إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

محمّد بن إسحاق الخوارزمي

إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

المؤلف:

محمّد بن إسحاق الخوارزمي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

سنه ثلاثا وستين سنة فى الأصح (١) ، وقيل : ستا وستين سنة ، وصلّى عليه صهيب ـ رضى الله عنه ـ فى المسجد عند المنبر ، وكبّر عليه أربع تكبيرات ، ودفن معهما فى البيت خلف ظهر أبى بكر رضى الله عنهما ، وقيل : صلّى عليه ابنه عبد الله (٢).

ثم توفى عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ فى ذى الحجة ، ولا خلاف بينهم فى أنه قتل فى ذى الحجة وإنما الخلاف فى أى يوم منه ، واختلفوا فى قاتله ؛ فقيل :الأسود التجيبى. وقيل : جبلة بن الأيهم. وقيل : سودان بن حمران (٣). وقيل :ابن رومان اليمانى رجل من بنى أسد بن خزيمة (٤).

وذكر الحافظ أبو الربيع بن سلمان بن سالم الكلاعى فى كتابه «الاكتفا» قال :الذى باشر قتل عثمان بنفسه جبلة بن الأيهم. وقيل غير ذلك.

وكان ذلك فى سنة خمس وثلاثين من الهجرة وعمره اثنين وثمانين سنة.

وقيل : تسعين سنة. وكانت خلافته اثنتى عشرة سنة. وقيل : إلا ثنتى عشرة ليلة ، ودفن فى البقيع (٥).

ثم توفى علىّ ـ رضى الله عنه ـ فى شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقيل : ابن أربع وستين سنة. وقيل : ابن خمس وستين سنة. وكان الذى قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادى أشقى الآخرين ؛ وكانت خلافته ست سنين. وقيل : خمس سنين إلا ثلاثة أشهر. رضى الله عنهم أجمعين ، وصلّى الله على خير الورى محمد المصطفى ، وعليه أفضل الصلاة والسلام ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) أسد الغابة ٤ / ٧٧ ، طبقات ابن سعد ٣ / ٣٧٥ ، سيرة عمر ٢ / ٦٣٠ ، الرياض النضرة ٢ / ١٠٣.

(٢) تاريخ المدينة ٣ / ٩٤٣ ـ ٩٤٥.

(٣) ويقال : أسودان بن رومان المرادى ، وأسود بن حمران (البداية والنهاية ٧ / ١٨٥).

(٤) تاريخ الطبرى ٥ / ١٢٣ ـ ١٣٠ ، البداية والنهاية ٧ / ١٨٥ ، العواصم والقواصم (ص : ١١٣).

(٥) تاريخ المدينة ٤ / ١٢٤٠ ، الرياض النضرة ٢ / ١٧٤ ، البداية والنهاية ٧ / ١٩١ ، وفاء الوفا ٣ / ٩١٣ ، تاريخ الخميس ٢ / ٢٦٥.

٣٢١

الفصل السادس

فى ذكر فضيلة المقام والمجاورة وفضل الموت فيها

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من استطاع منكم أن يموت فى المدينة فليمت ؛ فإنى أشفع لمن يموت فيها» (١).

وفى رواية : «من أستطاع أن يموت بالمدينة فليمت ؛ فإنه لا يموت فيها أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» (٢).

وعن ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها» (٣).

وعنه أيضا رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواه». أخرجه الحافظ ابن الجوزى فى «مثير الغرام» (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يصبر على لأواء المدينة أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» (٥).

وعن أبى هريرة وسعد بن أبى وقاص ـ رضى الله عنهما ـ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :«المدينة مشتبكة بالملائكة لا يدخلها الدجال ولا الطاعون ، من أراد أهلها بسوء

__________________

(١) أخرجه : أحمد ٤ / ٧٤ ، الترمذى (٤١٧٤) ، ابن ماجه (٣١١٢) ، البيهقى فى الشعب (٤١٨٦) ، ابن حبان (٣٧٤١) ، شرح السنة للبغوى (٢٠٢٠) ، تاريخ أصفهان ٢ / ١٠٣.

(٢) المراجع السابقة.

(٣) أخرجه : البيهقى فى الشعب (٤١٤٨) وقال : إسناده ضعيف ، وقال ابن الجوزى فى العلل (٩٤٧) : لا يصح. وعزاه الحافظ الشامى فى السيرة إلى الطبرانى فى الكبير عن بلال بن الحارث. وذكره ابن النجار (ص : ٣٥).

وفيه : كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ، قال عنه النسائى : متروك. وذكره الدارقطنى فى الضعفاء والمتروكين : ٤٤٦ ، وقال الشافعى : ركن من أركان الكذب. وقال ابن حبان : منكر الحديث. وقال ابن معين : ليس بشىء (المجروحين ٢ / ٢٢١).

(٤) مثير الغرام (ص : ٤٧٣) ، أخبار أصفهان ٢ / ٢٣٨ ، ابن النجار (ص : ٣٥) ، البيهقى فى الشعب (٤١٤٨). وقال : إسناده ضعيف.

(٥) أخرجه : مسلم ٣ / ٤٢٩ ، وأبو يعلى (١٢٦١).

٣٢٢

أذابه الله كما يذوب الملح بالماء» (١).

وعن معقل بن يسار ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المدينة مهاجرى وفيها مضجعى وفيها مبعثى ، حقيق على أمتى حفظ جيرانى ما اجتنبوا الكبائر ؛ من حفظهم كنت له شفيعا يوم القيامة ، ومن لم يحفظهم سقى من طينة الخبال» (٢) قيل لمعقل : وما طينة الخبال؟ قال : عصارة أهل النار (٣).

