إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

محمّد بن إسحاق الخوارزمي

إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

المؤلف:

محمّد بن إسحاق الخوارزمي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لا يصيبنى إلا ما كتبت علىّ والرضا بما قضيت لى.

فأوحى الله تعالى : يا آدم قد دعوتنى دعوات فاستجبتهن لك ، ولن يدعونى بها أحد من أولادك إلا كشفت همومه ، وكففت عنه ضيعته ، ونزعت الفقر من قلبه ، وجعلت الغنى بين عينيه ، وتجّرت له من وراء تجارة كل تاجر ، وأتته الدنيا وهى راغمة وإن كان لا يريدها» (١) وقد تقدم هذا الدعاء.

__________________

(١) سبق تخريجه.

١٨١

الفصل السابع والثلاثون

فى ذكر دخول الحجر والصلاة والدعاء فيه

وقد يسمى هذا الموضع حطيما ؛ لأنه حطم من البيت أى كسر وأخرج منه ، أو لأن الناس يحطمون هنالك بالأيمان ، ويستجاب فيه الدعاء على الظالم للمظلوم ؛ فقل من دعا أحد هنالك على الظالم إلا هلك ، وقل من حلف أحد هنالك آثما إلا عجلت له العقوبة.

ويسمى الحظيرة أيضا ؛ لأنه حظر من دخوله فى بناء البيت أى : منع. والحظر : المنع (١).

عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلوا فى مصلى الأخيار واشربوا من شراب الأبرار» فقيل : وما مصلى الأخيار؟ قال : «تحت الميزاب» فقيل : وما شراب الأبرار؟ قال : «ماء زمزم» (٢). رواه الفاكهى وغيره.

وعن ابن عمر : إن قبلة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الميزاب (٣).

وفى رسالة الحسن البصرى ـ رضى الله عنه ـ إن إسماعيل عليه‌السلام شكى إلى ربه حرّ مكة فأوحى الله تعالى : أنى أفتح لك بابا من الجنة يخرج عليك الروح منه إلى يوم القيامة (٤).

وروى أن عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ أقبل ذات يوم ، فقال لأصحابه : ألا تسألونى من أين جئت؟ قالوا : من أين جئت يا أمير المؤمنين؟ قال : كنت قائما على باب الجنة. وكان قائما تحت الميزاب يدعو الله تعالى عنده (٥).

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ٢٣ ، هداية السالك ١ / ٦٨.

(٢) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣١٨.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٣١٨ ، هداية السالك ١ / ٧٣ ، ٧٨.

(٤) هداية السالك ١ / ٧٨.

(٥) هداية السالك ١ / ٧٨.

١٨٢

قال الشيخ محب الدين الطبرى رحمه الله : يروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من أحد يدعو تحت الميزاب إلا استجيب له» (١).

وعن بعض السلف أن من صلى تحت الميزاب ركعتين ثم دعا بشىء مائة مرة وهو ساجد استجيب له ، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

وقال ابن الزّبير : فدعوت هنالك بدعاء استجيب لى (٢).

ويروى عن أبى هريرة وسعيد بن جبير وزين العابدين أنهم كانوا يلتزمون ما تحت الميزاب من الكعبة ويدعون.

وعن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : كنت أحب أن أدخل البيت وأصلى فيه ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدى فأدخلنى فى الحجر وقال : «إذا أردت دخول البيت فصلى فى الحطيم ، فإنما هو قطعة منه».

قالت : فما أبالى بعد هذا صليت فى الحجر أو فى البيت (٣).

وقد روى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة ـ رضى الله عنها ـ : «إن شئت أريتك القدر الذى أخرجوه من البيت ، حتى أن قومك لو أرادوا أن يبنوه لبنوا عليه». قالت : فأرانى نحوا من سبعة أذرع. فثبت أن الحجر من البيت.

__________________

(١) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣١٨ ، المحب الطبرى فى القرى (ص : ٣٠٠) ولم يعزه.

(٢) هداية السالك ١ / ٧٩.

(٣) أخرجه : أبو داود ٢ / ٢١٤ ، النسائى ٥ / ٢١٨ ، الترمذى ٣ / ٢٣١.

١٨٣

الفصل الثامن والثلاثون

فى ذكر فضائل زمزم وأسمائها

روى الفاكهى عن أشياخ مكة أن لها أسماء كثيرة ، وقد ذكرنا أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى. وهى : زمزم ، وهزمة جبريل ، وسقيا الله إسماعيل ، وبركة ، وسيّدة ، ونافعة ، ومضمونة ، وعونة ، وبشرى ، وصافية ، وبرّة ، وعصمة ، وسالمة ، وميمونة ، ومباركة ، وكافية ، وعافية ، ومغذية ، وطاهرة ، وحرميّة ، ومروية ، ومؤنسة ، وطعام طعم ، وشفاء سقم (١).

وفى الحديث فى بداء شأنها : أن عبد المطلب أتى فى منامه ، وقيل له : احفر ظبية (٢).

وظبية بالظاء المعجمة والباء الموحدة ، سميت بها : تشبيها بالظبية الخريطة ؛ كذا قاله ابن الأثير.

وكانت تسمى فى الجاهلية : شباعة العيال ؛ لأن أهل العيال منهم كانوا يفدون لعيالهم فينيخون عليها ، فتكون صبوحا لهم (٣).

وقالت أم أيمن حاضنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما شكى محمد جوعا قط ولا عطشا ، وكان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم ، فربما عرضنا عليه الغداء فيقول : أنا شبعان (٤).

__________________

(١) أخبار مكة للفاكهى ٢ / ٦٧ ، ٦٨ ، شفاء الغرام ١ / ٢٥١ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ٢١٤ ، الأعلاق النفيسة لابن رسته (ص : ٤٤).

(٢) السيرة لابن هشام ١ / ١٤٣ ، مغازى ابن إسحاق (ص : ٢٤) ، دلائل النبوة للبيهقى ١ / ٩٣ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ٢١٨ ، كنز العمال ١٤ / ١٢٣ ، أخبار مكة للفاكهى ٢ / ٤٤ ، أخبار مكة للأزرقى ٢ / ٤٤.

