إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

محمّد بن إسحاق الخوارزمي

إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

المؤلف:

محمّد بن إسحاق الخوارزمي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

ثم يأتى المنبر فيقف عنده ويدعو ويصلى ؛ فقد روى أن الدعاء هنالك مستجاب.

ثم يأتى إلى الأسطوانة الحنانة التى احتضنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيحتضنها ؛ لأنه السنة ؛ لما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستند إلى جذع ويخطب ، ثم اتخذ المنبر وكان يقوم عليه ، فحنّت التى كان يستند إليها حنينا سمعه أهل المسجد ، فأتاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمسها فسكنت ـ وفى رواية أنس رضى الله عنه : احتضنها فسكنت ـ وقال : «لو لم أحتضنه ـ يعنى الجذع ـ لحنّ إلى يوم القيامة» (١).

واعلم أن هذا الجذع ليس له اليوم عين ولا أثر ؛ فقد روى : أن أبى بن كعب ـ رضى الله عنه ـ أخذه لما غير المسجد وهدم فكان عنده فى بيته حتى بلى وأكلته الأرضة وعاد رفاة. ولكن اليوم فى موضعها أخرى تزار تبركا بها ، وهذا تمام الزيارة وآخرها فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وليجتهد أن يبيت فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحيى ليلته فيه بقراءة القرآن وذكر الله تعالى ، ويكثر من الاختلاف إلى القبر المطهر والحظيرة فى كل ساعة من ساعات الليل ، ويدعو تارة سرا وتارة جهرا. ويدعو لمن أحب من إخوانه وأولاده فى دعائه ، وليكن الزائر قوى الرجاء حسن الظن ، ملاحظا لما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الله تعالى من عريض الجاه وعظيم الحرمة. متصورا لما جبل عليه الصلاة والسلام من الرأفة والرحمة والشفاعة.

__________________

مسنده ٢ / ٢٤٦ ، ٣٧٦ ، البيهقى فى السنن ٥ / ٢٤٧ ، الطبرانى فى الصغير ٢ / ١٢٢ ، البيهقى فى الشعب (٤١٤٦) ، عبد الرزاق فى مصنفه (٥٢٤٣) ، أبو نعيم فى الحلية ٣ / ٢٦ ، ٢٦٤.

(١) أخرجه : أحمد فى مسنده ١ / ٢٤٩ ، ٢٦٣ ، ابن ماجه (١٤١٥) ، الدارمى (٣٩) ، أبو نعيم فى دلائل النبوة (ص : ١٤٢). وفى هذه الأحاديث دليل على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكا كأشرف الحيوانات.

٣٤١

الفصل الثالث عشر

فى ذكر الكلمات المروية من زوار قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

روى محمد بن عبيد الله العتبى قال : بينما أنا جالس عند قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا بأعرابى قد أقبل إلى المسجد على بعير فأناخه ، ثم دخل المسجد وأتى القبر الشريف فسلم عليه سلاما حسنا ودعا دعاء جميلا ، ثم قال : يا رسول الله ، إن الله تعالى قد أنزل عليك كتابا صادقا فيه قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً.)

وقد جئتك مستغفرا من ذنبى مستشفعا بك إلى ربى ، ثم أنشأ يقول :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسى الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

أنت الشفيع الذى ترجى شفاعته

عند الصراط إذا ما زلّت القدم

ثم استغفر وانصرف.

ثم غلبنى النوم فرقدت ، فرأيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : يا عتبى الحق الأعرابى وبشره أن الله قد غفر له بشفاعتى ، فخرجت فطلبته فما لقيته (١).

وقال إبراهيم بن شيبان حججت فى بعض السنين فجئت المدينة وتقدمت إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلمت عليه ، فسمعت من داخل الحجرة : وعليك السلام (٢).

__________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٢ / ٤٠٨ ، البيهقى فى الشعب (٤١٧٨) ، ابن النجار (ص : ١٤٧) ، ابن الجوزى فى مثير الغرام الساكن (ص : ٤٩٠).

وهى حكاية مشهورة عن العتبى فى كتب المناسك ، ولفظ الاستشفاع بالنبى فيه تفصيل ليس هنا موضعه.

(٢) أخرجه : الأصبهانى فى الترغيب (١٠٢) ، ابن الجوزى فى مثير الغرام (ص : ٤٨٩) ، ابن النجار (ص : ١٤٦) ، وفى سنده ابن جهضم.

٣٤٢

وعن أبى الخير الأقطع (١) قال : دخلت مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا بفاقة فأقمت خمسة أيام ما ذقت شيئا ، فتقدمت إلى القبر المقدس وسلمت على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أبى بكر وعمر رضى الله عنهما وقلت : أنا ضيفك الليلة يا رسول الله ، وتنحيت فنمت خلف المنبر فرأيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المنام وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله وعلىّ بن أبى طالب بين يديه ، فحركنى علىّ وقال لى : قم قد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فقمت إليه وقبلت بين عينيه ، فدفع إلىّ رغيفا فأكلت نصفه ، فانتبهت وإذا فى يدى نصف رغيف (٢).

