إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

محمّد بن إسحاق الخوارزمي

إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

المؤلف:

محمّد بن إسحاق الخوارزمي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

الفصل التاسع

فى ذكر هبوط آدم عليه‌السلام إلى الأرض وبنائه الكعبة وحجه وطوافه بالبيت

اختلف فى المكان الذى أهبط فيه آدم (١) ، فقيل : أهبط بالهند وحواء بجدة.

وقيل : أهبط بسرنديب (٢).

وقيل : أهبط آدم وحواء على جبل بالهند اسمه واسم.

وقيل : آدم بسرنديب. وحواء بجدة ، وإبليس بالأبلة موضع بالبصرة ، والحيّة بأصفهان. كذا فى الكواشى فى تفسير القرآن عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : لما أهبط الله تعالى آدم عليه‌السلام إلى الأرض من الجنة كان رأسه فى السماء ورجلاه فى الأرض ، وهو مثل الفلك (٣) من رعدته.

قال : فطأطأ الله ـ تعالى ـ منه إلى ستين ذراعا ، فقال : يا رب ، ما لى لا أسمع أصوات ملائكتك ولا حسهم؟ قال الله تعالى : خطيئتك يا آدم ، ولكن اذهب فابن لى بيتا وطف به واذكرنى حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشى. قال : فأقبل آدم ـ عليه‌السلام ـ يتخطا ، فطويت له الأرض ، وقبضت له المفازة ، فصار كل مفازة يمر بها خطوة ، وقبض له ما كان من مخاض أو بحر ، فجعل له خطوة ، ولم يقع قدمه فى شىء من الأرض إلا صار عمرانا وبركة ، حتى انتهى إلى مكة ، فبنى البيت الحرام ، وإن جبريل ـ عليه‌السلام ـ ضرب بجناحه الأرض ، فأبرز عن أسّ ثابت فى الأرض السفلى ، فقذفت فيه الملائكة الصخار كل صخرة منها ما تطيق ثلاثون رجلا ، وإنه بناه من خمسة أجبل : من لبنان ، وطور زينا ،

__________________

(١) ينظر عن ذلك : أخبار مكة للأزرقى ١ / ٣٥.

(٢) سرنديب : هى جزيرة سيلان حاليا.

(٣) الفلك : قيل : موج البحر المضطرب ، وقيل : أراد فلكة المغزل حال دورانها (سبل الهدى والرشاد ١ / ١٧٢).

٨١

وطور سيناء ، والجودى ، وجبل حراء ، حتى استوى على وجه الأرض (١).

وقيل : من ستة أجبل : من أبى قبيس ، ومن الطور ، ومن جبل القدس ، ومن ورقان ، ومن رضوى ، ومن أحد (٢).

وقيل : من خمسة أجبل : من حراء ، وثبير ، ولبنان ، والطور ، والجبل الأحمر ، والله أعلم.

قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : وكان أول من أسس البيت وصلى فيه وطاف به آدم ـ عليه‌السلام ـ حتى بعث الله ـ تعالى ـ الطوفان. قال : ولم يقرب الطوفان أرض الهند والسند (٣).

قال : فدرس موضع البيت فى الطوفان حتى بعث الله ـ تعالى ـ إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما‌السلام ـ فرفعا قواعده وأعلامه ، ثم بنته قريش بعد ذلك ، وهو بحذاء البيت المعمور ؛ لو سقط ما سقط إلا عليه.

وعن وهب بن منبّه قال : إن الله تبارك وتعالى لما تاب على آدم ـ عليه‌السلام ـ أمره أن يسير إلى مكة ، فطوى له الأرض ، وقبض له المفاوز ، فصار كل مفازة يمر بها خطوة ، وقبض له ما كان من مخاض ماء أو بحر ، فجعل له خطوة ، فلم يضع قدمه فى شىء من الأرض إلا صار عمرانا وبركة ، حتى انتهى إلى مكة.

وكان قبل ذلك قد اشتد بكاؤه وحزنه لما كان فيه من عظم المصيبة ؛ حتى إن كانت الملائكة لتحزن لحزنه ولتبكى لبكائه ، فعزّاه الله ـ تعالى ـ بخيمة من خيام الجنة ، ووضعها له بمكة فى موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة ، وتلك الخيمة كانت من ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة ، فيها ثلاث قناديل من ذهب من تبر الجنة

__________________

(١) أخرجه : عبد الرزاق (٩٠٩٣) ، والأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣٧ ، وابن سعد فى الطبقات ١ / ٣٨ ، والصالحى فى سبل الهدى والرشاد ١ / ١٧١ ، وقال السهيلى فى الروض الأنف ١ / ١٢٩ : انتبه لحكمة الله تعالى كيف جعل بناءها من خمسة أجبل فشاكل ذلك معناها ؛ إذ هى قبلة الصلوات الخمس وعمود الإسلام الذى بنى على خمس.

(٢) انظر روايات : خمس أجبل فى أخبار مكة ١ / ٦٣ ، وسبعة أجبل ١ / ٥٣ ، أما رواية «ستة أجبل» فلم أعثر عليها إلا فى هداية السالك لابن جماعة ٣ / ١٣٢٤.

(٣) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣٧ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ١٧٢.

٨٢

فيها نور يلتهب من نور الجنة ، ونزل معه الركن وهو يومئذ ياقوته بيضاء من ربض الجنة ، وقيل : من رياض الجنة ، وكان كرسيا لآدم ـ عليه‌السلام ـ.