(٣) صحيح مسلم ٧ / ١٥٤ ، وأصله فى البخارى ٥ / ٤٧ مختصرا.

(٤) هداية السالك ١ / ٨٠.

١٨٤

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ماء زمزم لما شرب له ؛ فإن شربته تستشفى به : شفاك الله ، وإن شربته مستعيذا به : أعاذك الله ، وإن شربته لتقطع ظماك : قطعه الله» (١).

وكان ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ إذا شرب ماء زمزم قال : اللهم إنى أسألك علما نافعا ، ورزقا واسعا ، وشفاء من كل داء (٢). رواه الحاكم فى المستدرك ـ وهذا لفظه ـ والدارقطنى. وعنه بدل قوله : «وإن شربته مستعيذا به : أعاذك الله» ، «وإن شربته ليشبعك أشبعك الله».

وزاد : «وهى هزمة جبريل بعقبه ، وسقيا الله إسماعيل عليهما‌السلام» (٣).

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الحمّى من فيح جهنم ، فأبردوها بماء زمزم». رواه الإمام أحمد (٤).

وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خمس من العبادة : النظر إلى المصحف ، والنظر إلى الكعبة ، والنظر إلى وجه الوالدين ، والنظر فى زمزم ـ وهى تحط الخطايا حطّا ـ والنظر إلى وجه العالم». رواه الفاكهى (٥).

وعن أبى ذر ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «انفرج سقف بيتى وأنا بمكة فنزل جبريل ، ففرج صدرى ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب

__________________

(١) أخرجه : ابن ماجه (٣٠٦٢) ، أحمد فى المسند ٣ / ٢٢٠ ، البيهقى فى السنن ٥ / ١٤٨ ، الحاكم فى المستدرك (١٧٣٩) ، البيهقى فى الشعب (٤١٢٧) ، الطبرانى فى الأوسط (٨٥٣) ، وابن أبى شيبة ٦ / ٢١٩. وفيه عبد الله بن المؤمل ، وقد اختلف فى توثيقه وتضعيفه لكن للحديث متابعات وشواهد يتقوى بها ، فيرتقى إلى مرتبة الحسن ، والله أعلم. انظر طرقه والكلام عليه فى : المقاصد الحسنة (٣٥٧) ، كشف الخفاء ٢ / ٢٢٩ ، أسنى المطالب (١٢٢١).

(٢) أخرجه : الحاكم فى المستدرك ١ / ٤٧٣ ، وقال : صحيح الإسناد إن سلم من الجارودى ، ولم يخرجاه.

(٣) أخرجه : الدارقطنى فى السنن ٢ / ٢٨٨.

(٤) أخرجه : أحمد فى المسند ١ / ٢٩١ ، من طريق عفان ، عن همام.

(٥) أخبار مكة للفاكهى ١ / ٢٠٠ ، وفيه : بقية بن الوليد ، صدوق كثير التدليس. (انظر : التقريب ١ / ١٠٥).

١٨٥

ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغها فى صدرى ثم أطبقه» أخرجه البخارى (١).

وعنه فى حديث قدومه بمكة واستخفائه بها حين أسلم ، قال : وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما قضى صلاته قال أبو ذر : فكنت أول من حياه بتحية الإسلام ، وقال : وعليك السلام ورحمة الله ، ثم قال : من أين أنت؟. قلت : من غفار. قال : متى كنت هاهنا؟. قال : كنت هاهنا منذ ثلاثين يوما وليلة. قال : فمن كان يطعمك؟

قلت : ما كان لى طعام إلا ماء زمزم ، فسمنت حتى تكسرت عكن بطنى ، وما أجد فى كبدى سخفة جوع. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنها مباركة ، إنها طعام طعم ، وشفاء سقم. فقال أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ : ائذن لى يا رسول الله فى إطعامه الليلة. قال : فافعل ، فانطلق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر ـ رضى الله عنه ـ فانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابا فجعل يفيض لنا من زبيب الطائف. قال : وكان ذلك أول طعام آكله بها ، فلبثت ما لبثت ، ثم قال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنى قد وجهت إلى أرض ذات نخل ولا أحسبها إلا يثرب ، فهل أنت مبلغ عنى قومك ؛ لعل الله تعالى ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟. قال : فانطلقت حتى أتيت أخى أنيسا ، فقال لى : ما صنعت؟ قلت : أسلمت وصدّقت ، قال : صنعت ما صنعت إنى صدّقت وأسلمت ، ثم أتينا أمّنا ، فقالت : ما لى رغبة عن غير دينكما ؛ فإنى أسلمت وصدقت ، فتحملنا حتى أتينا قومنا غفارا ، فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله المدينة (٢).

وعن كعب أنه قال لزمزم : إنا نجدها مضنونة ضن بها لكم ، وأول من سقى ماءها إسماعيل ، إنها طعام طعم ، وشفاء سقم (٣).

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : كان أهل مكة لا يسابقهم أحد إلا

__________________

(١) أخرجه : البخارى ٣ / ٤٩٢ ، مسلم فى الإسراء : ٢ / ٢١٧.

(٢) مسلم بشرح النووى ١٦ / ٢٧ ، أحمد فى المسند ٥ / ١٧٤ ، البيهقى فى السنن ٥ / ١٤٧ ، الطيالسى ٢ / ٢٠٣ ، ابن سعد فى الطبقات ٤ / ٢١٩ ، والهيثمى فى مجمع الزوائد ٣ / ٢٨٦ ، وعزاه للبزار والطبرانى فى الكبير ، وقال : ورجال البزار رجال الصحيح. وذكره ابن حجر فى المطالب العالية ١ / ٣٦٨ ، وعزاه لابن أبى شيبة.

(٣) أخرجه : عبد الرزاق فى مصنفه ٥ / ١١٥ ، والأزرقى فى أخبار مكة ٢ / ٥٣ ، الفاكهى فى أخبار مكة ٢ / ٣٣.