وعن عمرو بن محمد أنه ترك الأذان فى المسجد أيام الحرّة ثلاثة أيام اشتغلوا عنه ، قال سعيد بن المسيب : وكنت لا أخرج من المسجد فاستوحشت فدنوت من القبر ، فلما حضرت الظهر سمعت الأذان من الروضة فصليت ركعتين ، ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر ، ثم لم أزل أسمع الأذان والإقامة لكل صلاة حتى عاد الناس والمؤذنون إلى المسجد (٣).

وروى عن امرأة من المتعبدات أنها قالت لعائشة رضى الله عنها : اكشفى لى عن قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكشفت لها ، فبكت حتى ماتت (٤).

وقيل : جاء أعرابى بعد دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرمى بنفسه على قبره وحثا من ترابه على رأسه وقال : يا رسول الله ، قلت : فسمعنا ، وكان فيما أنزل عليك :(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) الآية ، وقد ظلمت نفسى وجئتك أستغفر الله من ذنبى فاستغفر لى من ربى ، فنودى من القبر أنه قد غفر لك (٥).

وعن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزّبير ـ وكان مصعب يصلى فى اليوم

__________________

(١) هو : أبو الخير الأقطع التينماتى (نسبة إلى تينمات ببلاد المشرق) انظر ترجمته فى : الحلية ١٠ / ٣٧٧ ، المنتظم ١٤ / ٩٦ ، جامع الكرامات ١ / ٤٥٠.

(٢) صفة الصفوة ٤ / ٢٣٦ ، ابن النجار (ص : ١٤٨) ، وتحرفت فيه : «أبو الخير» إلى : «أبى الخبر» ، وذكر هذه الحكاية القشيرى بدون إسناد ، ونسبها لابن الجلاء (١٩٥) ، وتحرفت فى وفاء الوفا (ص : ١٣٨٠) إلى ابن الجلاد.

(٣) ذكره السيوطى فى الخصائص ٢ / ٤٩٠ ، وعزاه لأبى نعيم فى الحلية.

(٤) ذكره ابن النجار (ص : ١٤٩) ، وابن الجوزى فى مثير الغرم (ص : ٤٩٢).

(٥) مثير الغرام (ص : ٤٩٠) ، مختصر تاريخ دمشق ٢ / ٤٠٨ ، ابن النجار (ص : ١٤٧).

٣٤٣

والليلة ألف ركعة ويصوم الدهر ـ قال : بت ليلة فى المسجد بعد ما خرج الناس منه ؛ فإذا برجل قد جاء إلى قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أسند ظهره إلى الجدار ثم قال : اللهم إنك تعلم أنى كنت أمس صائما ثم أمسيت فلم أفطر على شىء وإنى أمسيت أشتهى الثريد فأطعمنيه من عندك ، قال : فنظرت إلى وصيف غلام داخل من خوخة المنارة ليس فى خلقه وصفاته أحد ، ومعه قصعة فأهوى بها إلى الرجل فوضعها بين يديه ، وجلس الرجل يأكل وخصنى فقال : هلمّ ، فجئته فظننت أنها من الجنة ، فأحببت أن آكل منها فأكلت منها لقمة ما أكلت طعاما لا يشبه طعام الدنيا ، ثم احتشمت فقمت فرجعت إلى مجلسى ، فلما فرغ من أكله أخذ الوصيف القصعة ثم أهوى راجعا من حيث جاء ، وقام الرجل منصرفا ، فقمت فاتبعته لا أعرف ولا أدرى أين سلك ، فظننت أنه الخضر عليه‌السلام (١).

وعن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال : لما رمس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءت فاطمة فوقفت على قبره وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعته على عينيها وبكت وأنشأت تقول :

ماذا على من شمّ تربة أحمد

أن لا يشم من الزمان غواليا

صبّت علىّ مصائب لو أنها صبّت

على الأيام عدت لياليا (٢)

وروى ابن أبى فديك ـ وهو من علماء أهل المدينة ـ أنه قال : بلغنا أنه من وقف عند قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلى هذه الآية : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ)(٣) ثم قال : صلى الله عليك سبعين مرة ، ناداه ملك صلى الله عليك يا فلان لم تسقط لك حاجة (٤).

قال الإمام زين الدين بن الحسين مدرس المدينة : والأولى أن ينادى يا رسول الله

__________________

(١) أخرجه : ابن الجوزى فى مثير الغرام (ص : ٤٩٢) ، ابن النجار (ص : ١٤٩). وفيه : مصعب بن الزبير ضعفه أحمد والنسائى ، وقال عنه أبو حاتم : لا يحتج به. وقال ابن حبان : منكر الحديث.

(٢) الخبر فى : الرقة لابن قدامة المقدسى (٦٢) ، مثير الغرام (ص : ٤٨٩) ، ابن النجار (ص : ١٢٥) ، وعزاه السمهودى (ص : ١٠٤٥) لابن عساكر.

(٣) سورة الأحزاب : آية ٥٦.

(٤) ذكر هذا الخبر : ابن جماعة فى هداية السالك ٣ / ١٣٨٣ ، البيهقى فى الشعب ٤١٦٩.

٣٤٤

وإن كانت الرواية : «يا محمد» تأدبا وحشمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال العلماء : يجب الأدب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد مماته كما فى حال حياته.

وقد روى عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قال : لا ينبغى رفع الصوت عند النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيا وميتا (١).