وعن سالم بن عبد الله بن عمر قال : سمعت أبىّ يقول : سمعت عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ يقول : اشتد الجهد بالمدينة وغلا السعر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اصبروا يا أهل المدينة وأبشروا ؛ فإنى قد باركت على طعامكم ومدّكم ، كلوا جميعا ولا تفرقوا ؛ فإن طعام الرجل يكفى الاثنين. فمن صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعا ، وكنت له شهيدا يوم القيامة ، ومن خرج عنها رغبة عما فيها أبدل الله ـ عزّ وجلّ ـ فيها من هو خير منه ، ومن بغاها أو كادها بسوء أذابه الله تعالى كما يذوب الملح فى الماء» (٤).

وأما المجاورة فيها : فعلى ما ذكرنا فى مجاورة مكة المشرفة ؛ فإن كان يقدر على حفظ الحرمة والتوقير لروضة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوفاء بحرمتها كما يجب من غير إخلال بالحرمة وإفضاء إلى التبرم فذلك فوز عظيم وفضل جسيم ، وذلك الفضل من الله يؤتيه من يشاء ، على ما تقدم من الأحاديث فى فضائل الإقامة فيها. ومن لا يقدر على المحافظة بحقها والصبر على لأوائها فترك الإقامة له فيها أولى.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يصبر على لأواء المدينة أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» (٥).

وفى فضائلها أخبار كثيرة قد تقدم بعضها وسيأتى بعضها فى موضعه ، فاكتفينا هنا على هذه الأحاديث ؛ فإن فيها كفاية وغنية للمؤمن.

__________________

(١) أخرجه : مسلم ٤ / ١٢١ (باب من أراد أهل المدينة بسوء).

(٢) أخرجه : البزار بسند حسن ، وعزاه الحافظ الشامى فى السيرة ٣ / ٤٤٧ إلى أبى عمرو بن السماك ، وأخرجه : ابن النجار مختصرا.

(٣) النهاية ١ / ٢٨٠.

(٤) أخرجه مسلم ٤ / ١١٩ (باب الترغيب فى سكنى المدينة).

(٥) أخرجه : مسلم ٣ / ٤٢٩.

٣٢٣

الفصل السابع

فى ذكر فضائل المسجد الشريف النبوى

عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدى هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى» (١).

وفى صحيح مسلم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فى غيره من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه» (٢).

وفيه أيضا : عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى آخر الأنبياء ، وإن مسجدى آخر المساجد» (٣).

وعن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ أيضا ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد : مسجد الكعبة ، ومسجدى ، ومسجد إيلياء».

__________________

(١) أخرجه : ابن ماجه ١ / ٤٥٢ ، أحمد فى مسنده ٣ / ٤٥ ، البخارى ٣ / ٧٠ ، مسلم ٩ / ١٠٤ ، الترمذى ٢ / ١٢٣ ، ابن حبان فى موارد الظمآن (ص : ٢٥٦) ، الحميدى ٢ / ٣٣٠ ، ابن أبى شيبة ٤ / ٦٦.

(٢) أخرجه : مسلم ٣ / ٤٧٦ ، أحمد فى مسنده ٢ / ٢٩ ، ابن ماجه (١٤٠٥) ، أبو يعلى (٥٧٦٠) ، أخبار أصبهان ١ / ٣٥٣ ، وابن حبان فى موارد الظمآن (ص : ٢٥٤) ، وابن عدى فى الكامل ٢ / ٨١٧ ، والفاسى فى شفاء الغرام ١ / ٧٩ ، والهيثمى فى مجمع الزوائد ٤ / ٦ ، وعزاه للطبرانى فى الكبير ، وقال : رجاله رجال الصحيح ، والسيوطى فى الجامع الكبير ١ / ٥٦٣ ، وعزاه للطيالسى وأحمد ، وعبد بن حميد ، وابن زنجويه ، وابن خزيمة ، والطحاوى ، وابن حبان ، والطبرانى ، والضياء المقدسى.

(٣) أخرجه : الديلمى فى الفردوس (١١٥) ، السمهودى فى وفاء الوفا ٢ / ٤٢٠ ، وعزاه للبزار ، وأخرج شطره الأول ، شرح السنة للبغوى (٤٥٠) ، وابن أبى شيبة ٢ / ٣١٨ ، والهيثمى فى مجمع الزوائد ٤ / ٤ ، وعزاه للبزار ، والفاسى فى شفاء الغرام ١ / ٧٩ ، وعزاه للطبرانى فى الأوسط.

وفيه : موسى بن عبيدة. هو : الربذى ، وداود بن مدرك مجهول (التقريب ١ / ٢٣٤).

٣٢٤

وعن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا خاتم الأنبياء ، ومسجدى خاتم مساجد الأنبياء أحق المساجد أن يزار ، وتركب إليه الرواحل ، صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة فى المسجد الحرام بقدر مائة ألف صلاة» (١).

وعن أبى سعيد الخدرى ـ رضى الله عنه ـ قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو فى بيت بعض نسائه فقلت : يا رسول الله ، أى المساجد الذى أسس على التقوى؟ قال : فأخذ كفا من حصباء فضرب بها الأرض ، ثم قال : «هو مسجدكم هذا» لمسجد المدينة (٢).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من صلى فى مسجدى أربعين صلاة بالجماعة كتب الله له براءة من النفاق ، وبراءة من النار ، وبراءة من العذاب» (٣).

وبسند ابن النجار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة فى مسجدى حتى يصلى فيه كان بمنزلة حجة ؛ وإن أدرك بها الجمعة فحسن» (٤).

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة جمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواه» (٥).

وروى سهل بن سعد أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من دخل مسجدى هذا ليتعلم فيه خيرا أو يعلّمه كان بمنزلة المجاهد فى سبيل الله ، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان كالذى يرى ما يعجبه وهو لغيره» (٦).

__________________

(١) أخرجه : الديلمى فى الفردوس (١١٥).