١٨٦

سبقوه ، ولا يصارعهم أحد إلا صرعوه ؛ حتى رغبوا عن ماء زمزم فأصابهم المرض فى أرجلهم. أخرجه أبو ذر الهروى.

وقيل : من كان بمكة وفاتته ثلاثة أشياء فهو محروم : من مضى عليه يومان ولم يطف بالكعبة ، ومن حلق رأسه من غير عمرة ، ومن صام ولم يجعل فطره على ماء زمزم (١).

واعلم أنه لا ينبغى أن يستعمل ماء زمزم إلا فى شىء طاهر على وجه التبرك وتجديد الوضوء ، وأما إزالة النجاسة به فحرام ؛ ذكره الماوردى (٢).

ويكره الاستنجاء به عند بعض العلماء ، وأهل مكة ينفون ذلك ، ويقال : إن بعض الناس استنجا به ، فحدث به الباسور.

وجزم الشيخ محب الدين الطبرى بتحريم إزالة النجاسة به ، وإن حصل به التطهير ، وأخذ ذلك من قول الماوردى ، ولو استنجى به مع حرمته أجزأه إجماعا.

ولو أخذ من ماء زمزم هدية لأهل بلده للتبرك جاز إجماعا (٣).

وأما غيره من التراب والحجارة وأستار الكعبة فلا يجوز أخذه عند الشافعى ، ومن أخذ من ذلك شيئا وجب عليه رده عنده ـ رضى الله عنه ـ وأما عند أبى حنيفة ـ رضى الله عنه ـ فقد روى الكرخى عنه أنه قال : لا بأس بإخراج حجارة الحرم وترابه إلى الحل (٤).

ثم التوضؤ من ماء زمزم والاغتسال به من غير جنابة لا يكره ، وبه قال مالك والشافعى (٥).

وقال أحمد : يكره ذلك لقول العباس وهو قائم عند زمزم : «لا أبيحه لمغتسل وهو لشارب». وجوابه : أنه محمول على زمان كان الماء بمكة قليلا ضيقا جدّا أو

__________________

(١) هداية السالك ١ / ٨٥ ، القرى (ص : ٤٨٨).

(٢) القرى (ص : ٤٩٠) ، أخبار مكة للفاكهى ٢ / ٦٣.

(٣) المرجع السابق.

(٤) القرى (ص : ٤٩١).

(٥) المرجع السابق (ص : ٤٩١).

١٨٧

محمول على أنه لا أبيحه لمغتسل (١). أى : لمغتسل جنب ؛ وبه نقول.

وعن أبى الحسين ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سهيل بن عمرو يستهديه من ماء زمزم ، فبعث إليه براويتين. أخرجه الأزرقى (٢).

وذكر الواقدى أن كعب الأحبار حمل من ماء زمزم اثنى عشر راوية إلى الشام (٣).

وعن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنها كانت تحمل ماء زمزم ، وتخبر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحمله ، وكان يصبه على المرضى ويسقيهم ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حنّك الحسن والحسين به وبتمرة العجوة (٤).

وقال ابن شعبان فى مناسك ابن الحاج : إن العين التى تلى الركن ـ وهو زمزم ـ من عيون الجنة.

وعن على ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : خير بئر فى الأرض زمزم ، وشر بئر فى الأرض برهوت ؛ تجتمع فيه أرواح الكفار. رواه عبد الرزاق (٥).

وبرهوت بفتح الباء الموحدة والراء المهملة : بئر عتيقة بحضرموت لا يستطاع النزول إلى قعرها. ويقال : بفتح الباء وضمها والراء الساكنة فيهما ، وذكره الأزرقى وغيره باللام ، فقال : بلهوت ، والمشهور الأول ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه : عبد الرزاق فى مصنفه ٥ / ١١٤ ، الأزرقى فى أخبار مكة ٢ / ٥٨.

(٢) أخرجه : عبد الرزاق فى مصنفه ٥ / ١١٩ ، الفاكهى فى أخبار مكة ٢ / ٤٨ ، الأزرقى فى أخبار مكة ٢ / ٥٣ ، ابن حجر فى الإصابة ٤ / ٢٢١ ، وعزاه للفاكهى ، وعمر بن شبه.

(٣) أخبار مكة للفاكهى ٢ / ٥٣ ، ابن أبى شيبة ٨ / ٩٥ ، المحب الطبرى فى القرى (ص : ٤٩١) وعزاه للواقدى.

(٤) أخرجه : الهيثمى فى مجمع الزوائد ٣ / ٢٨٧ ، وعزاه للطبرانى فى الكبير ، الترمذى ٤ / ١٨٣ ، الحاكم فى المستدرك ١ / ٤٨٥ ، البيهقى فى السنن ٥ / ٢٠٢ ، الفاسى فى شفاء الغرام ١ / ٢٥٩.

(٥) أخرجه : الفاكهى فى أخبار مكة ٢ / ٣٤ ، وعبد الرزاق فى مصنفه ٥ / ١١٩ ، وأبو نعيم فى الحلية ٦ / ١٣ ، الأزرقى فى أخبار مكة ٢ / ٥٣ ، الطبرانى فى الكبير ١١ / ٩٨.

١٨٨

الفصل التاسع والثلاثون

فى ذكر شرب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ماء زمزم

عن ابن طاووس ، عن أبيه ، قال : أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه أن يفيضوا به نهارا ، وأفاض فى نسائه ليلا ، فطاف بالبيت على ناقته ، ثم جاء زمزم ، فقال : ناولونى ، فنوّل دلوا ، فشرب منها ثم تمضمض ، فمجّ فى الدلو ، فأفرغ فى البئر ، ثم قال :لو لا أن تغلبوا عليها لنزعت معكم (١).

وفى رواية : لنزعت بيدى. رواه الطبرانى (٢).

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : رأيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزع له دلو من زمزم فشرب منها قائما.