فلما صار آدم بمكة حرسها الله ـ تعالى ـ وحرس له تلك الخيمة بالملائكة ؛ كانوا يحرسونها ويزودون عنها ساكن الأرض ـ وسكانها يومئذ الجن والشياطين ـ فلا ينبغى لهم أن ينظروا إلى شىء من الجنة ؛ لأن من نظر إلى شىء من الجنة وجبت له ، والأرض يومئذ طاهرة نقية لم تتنجس ، ولم تسفك فيها الدماء ، ولم تعمل فيها الخطايا ؛ فلذلك جعلها الله تعالى مسكنا للملائكة ، وجعلهم فيها كما كانوا فى السماء يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، وكان وقوفهم على أعلام الحرم صفا واحدا مستدبرين بالحرم ، كل الحلّ من خلفهم والحرم كله من أمامهم ، فلا يجوزهم جنّىّ ولا شيطان ، ومن أجل مقام الملائكة حرم الحرم حتى اليوم ، ووضعت أعلامه حيث كان مقام الملائكة.

وحرّم الله ـ تعالى ـ على حواء دخول الحرم والنظر إلى خيمة آدم ، من أجل خطيئتها التى أخطأتها فى الجنة ؛ فلم تنظر إلى شىء من ذلك حتى قبضت ، وأن آدم ـ عليه‌السلام كان إذا أراد لقاءها ليلمّ بها للولد خرج من الحرم كله حتى يلقاها ، فلم تزل خيمة آدم ـ عليه‌السلام ـ مكانها حتى قبض الله ـ تعالى ـ آدم ـ عليه‌السلام ـ ورفعها الله ـ تعالى ـ إلى السماء.

ثم بنى بنو آدم بها من بعدها مكانها بيتا بالطين والحجارة ، فلم يزل معمورا يعمرونه ومن بعدهم حتى كان زمن نوح ـ عليه‌السلام ـ فنسفه الغرق وخفى مكانه ؛ فلما بعث الله ـ عز وجل ـ إبراهيم خليله ـ عليه‌السلام ـ طلب الأساس ، فلما وصل إليه ظلل الله له مكان البيت بغمامة ، فكانت حفاف البيت الأول ، ثم لم تزل راكدة على حفافه تظلل إبراهيم وتهديه مكان القواعد ، حتى رفع إبراهيم القواعد قدر قامته ، ثم انكشفت الغمامة ؛ فذلك قول الله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ). أى : الغمامة التى ركدت على الحفاف لتهديه مكان القواعد ، فلم يزل بحمد الله منذ رفعه الله ـ تعالى ـ معمورا (١).

__________________

(١) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٥١ ـ ٥٢ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ١٧١ ، ١٧٢.

٨٣

قال وهب بن منبّه : وقرأت فى كتاب من الكتب الأولى ذكر فيه أمر الكعبة فوجدت فيه : أن ليس من ملك من الملائكة بعثه الله ـ تعالى ـ إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت ، فينقضّ من تحت العرش محرما ملبيا حتى يستلم الحجر ، ثم يطوف سبعا بالبيت ، ويركع فى جوفه ركعتين ، ثم يصعد (١).

وعن عبد الله بن لبيد ، قال : بلغنى أن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : لما أهبط الله ـ تعالى آدم ـ عليه‌السلام ـ إلى الأرض ، أهبطه إلى موضع البيت الحرام وهو مثل الفلك من رعدته ، ثم أنزل عليه الحجر الأسود ـ يعنى : الركن ـ وهو يتلالأ من شدة بياضه ، فأخذه آدم فضمه إليه ؛ أنسا به ، ثم نزلت عليه العصا ، فقيل له : تخطّ يا آدم ، فتخطى ، فإذا هو بأرض الهند والسند ، فمكث بذلك ما شاء الله ، ثم استوحش إلى الركن ، فقيل له : احجج ، فحج ، فلقيته الملائكة ، فقالوا : برّ حجك يا آدم ؛ لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام (٢).

وعن عثمان بن ساج ، قال : بلغنى أن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ قال لكعب : يا كعب ، أخبرنى عن البيت الحرام ، قال كعب : أنزله الله تعالى من السماء ياقوتة مجوفة مع آدم ، فقال : يا آدم إن هذا بيتى أنزلته معك ، يطاف حوله كما يطاف حول عرشى ، ويصلى حوله كما يصلى حول عرشى. ونزلت الملائكة فرفعوا قواعده من الحجارة ، ثم وضع البيت عليه ، فكان آدم ـ عليه‌السلام ـ يطوف حوله كما كان يطوف حول العرش ، ويصلى عنده كما كان يصلى عند العرش. فلما أغرق الله ـ تعالى ـ قوم نوح ، رفعه الله ـ تعالى ـ إلى السماء ، وبقيت قواعده (٣).

وعن وهب بن منبّه ، قال : كان البيت الذى بوّأه الله ـ تعالى ـ لآدم ـ عليه

__________________

(١) أخرجه : البيهقى فى الشعب (٣٩٩٠) ، الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣٥.

