إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

محمّد بن إسحاق الخوارزمي

إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

المؤلف:

محمّد بن إسحاق الخوارزمي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

وقد سبقت الأحاديث فى شرفها وتفضيلها.

وأما دليل أبى حنيفة ومن تابعه رضى الله عنهم : قوله عليه الصلاة والسلام : «من فرغ من حجه فليعجل إلى أهله فإنه أعظم لأجره» (١).

ولأن كثرة المشاهدة توجب التبرم وتقلل الحرمة من حيث العادة ولهذا قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى هريرة : «زر غبّا تزدد حبا».

ولأن تقليل الحرمة ذنب والحرمة بمكة والكعبة واجب فيؤدى إلى ترك الواجب وأنه حرام فكان مكروها لأجل هذا. وكان عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ يدور على الناس بالدّرّة بعد قضاء نسك الحج ويقول : يا أهل اليمن يمنكم ، ويا أهل الشام شامكم ، ويا أهل العراق عراقكم (٢).

وقد روى أن عمر ـ رضى الله عنه ـ همّ بمنع الناس من كثرة الطواف ثم قال :خشيت أن ينسى الناس هذا البيت. ولهذا قال ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ حين اختار المقام من مكة إلى الطائف وحواليه : لأن أذنب خمسين ذنبا بركبة أحب إلىّ من أن أذنب ذنبا واحدا بمكة (٣). [وركبة] : موضع بقرب الطائف كثير العشب والماء.

وقال ابن مسعود رضى الله عنه : ما من بلد يؤاخذ العبد فيه بالهمّة قبل العمل إلا مكة ، وتلا هذه الآية : (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)(٤) ومن يرد الميل عن الحق بمجرد الإرادة والنية ، وإلحاد : الميل والباء زائدة كما فى قوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ.) وقال : إن السيئات تتضاعف [فيها] كما تتضاعف الحسنات (٥).

__________________

(١) ذكره ابن جماعة فى هداية السالك ١ / ١٠٣.

(٢) أخرجه : ابن أبى شيبة ١ / ١٦٨ ، والفاكهى ٢ / ٣٠٧. وفيه : عمر بن أبى معروف. منكر الحديث. قال ابن عدى وابن أبى مليكة : لم يدرك عمر (لسان الميزان ٢ / ٣٣٢).

(٣) أخرجه : عبد الرزاق فى مصنفه ٥ / ٢٨ ، الفاكهى فى أخبار مكة ٢ / ٢٥٦. وركبة : أرض تبعد عن مكة ١٦٠ كم ، وعن الطائف ٦٥ كم وهى أرض فسيحة يحدها من الشرق جبل حضن ، ومن الغرب سلسلة جبال الحجاز العليا ، ومن الجنوب جبال عشيرة. (معجم البلدان ٣ / ٦٣ ، معجم معالم الحجاز ٤ / ٦٨).

(٤) سورة الحج : آية ٢٥.

(٥) ينظر عن ذلك فى : القرى (ص : ٦٦٠) ، هداية السالك ١ / ١٠١ ، مثير الغرام الساكن (ص : ٤٣٤) ، شفاء الغرام ١ / ١٣٥.

٢٨١

فلخوف هذه الخصال احترزوا عن القيام والمجاورة فيها ، وبعضهم من أصحاب القلوب الزاهدين الخاشعين المحتاطين فى دين الله تعالى يعللون بعلل أخرى أن فيها خوف ارتكاب المحظورات والخطايا والذنوب إما الكبائر أو الصغائر مثل الاشتغال بالسمر وحكايات الدنيا فى الطواف والمسجد وغير ذلك من الكبائر والصغائر ولكل واحد منهما نتيجة وخواص ، فمن خواص الكبائر : أن يتولد منها مقت الله تعالى وسخطه ، وإطفاء نور المعرفة بالكلية وزوال الولاية.

ومن خواص الصغائر : أن يورث تقليل نور المعرفة وترقيقه لشرف تلك البقعة الشريفة.

واعلم أن معصيته الله تعالى فاحشة حيث وجدت ؛ أما فى حضرة الله تعالى وفى فناء بيته ومحل اختصاصه أفظع وأفحش ، وأن المعصية تتضاعف عقوبتها بالعلم ؛ إذ ليس عقاب من يعلم كعقاب من لا يعلم ؛ كما تتضاعف عقوبة المعصية بسبب شرف مكان الحرم وعظم حرمته. وأى شىء أعظم حرمه وأى شىء أعظم من الذنب فى حوزته وحرمه.

وروى أن بعض الصالحين من الأولياء أقام شهرا بمكة ما وضع جنبيه على الأرض أدبا واحتراما لها (١).

وروى أن محمد بن الجريرى جاور بمكة سنة ثلاث وتسعين ومائتين ولم يتكلم ولم يستند إلى عمود ولا حائط ولم يمد رجليه ، فعبر أبو بكر الكتانى عليه ، وقال له : يا أبا محمد قدرت على هذا الاعتكاف؟ فقال : علم الله صدق باطنى فأعاننى على ظاهرى ، فأطرق الكتانى ومشى متفكرا ، فقال الجريرى :

شكرتك لا إنى أجازيك منعما

بشكر ولا كيما يقال له شكر

واذكر أيامى لديك وحسنها

وآخر ما يبقى على الذاكر الذكر (٢)

وقال السرى السقطى : من جالس الملوك بلا أدب فقد تعرض للقتل.

وقال أبو على الدقاق : ترك الأدب يوجب الطرد ، فمن أساء الأدب على

__________________

(١) القرى (ص : ٦٦٠).

(٢) مثير الغرام (ص : ٤٣٦).

