إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

محمّد بن إسحاق الخوارزمي

إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

المؤلف:

محمّد بن إسحاق الخوارزمي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

وماتت مريم ـ عليها‌السلام ـ ببيت المقدس.

وهاجر إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ من «كوناريا» إلى بيت المقدس.

وتكون الهجرة فى آخر الزمان إلى بيت المقدس.

ورفع التابوت والسكينة من أرض بيت المقدس.

وصلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون زمانا إلى بيت المقدس.

وهبطت السكينة إلى بيت المقدس.

ونزلت السلسلة فى بيت المقدس ، ورفعت السلسلة من بيت المقدس.

ورأى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسرى به مالكا خازن النار فى بيت المقدس.

وركب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم البراق إلى بيت المقدس.

وأسرى به إلى بيت المقدس.

وصلى نبينا بالنبيين ببيت المقدس.

والمحشر والمنشر فى بيت المقدس.

ويأتى الله تعالى بظلل من الغمام والملائكة إلى بيت المقدس.

وتزف الجنة يوم القيامة إلى أرض بيت المقدس.

وتصير الخلائق كلهم ترابا غير الثقلين ببيت المقدس.

والحساب يكون يوم القيامة فى أرض بيت المقدس.

وينصب الصراط على متن جهنم إلى الجنة بأرض بيت المقدس.

ويوضع الميزان يوم القيامة ببيت المقدس.

وصفوف الملائكة يوم القيامة ببيت المقدس.

وينفخ إسرافيل ـ عليه‌السلام ـ فى الصور على صخرة بيت المقدس ، وينادى : أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والعروق المتقطعة أخرجوا إلى حسابكم ينفخ فيكم أرواحكم وتجازون بأعمالكم ، ويتفرق الناس من بيت المقدس إلى الجنة أو

٤٢١

إلى النار فذلك قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ)(١) ، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ)(٢) ، (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)(٣).

وكفل زكريا مريم عليها‌السلام ببيت المقدس ، ويقتل عيسى عليه‌السلام الدجال فى أرض بيت المقدس.

وفهم الله تعالى سليمان ـ عليه‌السلام ـ منطق الطير ببيت المقدس.

وسأل سليمان ـ عليه‌السلام ـ ربه ملكا لا ينبغى لأحد من بعده فأعطاه الله ذلك فى بيت المقدس ، وسأل سليمان ـ عليه‌السلام ـ أن يغفر الله لمن صلى فى بيت المقدس.

ومن سره أن يمشى فى روضة من رياض الجنة فليمش فى صخرة بيت المقدس.

و (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) من صخرة بيت المقدس (٤).

وقوله تعالى : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ)(٥) هى بيت المقدس.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ)(٦) قال : هى بيت المقدس.

وقوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ)(٧) ، وهو بيت المقدس.

__________________

(١) سورة الروم : آية ١٤.

(٢) سورة الحاقة : آية ١٨.

(٣) سورة الشورى : آية ٧.

(٤) سورة ق : آية ٤١.

والخبر له شواهد فى الدر المنثور ٦ / ١٣١ ، تفسير الطبرى ٢٦ / ٨٣ ، فضل بيت المقدس للواسطى (١٤٥).

(٥) سورة الأنبياء : آية ٧١.

(٦) سورة يونس : آية ٩٣.

وعزاه فى الدر المنثور لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر ٣ / ٥٧٠.

(٧) سورة الإسراء : آية ١.

٤٢٢

وقوله تعالى : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(١) هى بيت المقدس.

وقوله تعالى : (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ)(٢) هو بيت المقدس.

وقوله تعالى لبنى إسرائيل : (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً)(٣) هى بيت المقدس.

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)(٤) هى بيت المقدس.

وقرب نوح ـ عليه‌السلام ـ القربان على صخرة بيت المقدس.

وفدى الله تعالى إسحاق ـ عليه‌السلام ـ من الذبح ببيت المقدس.

وقوله تعالى : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)(٥) هى أرض بيت المقدس.

وقرب آدم ـ عليه‌السلام ـ القربان ببيت المقدس.

وسدد الله تعالى لداود ـ عليه‌السلام ـ ملكه فى بيت المقدس ، وألان له الحديد ببيت المقدس.

وتقبل الله تعالى من امرأة عمران نذرها ببيت المقدس.

ووهب الله تعالى لداود ـ عليه‌السلام ـ ذنبه فى بيت المقدس.

وأيد الله تعالى عيسى بروح القدس ببيت المقدس.

وآتى الله تعالى ليحيى ـ عليه‌السلام ـ الحكم صبيا ببيت المقدس.

وكان عيسى ـ عليه‌السلام ـ يحيى الموتى ويصنع العجائب فى بيت المقدس.