(٢) أخرجه : مسلم ٤ / ١٢٦ (باب بيان أن المسجد الذى أسس على التقوى).

(٣) أخرجه : أحمد فى مسنده ٤ / ١٥٥ ، ابن ماجه (٧٩٨) ، الترمذى ٢ / ٧ ـ ٩ ، والهيثمى فى مجمع الزوائد ٤ / ٨ ، وعزاه للطبرانى فى الأوسط ، وقال : رجاله ثقات.

(٤) ذكره ابن جماعة فى هداية السالك ١ / ١١٢ ، وعزاه للزبير بن بكار.

(٥) سبق تخريجه فى الفصل السابق.

(٦) أخرجه : ابن ماجه فى المقدمة ١ / ٨٢ ، ابن أبى شيبة ١٢ / ٢٠٩ ، الحاكم فى المستدرك ١ / ٩١ ، وصححه على شرط الشيخين ، وقال الذهبى : وهو على شرطهما ولا أعلم له علة. وصححه ابن حبان.

٣٢٥

وفى رواية : «فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره».

وعن ابن عباس رضى الله عنهما : أن امرأة شكت بشكوى فقالت : إن شفانى الله تعالى لأخرجن فلأصلين فى بيت المقدس ، فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج ، فجاءت إلى ميمونة زوج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرتها بذلك ، فقالت ميمونة : اجلسى وكلى ما صنعت وصلى فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :«صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة».

أخرجه مسلم (١).

وعن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من حين يخرج أحدكم من منزله إلى مسجدى فرجل تكتب له حسنة ورجل تحط عنه خطيئة حتى يرجع» (٢).

واعلم أن الفضل الثابت لمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابت أيضا لما زيد بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك ما زيد فى المسجد الحرام [له] حكم المزيد عليه فى زيادة الفضل.

وعن ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ قال : زاد عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى المسجد من جهة الشام ، قال : لو زدنا فيه حتى نبلغ الجبانة لكان مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو بنى هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدى».

وروى غيره مرفوعا أنه قال : «هذا مسجدى ، وما زيد فيه فهو منه ، ولو بلغ صنعاء لكان مسجدى». كذا فى «الدرة الثمينة فى أخبار المدينة».

__________________

(١) أخرجه : مسلم ٩ / ١٦٧ ، أحمد ٦ / ٣٣٤ ، ابن أبى شيبة ٢ / ٣٧١ ، عبد الرزاق فى مصنفه ٥ / ١٢١. وفيه إبراهيم بن عبد الله بن معبد. هو : ابن العباس بن عبد المطلب : صدوق (التقريب ١ / ٣٨).

(٢) هذا ثابت من حديث أبى هريرة فى كل مسجد كما فى الحديث الذى أخرجه : البخارى ١ / ١٢٧ (الأذان : فضل الجماعة) ، مسلم ٢ / ١٢٨ ، ١٢٩.

٣٢٦

الفصل الثامن

فى ذكر فضائل الروضة والمنبر الشريفين

ثبت فى الصحيح أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة ، ومنبرى على حوضى» (١).

وروى : «ما بين حجرتى ومنبرى» ، وروى : «ما بين قبرى ومنبرى» (٢).

وفى تفسيره معنيان :

أحدهما : أنه يحصل روضة من رياض الجنة بالعبادة فيه كما قيل : «الجنة تحت ظلال السيوف».

الثانى : أن تلك البقعة قد ينقلها الله تعالى فتكون فى الجنة بعينها.

وقيل : يحتمل أن يراد أن العلم والقرآن يقتبسان من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ذلك الموضع فسمى روضة ، وجاء فى الحديث : رياض الجنة حلق الذكر أهم من أن تكون قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك.

وقوله : ومنبرى على حوضى قالوا : معناه من لزم العبادة عند المنبر سقى من الحوض يوم القيامة ، وبعض العلماء حمله على الحقيقة.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قواعد منبرى رواتب فى الجنة» (٣) يعنى : ثوابت فى الجنة.

__________________

(١) أخرجه : البخارى (١١٩٦ ، ١١٨٨) ، مسلم ٣ / ٤٦٩ ، أحمد ٢ / ٢٣٦ ، ٣٧٦ ، ٣ / ٤٥٤ ، الترمذى (٤١٧٢ ، ٤١٧٣) ، البيهقى فى السنن ٥ / ٢٤٧ ، عبد الرزاق (٥٢٤٣) ، الطبرانى فى الصغير ٢ / ١٢٢ ، البيهقى فى الدلائل ٢ / ٥٦٤ ، والشعب (٤١٤٦) ، وأبو نعيم فى الحلية ٣ / ٢٦ ، ٢٦٤ ، ٦ / ٣٤١ ، ٣٤٧.

(٢) أخرجه : البخارى ٢ / ٦١ (التهجد : فضل ما بين القبر والمنبر) ، أبو يعلى (١١٣) ، أحمد فى مسنده ٣ / ٦٤ ، البيهقى فى السنن ٥ / ٢٤٦ ، والشعب (٤١٦٣).

(٣) هداية السالك ١ / ١١٢.

٣٢٧

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «منبرى على ترعة من ترع الجنة» (١). والترعة فى اللغة : الباب ، وقيل : الترعة : الروضة على مكان مرتفع. وقيل : الترعة : العتبة.

ونقل ابن الزّبير ، عن نعيم بن عبد الله ، عن أبيه ، أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو على منبره : «إن قدمىّ الآن على ترعة من ترع الجنة» (٢).

وروى أبو داود من حديث جابر أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحلف أحد عند منبرى هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار ، ووجبت له النار».