٢٨٢

البساط رد إلى الباب ، ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب.

وقال علىّ رضى الله عنه : من خدم الملوك بغير علم أسلمه الجهل إلى القتل.

وقال يحيى بن معاذ : إذا ترك العارف أدبه عند معروفه فقد هلك مع الهالكين.

وقال الشافعى رحمه الله : سياسة الناس أشد من سياسة الدواب.

وقال عمر بن شيبة : كنت بمكة بين الصفا والمروة فرأيت رجلا راكبا على بغلة وبين يديه غلمان يطوفون ويعنّفون الناس ، قال : ثم بعد حين دخلت بغداد فكنت على الجسر فإذا رجل حاف حاسر طويل الشعر ، قال : فجعلت أنظر إليه وأتأمل فيه ، فقال : ما لك تنظر إلىّ؟ فقلت : شبهتك برجل رأيته بمكة ووصفت له الصفة ، فقال : أنا ذلك الرجل ، فقلت : ما فعل الله [بك]؟ فقال : إنى ترفعت فى موضع يتواضع فيه الناس فوضعنى الله تعالى فى موضع يترفع الناس فيه.

فلخوف هذه الخصال المذمومة وترك الأدب احترزوا عن المقام والمجاورة فيها فإن ذلك كله سبب يخاف فيه لحوق المقت والسخط من الله تعالى وأقله نقصان نور المعرفة ، والمقت هو موت القلب ، ومن مات قلبه زال عنه مولاه ، وحياة القلب حقيقة المعرفة بالمحيى كما أخبر الله فى كتابه : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) أى : بالجهل وهوى النفس فأحييناه أى : بالعلم ومحبة الحق ، وجعلنا له نورا من هدايتنا يمشى به فى الناس ولقوله تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً)(١). أى : حياة حقيقية بتحقق معرفته لا موت بعدها ، بالتجرد عن المواد البدنية والانخراط فى سلك الأنوار السرمدية والتلذذ بكمالات الصفات من مشاهدات التجليات الأفعالية والصفاتية.

ثم أهل المعرفة والعرفان اختلفوا فى حد حقيقة المعرفة وهى حياة القلب بالمحيى على ما ذكرنا.

قال ذو النون المصرى : حقيقة المعرفة هى اطلاع الحق على الأسرار بمواصلة لطائف الأنوار كما أن الشمس إذا طلعت أشرقت الأرض بنورها ، وكذلك الحق إذا طلع على الأسرار أشرقت الأفئدة بنوره.

وقال بعضهم : حقيقة المعرفة هى الغنى الكلى تحت اطلاع الحق سبحانه كما

__________________

(١) سورة النحل : آية ٩٧.

٢٨٣

قيل لأبى يزيد رحمه الله : متى يعرف الرجل أنه على تحقيق المعرفة؟ قال : إذا صار فانيا تحت اطلاع الحق باقيا على بساط الحق بلا نفس ولا سبب ولا خلق ؛ فهو فان باق وباق فان ، وميت حى وحى ميت ، ومحجوب مكشوف ومكشوف محجوب ؛ فعند ذلك يصير هذا العبد والها على باب أمره ، هائما فى ميدان بره ، متذللا تحت جميل ستره ، فانيا تحت سلطان حكمه ، باقيا على بساط لطفه.

وقال بعضهم : حقيقة المعرفة هى عرفان قدر الله تعالى وحرمته كما قال تعالى :(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)(١). وهو الأصح.

وروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو عرفتم الله حق معرفته لعلمتم العلم الذى ليس بعده جهل ، ولزالت الجبال بدعائكم مع أنه لا يبلغ أحد منتهى معرفته» قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا ، إن الله أعظم من أن يبلغ أحدكم منتهى معرفته».

كذا ذكر هذا الحديث الحكيم أبو القاسم السمرقندى فى تصنيفه ، لكن المراد ما ذكرنا أنه لا يعرف قدر الله وحرمته وتعظيمه ؛ ولهذا قال المشايخ : كل عارف يعرف قدر الله وحرمته على قدر معرفته. وقال بعضهم : حقيقة المعرفة نور أسكنه الله تعالى قلوب خواصه.

ثم اعلم أن الناس فى المعرفة على ضربين : خاص وعام ؛ فمعرفة العام معرفة الحق ؛ وهى معرفة الإيمان التى ضدها الكفر والنكرة.

وأما معرفة الخاص هى معرفة التحقيق وهى معرفة القربة والانبساط التى ضدها البعد عن البساط. وهذه معرفة أصفياء الله تعالى وأحبابه الذين يعبدونه على بساط فردانيته ، وقد استنارت قلوبهم بنور وحدانيته. ولهذا قال أبو بكر الواسطى :المعرفة على وجهين : معرفة الإيمان ومعرفة الإيقان على ما قال الله تعالى :(زادَتْهُمْ إِيماناً) أى : يقينا على ما عرف. وفى هذا أقوال كثيرة لا يحتملها هذا البياض فاقتصرت على هذا القدر احترازا عن السآمة.

واعلم أن المعرفة على الحقيقة نور من أنوار الرب جلّ وعلا نوّر به قلوب أهل النور ، لا يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبى مرسل ولا أحد دون الله تعالى.

__________________

(١) سورة الأنعام : آية ٩١.

٢٨٤

ولا شىء أعظم وأعزّ فى حق الله تعالى من المعرفة على ما بينا ، وغرضنا من هذا كله أن المحتاطين فى دين الله تعالى كرهوا المجاورة فى بيت الله تعالى خوفا من فوات هذا النور بترك الحرمة والتعظيم ومعرفة قدره ، ولهذا قال بعضهم : إذا كنت فى بلدك وقلبك مشتاق إلى الكعبة ومتعلق بها خير من أن تكون أنت فيها وقلبك فى بلد آخر.