__________________

(١) سورة الأعراف : آية ١٢٨.

(٢) سورة طه : آية ٨٠.

(٣) سورة البقرة : آية ٥٨.

وعزاه فى الدر المنثور لعبد الرزاق وابن جرير وابن أبى حاتم ١ / ١٣٨.

(٤) سورة المؤمنون : آية ٥٠.

وعزاه فى الدر المنثور لعبد بن حميد وابن جرير وابن عساكر ٥ / ١٨.

(٥) سورة المائدة : آية ٢١.

٤٢٣

ولا يبقى مؤمن ولا مؤمنة إلا وينزل ببيت المقدس.

وسرّة الأرض بيت المقدس ، ومن صلى فى بيت المقدس فكأنما صلى فى سماء الدنيا.

وتخرب الأرضون كلها وتعمر أرض بيت المقدس.

ويحشر الله تعالى الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ كلهم إلى بيت المقدس ، ويحشر الله تعالى محمد ـ عليه‌السلام ـ إلى بيت المقدس.

وأول ما حسر ماء الطوفان عن صخرة بيت المقدس.

ويحشر الله تعالى الخلائق يوم القيامة إلى بيت المقدس.

ونشر الله تعالى الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلى بهم ببيت المقدس.

وتصف الملائكة حول بيت المقدس.

ويغفر الله تعالى لمن أتى بيت المقدس.

وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه جبريل وميكائيل ـ عليهما‌السلام ـ إلى بيت المقدس.

وباب السماء مفتوح فى بيت المقدس ، وتسجر النار فى بيت المقدس.

ويحشر الله تعالى مؤذنى المسجد الحرام ومؤذنى المسجد الأقصى ومؤذنى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس.

ودعا سليمان ـ عليه‌السلام ـ لمؤذنى بيت المقدس.

ومن أتاه متوسلا أن يغفر الله له غفر الله له.

وحملت النخلة اليابسة لمريم ـ عليها‌السلام ـ رطبا جنيا فى بيت المقدس.

وتطير أرواح المؤمنين إلى أجسادهم فى بيت المقدس.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن خيار أمتى سيهاجر هجرة بعد هجرة إلى بيت المقدس حتى لا يبقى إلا شرار أهلها ، ومن توضأ وأسبغ الوضوء وصلى ركعتين أو أربعا فى بيت المقدس غفر الله له ما كان قبل ذلك» (١).

__________________

(١) لم أعثر عليه فيما تحت يدى من مصادر.

٤٢٤

ومن صلى فى بيت المقدس خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وكان له بكل شعرة من جسده مائة نور عند الله تعالى يوم القيامة ، وكانت له حجة مبرورة متقبلة ، وأعطاه الله تعالى قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وعصمة من المعاصى ، وحشره الله تعالى مع الأنبياء عليهم‌السلام.

ومن صبر ببيت المقدس سنة على لأوائها وشدتها جاءه الله تعالى برزقه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته يأكل رغدا ، ويدخل الجنة إن شاء الله تعالى غدا.

وأول بقعة بنيت من الأرض كلها موضع صخرة بيت المقدس.

وقال الله تعالى لسليمان ـ عليه‌السلام ـ حين فرغ من بناء بيت المقدس : يا سليمان سلنى أعطك. قال : يا رب أسألك أن تغفر لى ذنوبى ، قال الله تعالى : لك ذلك ، وقال : يا رب وأسألك ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى إنك أنت الوهاب ، قال الله تعالى : لك ذلك ، وقال : يا رب وأسألك لمن جاء إلى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه أن تخرجه من ذنوبه كيوم ولدته أمه. قال الله تعالى : لك ذلك ، قال : يا رب وأسألك لمن جاءه سقيم أن تشفيه. قال الله تعالى : لك ذلك. قال : وأسألك يا رب أن تكون رحمتك عليه إلى يوم القيامة. قال الله تعالى : لك ذلك. قال : وينظر الله تعالى بالرحمة كل يوم إلى بيت المقدس.

ويظهر الله تعالى عصى موسى ـ عليه‌السلام ـ فى آخر الزمان فى بيت المقدس.

وبشر الله تعالى مريم بعيسى ـ عليه‌السلام ـ فى بيت المقدس وفضل الله تعالى مريم ـ عليها‌السلام ـ على نساء العالمين فى بيت المقدس.

وتهبط الملائكة كل ليلة إلى بيت المقدس.

ويمنع الله تعالى عدوه الدجال من الدخول إلى بيت المقدس ، ويغلب على الأرضين كلها إلا على بيت المقدس ومكة والمدينة.

وتاب الله تعالى على آدم عليه‌السلام فى بيت المقدس.