فى ذكر ذرع ما بين الروضة الشريفة

ومصلّى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقبر المقدس المطهر

نقل ابن زبالة أن ذرع ما بين المنبر ومصلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى كان يصلى فيه إلى أن توفى أربعة عشر ذراعا. ويقال : وشبر. وأن ذرع ما بين القبر المقدس والمنبر الشريف ثلاث وخمسون ذراعا ، والآن خمسون ذراعا إلا ثلثى ذراع ولعل نقصه عن النقول بسبب ما دخل فى حائز عمر بن عبد العزيز على الحجرة (٣).

وينبغى اعتقاد كون الروضة الشريفة بما هو معروف الآن بل تتسع إلى جدّ بيوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ناحية الشام ، وهو كان آخر المسجد فى زمانه ؛ فيكون كله روضة.

__________________

(١) أخرجه : أحمد فى مسنده ٢ / ٣٦٠ ، البيهقى فى السنن ٥ / ٢٤٧ ، النسائى فى الكبرى (٤٢٨٨) ، البغوى فى شرح السنة (٤٥٥) ، ابن سعد ١ / ١٠.

(٢) أخرجه : أحمد فى مسنده ٢ / ٤١٢.

(٣) هداية السالك ٣ / ١٤١٩ ، وفاء الوفا ٢ / ٣٩١.

٣٢٨

الفصل التاسع

فى ذكر فضائل زيارة القبر المقدس

عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من زار قبرى وجبت له شفاعتى» (١). رواه الدارقطنى.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جاءنى زائرا لا حاجة له إلا زيارتى كان حقا علىّ أن أكون له شفيعا يوم القيامة» (٢) أخرجه الطبرانى والدارقطنى.

وعن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا عذر لمن كان ذا سعة من أمتى ولم يزرنى» (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلى علىّ عند قبرى سمعته ، ومن صلى علىّ نائيا بلغته» (٤).

رواه أبو بكر بن أبى شيبة وغيره.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من أحد يسلم علىّ إلا ردّ الله علىّ روحى حتى أرد عليه‌السلام» (٥). رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من حج وزار قبرى بعد موتى كان كمن زارنى فى حياتى» (٦).

__________________

(١) أخرجه : الدارقطنى فى السنن ٢ / ٢٧٨ ، وابن النجار (ص : ١٤٣) ، وأخرجه : ابن خزيمة وأشار إلى تضعيفه ، وعزاه فى الشذرة (٩٦٠) إلى أبى الشيخ ، وابن أبى الدنيا. وقال الذهبى : طرق هذا الحديث كلها لينة يقوى بعضها بعضا.

(٢) ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد ٤ / ٢ ، وعزاه للطبرانى فى الأوسط والكبير. وفيه : مسلمة بن سالم ضعيف.

(٣) ذكره ابن جماعة فى هداية السالك ١ / ١١٣ ، وعزاه للحافظ ابن عساكر بمعناه.

(٤) رواه البيهقى كما فى فتح البارى ، ويشهد له حديث أبى هريرة عند أبى داود ٢ / ٢١٨ : «وصلوا علىّ فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم».

(٥) أخرجه : أبو داود ٢ / ٢١٨ ، أحمد فى مسنده ٢ / ٥٢٧.

(٦) أخرجه : الدارقطنى فى السنن ٢ / ٢٧٨ ، والهيثمى فى مجمع الزوائد ٤ / ٢ ، وعزاه للطبرانى فى الكبير والأوسط والصغير.

٣٢٩

وعن على ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حج ولم يزر قبرى فقد جفانى» (١). ذكره أبو اليمن فى كتابه «تحفة الزائر».

وعن كعب أنه قال : ما من فجر يطلع إلا نزل عليه سبعون ألف ملك من الملائكة حتى يحفون بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إذا أمسوا عرجوا ، وهبط سبعون ألفا حتى يحفون بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ سبعون ألفا بالليل وسبعون ألفا بالنهار ، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج فى سبعين ألف من الملائكة (٢).

وروى عنه عليه‌السلام أنه قال : «من زارنى فى المدينة متعمدا كان فى جوارى يوم القيامة» (٣). أخرجه عبد الواحد التميمى فى كتابه المسمى بجواهر الكلام.

وفى رواية أنس بن مالك : «من زارنى فى المدينة محتسبا ؛ كان فى جوارى ، وكنت شفيعا له يوم القيامة» (٤).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من زارنى بعد موتى فكأنما زارنى فى حياتى» (٥).

__________________

(١) ذكره ابن النجار فى «الدرة الثمينة فى تاريخ المدينة» ٢ / ٣٩٧.

(٢) ذكره ابن الجوزى فى مثير الغرام الساكن (ص : ٤٨٧) ، وابن عساكر فى مختصر تاريخ دمشق ٢ / ٤٠٧ ، وعزاه السيوطى فى الخصائص إلى ابن المبارك ، وابن أبى الدنيا ٢ / ٣٧٦ ، وابن النجار (ص : ١٤٥) وقد تحرف فيه المتن قليلا. والبيهقى فى الشعب (٤١٧٠) عن وهب بن منبه.

(٣) ذكره الهندى فى كنز العمال ٥ / ٦٥٢ ، وعزاه للبيهقى فى الشعب ، وانظر : الجامع الصغير وفيض القدير ٦ / ١٤٠.

(٤) أخرجه : البيهقى فى الشعب (٤١٥٧) ، وابن عساكر فى مختصر تاريخ دمشق ٢ / ٤٠٦ ، المنذرى فى الترغيب والترهيب ٢ / ٢٢٤ ، وراجع تنزيه الشريعة ٢ / ١٧٦ ، واللالئ المصنوعة ٢ / ٧٢ ، وتذكرة الموضوعات (٧٥).

وفيه سليمان بن يزيد الكعبى ذكره ابن حبان فى الثقات ، وقال : وزعم ابن عبد الهادى أن روايته عن أنس منقطعة ، وأنه لم يدركه ، فإنه إنما يروى عن التابعين وأتباعهم. قلت : وضعفه الدارقطنى.