وروى عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد فى بعض الدور المطنبة بمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فترسل إليهم : لا تؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قالوا : وما عمل علىّ ـ رضى الله عنه ـ مصراعى داره بالمناصع توقيا عن ذلك.

وفى صحيح البخارى عن عمر ـ رضى الله عنه ـ أنه قال لرجلين من أهل الطائف : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا ؛ ترفعان أصواتكما فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

ويروى أن أبا جعفر المنصور ناظر مالك بن أنس فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له مالك : يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك فى هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوما فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ)(٣) الآية ، وذمّ قوما فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ)(٤) الآية. وإن حرمته كحرمته ميتا ، فاستكان له أبو جعفر ، ثم قال أبو جعفر : يا أبا عبد الله أأستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال مالك : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله تعالى يوم القيامة ، بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله تعالى (٥).

وروى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : لما اقترف آدم الخطيئة قال : يا رب أسألك بحق محمد أن تغفر لى ، فقال الله تعالى : وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه ، قال :

__________________

(١) انظر : المجموع ٨ / ٢١٧ ، فتح القدير ٢ / ٣٣٧.

(٢) أخرجه : البخارى ٢ / ٩٧ (الصلاة : باب رفع الصوت فى المساجد).

(٣) سورة الحجرات : آية ٣.

(٤) سورة الحجرات : آية ٤.

(٥) ذكر هذا الخبر ابن جماعة فى هداية السالك ٣ / ١٣٨١. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذه القصة مكذوبة على الإمام مالك (مجموع الرسائل الكبرى ٢ / ٣٩١).

٣٤٥

لأنك لما خلقتنى بيدك ونفخت فىّ من روحك رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا اسم أحب الخلق إليك ، فقال الله تعالى : صدقت يا آدم ، إنه لأحب الخلق إلىّ ، وإذ سألتنى بحقه فقد غفرت لك ، ولو لا محمد ما خلقتك. رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد (١).

شعر لبعضهم :

جرمى عظيم يا عفوّ وإننى

بمحمد أرجو التسامح فيه

فيه توسّل آدم فى أمره

وقد اهتدى من يقتدى بأبيه (٢)

وليجتهد فى مدة إقامته بالمدينة الشريفة على أن يصلى الصلوات الخمس فى جماعة بمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) أخرجه : الحاكم فى المستدرك ٢ / ٦١٥ ، ولم يوافقه الذهبى على صحة هذا الحديث.

وفيه : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف ، وعبد الله بن مسلم الفهرى مجهول إن لم يكن به شىء فإنه متهم. (لسان الميزان ٣ / ٣٦٠).

(٢) أى بأبيه الصالح فى الخير. وإلا فكم نعى القرآن على مقلدى آبائهم على غير هدى من الله.

٣٤٦

الفصل الرابع عشر

فى ذكر زيارة البقيع

ويستحب أن يخرج كل يوم إلى البقيع خصوصا يوم الجمعة ، ويكون ذلك بعد السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

روى ابن النجار عن أبى عاصم قال : حدثتنى أم قيس بنت محصن قالت : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدى فى سكة المدينة حتى انتهى إلى بقيع الغرقد ، فقال : «يا أم قيس» قلت : لبيك وسعديك يا رسول الله. قال : «ترين هذه المقبرة؟» قلت : نعم ، قال : «يبعث منها يوم القيامة سبعون ألفا على صورة القمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن مقبرة البقيع تضىء لأهل السماء كما تضىء الشمس والقمر لأهل الدنيا».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من دفناه فى مقبرتنا هذه شفعنا له» (٢).

وعن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما كانت ليلتى منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وأتاكم ما توعدون ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» (٣).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أول من تنشق عنه الأرض ، ثم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم آتى أهل البقيع فيحشرون معى ، ثم أنتظر أهل مكة بين الحرمين» (٤).

__________________

(١) ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد ٤ / ١٣ ، وعزاه للطبرانى فى الكبير. وقال : فيه من لم أعرفه.

(٢) أخرجه : ابن النجار فى الدرة الثمينة ٢ / ٤٠٢.

(٣) أخرجه : مسلم ٢ / ٦٦٩ ، أحمد فى مسنده ٦ / ١٨٠ ، ابن ماجه (١٥٤٦) ، النسائى (٢٠٣٨) ، ابن حبان (٣١٧٢) ، عبد الرزاق مصنفه (٦٧٢٢) ، البيهقى فى السنن ٤ / ٧٩.

(٤) أخرجه : الترمذى (٣٦٩٢) الحاكم فى المستدرك ٢ / ٤٦٥ ، ٤٦٦ ، الطبرانى فى الكبير ١٢ / ٣٠٥ ، ابن عساكر ١٨ / ٣٠٥ ، البيهقى فى دلائل النبوة ١ / ٧٤ ، ابن عدى فى الكامل ٥ / ١٨٧٠ ، ابن

٣٤٧

وعن أبى عبد الملك يرفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «مقبرتان تضيئان لأهل السماء كما تضىء الشمس والقمر لأهل الدنيا : البقيع ؛ بقيع المدينة ، ومقبرة بعسقلان».

وروى أن أكثر الصحابة ممن توفى فى حياة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعد وفاته مدفون فى البقيع وكذلك سادات أهل البيت والتابعين. ونقل فى «مدارك القاضى عياض» عن مالك أنه قال : مات فى المدينة من الصحابة عشرة آلاف وباقيهم فى البلدان.