ومن تصدق برغيف فى بيت المقدس فكأنما تصدق بوزن جبال الأرض كلها

٤٢٥

ذهبا ، ومن تصدق بدرهم ببيت المقدس كان فداؤه من النار.

ومن صام يوما ببيت المقدس كان له براءة من النار.

وصفوة الله من بلاده بيت المقدس ، وفيها صفوته من عباده ، ومنها بسطت الأرض ، ومنها تطوى.

ويطلع الله تعالى كل صباح إلى بيت المقدس فينزل من رحمته وحسناته ثم ينزله على سائر البلدان.

وما يسكن أحد فى بيت المقدس حتى يشفع له سبعون ألف ملك إلى الله تعالى.

ويقول الله تعالى للمقبور فى بيت المقدس : تجاورنى فى دارى ، ألا وإن الجنة دارى لا يجاورنى فيها إلا السخاء والحلم.

وقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى عبيدة بن الجراح رضى الله عنه : «النجاء النجاء إلى بيت المقدس إذا ظهرت الفتن» قال : يا رسول الله فإن لم أدركه؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن لم تدرك بيت المقدس فابذل مالك وأحرز دينك» (١).

وكذلك قال على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ لصعصعة رضى الله عنه : نعم المسكن عند ظهور الفتن بيت المقدس ؛ القائم فيه كالمجاهد فى سبيل الله ، وليأتين على الناس زمان يقول أحدهم : ليتنى كنت تبنة فى لبنة فى بيت المقدس (٢).

وأحب الشام إلى الله تعالى بيت المقدس ، وأحب جبالها إليه الصخرة ، وهى آخر الأرضين خرابا بأربعين عاما ، وهى روضة من رياض الجنة.

ويقول الله تعالى لصخرة بيت المقدس : وعزتى وجلالى لأضعن عليك عرشى ، ولأحشرن إليك خلقى ، ولأجرين أنهارك : نهرا من لبن ، ونهرا من عسل ، ونهرا من خمر ، وأنا يومئذ ربهم ، وداود ملكهم (٣).

__________________

(١) إتحاف الأخصا ١ / ١١٠ ، ولم يعزه.

(٢) إتحاف الأخصا ١ / ١١٠.

(٣) إعلام الساجد (٢٩٢) وعزاه لأبى نعيم.

٤٢٦

القسم الرابع

فى ذكر فضيلة قبر إبراهيم عليه‌السلام وما يتصل به (١)

وفيه فصل واحد :

فصل

عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما أسرى بى إلى بيت المقدس مر بى جبريل ـ عليه‌السلام ـ إلى قبر الخليل ـ عليه‌السلام ـ فقال : انزل فصلّ ركعتين ؛ فإن هاهنا قبر أبيك إبراهيم عليه‌السلام» (٢).

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : لما أراد الله تعالى أن يقبض روح خليله إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أوحى الله تعالى إلى الدنيا : إنى قابض ودافن فيك خليلى ، فاضطربت الدنيا اضطرابا شديدا ، وتشامخت جبالها ، وتواضعت منها بقعة يقال لها : «حبرى». فقال الله تعالى : يا حبرى أنت صفوتى ، أنت قدسى ، أنت بيت مقدسى ، فيك خزانة علمى ، وعليك أنزل رحمتى وبركاتى ، وإليك أحشر خيار عبادى ، ومن ولد خليلى ؛ فطوبى لمن وضع جبهته فيك لى ساجدا ، أسقيه من حضرة قدسى ، وآمنه من أفزاع قيامتى ، وأسكنه الجنة برحمتى ، فطوباك ، ثم طوباك ، ثم طوباك ؛ أدفن فيك خليلى عليه‌السلام.

__________________

(١) ينظر : ما كتبناه فى مقدمة التحقيق ، ورسالة شيخ الإسلام ابن تيمية الملحقة بالكتاب.

(٢) أخرجه الواسطى فى فضل بيت المقدس (١١٧) ، والحديث فى نهاية الأرب ١ / ٣٣٨ ، وهو حديث لا يشك عوام أهل الحديث أنه موضوع ، فى إسناده بكر بن زياد الباهلى يضع الحديث على الثقات.

٤٢٧

اللهم ثبت أقدامنا على طريق الاهتداء بسيرة الصالحين ، ونور أبصارنا بنور هداية بصيرة المقربين ، وزين قلوبنا بزينة محبة الفقراء والزاهدين ، وارزقنا عملا صالحا متقبلا إلى يوم الدين ، واجعل لنا لسان صدق فى الآخرين ، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولجميع المسلمين ، ولا تؤاخذنا بسوء أعمالنا يا أرحم الراحمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

فالمتوقع من مكارم أخلاق سادات العلماء والإخوان الناظرين المتأملين المطالعين المطّلعين فيه أنهم إذا طالعوه واطلعوا فيه على موضع سهو أو غلط من تصحيف وإعراب أن يصلحوا بأنامل قلم فضلهم ، وببنان بيان كرم علمهم ؛ شرط أن يكونوا على يقين تام دون تحيز ، وظن حام ؛ فإن الظن قد يخطئ ويصيب ، ولا يكونوا ممن رأى ألف ألف صواب فغطاه ، وإذا وجد أقل سهو قلم فناداه ، وإذا عثروا على حديث ضعيف أو ما يوجب ضعفه أن ينبهوا على الصحيح والقوى من الأحاديث فى حاشية الكتاب.

