إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

محمّد بن إسحاق الخوارزمي

إثارة التّرغيب والتّشويق إلى المساجد الثّلاثة والبيت العتيق

المؤلف:

محمّد بن إسحاق الخوارزمي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

فأما بركته : ففيه تغفر الذنوب ، وتضاعف الحسنات ، ويأمن من دخله.

وقيل : مباركا ، أى : كثير الخير لمن حجه واعتمره أو اعتكف عنده أو طاف حوله.

وقوله : (هُدىً لِلْعالَمِينَ) أى : متعبدهم وقبلتهم ، وفى معنى الهدى هاهنا أربعة أقوال :

أحدها : أنه بمعنى القبلة فتقديره : وقبلة للعالمين.

والثانى : أنه بمعنى المرحمة.

والثالث : أنه بمعنى الصلاح ؛ لأن من قصده صلح حاله عند ربه.

والرابع : أنه بمعنى البيان والدلالة على الله تعالى بما فيه من الآيات التى لا يقدر عليها غيره ؛ حيث يجتمع الكلب والظبى فى الحرم ، فلا الكلب يهيج الظبى ، ولا الظبى يستوحش منه.

قوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) أي : دلالات ظاهرة من بناء إبراهيم ، وأن الله عظمه وشرفه.

قال المفسرون (١) : الآيات فيه كثيرة ، منها : مقام إبراهيم. ومنها : أمن من دخله.

ومنها : امتناع الطير من العلو عليه. واستشفاء المريض به. وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته. وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه ... إلى غير ذلك.

قال أبو يعلى : والمراد بالبيت هاهنا الحرم كله ؛ لأن هذه الآيات موجودة فيه ، ومقام إبراهيم ليس فى البيت.

قوله : (مَقامِ إِبْراهِيمَ) قيل : عطف بيان على آيات ، وبين الجمع بالواحد ؛ لاشتماله على آيات أثر قدميه الشريفتين فى الصخرة وبقاؤه وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وذلك دليل على قدرة الله تعالى وصدق إبراهيم عليه‌السلام.

وقيل : الآيات تزيد على ذلك لكنه تعالى طوى ذكر غيرها دلالة على تكاثر الآيات.

__________________

(١) تفسير الكشاف ١ / ٤٤٨.

٤١

وقال مجاهد : أثر قدميه فى المقام آية بينة.

قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً). يعنى حرم مكة ، أى : إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء.

قال ابن عباس : من عاذ بالبيت أعاذه البيت.

وقال القاضى أبو يعلى : لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر ؛ فتقديره : من دخله فأمّنوه. وهو عام فيمن جنا فيه قبل دخوله وفيمن جنا فيه بعد دخوله ؛ إلا أن الإجماع انعقد على أن من جنا فيه لا يؤمن ؛ لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان فبقى حكم الآية فيمن جنا خارجا منه ثم لجأ إلى الحرم.

وقد اختلف الفقهاء فى ذلك ؛ قال أحمد فى رواية المروزى : إذا قتل أو قطع يدا أو أتى حدا فى غير الحرم ثم دخله لم يقم عليه الحد ولم يقتص منه ، ولكن لا يبايع ولا يشارى ، ولا يؤاكل حتى يخرج ؛ فإن فعل شيئا من ذلك فى الحرم استوفى منه.

وقال أحمد فى رواية : إذا قتل خارج الحرم ثم دخله لم يقتل ، وإن كانت الجناية دون النفس فإنه يقام عليه الحد ؛ وبه قال أبو حنفية وأصحابه ، رحمهم الله.

وقال مالك والشافعى رضى الله عنهم : يقام عليه جميع ذلك فى النفس ، وفيما دون النفس.

وفى قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) دليل على أنه لا يقام عليه شىء من ذلك ، وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وعطاء ، والشعبى وسعيد بن جبير وطاووس.

وقيل : من دخله فى عمرة القضاء مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان آمنا.

وقيل : من دخله لقضاء النسك معظما لحرمته عارفا لحقه متقربا إلى الله تعالى كان آمنا يوم القيامة.

وقيل : ومن دخله كان آمنا ، أى : آمنا من النار ؛ وفى معنى هذا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دخل البيت دخل فى حسنة وخرج من سيئة ، وإذا خرج خرج مغفورا له» (١).

__________________

(١) أخرجه : البيهقى فى سننه ٥ / ١٥٨ ، والطبرانى فى الكبير ، والبزار بنحوه ، وفى سنده : عبيد الله

٤٢

وقوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً)(١) المثل عبارة عن قول فى شىء يشبه قولا فى شىء آخر بينهما مشابهة ليتبين أحدهما من الآخر ويصوره.

وقيل : هو عبارة عن المشابهة لغيره فى معنى من المعانى ، أى معنّى كان ، وهو أعم من الألفاظ الموضوعة للمشابهة.

قال الإمام فخر الدين الرازى : المثل قد يضرب بشىء موصوف بصفة معينة سواء كان ذكر الشىء موجودا أو لم يكن ، وقد يضرب بشىء موجود معين فهذه القرية التى ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئا معروفا ويحتمل أن تكون قرية معينة.