ولهذا قال بعض السلف : كم من غائب بخراسان وهو أقرب إلى البيت من رجل يطوف به.

ثم بعض العلماء من المحتاطين فى الدين يكرهون المنع من الإقامة والمجاورة أيضا بها ؛ لأنه منع من الطاعة والعبادة ، ويحتمل أن المجاورة قد تفى بحق الكعبة وما يتعلق به من التعظيم والحرمة ، والأدلة من الجانبين قد تقدمت فليتأمل ؛ فالحاصل من اختلافهم وأقوالهم أن من لم يقدر على الوفاء بحقه كما يجب وينبغى فترك المقام والمجاورة أفضل له لما فيه من وجود التقصير والتبرم والإخلال بحرمته وتعظيمه وتوقيره كما هو المشروع. ومن قدر على المجاورة والإقامة بها على وجه يتمكن من الوفاء بحقه وحرمته وتعظيمه على وجه تبقى تلك الحرمة فى عينه كما دخل فيها أولا ، فهيهات هيهات فذلك الفوز العظيم والفضل الجسيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء الذى لا يوازيه شىء على ما نطق به سيد البشر صلوات الله عليه وسلامه : «إن النظر إلى الكعبة عبادة ، ومن نظر إلى البيت نظرة إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» (١).

وفى رواية : «من نظر إلى البيت من غير طواف ولا صلاة تطوعا فذلك عند الله أفضل من عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها» (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، فإن صلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة إذا صلاها وحده ، وإن صلاها فى جماعة فإنها بألفى صلاة وخمسمائة ألف

__________________

(١) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ٢ / ٩ ، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور ١ / ٢٥٠ إلى الجندى ، وابن الجوزى فى مثير الغرام (ص : ٢٧٦) ، وابن جماعة فى منسكه ١ / ٧٥.

(٢) ذكره ابن جماعة فى منسكه ١ / ٧٥.

٢٨٥

صلاة ، وصلاة الرجل فى المسجد الحرام كله إذا صلاها وحده بمائة ألف صلاة ، وإذا صلاها فى جماعة فصلاته بألفى ألف صلاة وخمس مائة ألف صلاة ؛ فذلك خمسة وعشرون مرة مائة ألف صلاة ، ومن جلس مستقبل الكعبة ساعة واحدة إيمانا واحتسابا لله تعالى ورسوله وتعظيما للقبلة كان له مثل أجر الحاجين والمعتمرين والمجاهدين والمرابطين فى سبيل الله ، وإن الله عزّ وجلّ ينظر إلى خلقه فى كل يوم ثلثمائة وستين نظرة ، فأول من ينظر الله إليه منهم ينظر إلى أهل حرمه وأمنه فمن رآه طائفا غفر له ، ومن رآه قائما غفر له ، ومن رآه جالسا مستقبل القبلة غفر له. فتقول الملائكة : إلهنا وسيدنا ما بقى إلا النائمون ، فيقول الله تعالى :

ألحقوهم بهم فهم جيران بيتى ، ألا وإن أهل مكة هم أهل الله وجيران بيته الحرام ، وحملة القرآن هم أهل الله وخاصته» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اعتمر فى شهر رمضان عمرة فكأنما حج معى حجة ، ومن صام شهر رمضان بمكة فصام منه كله وقام منه ما تيسر كتب الله له مائة ألف شهر رمضان بغيرها ، وكان له بكل يوم مغفرة وشفاعة ، وبكل ليلة مغفرة وشفاعة ، وبكل ليلة حملان فرس فى سبيل الله» (٢).

فإحراز هذه الفضيلة جرّ ذيل إلى المجارة بها مع اعترافى بأنى غير موف بحقها كما هو الشرع فى الشريعة. اللهم وفقنا على طاعتك وجنبنا عن معصيتك ، وثبتنا على مجاورة بيتك. وإن أخرجنا منها فارزقنا العود إليها ، وهب لنا حقيقة الإيمان بك والتوكل عليك ، وامنن علينا بما يقربنا منك مقرونا بالعوافى فى الدارين برحمتك يا أرحم الراحمين.

__________________

(١) أخرجه : ابن حبان فى موارد الظمآن (ص : ٢٥٤) ، وأحمد فى مسنده ٤ / ٥ الجزء الأول منه ، والمنذرى فى الترغيب ٢ / ٢١٤ ، وعزاه لابن خزيمة والبزار بنحوه.

(٢) ذكره السيوطى فى الجامع الكبير ١ / ٧٧٦ وعزاه للديلمى ، وفيه : أحمد بن سليمان ، صدوق له أغلاط ، ضعفه بسببها أبو حاتم (التقريب ١ / ١٧). وعبد الله بن منصور ، سكت عنه الخطيب فى تاريخ بغداد ١٠ / ١٧٨.

٢٨٦

الفصل الرابع والخمسون

فى ذكر ما جاء فى بناء المسجد الحرام ومن بناه أولا (١)

قال أبو الوليد الأزرقى والإمام أقضى القضاة الماوردى البصرى فى كتابه «الأحكام السلطانية» وغيرهما من الأئمة المعتبرين ـ وفى كلام بعضهم زيادة على كلام بعض ـ : أما المسجد الحرام فكان فناء حول الكعبة وفضاء للطائفين (٢) ، ولم يكن له على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر ـ رضى الله عنه ـ جدار يحيط به وإنما كانت الدور محدقة به ، وبين الدور أبواب يدخل الناس منها من كل ناحية.