(٢) أخرجه : الأزرقى موقوفا على أبى هريرة (١ / ٤٣) ، وابن الجوزى فى العلل (٩٣٧) ، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور إلى الجندى (١ / ٢٤٥). الديلمى فى الفردوس (٤٨٥١) ، وفيه : محمد ابن زياد اليشكرى الجزرى صاحب ميمون بن مهران الفأفأ ، قال عنه الدارقطنى : كذاب. وقال ابن حبان : كان ممن يضع الحديث ولا يحل ذكره فى الكتب إلا على جهة القدح فيه. وقال عنه الترمذى : ضعيف جدا. وقال عنه النسائى : متروك الحديث.

(٣) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٤٠.

٨٤

السلام ـ يومئذ من ياقوت الجنة ، وكان من ياقوتة حمراء تلتهب إلتهابا ، لها بابان : أحدهما شرقى ، والآخر غربى ، وكان فيه قناديل من نور آنيتها ذهب من تبر الجنة ، وهو منظوم بنجوم من ياقوت أبيض ، والركن يومئذ نجم من نجومه ، وهو يومئذ ياقوته بيضاء (١).

وعن عطاء بن أبى رباح ، قال : لما بنى ابن الزّبير الكعبة أمر العمال أن يبلغوا إلى الأرض ، فبلغوا صخارا مثل الإبل الخلف. قال : فقالوا : إنا بلغنا صخارا معمولة مثل الإبل الخلف ، قال : زيدوا فاحفروا ، فلما زادوا بلغوا هواء من نار تلقاهم. فقال : ما بالكم؟ قالوا : لسنا نستطيع أن نزيد ؛ رأينا أمرا عظيما. فقال لهم : ابنوا عليه. قال : فسمعت عطاء يقول : يرون أن ذلك الصخر مما بنى آدم عليه الصلاة والسلام (٢) ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٤٠ ، ٤١ ، ابن جماعة فى هداية السالك ٣ / ١٣٢١.

(٢) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٤١ ، ابن الجوزى فى العلل (٩٣٧) وتراجع تفاصيل هبوط آدم ووحشته وبناؤه للبيت فى : سبل الهدى والرشاد ١ / ١٧٠ ، شفاء الغرام ١ / ١٤٧ ـ ١٦١ ، أخبار مكة للأزرقى ١ / ٣٥ ، الروض الأنف ١ / ٢٢١ ، عيون الأثر ١ / ١٢١.

٨٥

الفصل العاشر

فى ذكر ما جاء فى حج آدم عليه‌السلام ودعائه لذريته

عن عثمان بن ساج ، قال : حدّثت أن آدم ـ عليه‌السلام ـ خرج حتى قدم مكة ، فبنى البيت ، وأعانت له الملائكة ، فلما فرغ من بنائه ، قال : أى رب ، إن لكل عامل أجرا ، وإن لى أجرا؟ قال : نعم ، فاسألنى ، قال : أى رب ، تردنى من من حيث أخرجتنى. قال : نعم ، لك ذلك. قال : يا رب ، ومن خرج إلى هذا البيت من ذريتى يقر على نفسه بمثل الذى أقررت من ذنوبى أن تغفر له ، قال : نعم ، لك ذلك (١).

وعن أبى المليح أنه قال : كان أبو هريرة ـ رضى الله عنه يقول : حج آدم ـ عليه‌السلام ـ فقضى المناسك ، فلما فرغ من نسكه وقف فى الملتزم ، وقال : يا رب ، إن لكل عامل أجرا ، قال : يا رب ، ولى أجر فبين لى أجرى. قال الله تعالى : نعم ، أما أنت يا آدم فقد غفرت لك ، وأما ذريتك : فمن جاء منهم هذا البيت فباء بذنبه فقد غفرت له على ما كان فيه ولا أبالى. فقال آدم : قد رضيت يا رب. فحج آدم ، فاستقبلته الملائكة بالردم (٢) ، فقالوا : برّ حجك يا آدم ؛ إنا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام. قال : فما كنتم تقولون حوله؟ قالوا : كنا نقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. فكان آدم إذا طاف يقول هذه الكلمات ، وكان طواف آدم سبعة أسابيع بالليل ، وخمسة أسابيع بالنهار (٣).

قال نافع : كان ابن عمر يفعل ذلك ؛ يعنى : طواف آدم.

__________________

(١) أورده ابن الجوزى فى مثير الغرام (ص : ٢٤٩) ولم يعزه.

(٢) يقع هذا الردم فى الجهة الشمالية الغربية من الحرم ، وكان بين باب بنى سهم (باب العمرة حاليا) ، وباب إبراهيم ، وهذه المنطقة منطقة مرتفعة لا يعلوها السيل ؛ فهى عنه بمعزل ، ولا أثر لهذا الردم فى الوقت الحاضر ؛ فكأنه دخل فى توسعات الحرم.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٣٥.

٨٦

وعن عبد الله بن أبى سليمان ـ مولى بنى مخزوم ـ أنه قال : طاف آدم ـ عليه‌السلام ـ بالبيت سبعا بالليل حين أنزل من الجنة ، وأنزل بين الركن والمقام ، ثم صلى تجاه باب الكعبة ركعتين ، ثم أتى الملتزم ، فقال : اللهم إنك تعلم سرى وعلانيتى فاقبل معذرتى ، وتعلم ما فى نفسى وما عندى فاغفر لى ذنوبى ، وتعلم حاجتى فاعطنى سؤلى ، اللهم إنى أسألك إيمانا يباشر قلبى ، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبنى إلا ما كتبت لى ، والرضا بما قضيت علىّ.