وكذلك أمهات المؤمنين أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير خديجة ؛ فإنها مدفونة بمكة ، وغير ميمونة ؛ فإنها مدفونة بسرف على عشرة أميال من مكة ، وباقيهنّ فى البقيع ؛ فمنها : سودة بنت زمعة توفيت بالمدينة فى شوال سنة أربع وخمسين.

وتوفيت عائشة رضى الله عنها بالمدينة ، وأوصت أن تدفن بالبقيع مع صواحباتها ، وصلّى عليها أبو هريرة وكان خليفة مروان بالمدينة ، وقال الواقدى : ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة من رمضان سنة ثمان وخمسين ، وهى بنت ست وستين سنة.

ومنها : حفصة بنت عمر ، هاجرت مع زوجها خنيس بن حذافة فتوفى بالمدينة فتزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم طلقها تطليقة فأتاه جبريل فقال : إن الله تعالى يأمرك أن تراجع حفصة ؛ فإنها صوامة قوامة ، فراجعها ، وتوفيت بالمدينة فى خلافة معاوية وهى بنت ستين سنة.

ومنها : أم سلمة ، واسمها هند بنت أمية ، واسم أمية سهل ، تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ليال بقين من شوال سنة أربع وتوفيت سنة تسع وخمسين ، وصلى عليها سعيد بن زيد ، وقيل : أبو هريرة ، وقبرت بالبقيع ، وهى ابنة أربع وثمانين سنة.

ومنها : أم حبيبة ، واسمها : رملة ابنة أبى سفيان بن حرب ، توفيت سنة أربع وأربعين ، ودفنت بالبقيع (١).

__________________

النجار (ص : ١٥١) ، ابن شاهين فى الثقات (١٥١) ، ابن الجوزى فى العلل (١٥٢٧).

وفيه : عاصم بن عمر ؛ قال عنه البخارى ومسلم : منكر الحديث ، وضعفه الدارقطنى وأبو حاتم.

وقال النسائى : متروك.

(١) تاريخ المدينة ١ / ١٢٠.

٣٤٨

ومنها : زينب بنت جحش بن رباب ، اسم أمها : أميمة بنت عبد المطلب ، تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة فى سنة خمس من الهجرة ، وتوفيت سنة عشرين وهى بنت ثلاث وخمسين سنة (١).

ومنها : زينب بنت خزيمة ، وكانت تسمى أم المساكين ، فتزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى رمضان على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة ، ومكثت عنده ثمانية أشهر ، وماتت فى ربيع الآخر على رأس تسعة وثلاثين شهرا ودفنت بالبقيع (٢).

ومنها : صفية بنت حيى بن أحطب ، ماتت فى سنة خمسين ، ودفنت بالبقيع (٣).

ومنها : ريحانة بنت زيد بن عمرو ، ماتت فى رجوعه عليه‌السلام من حجة الوداع ، فدفنها فى البقيع ، قال الواقدى : سنة ست عشرة ، وصلى عليها عمر رضى الله عنه.

ومنها : جويرية بنت الحارث ، تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى شعبان سنة ست ، وكان اسمها برّة فسماها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جويرية ، توفيت فى ربيع الأول سنة ست وخمسين وهى ابنة خمس وستين سنة.

والقبور المشهورة اليوم فى البقيع : قبر أبى الفضل العباس عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبى محمد الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما (٤).

وقد ورد أن الحسن بن على حين أحس بالموت قال : ادفنونى إلى جنب أمى فاطمة فدفن إلى جنبها (٥).

وجاء فى طريق آخر : أن قبر فاطمة فى بيتها الذى أدخله الإمام عمر بن عبد العزيز فى المسجد.

وروى أن الشيخ أبا العباس المرسى كان إذا زار البقيع وقف أمام قبلة قبة

__________________

(١) وفاء الوفا ٣ / ٩١٢.

(٢) وفاء الوفا ٣ / ٩١٢.

(٣) وفاء الوفا ٣ / ٩١١.

(٤) تاريخ المدينة ١ / ١٢٧.

(٥) وفاء الوفا ٣ / ٩٠٨ ، عمدة الأخبار (ص : ١٢٩).

٣٤٩

العباس ، وسلّم على فاطمة رضى الله عنها ، ويذكر أنه كشف له عن قبرها.

وماتت فاطمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بستة أشهر وهى بنت تسع وعشرين سنة وغسّلها علىّ وصلى عليها ، وقيل : صلى عليها العباس ، وقيل : صلى عليها أبو بكر ، فالأول قول عروة ، والثانى قول عمرة بنت عبد الرحمن ، والثالث قول النخعى. ودفنت ليلا (١).

وأربعة فى قبر واحد عند رجل أبى الفضل العباس ـ رضى الله عنه ـ وهم : الحسن ابن على توفى فى ربيع الأول سنة تسع وأربعين وهو ابن سبع وأربعين سنة وصلى عليه سعيد بن العاص ، ومولده فى شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة.

وزين الدين على بن الحسين ، ومحمد الباقر بن زين العابدين ، وجعفر الصادق ابن محمد الباقر رضى الله عنهم أجمعين. وقد بنى الخليفة الناصر بن المستضىء أحمد قبة عالية عليهم.