(٥) أخرجه : الدارقطنى فى السنن ٢ / ٢٧٨.

٣٣٠

الفصل العاشر

فى ذكر فضائل الأسطوانة المخلقة

وهى التى صلى إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المكتوبة بعد تحويل القبلة ببضعة عشر يوما ، ثم تقدم إلى مصلاه وهى الثالثة من المنبر ، والثالثة من القبلة ، والثالثة من القبر الشريف ، والخامسة من رحبة المسجد اليوم.

وهى متوسطة فى الروضة ، وتعرف أيضا بأسطوانة المهاجرين ؛ لأن أكابر الصحابة كانوا يصلون إليها ويجلسون حولها. وتسمى أيضا : أسطوانة عائشة ـ رضى الله عنها ـ للحديث الذى روت فيه : أنها لو عرفها الناس لاضطربوا على الصلاة عندها بالسهمان (١).

وهى التى أسرّت بها إلى ابن أختها عبد الله بن الزّبير ، وكان أكثر نوافل عبد الله ابن الزّبير إليها ، ويقال : إن الدعاء عندها مستجاب (٢).

__________________

(١) أى : لاقترعوا على الصلاة عندها.

(٢) هداية السالك ١ / ١١٧.

٣٣١

الفصل الحادى عشر

فى ذكر فضائل أسطوانة التوبة

وهى التى ارتبط بها أبو لبابة بشر بن عبد المنذر الأنصارى الأوسى.

ونقل ابن زبالة أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى نوافله إليها. وفى رواية : كان أكثر نوافله إليها ، وكان إذا صلى الصبح انصرف إليها. وقد سبق إليها الضعفاء والمساكين ، وأهل الضر وضيفان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمؤلفة قلوبهم ، ومن لا مبيت له إلا المسجد ، فينصرف إليهم من مصلّاه من الصبح فيتلو عليهم ما أنزل الله تعالى عليه من ليلته ويحدثهم الحديث (١).

وعن ابن عمر رضى الله عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اعتكف يطرح له فراشه ويوضع له سريره إلى أسطوانة التوبة مما يلى القبلة يستند إليها (٢).

وهى الثانية من القبر الشريف ، والثالثة من القبلة ، والرابعة من المنبر ، والخامسة من رحبة المسجد اليوم (٣).

وعن عبد الله بن أبى بكر قال : ارتبط أبو لبابة إلى هذه الأسطوانة بضعة عشر ليلة ، وكانت ابنته تأتيه عند كل صلاة فتحله فيتوضأ ويصلى حتى نزلت آية توبته بينها وبين القبر ، فجاءوه ليحلوه ، فقال : لا حتى يحلنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحلّه منها.

وخلفها من جهة الشمال أسطوانة أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ وتعرف بالمحرس ؛ لأنه ـ رضى الله عنه ـ كان يجلس إليها لحراسة النبى

__________________

(١) أخرجه : البخارى ١ / ١٠٢ (الصلاة : باب الصلاة إلى الاسطوانة). مسلم ٢ / ٥٩ (الصلاة : دنو المصلى من السترة).

(٢) أخرجه : البيهقى فى السنن ٥ / ٢٤٧ ، ابن ماجه ١ / ٥٦٤.

(٣) تفسير أحكام القرآن لابن العربى ٢ / ٩٩٨ ، تفسير آية (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ.) والاستيعاب بهامش الإصابة ٤ / ١٦٨.

٣٣٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهى مقابل للخوخة التى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرج منها من بيت عائشة ـ رضى الله عنها ـ إلى الروضة الشريفة للصلاة (١).

وخلفها ـ أيضا ـ أسطوانة الوفود ؛ يروى : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يجلس إليها لوفود العرب إذا جاءته ، وكانت مما تلى رحبة المسجد قبل أن يزاد فى السقف القبلى الرواقان المستجدان ، وكان يعرف أيضا بمجلس القلادة ؛ لأنه كان يجلس إليها الرؤساء من الصحابة وأفاضلهم رضى الله عنهم أجمعين (٢).

__________________

(١) هداية السالك ١ / ١١٦ ، ١١٧.

(٢) هداية السالك ١ / ١١٨.

٣٣٣

الفصل الثانى عشر

فى ذكر آداب زيارة القبر المقدس

وهو قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم العربى القرشى المدنى الهاشمى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ فإن زيارته مستحبة مندوبة قريبة إلى الواجب فى حق من كان له سعة وقدرة على ما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من وجد سعة ولم يفد إلىّ فقد جفانى» (١).

وفى رواية : «ما من أحد من أمتى له سعة ولم يزرنى فليس له عذر عند الله تعالى».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جاءنى زائرا لا يهمه إلا زيارتى كان حقا على الله تعالى أن أكون شفيعا له» (٢).

وقال عليه‌السلام : «من زارنى بعد مماتى فكأنما زارنى فى حياتى» (٣).

وفى الباب أحاديث كثيرة قد تقدم بعضها ويكفى هذا القدر للمؤمن الذى يدّعى محبته ؛ فينبغى للحاج أن يهتم بزيارة قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الفراغ من حجة ، وأن لا يضع أكوار الحزم عن رواحل العزم إلا بعد التوجه إلى حضرته ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :«من حج ولم يزرنى فقد جفانى».

وينبغى للزائر إذا وصل إلى المدينة الشريفة أن يغتسل ويلبس أنظف وأحسن ثيابه (٤) ، ويمس شيئا من الطيب على بدنه وثوبه ولو يسيرا ، ويستحضر فى قلبه أنس أرض مشى جبريل ـ عليه‌السلام ـ فى عرصتها. والله شرّف أرضها وسماها ، ويكثر الصلاة والتسليم على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الطرق ، فإذا وقع بصره على حيطان

__________________

(١) ذكره ابن النجار فى تاريخ المدينة ٢ / ٣٩٧ ، وانظر : المقاصد ١١٧٨ ، كشف الخفاء ٢٦١٢ ، الموضوعات ٢ / ٢١٧ ، الفوائد المجموعة (ص : ١١٨).