وعن ابن عباس ـ أيضا ـ قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى صفّة زمزم ، فأمر بدلو ، فنزعت له من البئر ، فوضعها على شفة البئر ، ثم وضع يده من تحت عراقى الدلو ، ثم قال : بسم الله ، ثم كرع فيها فأطال ، ثم أطال فرفع رأسه فقال : الحمد لله ، ثم عاد فقال : بسم الله ، ثم كرع فيها فأطال وهو دون الأول ، ثم رفع رأسه ، فقال : الحمد لله ، ثم كرع فيها ، فقال : بسم الله فأطال وهو دون الثانى ، ثم رفع رأسه فقال ، الحمد لله ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : علامة ما بيننا وبين المنافقين : أنهم لم يشربوا منها قط حتى يتضلعوا (٣).

__________________

(١) أخرجه : أحمد فى المسند ١ / ١٥٦ ، ١٥٧ ، الترمذى ٤ / ١١٩ ، الأزرقى فى أخبار مكة ٢ / ٥٥.

«ونزعت معكم» أى : أخرجت الماء بالدلو من البئر.

(٢) أخرجه : أحمد فى المسند ١ / ٣٧٢.

(٣) مسلم بشرح النووى ١٣ / ١٩٨ ، الترمذى ٨ / ٧٥ ، أحمد ١ / ٣٧٢ ، ابن ماجه ٢ / ١٣٢ ، النسائى ٥ / ٢٣٧.

١٨٩

الفصل الأربعون

فى ذكر أسرار الحج والحكمة الإلهية الأزلية

فى ضمن الإشارات التى تتعلق بها

واعلم يا أخى كحل الله تعالى بنور اليقين بصر بصيرتك ، ونبه عن سنة الغفلة قلبك وسريرتك ، وانظر بحقيقة حقيقتك ، وتيقن عند إحرامك إجابة الداعى ، وعند تجردك من المخيط لبس الكفن ، وعند التلبية نداء الحق سبحانه وتعالى ، وأى عارف تفكر فى هذه الأسرار العجيبة فهم ، وأى عاقل تأمل فى الآيات الغريبة ألهم أن هذه العبادات ملازمة رسم يدل على باطن مقصود به تزكية النفس وتجلية الروح وإصلاح القلب ؛ لأن حقيقة التعبد : هو صرف القلب وحضرة رب القلب.

واعلم أن هذه العبادات كلها تنبيهات ، فليتنبه السالك المسافر عند ترك العيال والأطفال ، ومفارقة الأهل والأولاد على قطع العلائق الشاغلة ؛ لينفرد عن العوائق المانعة بخدمة الخالق الخفية ، ويلوى باطنه عن الخلائق الفانية ؛ لأن من انقطع عن العلائق وتجرد عن العوائق شاهد رب الخلائق.

ولتنظر بأى بدن قصدت ، وبأى باطن حضرت ؛ فإنه لا ينظر إلى الصور ، ولكن ينظر إلى الصدور ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى أعمالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم».

وقال رويم ـ رحمه الله ـ : للعارف مرآة إذا نظر فيها تجلى له مولاه وهى القلب.

وروى عن موسى صلوات الله عليه وسلامه فى مناجاته ، قال : أين أنت يا رب؟ قال : أنا فى قلوب عبادى المؤمنين.

ويروى فى مناجاة داود عليه‌السلام قال : أين أنت يا رب؟ قال : عند المنكسرة قلوبهم والمندرسة قبورهم ، فيلحظ إذا أمره المحرم بإكثار الزاد والماء ؛ لخوف بعد

١٩٠

المفاوز ؛ لأن سفر الآخرة أطول ، وعطش حشر القيامة أشد.

وما أحسن كلام أبى ذر الغفارى ـ رضى الله عنه ـ فى هذا المعنى عند الكعبة : يا أيها الناس ، أنا جندب بن الغفارى ، هلموا إلى الأخ الناصح الشفيق ، فاكتنفه الناس ، فقال : أرأيتم أن أحدكم إذا أراد سفرا ؛ أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ، ويبلغه؟ قالوا : بلى. قال : فسفر طريق القيامة طريق أبعد ما ترون ، فخذوا ما يصلحكم ، قالوا : وما يصلحنا؟ قال : حجوا حجة لعظائم الأمور ، وصوموا يوما شديد الحر لطول النشور ، وصلوا ركعتين فى سواد الليل لوحشة القبور. كلمة خير يقولها ، أو كلمة شر سكت عنها لوقوف يوم عظيم. تصدق بمالك لعلك تنجو من عسيرها. اجعل الدنيا مجلسين : مجلسا فى طلب الحلال ، ومجلسا فى طلب الآخرة. والثالث يضرك ولا ينفعك ، لا ترده ، فاجعل المال درهمين : درهم تنفقه على عيالك من حله. ودرهم تقدمه لآخرتك. والآخر : يضرك ولا ينفعك ؛ لا ترده.

ثم نادى بأعلى صوته : يا أيها الناس ، قد قتلكم حرص لا تدركونه أبدا.

وليتذكر تقطع العقبات والفيافى : عقبات يوم القيامة ، وبالموقف على عرفة العرفات ، لتذكر النفس تعارف أبينا آدم ، وأمنا حواء ، بل تعارف الأرواح فى الذرّ ؛ حين أخذ الميثاق ، فيذكر طيب ذلك العيش ، ويذكر وقوفه فى دار جزائه ومسائلته مولاه ، والإقامة فيها إلى غروب شمس وجود البشريه إلى وجود الحقانية والرجوع من الكل إلى مكون الكل ، والعبور بين علمى الممثولين ، وحمل حصى الاختصاص ؛ فمن مزدلفة قاب قوسين ، ثم العزم على المبيت بالمشعر الحرام. قال الله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ)(١) ثم الإسراع فى وادى محسّر : الوداد بين القلب والروح ، والسّر والفؤاد ، والفوز بالتجاوز عن خوف الخيف.