فأوحى الله إليه : يا آدم قد دعوتنى بدعوات فاستجبت لك ، ولن يدعونى بها أحد من أولادك إلا كشفت عنه غمومه ، وكففت عليه ضيعته ، ونزعت الفقر من قلبه ، وجعلت الغنى بين عينيه ، وتجرّت له من وراء تجارة كل تاجر ، وأتته الدنيا وهى راغمة ، وإن كان لا يريدها (١).

قال : فمذ طاف آدم ـ عليه‌السلام ـ كانت سنّة.

وعن عثمان بن ساج ، قال : أخبرنى سعيد : أن آدم ـ عليه‌السلام ـ حج على رجليه سبعين حجة ماشيا ، وأن الملائكة لقيته بالمأزمين ، فقالوا : برّ حجك يا آدم ، إنا قد حججنا قبلك بألفى عام (٢).

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ مثله ، وزاد : قال : ما كنتم تقولون فى الطواف؟. قالوا : كنا نقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، فأعلمناه ذلك ، فقال آدم عليه‌السلام : زيدوا فيها : ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فقال إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : زيدوا فيها : العلى العظيم. ففعلت الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ ذلك (٣).

وعن عثمان بن ساج ، عن أبى إسحاق ، قال : بلغنى أن آدم ـ عليه‌السلام ـ لما أهبطه الله تعالى ـ إلى الأرض حزن على ما فاته مما كان يرى ويسمع فى الجنة من

__________________

(١) أخرجه ابن عساكر «مختصر تاريخ دمشق ٤ / ٢٢٣» ، أخبار مكة للأزرقى ١ / ٤٤ موقوفا على عبد الله بن أبى سليمان ، وفيه سليمان بن قسيم ، وقيل : ابن يسير ، أبو الصباح قال عنه ابن حجر فى التقريب (٢٦٢٨) : ضعيف. ومثير الغرام الساكن (ص : ٣٧٤).

(٢) مثير الغرام الساكن (ص : ١١٧).

(٣) أخرجه : المحب الطبرى فى القرى (ص : ٤٦) وعزاه للأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٤٥.

٨٧

عبادة الله تعالى ، فبوأ الله ـ تعالى ـ البيت الحرام ، وأمره بالمسير إليه ، فصار لا ينزل منزلا إلا فجر الله به ماء معينا حتى انتهى إلى مكة ، فأقام بها ، فعبد الله ـ سبحانه وتعالى ـ عند البيت ، وطاف به ، ثم لم تزل مكة داره حتى مات ودفن فى أبى قبيس. ووقت الطوفان حمله نوح معه فى السفينة فى تابوت صنعه من الساج ، فلما رفع الطوفان رده إلى مكانه ، ودفنه فيه.

وقيل : إن سام بن نوح أخرج جسده من السفينة وحمله إلى منى ، ودفنه عند منارة مسجد الخيف.

وكان طوله : ستون ذراعا ، وعرضه : سبعة فى سبعة بذراعه ، وكان أمرد بلا لحية ، وولد له أربعون ولدا فى عشرين بطن ، منهم عشرون ذكرا ، وعشرون أنثى.

وأنزل الله عليه عشر صحائف ، ومات وعمره ألف سنة ، وقيل : ألف إلا تسعين سنة.

واختلف فى المكان الذى أهبط فيه ؛ فقيل : أهبط فى الهند وحواء بجدة ، وقيل : أهبط بسرنديب ، وقيل : أهبط آدم وحواء على جبل بالهند ، والله أعلم.

* * *

٨٨

الفصل الحادى عشر

فى ذكر وحشة آدم عليه‌السلام فى الأرض

حين نزل بها ، وفضل البيت الحرام والحرم

عن وهب بن منبّه أنه قال : إن آدم ـ عليه‌السلام ـ لما أهبط إلى الأرض استوحش فيها لما رأى من شعثها ، ولم ير فيها أحدا غيره. قال : يا رب ، أما لأرضك هذه عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيرى؟ قال الله : إنى سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدى ويقدس لى ، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى ويسبحنى فيها خلقى ، وسأبؤك فيها بيتا أختاره لنفسى وأختصه بكراماتى ، وأؤثره على بيوت الأرض كلها باسمى ، فأسميه بيتى ، وأنطقه بعظمتى ، وأحوزه بحرماتى ، وأجعله أحق بيوت الأرض كلها وأولاها لذكرى ، وأضعه فى البقعة التى اخترتها لنفسى ؛ فإنى اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض وقبل ذلك ، وقد كان بعينى ، فهو صفوتى من البيوت ، ولست أسكنه ، ولا ينبغى لها أن تسعنى ، ولكنى على كرسى الكبرياء والجبروت ، وهو الذى استقل بعزتى ، وعليه وضعت عظمتى وجلالى ، وهنالك استقر قرارى ، ثم هو بعد ضعيف عنى لو لا قوتى ، ثم أنا ملء كل شىء ، وفوق كل شىء ، ومع كل شىء ، ومحيط بكل شىء ، وأمام كل شىء ، وخلف كل شىء ، ليس ينبغى لشىء أن يعلم علمى ، ولا يقدر قدرتى ، ولا يبلغ كنه شأنى ، أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرما وأمنا ، أحرّم بحرماتى ما فوقه وما تحته وما حوله ، فمن حرّمه بحرمتى فقد عظم حرماتى ، ومن أخافهم فقد أخفرنى فى ذمتى ، ومن عظّم شأنه عظم فى عينى ، ومن تهاون به صغر فى عينى. ولكل ملك حيازة مما حواليه ، وبطن مكة حوزتى وحيازتى ، وأهلها جيران بيتى ، وعمارها وزوارها وفدى وأضيافى ، فى كنفى وأفنيتى آمنون علىّ ، فى ذمتى وجوارى ، فأجعله أول بيت وضع للناس ، وأعمره بأهل السماء وأهل الأرض ، يأتونه أفواجا شعثا غبرا على كل ضامر يأتين من كل