وعلى التقدير الثانى : فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها ، والأكثر من المفسرين على أنها مكة. والأقرب أنها غير مكة ؛ لأنها ضربت مثلا بمكة.

وقال الزمخشرى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) أى جعلت القرية التى هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا ، فأنزل الله بهم نقمته.

والآية عند عامة المفسرين نازلة فى أهل مكة وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن والنعمة بتكذيبهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتقدير الآية : ضرب الله مثلا لقريتكم مثلا ، أى : بين الله بها شبها. ثم قال : قرية ، فيجوز أن تكون القرية بدلا من مثلا ؛ لأنها هى الممثل بها فى المثل. ويجوز أن يكون المعنى : ضرب الله مثلا مثل قرية ، فحذف المضاف ؛ هذا قول الزجاج.

والمفسرون كلهم قالوا : أراد بالقرية مكة يعنون أنه أراد مكة فى تمثيلها بقرية صفتها ما ذكر.

وقال الزمخشرى : فى هذه القرية قولان :

أحدهما : أنها مكة ؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور ، وهو الصحيح.

__________________

ابن المؤمل ؛ تفرد به. وثقه ابن سعد وغيره وفيه ضعف (مجمع الزوائد ٣ / ٢٩٣) ، وحسنه السيوطى فى الجامع الصغير ، كما فى الفيض ٦ / ١٢٤.

(١) سورة النحل : آية ١١٢.

٤٣

والثانى : أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز ، فبعث الله عليهم الجوع ؛ قاله الحسن.

وأما تفسير الآية : فقوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) يعنى مكة كانت آمنة : أى ذات أمن لا يهاج أهلها ولا يغار عليهم. مطمئنة : يعنى هادئة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها للانتجاع كما كان يحتاج إليه سائر العرب.

يأتيها رزقها رغدا : يعنى واسعا من كل مكان ؛ يعنى يحمل إليها الرزق والميرة من البر والبحر ، نظيره : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) وذلك بدعوة إبراهيم ، وهو قوله : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ)(١).

وقوله تعالى لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(٢).

وسبب نزول هذه الآية : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة ، فلما هاجروا إلى المدينة أحب أن يستقبل بيت المقدس ؛ يتألف بذلك اليهود.

وقيل : أن الله تعالى أمره بذلك ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم مع ما يجدون من نعته وصفته فى التوراة ، فصلى إلى بيت المقدس بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ... (٣)

وقال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : معاد أو ملجأ.

وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة : «إن هذا البلد حرّمه الله تعالى إلى يوم القيامة يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحلّ القتال فيها لأحد قبلى ، ولم يحل لى إلا ساعة من نهار ، وهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ، ولا يختلى خلاه» فقال العباس :

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٢٦.

(٢) سورة البقرة : آية ١٤٤.

(٣) توجد من هنا ورقة مطموسة لم نستطع قراءتها.

٤٤

يا رسول الله ، إلا الإذخر ؛ فإنه لقينهم ولبيوتهم. فقال : «إلا الإذخر».

معنى الحديث : أنه لا يحل لأحد أن ينصب القتال والحرب فى الحرم ، وإنّما أحل ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة فقط ، ولا يحل لأحد بعده.

قوله : ولا يعضد شوكه : أى لا يقطع شوك الحرم ؛ وأراد به ما لا يؤذى. فأما المؤذى منه كالعوسجة فلا بأس بقطعه عند الشافعى خلافا لأبى حنيفة رحمه الله.

وقوله : ولا ينفر صيده : أى : لا يتعرض له بالاصطياد ولا يهاج.

وقوله : ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها أى : الذى ينشدها ، والنشد رفع الصوت بالتعريف ، واللقطة : فى جميع الأرض لا تحل إلا لمن يعرفها حولا ؛ فإن جاء صاحبها أخذها وإلا انتفع بها الملتقط بشرط الضمان. وحكم مكة فى اللقطة أن يعرفها على الدوام بخلاف غيرها فإنه محدود لسنة ، هذا عند الشافعى. وعند أبى حنيفة يستوى حكم لقطة الحل والحرم ، وله تفصيل فيه.

وقوله : ولا يختلى خلاه : الخلا مقصور : الرطب من النبات الذى يرعى ، وقيل : هو اليابس من الحشيش ، وخلاه : قطعه.

وقوله : لقينهم : القين الحداد.

وقوله تعالى : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ)(١) أى : أمرناهما وألزمناهما وأوصينا إليهما. وقيل : إنما سمى إسماعيل ؛ لأن إبراهيم كان يدعو الله تعالى أن يرزقه ولدا ، ويقول فى دعائه : اسمع يا إيل ، وإيل بلسان السريانية هو الله تعالى ، فلما رزق الولد سماه به.

وقوله : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ) : يعنى الكعبة أضافه إليه تشريفا وتفضيلا وتخصيصا ، أى : ابنياه على الطهارة والتوحيد. وقيل : طهراه من سائر الأقذار والأنجاس. وقيل : طهراه من الشرك والأوثان وقول الزور ؛ والزور من الزور والأزوار وهو الانحراف. وقيل : قول الزور قولهم : هذا حلال وهذا حرام وما أشبه ذلك من افترائهم. وقيل : شهادة الزور. وقيل : الكذب والبهتان.

