فقال له أبى : عم تسأل؟ قال : أسألك عن بدء هذا الطواف بهذا البيت لم كان ، وأنّى كان ، وكيف كان؟ قال له أبى : نعم. من أين أنت؟ قال : من أهل الشام ، قال : أين مسكنك؟ قال : فى بيت المقدس ، قال : فهل قرأت الكتابين ، يعنى : التوراة والإنجيل؟ قال الرجل : نعم ، قال أبى : يا أخا أهل الشام ، احفظ ولا تروين عنى إلا حقا : أما بدأ الطواف بهذا البيت ؛ فإن الله تبارك وتعالى قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). فقالت الملائكة : أى رب ، أخليفة من غيرنا ممن يفسد فيها ويسفك الدماء ويتحاسدون ويتباغضون ويتباغون ، أى رب اجعل ذلك الخليفة منا ، فنحن لا نفسد فيها ولا نسفك الدماء ولا نتباغض ولا نتحاسد ولا نتباغى ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونطيعك ولا نعصيك ، قال الله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) قال : فظنت الملائكة أن ما قالوا ردّ على

٧٦

ربهم ، وأنه قد غضب من قولهم ، فلاذوا بالعرش ورفعوا رؤوسهم وأشاروا بالأصابع يتضرعون ويبكون إشفاقا لغضبه عليهم ، فطافوا بالعرش ثلاث ساعات ، فنظر الله إليهم فنزلت الرحمة عليهم ، فوضع الله تعالى تحت العرش بيتا على أربعة أساطين من زبرجد ، وغشّاهن بياقوته حمراء وسمى هذا البيت الضراح ، ثم قال الله تعالى للملائكة : طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش ، قال : فطافت الملائكة وتركوا العرش وصار أهون عليهم ، وهو البيت المعمور الذى ذكره الله تعالى فى القرآن المجيد ، يدخله كل يوم وليلة سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبدا ، ثم إن الله سبحانه وتعالى بعث ملائكة وقال لهم : ابنوا لى بيتا فى الأرض بمثاله وبقدره ، فأمر الله تعالى من فى الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور ، فقال الرجل : صدقت يا ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هكذا كان وجدته فى التوراة والإنجيل (١).

واعلم أن الله تعالى لم يذكر وجه الحكمة فى هذه الآية على التفصيل فى تخليق الإنسان ولم يزد على قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢) وللعلماء فى هذا المقام طريقان :

الأول : الطريقة الإجمالية التى ذكرها الله فى هذه الآية وتقريرها : أنه تعالى قادر على جميع المقدورات منزّه عن جميع الحاجات عالم بكل المعلومات. وإذا كان الأمر كذلك كان لا محالة عالما بأنه ما الذى ينبغى فعله ، وما الذى ينبغى تركه ، وكان عالما لا محالة بكونه غنيا عن كل ما لا ينبغى ، ومن كان غنيا عما لا ينبغى كان عالما بكونه غنيا عما لا ينبغى امتنع إقدامه على فعل ما لا ينبغى ، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن كل ما يفعله الله تعالى حكمة وصواب ، وأنه منزه عن فعل العبث كما قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً)(٣) ومنزّه عن فعل اللعب ، كما قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ)(٤) ومنزّه عن الباطل

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٣٥.

(٢) سورة المؤمنون : آية ١١٥.

(٣) سورة الدخان : آية ٣٨.

(٤) سورة ص : آية ٢٧.

٧٧

كما قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً)(١) بل كل ما فعل فهو إنما فعله بالحق كما قال : (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ)(٢). وله الملك ، والملك بالحق كما قال : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ)(٣) ومتى علمنا أن الأمر كذلك علمنا أن له فى تخليق البشر حكمة بالغة وأسرارا شريفة ولكنه تعالى ما كشف تفاصيلها للبشر ، كما قال : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ)(٤) فوجب الإيمان بتلك الحكم على الإجمال ، وترك الخوض فى تفاصيلها.

الطريق الثانى : بيان حكمة خلق الإنسان على التفصيل ، وفيه وجوه ، ونحن نذكر منها وجها واحدا اختصارا ، وهو أن المخلوقات على أربعة أقسام :

أحدها : الذى له عقل ولا شهوة له ؛ وهم الملائكة.

والثانى : الذى له شهوة ولا عقل ؛ وهو كالحيوانات سوى الإنسان.