٨٩

فج عميق ، يعجون بالتكبير عجيجا ، ويضجون بالتلبية ضجيجا ، وينتحبون بالبكاء نحيبا ، فمن اعتمده لا يريد غيره فقد زارنى ووفد إلىّ ونزل بى ، ومن نزل بى فحقيق علىّ أن ألحقه بكرامتى ، وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه ، وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته ، تعمره أنت يا آدم ما كنت حيا ، ثم تعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء أمة بعد أمة ، وقرنا بعد قرن ، ونبى بعد نبى ؛ حتى ينتهى ذلك إلى نبى من ولدك وهو خاتم النبيين ، فأجعله من عمّاره وسكّانه وحماته وولاته وسقاته ، يكون أمينى عليه ؛ ما كان حيا ، فإذا انقلب إلىّ وجدنى قد دخرت له من أجره وفضيلته ما يمكن القربى منى والوسيلة إلىّ ، وأفضل المنازل فى دار المقام.

وأجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وثناءه ومكرمته لنبى من ولدك يكون فيها من قبل هذا النبى وهو أبوه ، يقال له : إبراهيم ، أرفع له قواعده ، وأقضى على يديه عمارته ، وأنيط له سقايته ، وأريه حلّه وحرمه وموقفه ، وأعلمه مشاعره ومناسكه ، وأجعله أمة واحدا قانتا لى ، قائما بأمرى داعيا إلى سبيلى ، أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم ، ابتليه فيصبر ، وأعافيه فيشكر ، وينذر لى فيفى ، ويعدنى فينجز ، وأستجيب له فى ولده وذريته من بعده ، وأشفعه فيهم ؛ فأجعل لهم ذلك البيت ، وولاته وحماته وسقاته وخدّامه وخزّانه وحجابه ؛ حتى يبتدعوا ويغيروا ؛ فإذا فعلوا ذلك : فأنا الله أقدر القادرين على أن أستبدل من أشاء بمن أشاء ؛ أجعل إبراهيم إمام ذلك البيت ، وأهل تلك الشريعة ؛ يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الإنس والجن ، يطأون فيها آثاره ، ويتبعون فيها سنته ، ويقتدون فيها بهديه. فمن فعل ذلك منهم : أوفى بنذره ، واستكمل نسكه ، ومن لم يفعل ذلك منهم : ضيع نسكه ، وأخطأ بغيته. فمن سأل عنى يومئذ فى تلك المواطن أين أنا ، فأنا مع الشعث الغبر الموفين بنذورهم ، المستكملين مناسكهم ، المبتهلين إلى ربهم الذى يعلم ما يبدون وما يكتمون ، وليس هذا الخلق ولا هذا الأمر الذى قصصت عليك شأنه يا آدم بزائد فى ملكى وعظمتى ولا سلطانى ولا شىء مما عندى ؛ إلا كما زادت قطرة من رشاش وقعت فى سبعة أبحر تمدها من بعدها سبعة أبحر ، لا يحصى بلّ القطرة أزيد فى البحر من هذا الأمر فى شىء مما

٩٠

عندى ، ولو لم أخلقه لم ينتقص شىء من ملكى ولا عظمتى ولا مما عندى من الغنا والسعة إلا كما نقصت الأرض ذرة وقعت من جميع ترابها وجبالها وحصائها ورمالها وأشجارها ونباتها ؛ بل الذرة فى الأرض أنقص فى هذا الأمر لو لم أخلقه لشىء مما عندى (١).

وروى وهب بن منبّه بنحوه أيضا.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٤٦ ـ ٤٨.

٩١

الفصل الثانى عشر

فى ذكر ما جاء فى البيت المعمور ورفعه من الغرق

عن مقاتل ، يرفع الحديث إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حديث حدث به : أن آدم ـ عليه‌السلام ـ قال : أى رب ، إنى أعرف شقوتى ، وإنى لا أرى شيئا من نورك أتعبد فيه ، فأنزل الله تعالى عليه البيت المعمور على عرض البيت فى موضعه من ياقوتة حمراء ؛ ولكن طوله كما بين السماء والأرض ، وأمره أن يطوف به ، فأذهب الله عنه الهم الذى كان يجده قبل ذلك. ثم رفع فى عهد نوح عليه‌السلام (١).

وقال جويبر : كان البيت المعمور بمكة فرفع زمن الغرق فهو فى السماء.

وعن مجاهد ، قال : بلغنى أنه لما خلق الله تعالى السموات والأرض كان أول شىء وضعه فيه البيت الحرام ؛ وهو يومئذ ياقوتة حمراء مجوفة ، لها بابان : أحدهما شرقى ، والآخر غربى ، وجعل مستقبل البيت المعمور ، فلما كان زمن الغرق رفع فى ديباجتين ، فهو فيها إلى يوم القيامة ، واستودع الله الركن أبا قبيس (٢).