وقد اتفق الحفاظ والعلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف فى فضائل الأعمال.

وقال ابن الصلاح : يجوز التساهل فى الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير تبيين ضعفها فى المواعظ والقصص وفضائل الأعمال دون صفات الله تعالى وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما (١).

__________________

(١) ولشيخ الإسلام «ابن تيمية» كلام نفيس فى هذا ، نسوقه بنصّه لجلالته وأهميته.

يقول الإمام ابن تيمية : «قول أحمد بن حنبل : إذا جاء الحلال والحرام : شدّدنا فى الأسانيد ، وإذا جاء الترغيب والترهيب : تساهلنا فى الأسانيد ، وكذلك ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف فى فضائل الأعمال ، ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذى لا يحتج به ، فإنّ الاستحباب حكم شرعى فلا يثبت إلا بدليل شرعى. ومن أخبر عن الله أنه يحب عملا من الأعمال من غير دليل شرعى فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله ، كما لو أثبت الإيجاب ، أو التحريم ، ولهذا يختلف العلماء فى الاستحباب كما يختلفون فى غيره ، بل هو أصل الدين المشروع.

٤٢٨

فإذا تجلى فى مرآة نظر قبول عين قلوبهم فالمتوقع منهم أن لا ينسونى من صالح

__________________

وإنما مرادهم بذلك : أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه الله ، أو مما يكرهه الله ينصّ أو إجماع ، كتلاوة القرآن ، والتسبيح والدعاء ، والصدقة ، والعتق ، والإحسان إلى الناس ، وكراهية الكذب والخيانة ، ونحو ذلك.

فإذا روى حديث فى فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها ، وكراهة بعض الأعمال وعقابها فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه إذا روى فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته ، والعمل به ، بمعنى : أنّ النفس ترجو ذلك الثواب ، أو تخاف ذلك العقاب ، كرجل يعلم أن التجارة تربح ، لكن بلغه أنها تربح ربحا كثيرا ، فهذا إن صدّق نفعه ، وإن كذّب لم يضره.

ومثال ذلك الترغيب والترهيب بالإسرائيليات ، والمنامات ، وكلمات السّلف والعلماء ، ووقائع العلماء ، ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعى لا استحباب ولا غيره ، ولكن يجوز أن يذكر فى الترغيب والترهيب ، والترجية والتخويف.

فما علم حسنه ، أو قبحه بأدلة الشرع ، فإنّ ذلك ينفع ولا يضر ، وسواء كان فى نفس الأمر حقا ، أو باطلا ، فما علم أنه باطل موضوع لم يجز الالتفات إليه ، فإنّ الكذب لا يفيد شيئا.

وإذا ثبت أنه صحيح أثبتت به الأحكام ، وإذا احتمل الأمرين روى لإمكان صدقه ، ولعدم المضرة فى كذبه.

وأحمد إنما قال : «إذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا فى الأسانيد» ومعناه : انّا نروى فى ذلك الأسانيد وإن لم يكن محدثوها من الثقات الذين يحتجّ بهم.

وكذلك قول من قال : «يعمل بها فى فضائل الأعمال» إنما العمل بها فيها من الأعمال الصالحة مثل : التلاوة ، والذكر ، والاجتناب لما كره فيها من الأعمال السيئة.

ونظير هذا قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فى الحديث الذى رواه البخارى عن عبد الله بن عمرو : «بلّغوا عنى ولو آية ، وحدّثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علىّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».

مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فى الحديث الصحيح : «إذا حدثّكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» فإنه رخص فى الحديث عنهم ، ومع هذا نهى عن تصديقهم وتكذيبهم ، فلو لم يكن فى التحديث المطلق عنهم فائدة لما رخّص فيه ، وأمر به. ولو جاز تصديقهم بمجرد الإخبار لما نهى عن تصديقهم ، فالنفوس تنتفع بما تظنّ صدقه فى مواضع.