فلما استخلف عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ وكثر الناس وسع المسجد واشترى دورا فهدمها وأدخلها فيه ، ثم أحاط عليه جدارا قصيرا دون القامة ، وكانت المصابيح توضع عليه ، وكان عمر ـ رضى الله عنه ـ أول من اتخذ الجدار للمسجد الحرام (٣).

ثم لما استخلف عثمان ـ رضى الله عنه ـ ابتاع المنازل ووسع الحرم بها أيضا وبنى المسجد والأروقة ، فكان عثمان أول من اتخذ للمسجد الأروقة (٤).

ثم إن ابن الزّبير ـ رضى الله عنه ـ زاد فى المسجد زيادة كثيرة واشترى دورا وأدخلها فيه (٥).

__________________

(١) انظر : أخبار مكة للأزرقى ١ / ٣٢ وما بعدها ، والروض الأنف ١ / ٢٢١ ، تهذيب الأسماء واللغات ٢ / ٢ : ١٢٤ ، أخبار مكة للفاكهى ٥ / ، مروج الذهب ٢ / ٤٧ ، الأحكام السلطانية (ص : ١٦٠).

(٢) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٣٢.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ٦٩ ، تاريخ الطبرى ٤ / ٢٠٦ ، إتحاف الورى ٢ / ٨ ، شفاء الغرام ١ / ٢٢٤. الكامل ٢ / ٢٢٧ ، وكانت هذه الزيادة سنة (١٧ ه‍).

(٤) أخبار مكة للفاكهى ٢ / ١٥٨ ، تاريخ الطبرى ٥ / ٤٧ ، إتحاف الورى ٢ / ١٩ ، شفاء الغرام ١ / ٢٤ ، الكامل ٣ / ٣٦.

(٥) الروض الأنف ١ / ٢٢١ ، الكامل ٤ / ٢٠٧ ، العبر / وفيات سنة ٧٣ ه‍ ، أخبار مكة للأزرقى ١ / ٢٠٥ ، أخبار مكة للفاكهى ٢ / ١٥٩ ، شفاء الغرام ١ / ١٥٦.

٢٨٧

ثم عمره عبد الملك بن مروان ولم يزد فيه ولكن علا جداره وسقفه بالساج المزخرف (١).

ثم إن الوليد بن عبد الملك وسع المسجد وحمل إليه أعمدة الرخام (٢).

ثم إن المنصور زاد فى شقه الشامى وجعل فيه عمد الرخام (٣).

ثم زاد المهدى بعده مرتين : إحداهما : سنة ستين ومائة (٤). والثانية : سنة سبع وستين ومائة إلى سنة تسع وستين (٥). وفيها توفى المهدى. واستقر على ذلك بناؤه إلى يومنا هذا ، وكانت الكعبة فى جانب من المسجد فأحب أن تكون فى الوسط فاشترى الدور من الناس ووسّطها ، ذكر ذلك من ذكرناه ، والحافظ أبو الفرج فى «مثير الغرام» ، وحكى الجميع النووى فى مناسكه. كذا فى كتاب «القرى فى فضائل أم القرى» (٦).

واعلم أن البيت فى وسط المسجد الحرام والمسجد فى وسط مكة ، والصفا خارج المسجد من الجانب الشرقى ، والصفا فى جهة الجنوب ، والمروة كذلك فى الجانب الشمالى ، ومنى خارج مكة من الجانب الشرقى تميل إلى الجنوب قليلا ، ومزدلفة فوق منى من الجانب الشرقى أيضا ، وعرفات فوق مزدلفة من الجانب الشرقى أيضا تميل إلى الجنوب بحيث لو صلى رجل فى موضع من هذه المواضع يتوجه إلى المغرب الشمالى.

ثم اعلم أن الذراع أربعة وعشرون أصبعا مضمومة سوى الإبهام ، وذرع البيت العتيق إلى جانب السماء : سبعة وعشرون ذراعا ، ومن الركن الأسود إلى الركن

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٢١٢ ، شفاء الغرام ١ / ٢٢٥.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٢١٣ ، شفاء الغرام ١ / ٢٢٥.

(٣) شفاء الغرام ١ / ٢٢٦ ، إتحاف الورى ٢ / ١٧٣ ، الإعلام بأعلام بيت الله الحرام (ص : ٨٩). وكان ذلك عام (١٣٨ ه‍).

(٤) المحبر (ص : ٣٦) ، مروج الذهب ٤ / ٤٠٢ ، الكامل ٦ / ١٨ ، تاريخ الخميس ٢ / ٣٣ ، الذهب المسبوك (ص : ٤٢).

(٥) تاريخ الطبرى ١٠ / ٩ ، إتحاف الورى ٢ / ٢١٧.

(٦) القرى (ص : ٦٦٠).

٢٨٨

العراقى أربعة وعشرون ذراعا وربع ذراع وشبر ، ومن العراقى إلى الشامى اثنان وعشرون ذراعا ، ومن الشامى إلى اليمانى أربعة وعشرون ذراعا ، وشبر ومن اليمانى إلى الركن الأسود أحد وعشرون ذراعا وشبر ، وعرض جدار البيت ذراعان.