ولما وردنا الحىّ راحت عقولنا

إلى موقف الأحباب فى حرم الوصل

وطفنا وطافت بالطواف سرائر

غنينا بها عمّا نشاهد بالعقل

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٩٨.

١٩١

وفى عرفات تكشف الحجب بيننا

فلم يبق فيها للرسوم سوى العدل

ثم رمى ما سواه فى منى الأمن ، وذبح النفس للأضحية المسنونة فى محبة مولاه ، ويريق دمه بسكين لا يحيا إلا بلقياه ، وعند الحلق تنقص آمال غروره بدنياه ، ويتجرد بذاته من الكونين لمن خصه بحبه ووالاه. اخلع نعليك بالواد المقدس طوى. ولبس عباء العبودية للطواف بالكعبة العيانيّة. ثم الطواف حول البيت سبعا ؛ ليذكر الملائكة حول العرش طائفين ، وجولان الأرواح الطاهرة فى ملكوت رب العالمين ، فيستفيد من الرمل فى الأشواط الثلاثة الأول : الهرب من الدنيا وأهلها ، ومن المشى فى الأربعة الباقية : الأمن فى رياض الجنة مأواه ، فيكون بالله طائعا ، ومن هيبة جلاله خائفا ، وبالتعلق بأستار الكعبة تمسّك العبد المذنب بذيل المالك ، أو مثل سيد يكون عليك غضبان ؛ فإذا ركب أخذت بطرف ثوبه وبحقويه حتى يرضى عنك ، وبالسعى بين الصفا والمروة والمشى والهرولة بالفرار منه إليه.

وكان محمد بن الفضل ـ رحمه الله ـ يقول : عجبا لمن يقطع الأودية والقفار والمفاوز والبحار حتى يصل إلى بيت الملك الغفار ، وآثار رسوله النبى المختار ، كيف لا يقطع التعلقات النفسانية ، ليصل إلى الراحات الروحانية ، والدرجات العلية.

إليك قصدى لا للبيت والأثر

ولا طواف بأركان ولا حجر

صفا دمعى صفا لى حين أعبره

وزمزمى دمعة تجرى من البصر

وفيك سعيى وتعميرى ومزدلفى

والهدى جسمى الذى يغنى عن الجزر

وحمر قلبى جمار سرّه شرر

والحرم تحريمى الدنيا عن الفكر

عرفانه عرفاتى إذ مناى منى

وموقفى وقفة للخوف والحذر

ومسجد الخيف خوفى من تباعدكم

ومشعرى ومقامى دونكم حظرى

زادى رجاءى له والشوق راحلتى

والماء من عبراتى والهوى سفرى

وسئل على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ عن الموقف لم لم يكن بالحرم؟

١٩٢

فقال : لأن الكعبة بيته ، والحرم حجابه ، وعرفة بابه ، فلما أن قصده الوافدون أوقفهم فى الباب الأول يتضرعون إليه. فقيل له : فالمشعر كيف صار بالحرم؟ قال : لأنه لما أذن لهم بالدخول أوقفهم بالحجاب الثانى وهى المزدلفة ، فلما طال تضرعهم بها أذن لهم بتقريب قربانا ، فلما قربوا قربانهم وقضوا تفثهم بمنى وتطهروا من الذنوب التى كانت لهم حجابا فيما بينهم وبين الله تعالى أذن لهم بزيارة بيته على الطهارة.

واعلم أن الموقف الكريم موقف الوفود فى فناء الملك يلتمسون منه عوائده الجميلة ، ثم الإقبال بعد ذلك إلى موقف الأبرار ومستقر الأخيار ؛ فموقف فى حل ، وموقف فى حرم ، ودنو من منزلة إلى منزلة.

ويروى أن بعض الصالحين من الصوفية حج إلى مكة ، فلما رجع دخل على الشيخ الشبلى ـ قدس الله سره ـ فقال له : عقدت الحج حين أحرمت؟ قال : نعم ، قال : فسخت بعقدك كل عقد يخالف هذا العقد؟ قال : لا ، قال : ما عقدت.

قال : تجردت عن ثيابك؟ قال : نعم ، قال : تجردت عند ذلك عن كل ما نهيت عنه؟ قال : لا. قال : ما تجردت. قال : لبيت؟ قال : نعم ، قال : سمعت جواب تلبيتك؟ قال : لا. قال : ما لبيت ، قال : دخلت الحرم؟ قال : نعم ، قال : حرّمت على نفسك الوقوع فى كل محرم بعده؟ قال : لا. قال : ما دخلت. قال : طفت بالبيت؟ قال : نعم ، قال : طالعت بقلبك عظمة من تطوف بيته؟ قال : لا. قال : ما طفت. قال : قمت عند المقام وصليت ركعتين؟ قال : نعم. قال : رأيت مكانك من بساط الرحمة؟ قال : لا. قال : ما قمت وما صليت. قال : دخلت الكعبة؟ قال : نعم ، قال : عرفت أنك خرجت حين دخلتها عن كل معصية؟ قال : لا. قال : ما دخلتها ، قال : شربت ماء زمزم؟ قال : نعم. قال : نويت أنك تغسل به حب الدنيا ووساوس الشيطان من قلبك؟ قال : لا. قال : ما شربت ، قال : سعيت بين الصفا والمروة؟ قال : نعم ، قال : سعيت بذلك بين الخوف والرجاء؟ قال : لا. قال : ما سعيت ، قال : خرجت إلى منى؟ قال : نعم. قال : أمنت من الخوف بذلك؟ قال : لا. قال : ما خرجت إليها. قال : وقفت بعرفات؟ قال : نعم. قال : عرفت أن الله تعالى يباهى بك ملائكته؟ قال : لا. قال : ما وقفت. قال : بت بمزدلفة؟ قال :

١٩٣

نعم. قال : هل سكنت بها بجوارحك لرحمة الله تعالى؟ قال : لا. قال : ما بت بها. قال : وقفت بالمشعر الحرام؟ قال : نعم. قال : استشعرت بشعائر أهل الولاية؟ قال : لا. قال : ما وقفت بالمشعر الحرام. قال : رميت الجمار؟ قال : نعم. قال :رميت بذلك عيوبك كلها؟ قال : لا. قال : ما رميت. قال : حلقت رأسك بمنى؟قال : نعم. قال : نويت بذلك إسقاط الذنوب والأدناس كلها؟ قال : لا. قال : ما حلقت. قال : ذبحت هديك؟ قال : نعم. قال : نويت بذلك أنك ذبحت عدوك إبليس؟ قال : لا. قال : ما ذبحت. قال : رجعت إلى مكة وطفت بالبيت؟ قال :نعم. قال : نويت أنك رجعت عن كل ما سوى الله تعالى؟ قال : لا. قال : ما رجعت وما طفت وما حججت ، ارجع فعليك العود لأداء فريضتك.