فإذا تضمنت أحاديث الفضائل الضعيفة تقديرا وتحديدا ، مثل صلاة فى وقت معين بقراءة معينة ، أو على صفة معينة لم يجز ذلك ؛ لأنّ استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعى ، بخلاف ما لو روى فيه «من دخل السوق ، فقال : لا إله إلا الله كان له كذا وكذا» فإن ذكر الله فى السوق مستحبّ لما فيه من ذكر الله بين الغافلين ، كما جاء فى الحديث المعروف : «ذاكر الله فى الغافلين كالشجرة الخضراء بين الشجر اليابس».

فأما تقدير : الثواب المروى فيه فلا يضر ثبوته ولا عدم ثبوته ، وفى مثله جاء الحديث الذى رواه الترمذى : «من بلغه عن الله شىء فيه فضل ، فعمل به رجاء ذلك الفضل ، أعطاه الله ذلك.

٤٢٩

دعائهم فى وقت مناجاتهم وحضور صلواتهم ، ختم الله لنا ولهم بأحسن الحسنى بحق نبيه وحبيبه محمد المصطفى وعلى آله مصابيح الدجى وأصحابه نجوم الهدى صلى الله عليه وعليهم فى الآخرة والأولى وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.

__________________

وإن لم يكن ذلك كذلك».

فالحاصل : أنّ هذا الباب يروى ويعمل فيه فى الترغيب والترهيب ، لا فى الاستحباب ، ثم اعتقاد موجبه ، وهو مقادير الثواب والعقاب يتوقف على الدليل الشرعى».

٤٣٠

فصل فى زيارة

بيت المقدس لشيخ الإسلام ابن تيمية

٤٣١
٤٣٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

فصل فى زيارة بيت المقدس

ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدى هذا» (١) من حديث أبى سعيد وأبى هريرة ، وقد روى من طرق أخرى ، وهو حديث مستفيض متلقى بالقبول ، أجمع أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق.

واتفق علماء المسلمين على استحباب السفر إلى بيت المقدس للعبادة المشروعة فيه ؛ كالصلاة والدعاء والذكر وقراءة القرآن والاعتكاف.

وقد روى من حديث رواه الحاكم فى «مستدركه» أن سليمان ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه ثلاثا : ملكا لا ينبغى لأحد من بعده ، وسأله حكما يوافق حكمه ، وسأله أنه لا يؤم أحد هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه إلا غفر له (٢).

ولهذا كان ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ يأتى إليه فيصلى فيه ، ولا يشرب فيه ماء لتصيبه دعوة سليمان لقوله : «لا يريد إلا الصلاة فيه» فإن هذا يقتضى إخلاص النية فى السفر إليه ، ولا يأتيه لغرض دنيوى ولا بدعة.

__________________

(١) أخرجه : البخارى (مواقيت الصلاة) ٥٦٨ ، (الحج) ١٨٦٤ ، مسلم (الحج) ٨٢٧ ، الترمذى (الصلاة) ٣٢٦.

(٢) سبق تخريجه.

٤٣٣

وتنازع العلماء فيمن نذر السفر إليه للصلاة فيه أو الاعتكاف فيه (١) : هل يجب عليه الوفاء بنذره؟ على قولين مشهورين ، وهما قولان للشافعى : أحدهما : يجب الوفاء بهذا النذر ، وهو قول الأكثرين مثل : مالك وأحمد بن حنبل وغيرهما.

والثانى : لا يجب ، وهو قول أبى حنيفة ؛ فإن من أصله أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع ، فلهذا يوجب نذر الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة فإن من جنسها واجب بالشرع وواجب نذر الاعتكاف فإن الاعتكاف لا يصح عنده إلا بصوم ، وهو مذهب مالك وأحمد فى أحد الروايتين عنه.

وأما الأكثرون فيحتجون بما رواه البخارى فى «صحيحه» عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من نذر أنه يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه» (٢) فأمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوفاء بالنذر لكل من نذر أن يطيع الله ولم يشترط أن تكون الطاعة من جنس الواجب بالشرع ، وهذا القول أصح.

وهكذا النزاع : لو نذر السفر إلى مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ مع أنه أفضل من المسجد الأقصى.

وأما لو نذر إتيان المسجد الحرام لحج أو عمرة وجب عليه الوفاء بنذره باتفاق العلماء (٣).

والمسجد الحرام أفضل المساجد ، ويليه مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويليه المسجد الأقصى. وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «صلاة فى مسجدى هذا خيرا من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام».

والذى عليه جمهور العلماء أن الصلاة فى المسجد الحرام أفضل منها فى مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) انظر : إعلام الساجد (ص : ٢٦٩).

(٢) أخرجه : البخارى (الأيمان والنذور) ٦٦٩٦ ، الترمذى (الأيمان والنذور) ١٥٢٤ ، أبو داود (الأيمان والنذور) ٣٢٨٩.

(٣) انظر : إعلام الساجد (ص : ٢١٢).