وللبيت سقفان أحدهما فوق الآخر. وفى البيت ثلاثة أعمدة مصطفة على طول البيت كلها من الخشب. وعرض الباب أربعة أذرع. وعرض سطح الكعبة ثمانية عشر ذراعا فى خمسة عشر ذراعا. والميزاب فى وسط الجدار الذى يلى الحجر ، وطول باب الكعبة إلى جانب السماء ستة أذرع وعشرة أصابع. والباب من خشب الساج مضبب بصفائح من الفضة. وعرض الملتزم وهو ما بين الباب والحجر الأسود أربعة أذرع. وعرض الحجر أى القدر الذى يرى منه شبر وأربع أصابع مضمومة. وعرض الذى يصلى عليه خلف مقام إبراهيم عليه‌السلام سبعة أشبار وطوله عشرة أشبار. ومن الحجر الأسود إلى المقام سبعة وعشرون ذراعا. ومن الكعبة إلى زمزم ثلاثة وثلاثون ذراعا. وذرع ما بين المقام إلى زمزم أحد وعشرون ذراعا. وذرع بئر زمزم من أعلاها إلى أسفلها سبع وستون ذراعا. وعرض رأس البئر أربعة أذرع فى أربعة أذرع.

وأما المسجد : ففى الجانب الشرقى الذى هو مقابل باب الكعبة.

والمقام فيه ثلاثون طاقة. ومن الأساطين ستة وتسعون أسطوانة كلها من مرمر أو رخام ، وفى هذا الجانب أربعة أبواب : باب بنى شيبة ، ويعرف قديما بباب السيل.

وباب الخلفاء ، وباب بنى عبد شمس ، وباب السلام ، وباب جبريل عليه‌السلام ، وباب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وباب الجنائز ـ ويعرف بباب العباس ـ وباب علىّ ـ رضى الله عنه ـ وقديما بباب بنى هاشم.

وفى الجانب الشامى الذى يلى الحطيم من الطاقات أربعة وأربعون طاقة. ومن الأساطين مائة وثمانية وثلاثون أسطوانة. وفيه ثلاثة أبواب : باب دار الندوة ، وباب دار العجلة ، وباب شدة الوهوط ، وبابان آخران : باب السويقة ويعرف بباب

٢٨٩

الزيادة ، والباب الثانى باب الدريبة.

وفى الجانب الغربى وهو مما يلى خلف الكعبة من الطاقات سبعة وثلاثون طاقة ، ومن الأساطين مائة وأربعون أسطوانة. وفى هذا الجانب أربعة أبواب : باب العمرة ويعرف بباب بنى سهم ، وباب دار زبيدة ، وباب إبراهيم الأصفهانى رحمه الله ، وباب الحزورة ويعرف بباب الصدر ، وباب الحزاميين.

وفى الجانب الجنوبى وهو جانب اليمن من الطاقات أربعة وأربعون طاقة ، ومن الأساطين مائة وأربعون أسطوانة ، وأبواب هذا الجانب سبعة : باب أبى جهل ويعرف بباب أم هانئ ، وباب الملاعبة ، وباب بنى جميع ، وباب العلّافين ويعرف بباب الرحمة ، وباب التمّارين ويعرف بباب المجاهدية ، وباب الجياد ، وباب الصفا ويعرف بباب بنى مخزوم ، وباب الخياطين ويعرف بباب الظلة ، وبباب البغلة ، وباب القائد ويعرف بباب العيون وأوّلا بباب بنى عابد وباب بنى سفيان وباب بازان.

وقيل : ذرع جميع المسجد مائة ألف ذراع وعشرون ألف ذراع.

واعلم أن باب الصفا فى جانب الحجر الأسود ومنه يصعد إلى الصفا.

والصفا والمروة جبلان يصعد عليهما من يسعى ، ولم يكن فيهما بناء ولا درج إلى زمن أبى جعفر ، فبنى هو على الصفا اثنتى عشرة درجة وعلى المروة خمسة عشر درجة. ومن الكعبة إلى الصفا مائتى ذراع واثنان وستون ذراعا وثمانية عشر أصبعا.

وموضع السعى بين الميلين الأخضرين مائة ذراع واثنا عشر ذراعا.

ومن الصفا إلى المروة طواف واحد : سبع مائة ذراع وستة وستون ذراعا ونصف.

وأما منى : فإن حده من جمرة العقبة إلى وادى محسّر ومن جمرة العقبة ؛ وهى أول الجمار مما يلى مكة إلى الجمرة الأولى ، وهى التى تلى مسجد الخيف ثلثمائة ذراع وخمسة أذرع.

والمشعر الحرام : ما بين جبلى مزدلفة.

٢٩٠

وحدّ وادى محسّر من القرن الأحمر إلى منقطع السيل الذى يهبط إلى بطن محسّر.

ومن مزدلفة إلى عرفات أربعة أميال.

ومن مكة إلى منى أربعة أميال ، ومن أول عرفات إلى موقف الإمام ميل ، ومن مكة إلى موقف الإمام بريد ، والبريد اثنا عشر ميلا وهو أربع فراسخ.

وذكر أبو الليث عن الهندوانى : أن حد الحرم من جانب الشرق ستة أميال ، ومن الجانب الآخر اثنا عشر ميلا. ومن الجانب الثالث ثمانية عشر ميلا ، ومن الجانب الرابع أربعة وعشرون ميلا.

وهذا ما ذكره الإمام السيد الزاهد العالم قاضى القضاة جمال الدين أبو سعيد المطهر بن الحسين بن سعيد بن على اليزدى ـ رحمه الله ـ فى كتاب له مفرد فى المناسك كذا فى السحامى من قوله : واعلم أن البيت فى وسط المسجد الحرام إلى هنا. رحمهم الله تعالى رحمة واسعه.

وهذه صورة المسجد الحرام والكعبة المعظمة المشرفة والصفا والمروة (١) شرف الله قدرها وعظّم أمرها. وصلى الله على سيدنا محمد وأله وصحبه وسلم (٢).

يتلوه القسم الثانى فى فضل المدينة الشريفة.

__________________

(١) أوردت مصادر ترجمة المؤلف أنه كان يرسم صورا للمسجد الحرام ، ويهادى بها الناس.