وعلى هذا كان حج العارفين والزاهدين وزيارة العابدين والمشتاقين ، وهذه الحكاية مروية عن ذى النون المصرى فى كتاب «مناقب الأبرار» (١). وذكرها النقاش أيضا فى «مناسكه» عن ذى النون رحمه الله.

وأنشد بعضهم فى هذا المعنى :

للناس حجّ ولى حج إلى سكنى

تهدى الأضاحى وأهدى مهجتى ودمى

يطوف بالبيت قوم لا بجارحة

بالله طافوا فأغناهم عن الحرم

إنّ الحبيب الذى يرضيه سفك دمى

دمى حلال له فى الحلّ والحرم

والله لو علمت روحى بمن علقت

قامت على رأسها فضلا عن القدم

يا لائمى لا تلمنى فى هواه ولو

عانيت مثل الذى عانيت لم تلم

وروى أنه حج زين العابدين علىّ بن الحسين (٢) ـ رضى الله عنهما ـ فلما أحرم واستوى على راحلته أصفر لونه وارتعدت فرائصه ولم يستطع أن يلبى ، فقيل له :مالك لا تلبى يا ابن سيدنا؟ فقال : أخشى أن يقال لى : لا لبيك ولا سعديك ،

__________________

(١) هو مناقب الأبرار ومحاسن الأخيار لابن خميس ، وتوجد له عدة نسخ خطية فى معهد المخطوطات العربية.

(٢) هو على بن الحسين بن على بن أبى طالب ؛ وكان يكنى أبا الحسين ، وقيل أبا محمد. انظر صفة الصفوة (٢ / ٦٦).

١٩٤

فلما لبى غشى عليه (١).

ولما حج جعفر الصادق ـ رضى الله عنه ـ فأراد أن يلبى تغير وجهه ، فقيل له : ما لك يا ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : أريد أن ألبى وأخاف أن أسمع غير الجواب (٢).

هذه حال جعفر الصادق وزين العابدين فى خوفهما من سطوة جلال عظمة الله تعالى ، فكيف تكون حال الغافلين المدعين الكذابين؟ يا مسكين طهر قلبك وأخلص نيتك إذا قصدت إلى جناب حضرة عظمة عتبة بابه العظيم ؛ لأنه تعالى عالم ما فى سرك وخفايا سريرتك ، وارجع بالتوبة والاستغفار إلى جناب حضرة الكريم خاشعا متضرعا متذللا متأدبا ، ولا تيأس من رحمته ؛ لأن رحمته ومغفرته واسعة عامة على كل شىء ، وبابه مفتوح أبدا وما هو مغلق عليك ولا على من سواك.

قال ذو النون قدس الله سره : التوبة سبب الرضى ، والمراقبة سبب العصمة ، والخوف سبب الأمن ، والرجوع إليه سبب الصلح ، والاعتذار سبب العفو ، والندامة سبب القبول.

وقال أحمد بن أبى الحوارى : كنت مع سليمان الدارانى (٣) رحمه الله حين أراد أن يحرم فلم يلب حتى سرنا ميلا ، ثم غشى عليه ، ثم أفاق وقال : يا أحمد أوحى الله تعالى إلى موسى عليه‌السلام مر ظلمة بنى إسرائيل أن لا يذكرونى ؛ فإنى أذكر من ذكرنى منهم باللعنة ، ويحك يا أحمد بلغنى أن من حج من غير حلّه ثم لبى ، قال الله تعالى : لا لبيك ولا سعديك حتى ترد ما فى يديك ، فما أنا آمن أن يقال لى ذلك (٤).

__________________

(١) مختصر تاريخ دمشق (١٧ / ٢٣٦) ، والبداية والنهاية (٩ / ١١١) ، وتحرفت فى «القرى» إلى : يا ابن رسول الله : ١٧٨.

(٢) مثير الغرام (ص : ١٦٤).

(٣) هو : عبد الرحمن بن أحمد بن عطية ـ ويقال : عبد الرحمن بن عساكر ـ أبو سليمان العنسى الدارانى الزاهد ، من أهل داريّا ، من قرى دمشق. (انظر ترجمته فى : حلية الأولياء ٩ / ٢٥٤ ، البداية والنهاية ١٠ / ٢٥٥).

(٤) الخبر فى : مختصر تاريخ دمشق ١٤ / ١٩٣ ، حلية الأولياء ٩ / ٢٦٣ ، مثير الغرام (ص : ١٦٤).

١٩٥

وعن جعفر بن سليمان قال : خرجت مع مالك بن دينار إلى مكة ، فلما أحرم أراد أن يلبى سقط ثم أفاق ، فأراد أن يلبى فسقط ثم أفاق ، فأراد أن يلبى فسقط.

فقلت له : ما لك يا أبا يحيى؟ قال : أخشى أن أقول : لبيك فيقول : لا لبيك ولا سعديك.