(٢) ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد ٤ / ٢ ، وعزاه للطبرانى فى الأوسط والكبير.

(٣) أخرجه : الدارقطنى فى السنن ٢ / ٢٧٨ ، والهيثمى فى مجمع الزوائد ٤ / ٢ ، وعزاه للطبرانى.

(٤) انظر فى ذلك : الإيضاح للنووى (ص : ٤٩) ، المجموع ٨ / ٢١٥ ، شرح اللباب (ص : ٣٣٦).

٣٣٤

المدينة والأشجار فليزد من الصلاة والتسليم عليه والاستغفار ، ويسأل الله تعالى أن ينفعه بزيارته ويسعده بها فى الدارين ويقول : اللهم هذا حرم نبيك ورسولك فاجعله لى جنة من سوء الحساب ، ووقاية من النار (١).

فإذا قرب إلى درب المدينة يقول : اللهم رب السموات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الرياح وما ذرين ، أسألك خير هذه القرية وخير من فيها ، ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر من فيها (٢).

وإذا وقع بصره على المدينة وعلى الحرم النبوى نزل عن الرواحل ، ولا يركب مركبا ؛ لأن العلماء لا يرون ذلك أدبا.

وكان مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ يقول : أستحيى من الله تعالى أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحافر دابتى.

ثم يدخل على هيئة الخشوع والتواضع والمسكنة والوقار مشتغلا بالدعاء والأذكار متفكرا فى نفسه شرفها وجلالة من شرفت به ، ومتأملا فى قلبه أنها دار الهجرة ومهبط الوحى وأصل الأحكام ومنبع الإيمان ومظهر الإسلام ، ويقول عند دخوله : بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا (٣).

ويقصد فى دخوله باب الصلاة (٤). فإذا وصل إلى باب المسجد صلّى عليه وسلم ، ويقدم رجله اليمين ويطرق بصره على الأرض ، ويكثر من التواضع والخشوع والمسكنة والتذلل ، ويقول : اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ،

__________________

(١) أورده النووى فى الأذكار (ص : ٣٠٦).

(٢) أخرجه : النسائى فى عمل اليوم والليلة (ص : ٣٦٧ ـ ٣٦٨) ، وموارد الظمأن (ص : ٥٩٠) ، والحاكم فى المستدرك ١ / ٤٤٦ ، وقال : صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبى. وأخرجه : البيهقى فى السنن ٥ / ٢٥٢ ، والطبرانى فى الدعاء ٢ / ١١٨٨.

(٣) الإيضاح (ص : ٤٩٠ ـ ٤٩١) ، المجموع ٨ / ٢١٥ ، شرح اللباب (ص : ٣٣٦) ، هداية السالك ٣ / ١٣٧٤.

(٤) انظر : آداب دخول المسجد النبوى والزيارة فى : الإيضاح (ص : ٤٩٢ ـ ٤٩٤) ، فتح القدير ٣ / ٣٣٦ ، هداية السالك ٣ / ١٣٧٢ ، شرح اللباب (ص : ٣٣٦).

٣٣٥

اللهم اغفر لى ذنوبى وافتح علىّ أبواب فضلك وأبواب رحمتك.

ثم يتوجه إلى منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويصلى عنده ركعتين بحيث يكون عمود المنبر بحذاء منكبه اليمين ؛ فإنه موقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقرأ فى الركعة الأولى الفاتحة وقل يا أيها الكافرون ، والثانية الفاتحة وقل هو الله أحد ، ثم يسجد شكرا لله تعالى على الوصول إلى تلك البقعة الشريفة والبلوغ إلى تلك الروضة المنيفة ؛ على قول من يرى سجدة الشكر معتبرة مشروعة كأبى يوسف ومحمد والشافعى ـ رضى الله عنهم ـ ويدعو بما أحب.

وإن كان يخاف فوات المكتوبة يبدأ بها ؛ فإن تحية المسجد تحصل بها أيضا ، ويدعو بعدها.

ثم ينهض ويتوجه إلى قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقف عند رأسه ويدنو منه ويكون وقوفه بين القبر والمنبر مستقبلا للقبلة ، ولا يضع يده على جدران الحظيرة ولا يقبلها ؛ فإن تلك ليست من سنن الصحابة رضى الله عنهم ؛ بل يدنو على قدر ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع ، ويصلى على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى الصديق والفاروق على ما يأتى ، ثم يبعد عنها قدر رمح أو أقل ؛ فإن ذلك أقرب إلى الحرمة. كذا عن الفقيه أبى الليث وعن أصحابنا أيضا.

ورأيت فى مناسك أصحاب الشافعى ـ رضى الله عنهم ـ وغيره : أنه يقف على وجه يكون ظهره إلى القبلة ووجهه إلى الحظيرة ، والصحيح ما ذكرنا ؛ لأنه جمع بين العبادتين مع استقبال القبلة فى حالة واحدة.