ثم قبر عقيل بن أبى طالب ومعه فى القبة أخيه عبد الرحمن الجواد بن جعفر ابن أبى طالب ، وعليهما قبة يقال : إن الدعاء [عندها] مستجاب (٢).

ثم قبر إبراهيم ابن سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليه قبة فيها شباك من جهة القبلة ، وهو مدفون إلى جنب عثمان بن مظعون ، كما ورد فى الصحيح أنهم قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أين نحفر لإبراهيم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عند فرطنا عثمان بن مظعون» (٣).

قيل : أول من دفن بالبقيع عثمان بن مظعون فى شهر شعبان على رأس ثلاثين من الهجرة ، وقبّل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خده بعد موته ، وسماه السلف الصالح ، وكان متعبدا ، وحرم الخمر فى الجاهلية والإسلام ، وقال : لا أشرب شيئا يذهب عقلى ويضحك بى من هو أدنى منى (٤).

وورد أيضا : أن عبد الرحمن بن عوف حين نزل به الموت أرسلت إليه عائشة ـ

__________________

(١) تاريخ المدينة ١ / ١٠٤ ، وفاء الوفا ٣ / ٩٠١.

(٢) وفاء الوفا ٣ / ٩٠٩.

(٣) تاريخ المدينة ١ / ١٢١ ، وفاء الوفا ٣ / ٨٩١.

(٤) وفاء الوفا ٣ / ٨٩٣ ، تاريخ المدينة ١ / ١٠٢ ، عمدة الأخبار (ص : ١٢٧).

٣٥٠

رضى الله عنها ـ أن هلم إلى أصحابك يعنى : النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وعمر ، فقال : لست بمضيق عليك بابك ، إنى قد كنت عاهدت عثمان بن مظعون أن أينا مات دفن إلى جانب صاحبه ادفنونى إلى جانب عثمان ، فدفن هناك ، فيزاران مع سيدنا إبراهيم (١).

وفى جانب قبة عقيل حظيرة مبنية بالحجارة يقال : إن فيها قبر أزواج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسلم عليهنّ هناك.

ثم قبر أمير المؤمنين أبى عمرو عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ شرقى البقيع فى موضع يعرف بحس كوكب ، والحس : البستان ، وعليه قبة عالية بناها أسامة بن سنان الصالحى أحد أمراء صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة إحدى وستمائة.

وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وأياما ، وبلغ تسعين سنة ، ودفن ليلة السبت وقد تقدم الخلاف فى قاتله (٢).

ثم قبر أم أبى الحسن على بن أبى طالب فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ـ رضى الله عنها ـ وهى شمالى قبة عثمان بن عفان فى موضع يعرف بالحمام وعليها قبة صغيرة (٣).

ونقل ابن زبالة وابن النجار عن أبى روق قال : حمل الحسين ـ رضى الله عنه ـ بدن أبيه على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ فدفن بالبقيع ، وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر ، وبلغ عمره سبعا وخمسين سنة ، ويقال : إن رأس الحسين حمل إليه أيضا ودفن بالبقيع (٤).

ثم قبر أم الزّبير صفية بنت عبد المطلب عمة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على يسار الخارج من باب البقيع عند دار المغيرة بن شعبة بن خداش ، ويقال : إنه دفنت عندها أختها عاتكة رضى الله عنهما (٥).

__________________

(١) الإصابة ٤ / ٢٩٨ ، عمدة الأخبار (ص : ١٢٧) ، وفاء الوفا ٣ / ٩٠٩ ، تاريخ المدينة ١ / ١١٥.

(٢) وفاء الوفا ٣ / ٩١٣ ، الإصابة ٢ / ٤٥٦ ، تاريخ المدينة ١ / ١١١ ، الخلاصة (ص : ٢٦٢).

(٣) تاريخ المدينة ١ / ١٢١.

(٤) وفاء الوفا ٣ / ٩٠٩.

(٥) تاريخ المدينة ١ / ١٢٦.

٣٥١

ثم قبر الإمام أبى عبد الله مالك بن أنس الأصبحى إمام دار الهجرة صاحب المذهب رضى الله عنه ، إذا خرج الشخص من باب البقيع يكون مواجها له من جهة الشرق فى قبة صغيرة (١).

ثم قبر إسماعيل بن جعفر الصادق فى مشهد كبير مبيض غربى قبة العباس ، وهو ركن سور المدينة من جهة القبلة والشرق ، وبابه من داخل المدينة بناه بعض العبيديين من ملوك مصر. ويقال : إن عرضة هذا المشهد وما حولها من جهة الشمال إلى الباب كانت دار زين العابدين على بن الحسين رضى الله عنه (٢).

وبين الباب الأول وبين المشهد بئر منسوبة إلى زين العابدين ، وفى الجانب الغربى للمشهد مسجد صغير مهجور يقال له : مسجد زين العابدين ، رضى الله عنه.

وصهيب بن سنان بن مالك الرومى مدفون بالبقيع ، توفى بالمدينة سنة ثمان وثلاثين وهو ابن سبعين سنة.

وحكيم بن حزام مات بالمدينة سنة أربع وخمسين ، وهو ابن مائة وعشرين سنة (٣).