٤٣٤

وقد روى أحمد والنسائى وغيرهما عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الصلاة فى المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، وأما فى المسجد الاقصى فقد روى أنها بخمسين صلاة ، وقيل : بخمسمائة صلاة ، وهو أشبه.

ولو نذر السفر إلى قبر الخليل ـ عليه‌السلام ـ أو قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى الطور الذى كلم الله عليه موسى ـ عليه‌السلام ـ أو إلى جبل حراء الذى كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعبد فيه وجاءه الوحى فيه ، أو الغار المذكور فى القرآن ، أو غير ذلك من المقابر والمقامات والمشاهد المضافة إلى بعض الأنبياء والمشايخ ، أو إلى بعض المغارات أو الجبال : لم يجب الوفاء بهذا النذر باتفاق الأئمة الأربعة ؛ فإن السفر إلى هذه المواضع منهى عنه لنهى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» فإذا كانت المساجد التى هى من بيوت الله التى أمر فيها بالصلوات الخمس قد نهى عن السفر إليها حتى مسجد قباء الذى يستحب لمن كان بالمدينة أن يذهب إليه لما ثبت فى الصحيحين عن ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يأتى قباء كل سبت راكبا وماشيا (١).

وروى الترمذى وغيره أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تطهر فى بيته فأحسن الطهور ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان له كعمرة» قال الترمذى حديث حسن صحيح (٢).

فإذا كان مثل هذا ينهى عن السفر إليه ، وينهى عن السفر إلى الطور المذكور فى القرآن ، وكما ذكر مالك فى المواضع التى لم تبنى للصلوات الخمس ، بل ينهى عن اتخاذها مساجد ، فقد ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فى مرض موته : «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما صنعوا» (٣).

قالت عائشة : ولو لا ذلك لأبرز قبره ، ولكن كره أن يتخذ مسجدا.

وفى صحيح مسلم وغيره عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ألا وإن من كان قبلكم كانوا

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) سبق تخريجه.

(٣) أخرجه : مسلم (المساجد ومواضع الصلاة) ٥٣١ ، النسائى (المساجد) ٧٠٣ ، الدارمى (الصلاة) ١٤٠٣.

٤٣٥

يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، وإنى أنهاكم عن ذلك» (١).

ولهذا لم تكن الصحابة يسافرون إلى شىء من مشاهد الأنبياء لا مشهد إبراهيم الخليل ـ عليه‌السلام ـ ولا غيره ، والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج صلى فى بيت المقدس ركعتين كما ثبت ذلك فى الحديث الصحيح ولم يصل فى غيره ، وأما ما يرويه بعض الناس من حديث المعراج أنه صلى فى المدينة وصلى عند قبر موسى ـ عليه‌السلام ـ وصلى عند قبر الخليل فكل هذه الأحاديث مكذوبة موضوعة.

وقد رخص بعض المتأخرين فى السفر إلى المشاهد ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة ولا احتجوا بحجة شرعية.

[العبادات المشروعة فى المسجد الأقصى]

فصل : والعبادات المشروعة فى المسجد الأقصى : هى من جنس العبادات المشروعة فى مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره من سائر المساجد إلا المسجد الحرام فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد : الطواف بالكعبة ، واستلام الركنين اليمانيين ، وتقبيل الحجر الأسود.

وأما مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسجد الأقصى وسائر المساجد فليس فيها ما يطاف به ، ولا فيها ما يتمسح به ولا ما يقبل ، فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين ولا بصخرة بيت المقدس ، ولا بغير هؤلاء كالقبة التى فوق جبل عرفات وأمثالها ، بل ليس فى الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة.

ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شرّ ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة ؛ فإن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر فكانت قبلة المسلمين هذه المدة ، ثم إن الله حول القبلة إلى الكعبة وأنزل الله فى ذلك القرآن كما ذكر فى سورة البقرة ، وصلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون إلى الكعبة ، وصارت هى القبلة ، وهى قبلة إبراهيم وغيره من

__________________

(١) أخرجه : مسلم ، كتاب المساجد ٥٣٢.

٤٣٦

الأنبياء ، فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلى إليها فهو كافر مرتد يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، مع أنها كانت قبلة لكن نسخ ذلك ، فكيف بمن يتخذها مكانا يطاف به كما يطاف بالكعبة ، والطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله.

وكذلك من قصد أن يسوق إليها غنما أو بقرا ليذبحها هناك ويعتقد أن الأضحية فيها أفضل ، وأن يحلق فيها شعره فى العيد ، أو أن يسافر إليها ليعرّف بها عشية عرفه فهذه الأمور التى يشبه بها بيت المقدس فى الوقوف والطواف والذبح والحلق من البدع والضلالات ، ومن فعل شيئا من ذلك معتقدا أن هذا قربة إلى الله فإنه يستتاب وإلا قتل ، كما لو صلى إلى الصخرة معتقدا أن استقبالها فى الصلاة قربة كاستقبال الكعبة ؛ ولهذا بنى عمر بن الخطاب مصلى المسلمين فى مقدم المسجد الأقصى.