(٢) انظر عن هذا كله : أخبار مكة للفاكهى ٢ / ١٨١ ـ ٢٤٥ ، أخبار مكة للأزرقى ١ / ٢٨٩ ، هداية السالك ٣ / ١٣٣٤ ، المسالك والممالك (ص : ١٣٢) ، الأحكام السلطانية (ص : ١٥٢) ، رحلة ابن جبير (ص : ٦٨).

٢٩١

٢٩٢

القسم الثانى

فى ذكر فضيلة المدينة وزيارة قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يضاف إليها

وفيه خمسة وعشرون فصلا :

الفصل الأول : فى ذكر نسب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلفائه رضى الله عنهم.

الفصل الثانى : فى ذكر أسامى المدينة وفضل سكانها.

الفصل الثالث : فى ذكر فضيلة المدينة وفضل سكانها.

الفصل الرابع : فى ذكر كيفية فتح المدينة.

الفصل الخامس : فى ذكر وصية النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الفصل السادس : فى ذكر فضيلة المقام والمجاورة وفضل الموت فيها.

الفصل السابع : فى ذكر فضيلة مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الفصل الثامن : فى ذكر فضيلة الروضة والمنبر الشريفين.

الفصل التاسع : فى ذكر زيارة القبر المقدس.

الفصل العاشر : فى ذكر الأسطوانة المخلقة.

الفصل الحادى عشر : فى ذكر أسطوانة التوبة.

الفصل الثانى عشر : فى ذكر آداب زيارة القبر المقدس.

الفصل الثالث عشر : فى ذكر الكلمات المروية من زوار قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الفصل الرابع عشر : فى ذكر زيارة البقيع.

الفصل الخامس عشر : فى ذكر زيارة مسجد قباء.

الفصل السادس عشر : فى ذكر زيارة شهداء أحد.

٢٩٣

الفصل السابع عشر : فى ذكر المساجد التى صلى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الفصل الثامن عشر : فى ذكر الآبار التى كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ ويغتسل ويشرب منها.

الفصل التاسع عشر : فى ذكر بعض خصائص مدينة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الفصل العشرون : فى ذكر الاختلاف فى نقل تراب المدينة.

الفصل الحادى والعشرون : فى ذكر ما يتعلق بمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الفصل الثانى والعشرون : فى ذكر حجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الفصل الثالث والعشرون : فى ذكر أن بعد بناء عمر بن عبد العزيز هل دخل أحد فى بيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الفصل الرابع والعشرون : فى ذكر المنبر والشريف والأسطوانة الحنانة.

الفصل الخامس والعشرون : فى ذكر رجوع الحاج إلى وطنه وبلده وأهله.

* * *

٢٩٤

الفصل الأول

فى ذكر نسب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

فهو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصىّ بن كلاب بن مرةّ بن كعب بن لؤىّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان بن أدّ (١) ابن أدد بن المقوم بن ناجور بن يبرح بن يشجب بن يعرب بن يشجب بن ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم ـ خليل الرحمن عليه‌السلام ـ بن تارخ ـ وهو آذر ـ بن ناخور ابن شاروح بن راعو بن فالح بن غبير بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لابك بن متوشلح بن أخنوخ ـ وهو إدريس عليه‌السلام ـ فيما يزعمون ، وهو أول نبى أعطى النبوة وخط بالقلم ، وهو ـ ابن يزد بن مهليل بن قتيز بن يانس بن شيث بن آدم عليه‌السلام (٢).

ذكر هذا النسب محمد بن إسحاق بن يسار المدنى فى إحدى الروايات عنه.

وإلى عدنان متفق على صحته من غير شك واختلاف. واختلفوا فيما فوقه ؛ لأن عائشة رضى الله عنها قالت : ما سمع من النسب فوق عدنان إلا من اليهود.

ولما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ)(٣) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذب النسابون» والبخارى رحمه الله لم يتعد فى الصحيح فوق عدنان.

وروى عن ابن عباس قال : كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا انتهى إلى عدنان أمسك ثم يقول : كذب النسابون.

__________________

(١) كل الطرق تقول : «عدنان بن إدد» إلا طائفة واحدة تقول : «عدنان بن أد بن أدد».

(٢) السيرة لابن هشام ١ / ٢ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ٢٨٠.

(٣) سورة إبراهيم : آية ٩.

٢٩٥

وقريش هو فهر بن مالك. وقيل : النّضر بن كنانة (١).

وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن لؤى بن غالب.

مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال بعضهم : ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة عام الفيل فى شهر ربيع الأول لليلتين خلتا منه ، يوم الاثنين (٢).

وقال بعضهم : بعد عام الفيل بثلاثين عاما. وقال بعضهم : بأربعين عاما (٣).

والصحيح أنه ولد عام الفيل (٤).

ومات أبوه عبد الله بن عبد المطلب ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أتى عليه ثمانية وعشرون شهرا (٥).

وقال بعضهم : مات أبوه وهو ابن سبعة أشهر (٦).

وقال بعضهم : مات أبوه فى دار النابغة وهو حمل (٧).

وقيل : مات بالأبواء بين مكة والمدينة (٨).

__________________

(١) انظر : سبل الهدى والرشاد ١ / ٣٣٢ ، سنن ابن ماجه (٢٦١٢). وقال ابن شهاب : إن من جاور فهرا فليس من قريش ، وبه قال الشعبى وهشام بن محمد الكلبى ، وصححه الحافظ شرف الدين الدمياطى ، والحافظ العراقى.