فإذا وقف بحذاء رأسه ـ عليه‌السلام ـ على ما ذكرنا يقف بالحرمة ناظرا إلى الأرض غاض البصر مطرق ، ويضع يمينه على شماله كما فى الصلاة ، ويمثل صورته الكريمة فى عينه أنه موضوع فى اللحد ما زال كالنائم ، وأنه عالم بحضوره وقيامه وزيارته ، وأنه يسمع كلامه وسلامه وصلاته ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلى علىّ عند قبرى سمعته ، ومن صلّى نائيا بلغته» ؛ ولأنه أوفر تعظيما له فى قلبه ويقول :السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا نبى الله ، السلام عليك يا حبيب الله ، السلام عليك يا أمين وحى الله ، السلام عليك يا صفوة الله ، السلام عليك يا

٣٣٦

خيرة الله ، السلام عليك يا أشرف خلق الله ، السلام عليك يا أفضل رسل الله ، السلام عليك يا محمد ، السلام عليك يا أحمد ، السلام عليك يا محمود ، السلام عليك يا أبا القاسم ، السلام عليك يا بشير ، السلام عليك يا نذير ، السلام عليك يا شاهد ، السلام عليك يا طاهر ، السلام عليك يا ماحى ، السلام عليك يا سيد المرسلين ، السلام عليك يا شفيع المذنبين ، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين ، السلام عليك يا رسول رب العالمين ، السلام عليك يا خاتم النبيين ، السلام عليك يا إمام المتقين ، السلام عليك وعلى أهل بيتك الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، السلام عليك وعلى أزواجك الطاهرات أمهات المؤمنين ، السلام عليك وعلى أصحابك أجمعين ، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وجميع عباد الله الصالحين ، جزاك الله عنا يا رسول الله أفضل ما جزى نبيا عن قومه ، ورسولا عن أمته ، وأشهد أنك يا سيدى رسول الله قد بلغت الرسالة ، وأديت الأمانة ، ونصحت الأمة ، وأوضحت الحجة ، وجاهدت فى الله حق جهاده ، وعبدت ربك حتى أتاك اليقين ، صلى الله عليك كلما ذكرك الذاكرون وكلما غفل عن ذكرك الغافلون ، وصلى الله عليك فى الأولين والآخرين أفضل وأكمل وأطيب ما صلى على أحد من خلقه أجمعين ، وصلى الله عليك وعلى روحك فى الأرواح ، وعلى جسدك فى الأجساد ، وعلى قبرك فى القبور. نحن وفدك وزوّارك يا رسول الله ، ونحن قصّادك وأضيافك يا أكرم الخلق على الله ، جئناك من بلاد شاسعة وأمكنة بعيدة ، قطعنا إليك السهل والجبل والحرار ، وخضنا المهامة والمفاوز والقفار ، وقصدنا به قضاء حقك ، والنظر إلى مآثرك ، والتيمن بزيارتك ، والتبرك بالسلام عليك ، وقد حللنا رحيب فناءك وأنخنا بساحة جودك وإنعامك ؛ وأنت خير مخلوق وفد إليه الرجال وشدّت إلى فناءه الرحال ، وقد ندبتنا إلى إكرام الضيف ، وحرضتنا على قرى الوافد ، وأنت أولى بذلك منا ؛ فقد وصفك الله تعالى بالخلق العظيم وسمّاك بالرءوف الرحيم ، فاجعل قرانا الشفاعة إلى ربنا وربك ، واجعل ضيافتنا أن تسأل الله تعالى لنا أن يحيينا ويميتنا على ملتك ، وأن يحشرنا يوم القيامة فى زمرتك ، ويوردنا حوضك ، ويسقينا بكأسك غير خزايا ولا نادمين ولا مبدلين ولا مغيرين ، وأن يبلغنا آمالنا فى الدنيا والآخرة ،

٣٣٧

ويصلح أحوالنا الباطنة والظاهرة ، فإن الخطايا قد قصمت ظهورنا ، والأوزار قد أثقلت كواهلنا ، وأنت الشافع المشفوع الموعود بالشفاعة الكبرى والمقام المحمود ، وقد قال الله تعالى فيما أنزل عليك : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(١).

وقد جئناك يا حبيب الله ظالمين لأنفسنا مستغفرين لذنوبنا معترفين بإساءتنا فاستغفر لنا إلى ربنا ، واستقل لنا من ذنوبنا ، وإن لم نكن لذلك أهلا فأنت أهل الصفح الجميل والعفو عن المسيئ المعترف ، فافعل بنا ما يليق بكرمك ، فقد طرحنا أنفسنا عليك يا رسول الله ، ليس لنا منقلب عنك ولا ذهاب عن بابك ولا أحد نستشفع به غيرك ؛ لأنك نبينا ، أرسلك الله رحمة للعالمين ، وبعثك منقذا للمذنبين فلا تخيب ظننا فيك ، ولا تخلف أملنا منك ، صلى الله عليك ورضى الله عن أهل بيتك وأصحابك وأزواجك وأتباعك أجمعين ، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

وإن كان أحد من إخوانه وخلّانه من المسلمين أوصاه بتبليغ السلام إلى النبى عليه‌السلام فيقول : السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان يستشفع بك إلى ربك بالرحمة والمغفرة فاشفع له ولجميع المؤمنين ؛ فأنت الشافع المشفع الرؤوف الرحيم.

ثم يتحول من ذلك المكان ويدور إلى أن يقف بحذاء وجه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستديرا للقبلة ، ويقف لحظة ويصلى عليه مرة أو ثلاثا (٢).

ثم يتحول من ذلك الموضع قدر ذراع إلى أن يحاذى رأس الصديق رضى الله عنه ؛ فإن رأس الصديق عند منكب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يقول : السلام عليك يا خليفة رسول الله ، السلام عليك يا صاحب رسول الله فى الغار ، السلام عليك يا رفيق رسول الله فى الأسفار ، السلام عليك يا أمين رسول الله فى الأسرار ، السلام عليك يا صديق ، جزاك الله أفضل ما جزى إماما عن أمة نبيه ؛ فقد خلفته بأحسن

__________________

(١) سورة النساء : آية ٦٤.

(٢) هداية السالك ٣ / ١٣٧٦ ، وهذه الصيغ فى السلام على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هى اختيارات للعلماء ، وليس فيها تحديد ، وأى صيغة ألهمك الله إياها فهى صيغة مقبولة إن شاء الله.