فإن المسجد الاقصى اسم لجميع المسجد الذى بناه سليمان ـ عليه‌السلام ـ وقد صار بعض الناس يسمى الأقصى : المصلى الذى بناه عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى مقدمه.

والصلاة فى هذا المصلى الذى بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة فى سائر المسجد ؛ فإن عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس وكان على الصخرة زبالة عظيمة ؛ لأن النصارى كانوا يقصدون إهانتها مقابلة لليهود الذى يصلون إليها ، فأمر عمر ـ رضى الله عنه ـ بإزالة النجاسة عنها ، وقال لكعب الأحبار : أين ترى أن نبنى مصلى المسلمين؟ فقال : خلف الصخرة. فقال : يا ابن اليهودية! خالطتك يهودية ، بل ابنيه أمامها ؛ فإن لنا صدور المسجد (١).

ولهذا كان أئمة الأمة إذا دخلوا المسجد قصدوا الصلاة فى المصلى الذى بناه عمر.

وقد روى عن عمر ـ رضى الله عنه ـ أنه صلى فى محراب داود ، وأما الصخرة فلم يصل عندها عمر ـ رضى الله عنه ـ ولا الصحابة ، ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة بل كانت مكشوفة فى خلافة عمر وعثمان وعلى ومعاوية

__________________

(١) مثير الغرام للمقدسى ص ٣٨ (مخطوط) ، فضل بيت المقدس للواسطى (٦٣).

٤٣٧

ويزيد ومروان ، ولكن لما تولى ابنه عبد الملك الشام ووقع بينه وبين ابن الزّبير الفتنة كان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزّبير ، فأراد عبد الملك أن يصرف الناس عن ابن الزّبير فبنى القبة على الصخرة ، وكساها فى الشتاء والصيف ليرغب الناس فى زيارة بيت المقدس ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزّبير.

وأما أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فلم يكونوا يعظمون الصخرة ؛ فإنها قبلة منسوخة كما أن يوم السبت كان عيدا فى شريعة موسى ـ عليه‌السلام ـ ثم نسخ فى شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيوم الجمعة ، فليس للمسلمين أن يخصوا يوم السبت ويوم الأحد بعبادة كما تفعل اليهود والنصارى ، وكذلك الصخرة إنما يعظمها اليهود وبعض النصارى.

وما يذكره بعض الجهال فيها من أن هناك أثر قدم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأثر عمامته وغير ذلك فكله كذب ، وأكذب منه من يظن أنه موضع قدم الرب.

وكذلك المكان الذى يذكر أنه مهد عيسى ـ عليه‌السلام ـ كذب ، وإنما كان موضع معمودية النصارى.

وكذا من زعم أن هناك الصراط والميزان أو أن السور الذى يضرب به بين الجنة والنار هو ذلك الحائط المبنى شرقى المسجد ، وكذلك تعظيم السلسلة أو موضعها ليس مشروعا.

فصل : وليس ببيت المقدس مكان يقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى ، لكن إذا زار قبور الموتى وسلّم عليهم وترحّم عليهم كما كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أصحابه فحسن ؛ فإن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات وإنا إن شاء الله بكم لا حقون ، ويرحم الله المستقدمين منّا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ، ولا تفتنا بعدهم ، واغفر لنا ولهم.

فصل : وأما زيارة معابد الكفار مثل : الموضع المسمى بالقمامة أو بيت لحم أو صهيون أو غير ذلك مثل كنائس النصارى فمنهىّ عنها ، فمن زار مكانا من هذه الأمكنة معتقدا أن زيارته مستحبة والعبادة فيه أفضل من العبادة فى بيته فهو ضال

٤٣٨

خارج عن شريعة الإسلام يستتاب ؛ فإن تاب وإلا قتل.

وأما إذا دخلها الإنسان لحاجة وعرضت له الصلاة فيها ؛ فللعلماء فيها ثلاثة أقوال فى مذهب أحمد وغيره.

قيل : تكره الصلاة فيها مطلقا ، واختاره ابن عقيل ، وهو منقول عن مالك.

وقيل : تباح مطلقا.

وقيل : إن كان فيها صور ينهى عن الصلاة وإلا فلا ، وهذا منصوص عن أحمد وغيره ، وهو مروى عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ وغيره ؛ فإن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة» (١).

ولما فتح النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة كان فى الكعبة تماثيل فلم يدخل الكعبة حتى محيت تلك الصور ، والله أعلم.