فإذا انتهى الزائر إلى البقيع فليستقبل المقابر وليقل ما ثبت عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت عائشة رضى الله عنها كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرج فى آخر الليل إلى البقيع فيقول : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجّلون ، وإنا إن شاء الله بكم لا حقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» (٤).

وفى شمال المدينة على طريق الحاج الشامى من خارج سور المدينة قبر محمد ابن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنهم ـ

__________________

(١) وفاء الوفا ٣ / ٩٢٠.

(٢) وفاء الوفا ٣ / ٩٢٠.

(٣) يبحث عن ذلك فى : القرى (ص : ٦٨٥ ـ ٦٨٧) ، هداية السالك ٣ / ١٣٩٤ ـ ١٣٩٦.

(٤) أخرجه : مسلم ٢ / ٦٦٩ ، أحمد فى مسنده ٦ / ١٨٠ ، ابن ماجه (١٥٤٦) ، النسائى (٢٠٣٨) البيهقى فى السنن ٤ / ٧٩ ، عبد الرزاق فى مصنفه (٦٧٢٢) ، ابن شبة ١ / ٩٠ ، ابن حبان (٣١٧٢). البغوى فى شرح السنة (١٥٥٠).

٣٥٢

المقتول فى أيام أبى جعفر المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس شرقى جبل سلع ، وعليه بناء كبير بالحجارة ، وهو داخل مسجد كبير مهجور فيه محراب (١).

وفى قبلى المسجد منهل من العين الزرقاء الخارجة من المدينة عليه بناء مدرّج بدرج من جهة الشرق والغرب ، والعين فى وسطه تجرى إلى مفيضها من البركة التى ينزلها الحجاج عند ورودهم وصدورهم.

__________________

(١) وفاء الوفا ٣ / ٩٢٣.

٣٥٣

الفصل الخامس عشر

فى ذكر زيارة مسجد قباء

ويستحب استحبابا مؤكدا أن يأتى مسجد قباء يوم السبت ، فإن تعذر فى يوم السبت ففى غيره من الأيام.

وفى الصحيحين : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأتيه كل سبت راكبا وماشيا ، وكان ابن عمر رضى الله عنه يفعله (١).

وفى الصحيحين أيضا : أنه عليه الصلاة والسلام كان يأتيه راكبا وماشيا فيصلى فيه ركعتين (٢).

وفى رواية لابن حبان فى صحيحه : أنه عليه الصلاة والسلام كان يأتى قباء كل يوم سبت (٣).

وصح عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الصلاة فيه كعمرة» رواه أحمد والترمذى وابن حبان فى صحيحه والحاكم وصحح إسناده (٤).

وعن سهل بن حنيف ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تطهر فى بيته ثم أتى مسجد قباء ، فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة» رواه ابن ماجه بإسناد صحيح (٥).

وعنه أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من توضأ فأحسن وضؤه فدخل مسجد

__________________

(١) أخرجه : البخارى (١١٩٤) ، مسلم ٣ / ٤٨١ ـ ٤٨٤ ، أبو داود (٣٠٣٨) ، أحمد فى مسنده ٢ / ١٥٥ ، النسائى (٦٩٧) ، ابن حبان (١٦٢٨) البيهقى فى السنن ٥ / ٢٤٨.

(٢) البخارى ٢ / ٦١ (التطوع : باب إتيان مسجد قباء) ، مسلم (الحج) ٤ / ١٢٧.

(٣) صحيح ابن حبان (١٦٢٨).

(٤) أخرجه : الترمذى ٢ / ١٤٦ ، أحمد فى مسنده ٣ / ٤٨٧ ، ابن ماجه (١٤١٢) ، الحاكم فى المستدرك ١ / ٤٨٧.

(٥) أخرجه : ابن ماجه (٢ / ١٤) أحمد فى مسنده ٣ / ٤٨٧ ، ابن أبى شيبة ٢ / ٣٧٣ ، وعمر بن شبه ١ / ٤٠ ، ٤١.

٣٥٤

قباء فركع فيه أربع ركعات كان ذلك عدل رقبة» (١) رواه الطبرانى.

ويستحب أن يدعو بهذا الدعاء قبل دخوله فى المسجد ، ويدعو بما شاء : يا صريخ المستصرخين ، ويا غياث المستغيثين ، ويا مفرج الكروب عن المكروبين ، ويا مجيب دعوة المضطرين ، صلى على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، واكشف عنى كربى وحزنى كما كشفت عن رسولك كربه وحزنه فى هذا المقام ، يا حنان يا منان ، يا كثير المعروف ، يا دائم الإحسان.

وعن عمر ـ رضى الله عنه ـ أنه كان يأتى قباء يوم الاثنين ويوم الخميس ، فجاء يوما فلم يجد فيه أحدا من أهله ، فقال : والذى نفسى بيده لقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر ـ رضى الله عنه ـ فى أصحابه ينقلون حجارته على بطونهم ، ويؤسسه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجبريل عليه‌السلام يؤم به البيت.

وحلف عمر ـ رضى الله عنه ـ لو كان مسجدنا هذا فى طرف من الأطراف لضربنا إليه أكباد الإبل (٢).

وفى رواية : «من خرج من بيته حتى يأتى مسجد قباء ويصلى فيه كان كعدل عمرة» أخرجه أحمد والنسائى ، وقال الترمذى : حديث حسن صحيح (٣).