والثالث : الذى له شهوة وعقل وهو الإنسان ؛ فإن رجّح شهوته على عقله التحق بالبهائم بل كان أضل كما قال تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ)(٥).

وإن رجّح عقله على شهوته التحق بالملائكة كما قال تعالى : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)(٦).

الرابع : الذى لا عقل له ولا شهوة وهو الجمادات.

ثم إنه تعالى كان فى العهد القديم والزمان الأسبق خلق الأقسام الثلاثة وبقى القسم الرابع ، وهو الذى يحصل فيه العقل والشهوة معا فاقتضت قدرته التامة ومشيئته الكاملة خلق هذا القسم الرابع كيلا يبقى شىء من الأقسام الممكنة محروما عن جود وجوده ونعمة إبداعه ؛ عند هذا قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فقالت الملائكة : إنك إذا جمعت بين الشهوة والغضب وبين العقل جاءت المنازعة فيتولد الفساد من الشهوة ، ويتولد سفك الدماء من الغضب ، فقال لهم

__________________

(٤) سورة الأعراف : آية ١٧٩.

(١) سورة الدخان : آية ٣٨.

(٢) سورة الأنعام : آية ٦٢.

(٣) سورة الكهف : آية ٥١.

(٤) سورة الأعراف : آية ١٧٩.

(٥) سورة الإسراء : آية ٧٠.

٧٨

مدبر العالم المحيط علمه بجميع الكليات والجزئيات : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

ويحتمل ـ والله أعلم بمراده ـ أن يقال : إنه يحصل من تخليقهم وتكوينهم كمال حكمتى ورحمتى وقدرتى ، ويحصل لهم منه أيضا كمال حالهم ودرجاتهم. أما كمال قدرتى ؛ فلئلا يبقى هذا القسم محروما عن أثر الجود. وأما كمال حكمتى ؛ فلأنه وإن كان الفساد والقتل يحصلان كثيرا إلا أن الأكثر عدمهما وحصول العبودية والتذلل أكثر منهما ، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شرّ كثير فهو غير لائق بحكمتى ، وأما كمال حالهم ودرجاتهم فهو أن العمل بمقتضى العقل عند عدم الشهوة ليس فى غاية الكمال ، وإنما الكمال هو العمل بمقتضى العقل مع قيام منازعة الشهوة كما فى حق البشر فيحتمل فى ظنوننا أن المراد بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) هو هذا المعنى. والله أعلم بأسرار كلامه كذا فى «أسرار التنزيل» للشيخ فخر الدين الرازى رحمه الله.

* * *

٧٩

الفصل الثامن

فى ذكر زيارة الملائكة عليهم‌السلام البيت الحرام

عن وهب بن منبّه ، عن ابن عباس رضى الله عنهما : أن جبريل عليه‌السلام وقف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما وعليه عصابة حمراء قد علاها الغبار ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما هذا الغبار الذى أرى على عصابتك أيها الروح الأمين؟» فقال : يا رسول الله ، إنى زرت البيت الحرام فازدحمت الملائكة على الركن فهذا الغبار الذى ترى مما تثير بأجنحتها (١).

وعن عثمان بن ساج ، قال : أخبرنى عثمان بن يسار ، قال : بلغنى ـ والله أعلم ـ أن الله تعالى إذا أراد أن يبعث ملكا من الملائكة لبعض أموره فى الأرض استأذنه ذلك الملك فى الطواف لبيته ، فهبط الملك مهللا (٢).

وعن وهب بن منبّه نحوه إلا أنه قال : ويصلى فى البيت ركعتين (٣).

وعن ليث بن معاذ ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا البيت خامس خمسة عشر بيتا سبعة منها فى السماء إلى العرش ، وسبعة منها إلى نجوم الأرض السفلى ، وأعلاها الذى يلى العرش : البيت المعمور ، لكل بيت منها حرم كحرم هذا البيت ، لو سقط منها بيت لسقط بعضها على بعض إلى تخوم الأرض السفلى ، ولكل بيت من أهل السماء ومن أهل الأرض من يعمره كما يعمر هذا البيت ، أخرجه الأزرقى (٤).

__________________

(١) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣٥.

(٢) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣٥.

(٣) أخرجه : السيوطى فى الدر المنثور ١ / ٢٣٩ ، وعزاه للجندى.

(٤) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣٥ ، هداية السالك ٣ / ١٣٢١.

٨٠