فصل : وليس ببيت المقدس مكانا يسمى حرما ولا بتربة الخليل ولا بغير ذلك من البقاع إلا ثلاثة أماكن :

أحدها : هو حرم باتفاق المسلمين ، وهو حرم مكة شرفها الله تعالى.

والثانى : حرم عند جمهور العلماء ، وهو حرم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عير إلى ثور ، بريد فى بريد ، فإن هذا حرم عند جمهور العلماء كمالك والشافعى وأحمد ، وفيه أحاديث صحيحة مستفيضة عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثالث : «وج» ، وهو واد بالطائف ؛ فإن هذا روى فيه أحاديث رواها أحمد فى المسند (٢) وليست فى الصحاح ، وهذا حرم عند الشافعى لاعتقاده صحة الحديث ، وليس حرما عن أكثر الأماكن الثلاثة فليس حرما عند أحد من علماء المسلمين ؛ فإن الحرم ما حرّم الله صيده ونباته ، ولم يحرم الله صيد مكان ونباته خارجا عن هذه الأماكن الثلاثة.

__________________

(١) أخرجه : البخارى (بدء الخلق) ٣٢٢٦ ، مسلم (اللباس والزينة) ٢١٠٦ ، النسائى (الطهارة) ٢٦١ ، أبو داود (الطهارة) ٢٢٧ ، أحمد فى المسند ١٢٩٢ ، والحديث ليس من رواية عمر بن الخطاب.

(٢) ونص حديث أحمد ١٧١١٢ : «إن آخر وطأة وطئها الرحمن عزّ وجلّ بوجّ».

٤٣٩

فصل : وأما زيارة بيت المقدس فمشروعة فى جميع الأوقات ولكن لا ينبغى أن يولى فى الأوقات التى تقصدها الضلال مثل وقت عيد النحر ، فإن كثيرا من الضلال يسافرون إليه ليقفوا هناك.

والسفر إليه لأجل التعريف به ـ معتقدا أن هذا قربة ـ محرّم بلا ريب.

وينبغى أن لا يتشبه بهم ولا يكثّر سوادهم ، وليس السفر إليه مع الحج قربة ، وقول القائل : «قدس الله حجتك قول باطل لا أصل له ، كما يروى : «من زارنى وزار أبى فى عام واحد ضمنت له الجنة» (١) فإن هذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، بل وكذلك كل حديث يروى فى زيارة قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه ضعيف بل موضوع (٢) ، ولم يرو أهل الصحاح والسنن والمسانيد كمسند أحمد وغيره من ذلك شيئا ولكن الذى فى السنن ما رواه أبو داود عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من أحد يسلم علىّ إلا ردّ الله علىّ روحى حتى أردّ عليه‌السلام» (٣) فهو يرد السلام على من سلّم عليه عند قبره ، ويبلغ سلام من سلّم عليه من البعيد كما فى النسائى عنه أنه قال : «إن الله وكّل بقبرى ملائكة يبلغونى عن أمتى السلام» (٤).

وفى السنن عنه أنه قال : «أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة على» قالوا : كيف صلاتنا تعرض عليك وقد أرمت؟ فقال : «إن الله ـ عزّ وجلّ ـ قد حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» (٥) فبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الصلاة والسلام توصل إليه من البعيد.

والله قد أمرنا أن نصلى عليه ونسلم ، وثبت فى الصحيح أنه قال : «من صلّى

__________________

(١) انظر : المقاصد ١١٢٦ ، كشف الخفاء ٢٤٩٠ ، الأسرار المرفوعة ٤٨٩.

(٢) انظر : المقاصد ١١٢٥ ، كشف الخفاء ٢٤٨٩ ، الشذرة ٩٦٠ ، ميزان الاعتدال ٢١٢١ ، سنن الدارقطنى ٢ / ٢٧٨ ، البيهقى فى السنن ٥ / ٢٤٦ ، ويراجع وفاء الوفا (ص : ١٢٣٦) وما بعدها ، والصارم المنكى ، وشفاء السقام ، وفتح البارى ٣ / ٧٩.

(٣) أخرجه : أبو داود (المناسك) ٢٤١ ، أحمد فى المسند ١٠٤٣.

(٤) أخرجه : النسائى (السهو) ٢٨٢ ، أحمد فى المسند ٣٦٥٧. ونص الحديث : «إن لله ملائكة سياحين فى الأرض يبلغونى عن أمتى».

(٥) أخرجه : النسائى (الجمعة) ١٣٧٤ ، أبو داود (الصلاة) ١٠٤٧ ، ابن ماجه (الجنائز) ١٦٣٦ ، أحمد فى المسند ١٥٧٢٩.

٤٤٠