وروت عائشة بنت سعد بن أبى وقاص ـ رضى الله عنها ـ عن أبيها ، قالت :والله لئن أصلى فى مسجد قباء ركعتين أحب إلىّ من أن آتى بيت المقدس مرتين ، ولو يعلمون ما فيه لضربوا إليه أكباد الإبل (٤).

وروى نافع عن ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى إلى الأسطوانة الثالثة فى مسجد قباء التى فى الرحبة.

واختلفوا فى أنه كم تكون المسافة من المدينة إلى قباء. قال بعضهم : ثلاثة

__________________

(١) ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد ٤ / ١١ ، وعزاه للطبرانى ، وفيه موسى بن عبيد ضعيف.

(٢) ذكره ابن الجوزى فى مثير الغرام (ص : ٤٧٥) ، وابن النجار فى الدرة الثمينة ٢ / ٣٨٠.

(٣) أخرجه : أحمد فى مسنده ٣ / ٤٨٧ ، النسائى ٢ / ٣٧ ، الترمذى ٢ / ١٤٦ (الصلاة فى مسجد قباء).

(٤) أخرجه : الحاكم فى المستدرك وصححه ، وابن شبه ١ / ٤٢.

٣٥٥

أميال ، وقال الباجى : هو على ميلين ، وقال القاضى عياض : على ثلثى فرسخ ، والصحيح هو الأول ، وهو مروى عن مالك رحمة الله عليه (١).

ذكر ذرع مسجد قباء

اعلم أن طول المسجد ثمانية وستون ذراعا وعرضه أيضا كذلك ، وارتفاعه إلى السماء عشرون ذراعا ، وطول منارته من سطح المسجد إلى رأسها اثنان وعشرون ذراعا ، وهى على يمين المصلى ، وهى مربعة ، وعدد أسطوانات المسجد تسعة وثلاثون.

__________________

(١) هداية السالك ١ / ١٢١.

٣٥٦

الفصل السادس عشر

فى ذكر زيارة شهداء أحد رضى الله عنهم أجمعين

والأفضل أن تكون زيارتهم يوم الخميس بعد صلاة الفجر فى مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويجتهد أن يعود وقت الظهر إلى المسجد كيلا تفوته فضيلة الجماعة المكتوبة فى مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن أحب أن يصعد الجبل فليصعد.

وفى الحديث الصحيح عن أنس : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان معه ، فرجف بهم ، فضرب برجله ، فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اثبت أحد فإنما عليك نبى وصديق وشهيدان» (١).

وفى الصحيح أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أحد جبل يحبنا ونحبه ، وعير جبل يبغضنا ونبغضه» (٢).

وفى رواية ابن ماجه : إن أحدا على ترعة من ترع الجنة ، وإن عيرا على ترعة من ترع النار» (٣).

وبسند ابن النجار قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحد ركن من أركان الجنة» (٤).

وعن جابر بن عتيك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خرج موسى وهارون عليهما‌السلام حاجين أو معتمرين ، فلما كانا بالمدينة ، مرض هارون عليه‌السلام ، فثقل ، فخاف موسى ـ عليه‌السلام ـ من اليهود ، فدخل به أحدا ، فمات هارون فدفنه فيه» (٥). ونقل ابن زبالة : فحفر له ولحده.

__________________

(١) أخرجه : البخارى ٥ / ٩ (فضائل الصحابة : لو كنت متخذا خليلا ، (ومناقب عمر بن الخطاب) ٥ / ١٥.

(٢) أخرجه : البخارى ٤ / ٣٥ (الجهاد : فضل الخدمة فى الغزو) ، مسلم ٤ / ١٢٣ ، ١٢٤.

(٣) أخرجه : ابن ماجه ٢ / ١٠٤٠.

(٤) الحديث ضعيف (الفوائد المجموعة ص : ٤٦٦).

(٥) أخرجه : ابن شبه ١ / ٨٣ ، والهيثمى فى مجمع الزوائد ٤ / ١٣ ، وعزاه للبزار والطبرانى فى الكبير والأوسط ، وقال : فيه عبد المجيد بن أبى عيسى ، لينه أبو حاتم. وفيه : من لم أعرفه.

٣٥٧

وروى عن أنس ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما تجلى الله تعالى لجبل طور سيناء تشظّى منه شظايا فنزلت بمكة ثلاثة : أحد ، وعير ، وورقان» (١).

وفى رواية ابن زبالة فى أحد : «إنه جبل يحبنا ونحبه جبل ليس من جبال أرضنا». وهو مؤكد لحديث أنس رضى الله عنه ، فأحد معروف ، وعير يقابله من قبلى المدينة وهى بينهما ، وهو جبل أسود.

وقال السهيلى : سمى أحد لتوحده وانقطاعه عن جبال أخر هناك.