أما محمد بن إسحاق وأبو عبيد القاسم بن سلام ، والإمام الشافعى فقالوا : إن قريشا هم بنو النضر بن كنانه ، وهو الصحيح كما ورد فى الحديث الذى رواه ابن ماجه فى سننه عند ما قدم عليه الأشعث بن قيس ـ رضى الله عنه ـ وقال له : ألستم منا يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا.

نحن بنو النضر بن كنانة ، لا نقفوا أمنا ولا ننتفى من أبينا». سنن ابن ماجه (٢٦١٢).

(٢) هذا هو الرأى الصحيح مما ورد فى : صحيح مسلم (الصيام : ١٩٧) ، أحمد ٢ / ٢٠٠ ، سنن أبى داود ١ / ٢٤١ ، مستدرك الحاكم ٢ / ٦٠٣.

(٣) انظر عن ذلك : الروض الأنف ١ / ١٠٧ ، طبقات ابن سعد ١ / ٦٢ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ٤٠٥.

(٤) انظر : السيرة لابن هشام ١ / ١٥٨ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ٤٠٣ ، ٤٠٤.

(٥) السهيلى فى الروض الأنف ١ / ١٠٧ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ٣٩٨.

(٦) سبل الهدى والرشاد ١ / ٣٩٨.

(٧) هذا هو الرأى الذى عليه الأكثرين ، انظر : السيرة لابن هشام ١ / ١٥٨ ، الروض الأنف ١ / ١٠٧ ، طبقات ابن سعد ١ / ٦١ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ٣٩٨.

(٨) أكثر العلماء قالوا بأن عبد الله مات عند أخواله بنى النجار ، ويقال إنه دفن فى دار النابغة فى

٢٩٦

وقال عبد الله بن الزّبير بن بكّار الزّبيرى : توفى عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن شهرين ، وماتت زوجته وهو ابن أربع سنين ، ومات جده عبد المطلب وهو ابن ثمانى سنين ، وقيل : ماتت أمه وهو ابن ست سنين.

وأرضعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثويبة جارية أبى لهب ، وأرضعت معه حمزة بن عبد المطلب وأبا سلمة عبد الله بن عبد الأسود المخزومى وأرضعتهم بلبن ابنها مسروح. وأرضعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا حليمة بنت أبى ذوئب السعدية (١).

ونشأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتيما يكفله جده عبد المطلب وبعده عمه أبو طالب بن عبد المطلب ، وطهره الله تعالى من دنس الجاهلية ومن كل عيب ، ومنحه كل خلق حسن حتى لم يكن يعرف بين قومه إلا بالأمين ؛ لما شاهدوا من أمانته وصدق حديثه وطهارته.

فلما بلغ عمره اثنا عشر سنة خرج مع عمه أبى طالب إلى الشام حتى بلغ إلى بصرى فرآه بحيرا الراهب (٢) فعرفه بصفاته ، فجاء إليه وأخذ بيده وقال : هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقيل له : وما علمك بذلك؟ قال : إنكم حين أقبلتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرّ له ساجدا. ولا يسجد إلا لنبى ، وإنّا نجد فى كتبنا كذلك. وسأل أبا طالب أن يرده خوفا عليه من اليهود (٣).

ثم خرج ثانيا إلى الشام مع ميسرة ـ غلام خديجة ـ رضى الله عنها ـ فى تجارة لها قبل أن يتزوجها حتى بلغ إلى سوق بصرى ، فباع تجارته ، فلما رجع وبلغ خمسا وعشرين سنة تزوج خديجة ـ رضى الله عنها (٤).

__________________

الدار الصغرى. وكان عمره عند وفاته خمس وعشرون سنة. (يراجع فى ذلك : طبقات ابن سعد ١ / ٦٢ ، السيرة لابن هشام ١ / ١٥٨ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ٣٩٨.

(١) السيرة لابن هشام ١ / ١٦٨ ، ١٦٩.

(٢) هو : جرجيس ، ويقال : سرجس ، وجرجس. حبر من أحبار يهود تيماء ـ كما قيل ـ كان نصرانيا من بنى عبد القيس. (انظر : السيرة لابن هشام ١ / ١٨٠ ، المواهب اللدنية ١ / ١٩٢).

(٣) أخرجه : الترمذى (٣٦٢٠) ، مشكاة المصابيح (٥٩١٨).

(٤) انظر فى زواج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخديجة : السيرة لابن هشام ١ / ١٨٧ ، مسند أحمد ١ / ٣١٢.

٢٩٧

فلما بلغ أربعين سنة اختصه الله تعالى بكرامته وبعثه برسالته ؛ أتاه جبريل عليه‌السلام وهو بغار حراء ـ جبل بمكة ـ وأقام بها بعد البعث ثلاث عشر سنة. وقيل : خمس عشرة سنة. وقيل : عشرا (١). والصحيح هو الأول.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى إلى بيت المقدس مدة إقامته بمكة وما كان يستدبر الكعبة بل يجعلها بين يديه ، ثم هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ ومولى أبى بكر عامر بن فهيرة ، وكان دليلهم عبد الله بن أريقط ، وهو كافر ولم يعرف له إسلام ، فأقام بالمدينة عشر سنين كوامل ، وتوفى بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسيجىء ذكر وفاته بعد إن شاء الله تعالى.

ذكر أنساب الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم أجمعين

أبو بكر الصديق رضى الله عنه : ولد بمنى ، واسمه : عبد الله بن أبى قحافة ، واسم أبى قحافة : عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب التيمى القرشى (٢). وكان اسمه : عبد الكعبة فسماه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله (٣).

قال ابن قتيبة : ولقبه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتيقا لجمال وجهه ، وسماه الصديق. وكان على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ يحلف بالله أن الله أنزل اسم أبى بكر من السماء الصديق (٤).