وقال يحيى بن الجلاء : كنت بذى الحليفة (١) وأنا أريد الحج والناس يحرمون ، فرأيت شابا قد صب عليه الماء يريد الإحرام وأنا أنظر إليه ، فقال : يا رب ، أريد أن أقول لبيك اللهم لبيك وأخشى أن تجيبنى : لا لبيك ولا سعديك ، وبقى يردد هذا القول مرات وإنا أسمع عليه ، فلما أكثر قلت له : فليس لك بد من الإحرام ، فقال : أخشى إن قلت : لبيك أجابنى بلا لبيك ، قلت : أحسن ظنك بالله وقل معى لبيك ، فقال : لبيك اللهم وطوّلها وخرجت نفسه مع قوله اللهم وسقط ميتا على الأرض (٢) ، رحمه الله.

ويروى عن الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ وقد قام بعرفة ، فشغله البكاء عن الدعاء ، فلما كادت الشمس أن تغرب قال : واسوأتاه منك وإن غفرت (٣).

ووقف بعض الخائفين بالموقف على قدم الإطراق والحياء ، فقيل له : لم لا تدعو؟ قال : ثمّ وحشة ، قيل : فهذا يوم العفو عن الذنوب ، فبسط يديه ووقع على الأرض ميتا (٤) ، رحمه الله.

__________________

(١) ذو الحليفة : قرية بينها وبين مكة (٢٠٠) ميل ، وهى ميقات أهل الشام ومصر والمغرب.

(٢) الخبر فى : صفة الصفوة ٤ / ٣٢٩ ، مثير الغرام الساكن (ص : ١٦٥) ، مختصر تاريخ دمشق ٢٢ / ١٥٢ ، تاريخ بغداد ٥ / ٢٦٧ مطولا.

(٣) أخرجه : البيهقى فى الشعب (٤١٩٦) ، مثير الغرام الساكن (ص : ١٩١).

(٤) صفوة الصفوة ٤ / ٣٣٠ ، مثير الغرام الساكن (ص : ١٩١) مطولا.

١٩٦

الفصل الحادى والأربعون

وفيه أربعة أنواع :

النوع الأول من الفصل الحادى والأربعين

فى ذكر أحوال السلف الصالحين من المتعبدين

والمجاورين والمتوجهين إلى حرم الله تعالى الشريف

ومن دخل الحرم من المحبين وشاهد جمال الكعبة وحسن جلوتها ، وتفكر فى عظمة جلال كبريائه ، وتأمل فى سر كنز حكمة الأسرار المودع بها خاصة ، فتجلى على قلبه من سرادقات الغيب أشعة أنوار الهيبة والإجلال ، فهام وتحير فى سطوة عظمة جناب جلال ذى الجلال ورد. ورد وقته.

قد تحيّرت فيك خذ بيدى

يا دليلا لمن تحيّر فيكا

ويحكى أن الشبلى (١) ـ قدس الله سره ـ لما وصل إلى مكة المشرفة ودخل الحرم وشاهد من عجائب تسخير الحكمة الإلهية وكمال القدرة الأزلية فى ضمن هذه اللطيفة الحجرية فطاب وقته وطاش عقله طربا وسكرا فأنشد :

أبطحاء مكة هذا الذى

أراه عيانا وهذا أنا

ثم لم يزل يكررها حتى غشى عليه وأفاق ، فقال :

هذه دارهم وأنت محبّ

فما بقاء الدموع فى الآماق

ولما دخل أبو الفضل الجوهرى (٢) الحرم ونظر إلى الكعبة وقد داخله الطرب ،

__________________

(١) هو : أبو بكر دلف بن جحدر ، الصوفى العابد ، ترك الولاية واشتغل بالعبادة ، وسلك مسلك الزهد ، وتوفى سنة (٣٣٤ ه‍).

(٢) هو من أكبار مشايخ المصريين ، من بيت علم وعدالة بمصر. توفى وهو فى طريقه للحج سنة (٤٨٠ ه‍) حسبما جاء فى طبقات الشعرانى ، والخبر فى مثير الغرام الساكن (ص : ٢٧٨).

١٩٧

قال : هذه ديار المحبوب فأين المحبون ، وهذه أسرار القلوب فأين المشتاقون ، وهذه ساعة الاطلاع على الدموع فأين البكاءون؟! ثم شهق شهقة وبادر إلى البيت باكيا وهو ينادى : لبيك لبيك (١).

وروى أن أمرأة عابدة حجت ، فلما دخلت مكة جعلت تقول : أين بيت ربى؟

أين بيت ربى؟ فقيل لها : هذا بيت ربك ، فاشتدت نحوه تسعى حتى ألصقت جبينها بحائط البيت ، فما رفعت إلا ميتة (٢).

ما بين معترك الأحداق والمهج

أنا القتيل بلا ذنب ولا حرج

من مات فيه غراما عاش مرتقيا

ما بين أهل الهوى فى أرفع الدّرج

تبارك الله ما أحلا شمائله

فكم أماتت وأحيت فيه من مهج

قال سعيد بن جبير : رأيت امرأة جاءت فقامت فى الملتزم فجعلت تدعو وتبكى حتى ماتت.

هذه تحية المحب فى بيت المحبوب ، وشهادة العاشق إلى لقاء المعشوق.

وقال مالك بن دينار : رأيت شابا يمنيا وهو يقول : اللهم إن الناس قد ذبحوا ومحروا وتقربوا إليك ، فما لى شىء أتقرب به إليك أكبر من نفسى فتقبلها منى ، ثم شهق شهقة ، فدنوت منه فإذا هو ميت ، رحمه الله تعالى.

هذا فؤاد لقد ملى أسفا

قطعه الشوق والنوى قطعا

يقول فى نأيه وغربته

عدل من الله كلّ ما صنعا

وقال عبد الصمد : اجتمعت أنا وبشر الحافى فى العمرة ومعنا شاب تائب ، سريع الدمعة ، قليل الكلام ، كثير التفكر ، فقلت له : هذا بشر الحافى فتبرك به ، فقال له : يا أبا نصر ، ما جزاء من خالف محبوبه؟ فقال : أن يقتل بسيوف العتاب ، ثم يحرق بنار الهوى ، ثم يذرّ فى هوى الذل ؛ فإن شاء جمعه ، وإن شاء قمعه ،

__________________

(١) هداية السالك ١ / ١٥٩.