وعن مقاتل ـ فى حديث رفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «إنما سمى البيت المعمور ؛ لأنه يصلى فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم ينزلون ، ثم ينصرفون فلا تأتيهم النوبة إلى يوم القيامة» (٣).

وعن عثمان بن ساج ، عن وهب : أنه وجد فى التوراة : أن بيتا فى السماء بحيال الكعبة فوق قبتها اسمه الضراح ؛ وهو البيت المعمور ، يرده كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون فيه أبدا (٤).

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥١.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٠.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٤٩.

(٤) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٤٩ ، والديلمى فى الفردوس (٢٠٤٩).

٩٢

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البيت المعمور الذى فى السماء يقال له الضراح ، وهو مثل بناء البيت الحرام ، ولو سقط لسقط عليه ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون فيه أبدا» (١).

وعن أبى الطفيل ، قال : سأل ابن الكوّاء عليّا ـ رضى الله عنه ـ ما البيت المعمور؟ قال : هو الضراح ، وهو حذاء هذا البيت ، وهو فى السماء السادسة ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون فيه أبدا (٢).

وعن سفيان بن عيينة : نحوه ، إلا أنه زاد : فى السماء السابعة ، وقال : لا يعودون إليه إلى يوم القيامة (٣) ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه : عبد الرزاق فى مصنفه مرسلا عن كريب (٨٨٧٤) ، البيهقى فى الشعب موقوفا (٣٩٩٧) ، والأزرقى أخبار مكة ١ / ٤٩.

وسمى الضراح ؛ لأنه ضرح عن الأرض زمن الطوفان ، وقيل : من المضارحة وهى المقابلة. (النهاية ٣ / ٨١).

(٢) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٤٩ ، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور ٦ / ١٤٤ إلى ابن جرير ، وابن المنذر عن الضحاك ، وعبد الرزاق فى مسنده (٨٨٧٥).

(٣) السيوطى فى الدر المنثور ٦ / ١٤٤ ، وعزاه إلى ابن المنذر ، والعقيلى ، وابن أبى حاتم ، وابن مردويه ، وضعفه.

٩٣

الفصل الثالث عشر

فى ذكر أمر الكعبة بين نوح وإبراهيم عليهما‌السلام

عن مجاهد ، أنه قال : كان موضع البيت قد خفى ودرس من الغرق بين نوح وإبراهيم عليهما‌السلام. قال : وكان موضعه أكمة حمراء ، مدرة لا تعلوها السيول ؛ غير أن الناس يعلمون أن موضع البيت فيما هنالك ولا ينبت موضعه ، وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض ، ويدعو عنده المكروب ؛ فقلّ من دعا هنالك إلا استجيب له ، وكان الناس يحجون إلى مكة إلى موضع البيت يطوفون بذلك حتى بوأ الله ـ تعالى ـ مكانه لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لما أراد عمارة بيته وإظهار دينه وشعائره ، فلم يزل منذ أهبط الله آدم إلى الأرض معظما محرّما يتناسخه الأمم والملل ، أمة بعد أمة ، وملة بعد ملة. وقد كانت الملائكة تحجه قبل آدم ـ عليه‌السلام ـ كما مر من قبل (١) ، والله أعلم.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٢ ، ٥٣.

٩٤

الفصل الرابع عشر

فى ذكر تخيّر إبراهيم عليه‌السلام موضع البيت الحرام من الأرض

عن عثمان بن ساج قال : بلغنا ـ والله أعلم ـ أن إبراهيم الخليل ـ عليه‌السلام ـ عرج به إلى السماء ، فنظر إلى الأرض ؛ مشارقها ومغاربها ؛ وذلك قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(١) فاختار موضع الكعبة ، فقالت له الملائكة : يا خليل الله ، اخترت حرم الله فى الأرض.

قال : فبناه من حجارة سبعة أجبل. قال : ويقول : من خمسة أجبل. وكانت الملائكة تأتى بالحجارة إلى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ من تلك الجبال (٢).

بيت بناه بإذن من رفع العلى

بانى المكارم والعلى وجداء

نقل المليك بعد قلع رضامه

من أجبل طالت على الخضراء

هذاك بيت الله ما من خائف

ومثابة للناس فى العوصاء

وعن مجاهد : أن الله ـ تعالى ـ لما بوأ لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ مكان البيت خرج إليه من الشام ، وخرج معه ابنه إسماعيل وهو طفل يرضع ، وأمه هاجر ، وجاءوا ـ فيما يحدثنى ـ على البراق (٣).

وعن الحسن البصرى ، أنه كان يقول فى صفة البراق ، عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنه أتانى جبريل ـ عليه‌السلام ـ بدابة بين الحمار والبغل ، لها جناحان فى فخذيها يحفرانها ، تضع حافرها فى منتهى طرفها» (٤).

قال محمد بن إسحاق : ومعه جبريل يدلّه على موضع البيت ومعالم الحرم.

__________________

(١) سورة الأنعام : آية ٧٥.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٣.

(٣) سبل الهدى والرشاد ٣ / ١٤٤.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٤.