٣٣٨

الخلف ، وسلكت طريقه ومناهجه بأحسن المناهج ، وقاتلت أهل الردة والبدعة ، ونصرت الإسلام ، وكفلت الأيتام ، ووصلت الأرحام ، ولم تزل قائلا للحق ناصرا لأهله إلى أن أتاك اليقين. رضوان الله عليك وسلامه وبركاته. أسأل الله تعالى أن يميتنا على محبتك ، وأن يحشرنا فى زمرة نبينا ونبيك وزمرتك ، وأن ينفعنا بمحبتك كما وفقنا لزيارتك. إنه هو الغفور الرحيم (١).

ثم يتحول قدر ذراع إلى أن يحاذى رأس قبر الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ؛ فإنه رأسه عند منكب أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ فيقول :السلام عليك يا أمير المؤمنين ، السلام عليك يا مظهر الإسلام ، السلام عليك يا كاسر الأصنام ، السلام عليك يا من أعز الله به الإسلام ، ودفع به الكفر والأصنام. جزاك الله عنا يا أمير المؤمنين أفضل ما جزى إماما عن أمة نبيه ، ولقد سلكت بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم طريقة مرضية ، وسرت فيهم سيرة نقية ، وأمرتهم بما أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونهيتهم عما نهاهم عنه ، وكنت فيهم هاديا مهديا ، وإماما مرضيا ، فجمعت شملهم ، وأغنيت فقرهم ، وجبرت كسرهم ، ولا تألو فى الله تعالى وفى عباده جهدا ، سلام الله عليك ورضوانه وبركاته ، أسأل الله تعالى أن يحيينا ويميتنا على محبتك ، وأن يحشرنا فى زمرة نبينا وزمرتك ، السلام عليك يا أمير المؤمنين إنه هو الغفور الرحيم (٢).

ثم يرجع قدر نصف ذراع ويقف بين رأس الصديق ورأس الفاروق ـ رضى الله عنهما ـ ويقول : السلام عليكما يا صاحبى رسول الله ، السلام عليكما يا ضجيعى رسول الله ، السلام عليكما يا رفيقى رسول الله ، السلام عليكما يا وزيرى رسول الله ، جزاكما الله تعالى خير الجزاء. جئنا يا صاحبى رسول الله زائرين لنبينا وصدّيقنا وفاروقنا ، ونحن نتوسل بكما إلى رسول الله ليشفع لنا ، ونحن نسأل الله تعالى أن يتقبل سعينا ، وأن يحيينا على ملتكم ، ويميتنا على ملتكم ، ويحشرنا فى زمرتكم. ثم يدعو لنفسه ولوالديه ولجميع المؤمنين والمؤمنات ويسأل الله تعالى حاجته ويصلى فى آخره على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله.

__________________

(١) المرجع السابق ٣ / ١٣٧٧.

(٢) نفس المرجع ٣ / ١٣٧٨.

٣٣٩

ثم يرجع ويقف عند رأس النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين القبر والمنبر على الوجه الذى وقف فى الابتداء (١) ، ويستقبل القبلة ويحمد الله تعالى ، ويكثر من الصلاة على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويسأل الله تعالى المغفرة والرضوان لنفسه ولوالديه ولجميع المؤمنين ولمن أحب من إخوانه وأصدقائه وأستاذيه ومعلميه ، ثم يقول : اللهم إنك قلت وأنت أصدق القائلين : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(٢) سمعنا قولك ، وأطعنا أمرك ، وقصدنا نبيك مستشفعين به إليك بالمغفرة والرضوان ، ربنا اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

ولو أراد أن يزيد أو ينقص فله ذلك ؛ لأنه ليس له دعاء على سبيل التعيين ؛ بل يدعو بما تيسر له (٣). والله الموفق لذلك.

ولا يصلى عند القبر صلاة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد ؛ اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تتخذوا قبرى عيدا» (٥) ، ولكن يجئ إلى أسطوانة التوبة ـ التى ذكرنا ـ فيصلى عندها ركعتين ويدعو الله تعالى بالرحمة والمغفرة ، ويشكره على ما أولاه ويسأله بلوغ ما أمله ورجاه ، ثم يقصد الروضة فيصلى فيها ما تيسر ، ويكثر من الصلاة على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدعاء لنفسه فيها ؛ ففى الحديث المتفق عليه : «ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة» (٦).

__________________

(١) ما ذكر من العود إلى قبالة الوجه الشريف ، والتقدم إلى رأس القبر المقدس للدعاء عقب الزيارة لم ينقل عن فعل الصحابة ، أو التابعين رضوان الله عليهم أجمعين.

(٢) سورة النساء : آية ٦٤.

(٣) انظر فى الاختصار فى الدعاء : المجموع ٨ / ٢١٧ ، فتح القدير ٢ / ٣٣٧ ، شرح اللباب (ص : ٣٤١) ونبه على أن لا يغفل الزائر عن الأدب وكمال التوجه سواء اختصر صيغة السلام أم لا ؛ فإن ذلك هو الأساس.

(٤) أخرجه : أحمد فى مسنده ٢ / ٢٤٦ ، مالك فى الموطا ١ / ١٧٢.

(٥) أخرجه : أحمد فى مسنده ٢ / ٣٦٧ بلفظه فى ضمن حديث ، وأبو داود ٢ / ٢١٨ ، فى آخر المناسك ضمن حديث عن أبى هريرة (زيارة القبور). بلفظ : «لا تجعلوا».

(٦) أخرجه : البخارى (١١٩٦ ، ١٨٨٨) مسلم ٣ / ٤٦٩ ، الترمذى (٤١٧٢ ، ٤١٧٣) ، أحمد فى

٣٤٠