وفى قبلى أحد قبور الشهداء السعداء الذين قتلوا بين يدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقال : إنه قتل من المشركين اثنان وعشرون. وقيل : قتل يومئذ خمسة من الأنصار رضى الله عنهم ، وسبعون من المهاجرين رضى الله عنهم. وقيل : قتل من الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ سبعون رجلا. وقيل : خمسة وستون بينهم حمزة بن عبد المطلب عم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحربة وحشى ، وشجّ جبين سيد المرسلين وكسرت رباعيته وجرحت وجنته ودخلت عليه حلقتان من المغفر ، ووقع فى حفرة من الحفر التى كيد بها المسلمون ، فاتقاه طلحة بن عبيد الله رضى الله عنه ، وشقّت شفته السفلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

ولا يعرف من قبور الشهداء اليوم إلا قبر حمزة ، ومعه فى القبر ابن أخيه عبيد الله المجدّع بن جحش ، سمى بذلك : لأنه قتل وجدع أنفه (٣). وعليهما قبة عالية مبيضة بنتها أم الخليفة الناصر لدين الله ابن المستضىء فى سنة سبعين وخمس مائة.

وعند رجل حمزة ـ رضى الله عنه ـ قبر سنقر التركى متولى عمارة المشهد توفى فدفن هنالك.

وفى صحن المشهد قبر قريب من الباب لبعض أشراف المدينة فلا يظن ويتوهم أنهما من شهداء أحد.

__________________

(١) ذكره السيوطى فى الدر المنثور ٣ / ١١٩ ، وعزاه لابن أبى حاتم ، وأبى الشيخ ، وابن مردويه.

(٢) انظر السيرة لابن هشام ٢ / ٧٠ ـ ٩٨.

(٣) السيرة لابن هشام ٢ / ٩٧.

٣٥٨

وفى قبلى مشهد حمزة ـ رضى الله عنه ـ جبيل صغير يسمى عنين بالعين المهملة المفتوحة وكسر النون الأولى ، والوادى بينهما. وكانت الرماة عليه يوم أحد ، وعنده مسجدان أحدهما : فى ركنه الشرقى يقال : إنه الموضع الذى طعن فيه حمزة ، ويقال : مشى إلى هناك ثم صرع. وهناك عين ماء.

والمسجد الآخر : شمالى هذا المسجد على شفير الوادى ؛ يقال : إنه مصرع حمزة رضى الله عنه.

وبين المشهد والمدينة ثلاثة أميال ونصف أو ما يقاربه ، ومنه إلى جبل أحد نحو أربعة أميال. وقيل : دون الفرسخ.

وروى ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ قال : مر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمصعب بن عمير ـ رضى الله عنه ـ فوقف عليه وقال : «أشهد أنكم أحياء عند الله» ، ثم نظر إلينا وقال : «ائتوهم وسلموا عليهم فو الذى نفسى بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردّوا عليه‌السلام إلى يوم القيامة» (١).

وعن أبى اسحاق بن سعيد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتيهم كل عام فيرفع صوته ويقول : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(٢) الآية. وفعل ذلك الخلفاء بعده.

وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة.

ونقل ابن النجار عن بعض العابدات قالت : ركبت يوما حتى جئت إلى قبر حمزة رضى الله عنه ، فصليت ما شاء الله ، ولا والله فى الوادى داع ولا مجيب ، وغلامى آخذ برأس دابتى ، فلما فرغت من صلاتى قمت فقلت : السلام عليكم وأشرت إلى القبر ، فسمعت رد السلام علىّ من تحت الأرض فاقشعر كل شعرة منى ، فدعوت الغلام وركبت ورجعت (٣).

__________________

(١) أخرجه : أبو نعيم فى الحلية ١ / ١٠٨.

(٢) سورة الرعد : آية ٢٤.

(٣) ذكره ابن الجوزى فى مثير الغرام (ص : ٤٩٧) ، وفى إسناده العطاف بن خالد ، حوله كلام.

٣٥٩

الفصل السابع عشر

فى ذكر المساجد التى صلى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

بالمدينة الشريفة

فمنها : مسجد قباء وقد تقدم ذكره (١).

ومنها : مسجد الفضيخ ويعرف اليوم بمسجد الشمس ، وهو شرقى مسجد قباء على شفير الوادى على نشز من المكان وهو صغير جدا.

عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما حاصر بنى النضير ضرب قبة فى موضع مسجد الفضيخ وأقام بها سبعا ، قال : وجاءت آية تحريم الخمر فيها ، وأبو أيوب فى نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى موضعه معهم ومع الصحابة راوية خمر من فضيخ ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا أيوب ، ففتح رأس الراوية فسال الفضيخ. فيه ، فسمى مسجد الفضيخ (٢).

وكان تحريم الخمر فى سنة ثلاث. وقيل : فى سنة أربع على الأصح.

ومنها : مسجد بنى قريظة وهو شرقى مسجد الشمس ، وهو على هيئة مسجد قباء طولا وعرضا.

وذكر ابن النجار أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى فى بيت امرأة من بنى قريظة فأدخل ذلك البيت فى مسجد بنى قريظة.

وروى ابن النجار أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى فى مشربة أم إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا الموضع شمال مسجد بنى قريظة قريبا من الحرّة الشرقية فى موضع يعرف بالدشت بين نخل يعرف بالأشراف القواسم من بنى قاسم بن إدريس بن جعفر أخى الحسن العسكرى لآل شعيب بن جماز منهم.

__________________

(١) تاريخ المدينة ١ / ٥٦.

(٢) تاريخ المدينة ١ / ٦٩ ، خلاصة وفاء الوفا (ص : ٢٦٩).

٣٦٠