٩٥

قال : فخرج وخرج معه جبريل ، فلا يمر إبراهيم بقرية من القرى ، إلا قال : يا جبريل ، أبهذا أمرت؟ فيقول له جبريل : امض ، حتى قدم مكة ؛ وهى إذا ذاك عضاة من معلم وسمر ، وبها ناس يقال لهم العماليق خارجا من مكة فيما حولها ، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة. فقال إبراهيم لجبريل ـ عليه‌السلام ـ : أها هنا أمرت أن أضعهما؟ قال : نعم. قال : فعمد بهما إلى موضع الحجر ، فأنزلهما فيه ، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا. ثم قال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)(١) الآية ، ثم انصرف إلى الشام وتركهما عند البيت الحرام (٢).

وعن محمد بن إسحاق ، أنه قال : بلغنى أن ملكا أتى إلى هاجر أم إسماعيل ؛ حين أنزلها إبراهيم بمكة قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت ، فأشار لها إلى البيت ؛ وهى ربوة حمراء مدرة ، فقال لها : هذا أول بيت وضع للناس فى الأرض ، وهو بيت الله العتيق ، واعلمى أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه للناس (٣).

وقال ابن جريج : وبلغنى أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ هزم بعقبه فى موضع زمزم ، وقال لأم إسماعيل ـ وأشار لها إلى موضع البيت ـ : هذا أول بيت وضع للناس ، وهو بيت الله العتيق ، واعلمى أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه ويعمرانه ، فلا يزال معمورا محرما مكرما إلى يوم القيامة (٤).

وعن ابن جريج ـ أيضا ـ قال : فماتت أم إسماعيل قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد ، ودفنت فى موضع الحجر ، وإسماعيل ـ عليه‌السلام ـ لما حضرته الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق أن يدفنه فى الحجر إلى جنب أمه هاجر.

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن الملك الذى أخرج زمزم لهاجر قال لها : وسيأتى أبو هذا الغلام فيبنى بيتا وهذا مكانه ـ وأشار إلى موضع البيت ـ ثم انطلق الملك (٥). وقال ابن عباس : هذا الملك كان غير جبريل عليه‌السلام ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة إبراهيم : آية ٣٧.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٤ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ١٧٣ ، الاكتفا ١ / ٥٢.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٦.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٦.

(٥) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٦.

٩٦

الفصل الخامس عشر

فى ذكر بناء إبراهيم عليه‌السلام الكعبة

عن سعيد بن جبير ، قال : حدثنا عبد الله بن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال :لبث إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فى الشام ما شاء الله أن يلبث ، ثم جاء فى المرة الثالثة فوجد إسماعيل قاعدا تحت الدوحة التى فى ناحية البئر يبرى نبلا له ـ أو نباله ـ وعمره عشرون سنة ، فسلم عليه ونزل إليه فقعد معه ، فقال إبراهيم له : يا إسماعيل إن الله قد أمرنى بأمر. فقال له إسماعيل : فأطع ربك فيما أمرك. فقال إبراهيم : أمرنى ربى أن أبنى له بيتا. فقال له إسماعيل : وأين؟ يقول ابن عباس : فأشار إلى أكمة (١) مرتفعة على ما حولها رضراض (٢) من حصباء ، يأتيها السيل من نواحيها ، ولا يركبها.

يقول ابن عباس : فقاما يحفران عن القواعد ، ويقولان : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.)(٣)

ويحمل له إسماعيل الحجارة على رقبته ، ويبنى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فلما ارتفع البنيان وشق على إبراهيم تناول الحجر منه قرّب له إسماعيل هذا الحجر ـ يعنى : المقام ـ فكان يقوم عليه ويبنى ويحوله فى نواحى البيت حتى انتهى وجه البيت (٤). يقول ابن عباس : فلذلك سمى مقام إبراهيم لقيامه عليه.

وعن وهب بن منبّه ، أنه أخبر ، قال : لما أن بعث الله ـ تعالى ـ إبراهيم خليله ليبنى البيت ؛ طلب الأساس الأول الذى وضعه بنو آدم فى موضع الخيمة التى

__________________

(١) الأكمة : التل ، والجمع : أكم وإكام ، وآكام : (المعجم الوسيط ١ / ٢٣).

(٢) الرضراض : الحصى الصغار فى مجارى الماء ، والقطر الصغار من المطر (المعجم الوسيط ١ / ٣٦٣).

(٣) سورة البقرة : آية ١٢٧.

(٤) أخرجه : البيهقى فى دلائل النبوة ٢ / ٥٢ ، الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٥٩ ، السيوطى فى الخصائص الكبرى ١ / ٧٨ ، الصالحى فى سبل الهدى والرشاد ١ / ١٨٠ ـ ١٨٢.

٩٧

عزّى الله بها آدم ـ عليه‌السلام ـ من خيام الجنة حين وضعت له بمكة فى موضع البيت ، فلم يزل إبراهيم يحفر حتى وصل إلى القواعد التى أسست الملائكة عليها الخيمة ، وأسسه بعده بنو آدم فى زمانهم فى موضع الخيمة ، فلما وصل إليها : أظل الله ـ تعالى ـ له مكان البيت بغمامة ، فكانت حفاف البيت الأول ، ثم لم تزل راكدة على حفافه تظلل إبراهيم وتهديه مكان القواعد حتى رفع القواعد قدر قامته ، ثم انكشطت الغمامة ؛ فذلك قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ)(١) ، أى : الغمامة التى ركدت على الحفاف ؛ ليهتدى بها مكان القواعد ، فلم يزل والحمد لله منذ رفعه الله معمورا (٢).