يلتقى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مرة بن كعب. وهو أول من أسلم ، ولم يفته مشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال فى الملخص : اختلف فى أول من أسلم منهم فقيل : أبو بكر. وقيل : علىّ. وقيل : زيد بن حارثة. وقيل : بلال. وادّعى الثعلبى المفسر اتفاق العلماء

__________________

(١) هذا هو الرأى الصحيح الذى عليه رأى العلماء وهو الموافق لما فى صحيح البخارى (٣٩٠٢) ، دلائل النبوة للبيهقى ٢ / ١٣١.

(٢) السيرة لابن هشام ١ / ٢٤٩.

(٣) أخرجه : المحب الطبرى فى القرى (ص ٦٧١) بلفظ : «يفتح الشام» وعزاه لمسلم فى صحيحه.

(٤) أخرجه : البخارى ٣ / ٢٠ (حرم المدينة) ، مسلم ٤ / ١١٥ ، ١١٦ (فضل المدينة).

٢٩٨

على أن أول من أسلم خديجة بنت خويلد وأن اختلافهم إنما هو فى أول من أسلم بعدها. والأورع أن يقال : أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر ، ومن الصبيان علىّ ، ومن النساء خديجة ، ومن الموالى زيد بن حارثة ، ومن العبيد بلال رضى الله عنهم.

وأسلم على يد أبى بكر ـ رضى الله عنه ـ عثمان بن عفان ، والزبير ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبى وقاص ، رضى الله عنهم.

وهو أول من جمع القرآن ـ يعنى أبا بكر ـ وقاية ومخرجا من الشبهات ، وتنزه عن الخمر فى الجاهلية والإسلام.

واسم أمه : أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة وهى بنت عم أبيه (١).

أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدى بن كعب بن لؤى. يلتقى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى كعب بن لؤى.

واسم أمه : حنتمة بنت هاشم ـ وقيل : هشام ـ بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم.

وأسلم بمكة فى سنة ست من النبوة. وقيل : سنة خمس (٢).

وقال الليث : أسلم بعد ثلاثة وثلاثين رجلا. وقال هلال بن يساف : بعد أربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة (٣). وقيل : إنه أتم الأربعين ، فنزل جبريل عليه‌السلام وقال : يا محمد استبشر أهل السماء بإسلام عمر. وظهر الإسلام يوم أسلم عمر رضى الله عنه ؛ فلذلك يسمى الفاروق (٤) ، ولم يفته مشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) السيرة لابن هشام ١ / ٢٥٠.

(٢) راجع قصة إسلام عمر فى : السيرة لابن هشام ١ / ٣٤٢ ، سنن الترمذى (٣٦٨١) ، طبقات ابن سعد ٥ / ٦١٧ ، دلائل النبوة للبيهقى ٢ / ٢١٦.

(٣) دلائل النبوة للبيهقى ٢ / ٢٢٢.

(٤) السيرة لابن هشام ١ / ٣٤٥.

٢٩٩

وهو أول خليفة دعى بأمير المؤمنين. وأول من كتب التاريخ للمسلمين. وأول من جمع القرآن فى المصحف. وأول من جمع الناس على قيام رمضان. وأول من عشّر فى عمله ، وحمل الدرّة وأدب بها ، ووضع الخراج ، ومصّر الأمصار ، واستقضى القضاة ، ودوّن الديوان ، وفرض الأعطية ، وحج بأزواج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى آخر حجة حجها (١).

أبو عبد الله عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. يلتقى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عبد مناف وهو الأب الخامس.

واسم أمه : أروى بنت كريز بن ربيعة بن خبيب بن عبد شمس بن عبد مناف ، وأمها : أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب.

أسلم قديما. وهاجر إلى الحبشة الهجرتين. وتزوج ابنتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رقية وأم كلثوم وهما من خديجة رضى الله عنها (٢).

أبو الحسن علىّ بن أبى طالب بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

واسم أمه : فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. وهى أول هاشمية ولدت هاشميا ، أسلمت وهاجرت إلى المدينة وماتت فى حياة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فتزوج علىّ فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فولدت له الحسن والحسين ومحسن ؛ ولكن محسن مات صغيرا. ولم يتخلف علىّ رضى الله عنه فى مشهد إلا فى تبوك ، خلّفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أهله. رضى الله عنهم أجمعين (٣).

__________________

(١) راجع عن سيرة عمر بن الخطاب : طبقات ابن سعد ٣ / ٣٣٤ ـ ٣٤٢ ، تاريخ الطبرى ٥ / ٣٣ ـ ٣٨ ، الكامل ٣ / ٢٠ ، صفوة الصفوة ١ / ٨٧ ، البداية والنهاية ٧ / ١٣٧ ، تاريخ الخلفاء (ص : ١٣١ ـ ١٣٤) ، تاريخ الخميس ٢ / ٢٤٨ ، النجوم الزاهرة ١ / ٧٧ ، الاستيعاب ٣ / ١١٥٨.

(٢) راجع سيرة عثمان بن عفان فى : تاريخ الطبرى ٥ / ١٧٢ ، الكامل ٣ / ٨٧ ، البداية والنهاية ٧ / ١٨٧ ، تاريخ الخلفاء (ص : ١٦٣ ـ ١٨٣).

(٣) يراجع فى ذلك : تاريخ الخلفاء (ص : ١٨٥ ـ ٢١٣) ، طبقات ابن سعد ٢ / ٢٣٨ ، تاريخ الطبرى ٦ / ٩٢ ، الكامل ٣ / ١٧٤.

٣٠٠