(٢) أخبار مكة للفاكهى ١ / ١٦٧ ، مثير الغرام (ص : ٢٧٨) ، تاريخ جرجان (ص : ٦١) ، الواضح المبين فى ذكر من استشهد من المحبين لابن مغلطاى (بتحقيقنا).

١٩٨

قال : فشهق الغلام لما سمع ذلك منه ووقع ، ولم يزل يئن ويرتعد ويشهق إلى أن مات ، فندمت على ذلك ، وواريناه فى مكانه فى ثوبى إحرامه ، رحمه الله.

البين فيه لمن ذاق الهوى أجل

به النفوس عن الأجساد ترتحل

يا سائلى كيف مات العاشقون فما

ماتوا ولكن بأسياف الهوى قتلوا

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله : رأيت بالموقف شابا ساكنا وعليه أثر الذلة والخشوع والناس يسألون الحوائج ، فقلت : يا فتى ، أخرج يديك وسل حاجة ، فقال لى : يا شيخ ، وقعت وحشة وليس ثمّ وجه ، قلت : فإن كان كذلك فالوقت يفوت ، فقال لى : لا بد لى منه؟ قلت : نعم ، قال : فلما أراد أن يرفع يديه بالدعاء صاح صيحة وخر ميتا ، رحمه الله.

وقال بشر بن الحارث الحافى : رأيت على جبل عرفة رجلا قد ولع به الوله وهو يقول أبياتا آخرها :

أنت الحبيب وأنت الحبّ يا أملى

من لى سواك ومن أرجوه لمدّخرى

كم قد زللت فلم أذكرك فى زللى

وأنت يا واجدى فى الغيب تذكرنى

كم أكشف السّتر جهلا عند معصيتى

وأنت تلطف بى جودا وتسترنى

قال : ثم غاص فى خلال الناس فلم أره بعد ذلك ، فسألت عنه ، فقيل لى :هذا أبو عبيد السالم الخواص ، منذ سبعين سنة لم يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله عزّ وجلّ.

وروى عن بعض الصالحين قال : كنت بمكة فرأيت فقيرا يطوف بالبيت ، فأخرج من جيبه رقعة فنظر فيها فلما كان فى اليوم الثانى والثالث كان يفعل ذلك ، فيوما من الأيام طاف ونظر فى الرقعة وتباعد قليلا وسقط ميتا ، فأخرجت الرقعة من جيبه فإذا فيها مكتوب (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا)(١).

صبرت على بعض الأذى خوف كلّه

ودافعت عن نفسى لنفسى فعزّت

وجرّعتها المكروه حتى تدرّبت

ولو لم أجرّعها إذا لاشمأزت

__________________

(١) سورة الطور : آية ٤٨.

١٩٩

ألا ربّ ذل ساق للنفس عزّة

ويا ربّ نفس بالتذلل عزّت

سأصبر جهدى إنّ فى الصبر عزّة

وأرضا بدنياى وإن هى قلّت

وقيل : تجرع الصبر فإن أفناك أفناك شهيدا ، وإن أحياك أحياك عزيزا.

وقال الأصمعى : رأيت أعرابيا فى البادية بيده سيف مسلول ظننت أنه سكران ، وقال لى : يا حضرى انزع ثيابك ، ولا تجعل بيتك خرابا بموتك ، فقلت له : أتدرى من أنا؟ فقال لى : ليس عند قطاع الطريق معرفة ، ولو عرفتك أنكرتك وجهلت معرفتك ، فقلت له : أما تعلم أن الله تعالى يطالبك بما تفعل؟ فقال : لا بد من الرزق كما لا بد من الموت ، إن طالبنى بما أفعل طالبته برزقى ، فقلت له : كأنك تطلب رزقك فى الأرض؟ قال : فأين أطلبه؟ فقلت له : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)(١) فرمى السيف من يده وقال : أستغفر الله ، رزقى فى السماء وأنا أطلبه فى الأرض ، فإذا برغيفين طائرين وقصعة فيها مرقة حارة ، ظهر ذلك من تصديقه بالقرآن ، قال : فالتفت إلىّ ، وقال : هداك الله كما هديتنى إلى الرزق ، فتحيرت من شأنه وانصرفت باكيا. ثم لقيته بعد ذلك بمكة فى الطواف فعرفنى ، وقال : ألست صاحبى بالبادية؟ فقلت : نعم ، فقال لى : من ذلك اليوم إلى هذا الوقت يأتينى رغيفان وقصعة فى كل ليلة ، فإذا أكلت تبقى القصعة عندى ، فإذا أصبحت وجدتها فضّة ، وعندى قصع كثيرة ، فقلت له : لم لا تفرقها على أهلك ، قال لى :من ذلك الوقت عاهدت الله تعالى أن لا أفعل شيئا إلا بأمر الله تعالى ، وما أمرنى بشىء ثم قال : ألا تزدنى منه بيتا آخر ، قلت : وما ذاك شعر وإنما هو كلام الله تعالى ، ثم قرأت : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(٢) قال : فتغير لونه وارتعدت فرائصه ، وقال : من الجأه إلى الحلف ووقع ميتا ، قال :فإذا أنا بهاتف ينادى : ألا من أراد أن يصلى على ولىّ لله فليصلّ على هذا البدوى فغسلناه وصلينا عليه ودفناه ، فرأيته فى منامى بعد أسبوع على هيئة حسنة ، فقلت :بم بلغت هذه المنزلة؟ قال : باستماعى لقراءة القرآن وتصديقى له (٣).

__________________

(١) سورة الذاريات : آية ٢٢.

(٢) سورة الذاريات : آية ٢٣.

(٣) صفة الصفوة ٤ / ٣١٠ ، وكتاب التوابين للمقدسى (٢٧٣) بتوسع ، البيهقى فى الشعب (١٣٣٧) ، مثير الغرام الساكن (ص : ١٣٨).

٢٠٠