وعن خالد بن عرعرة ، عن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ فى قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ* فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً)(٣). قال : إنه ليس بأول بيت مطلقا ؛ بل كان نوح ـ عليه‌السلام ـ فى البيوت قبل إبراهيم ، وكان إبراهيم فى البيوت ؛ ولكنه أول بيت وضع للناس فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا بهذه الآيات. قال : إن إبراهيم لما أمر ببناء البيت فضاق به ذرعا ، فلم يدر كيف يبنى ، فأرسل الله ـ تعالى ـ إليه السكينة ؛ وهى ريح خجوج لها رأس ، حتى تطوقت مثل الحجفة (٤) ، فقالت السكينة : ابن علىّ ، فبنى عليها ، وكان يبنى كل يوم ساقا ، ومكة يومئذ شديدة الحر ، فلما بلغ موضع الحجر قال لإسماعيل : اذهب فالتمس لى حجرا أضعه هاهنا ، ليبتدئ الناس به ، فذهب إسماعيل يطوف فى الجبال.

وجاء جبريل ـ عليه‌السلام بالحجر الأسود ، فجاء إسماعيل فقال : من أين لك هذا الحجر؟ قال : من عند من لم يتكل على بنائى وبنائك (٥).

__________________

(١) سورة الحج : آية ٢٦.

(٢) سبل الهدى والرشاد ١ / ١٨١.

(٣) سورة آل عمران : آية ٩٦ ، وانظر : هداية السالك ٣ / ١٣٢٣.

(٤) الحجفة : الترس من جلود بلا خشب ولا رباط من عصب (المعجم الوسيط ١ / ١٦٥).

(٥) أخرجه : البيهقى فى دلائل النبوه ٢ / ٥٦ ، والأزرقى فى أخبار مكة للأزرقى ١ / ٦٠ ـ ٦٣ ، الكلاعى فى الاكتفا ١ / ٤٩ عن الواقدى عن أبى بكر بن سليمان بن خيثمة العدوى ؛ الطبرى فى التفسير ٣ / ٦٩.

٩٨

ويروى عن الشعبى أنه لما بنى ساقا قال لإسماعيل : ائتنى بحجر ، فذهب إسماعيل إلى الوادى يطلب الحجر ، فنزل جبريل ـ عليه‌السلام ـ بالحجر الأسود ـ وقد كان رفع إلى السماء وقت الطوفان ـ وجاء إسماعيل بحجر من الوادى ، فوجد إبراهيم قد وضع الحجر الأسود ، فقال : من جاءك به؟ قال : من لم يكلنى إلى حجرك (١).

ويروى أنه لما غرقت الأرض استودع الله ـ تعالى ـ الحجر الأسود بأبى قبيس ، وقال له : إذا رأيت خليلى يبنى لى بيتا فأعطه إياه ، فلما ابتغى إبراهيم الحجر ، ناداه من أبى قبيس ، فوفى إليه إبراهيم فأخذه ووضعه فى هذا الموضع الذى هو فيه اليوم.

ويروى : أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان يبنى وإسماعيل يناوله الحجر ، حتى إذا بلغ موضع الركن ؛ فإذا النداء من جبل أبى قبيس : يا إبراهيم ، إن لك عندى وديعة فأت فخذها ، فعمد إلى الجبل فبرز له هذا الحجر الأسود ، فوضعه إبراهيم فى هذا الموضع الذى هو فيه اليوم ؛ فلأجل ذلك سمى هذا الجبل أبا قبيس ؛ لأن الحجر الأسود اقتبس منه بعد الطوفان. وقيل : سمى به ؛ لأنه كان فيه رجل يقال له : أبو قبيس بنى فيه البناء ، فلما صعد إليه سمى جبل أبى قبيس (٢).

ثم انهدم البيت فبنته العمالقة ، ثم انهدم فبنته قبيلة من جرهم ، ثم انهدم فبنته قريش. فلما أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود تنازعوا فيه ، فقالوا : أول رجل يدخل علينا من هذا الباب فهو يضعه ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمر بثوب فبسط ، ثم وضعه فيه ، ثم قال : ليأخذ من كل قبيلة رجل من ناحية الثوب ، ثم رفعوه إلى

__________________

(١) أخرجه : الحاكم فى المستدرك ٢ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ؛ وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبى ، والصالحى فى سبل الهدى والرشاد ١ / ١٨٢ ، الاكتفا ١ / ٤٢.

(٢) أخرجه : السيوطى فى الدر المنثور ٤ / ٣٥٤ ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبى حاتم من قول مجاهد ، والفاكهى فى أخبار مكة ٤ / ٤٧ ، وابن جماعة فى هداية السالك ٣ / ١٣٢٤ ، والأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٥١ ، ٥٦ ، ٢ / ٢٦٦.

وأبو قبيس : أحد أخشبى مكة ، وهو الجبل المشرف على الصفا ، وهو ما بين حرف أجياد الصغير إلى السويداء التى تلى الخندمة.

٩٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذه فوضعه بيده المباركة (١).

وقال قتادة فى قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ)(٢) قال : التى كانت قواعد البيت قبل ذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه : عبد الرزاق فى مصنفه (٩١٠٤) ، البيهقى فى الدلائل ١ / ٥٧ ، الفاسى فى شفاء الغرام ١ / ١٥٤ ، الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٦٢.

(٢) سورة البقرة : آية ١٢٧.

١٠٠