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٢٥.

٤٥

فإن قيل لم يكن هناك بيت فما معنى أمرهما بتطهيره؟

فعن هذا السؤال جوابان : أحدهما : أنه كانت هناك أصنام فأمر بإخراجها ؛ قاله عكرمة.

والثانى : قال السّدّى : ابنياه مطهرا.

قوله : للطائفين : يعنى الزائرين حوله. والعاكفين : يعنى المقيمين به المجاورين له ؛ يقال : عكف يعكف عكوفا ، إذا أقام ، ومنه الاعتكاف. (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) : جمع راكع ، والسجود جمع ساجد وهم المصلون ، وقيل : الطائفين الغرباء الواردين إلى مكة. والعاكفين : يعنى أهل مكة المقيمين بها ، وقيل : إن الطواف للغرباء أفضل ، والصلاة لأهل مكة أفضل (١).

وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)(٢) قوله : (هذا) إشارة إلى مكة ، وقيل : إلى الحرم. (بَلَداً آمِناً) : أى ذا أمن يأمن فيه أهله. (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) : عن سائب بن يسار ، قال : سمعت بعض أولاد نافع بن جبير وغيره يذكرون أنهم سمعوا أنه لما دعا إبراهيم عليه‌السلام لأهل مكة أن يرزقوا من الثمرات ، نقل الله تعالى بقعة الطائف من الشام فوضعها هنالك رزقا للحرم.

وعن محمد بن المنكدر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما وضع الله تعالى الحرم نقل الطائف من الشام إليه».

وقال زهير نحوه.

وإنما دعا إبراهيم لهم بالأمن ؛ لأنه بلد ليس فيه زرع ولا ثمر ؛ فإذا لم يكن أمنا لم يجلب إليه شىء من النواحى فيتعذر المقام بها ، فأجاب الله تعالى دعاء إبراهيم عليه‌السلام وجعله بلدا آمنا ؛ فما قصده جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم من الجبابرة.

فإن قيل : فقد غزا مكة الحجّاج وأخرب الكعبة؟ فالجواب عنه : أنه لم يكن

__________________

(١) تفسير الكشاف ١ / ٣١٠.

(٢) سورة البقرة : آية ١٢٦.

٤٦

قصده بذلك مكة وأهلها ولا خراب الكعبة ، وإنما كان قصده خلع ابن الزبير عن الخلافة ولم يتمكن من ذلك إلا بذلك ، فلما حصل ما قصده أعاد بناء الكعبة ، فبناها وشيدها وعظم حرمتها وأحسن إلى أهلها.

واختلفوا هل كانت مكة محرمة قبل دعوة إبراهيم أو حرمت بدعوته ، على قولين :

أحدهما : أنها كانت محرمة قبل دعوته ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض». (١) وقول إبراهيم دليل على هذا المعنى : (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) فهذا يقتضى أن مكة كانت محرمة قبل دعوة إبراهيم.

والثانى : أنها إنما حرمت بدعوة إبراهيم بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن إبراهيم حرم مكة ، وإنى حرمت المدينة» (٢) وهذا يقتضى أن مكة كانت قبل دعوة إبراهيم حلالا كغيرها من البلاد ، وإنما حرمت بدعوة إبراهيم.

ووجه الجمع بين القولين ـ وهو الصواب ـ أن الله تعالى حرم مكة يوم خلقها كما أخبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قوله : «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض» (٣).

ولكن لم يظهر ذلك التحريم على لسان أحد من أنبيائه ورسله ، وإنما كان تعالى يمنعها ممن أراد سوءها ويدفع عنها وعن أهلها الآفات والعقوبات ، فلم يزل ذلك من أمرها حتى بوأها إبراهيم وأسكنها أهله ، فحينئذ سأل إبراهيم ربه عزّ وجلّ أن يظهر تحريم مكة لعباده على لسانه ، فأجاب الله دعوته ، وألزم عباده تحريم مكة ، فصارت مكة حراما بدعوة إبراهيم ، وفرض على الخلق تحريمها والامتناع من استحلالها واستحلال صيدها وشجرها ، فهذا وجه الجمع بين القولين ، وهو

__________________

(١) أخرجه : عبد الرزاق فى المصنف ٥ / ١٤٠ عن ابن جريج ، وابن أبى شيبة ١٤ / ٤٨٩ من طريق أبى الخليل ، عن مجاهد ، والفاكهى فى أخبار مكة ٢ / ٢٤٨.

(٢) أخرجه : البخارى فى البيوع (باب بركة صاع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ٣ / ٦٨ ، ومسلم (الحج : فضل المدينة ودعاء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، ٤ / ١١٢. وأحمد فى المسند ٤ / ٤٠ ، والمنتخب من مسند عبد بن حميد (٥١٨).

(٣) سبق تخريجه.

٤٧

الصواب ، والله اعلم.

وقوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ)(١) وفى سبب نزولها على اختلاف الروايات ثلاثة أقوال :

أحدها : أن رجالا من الأنصار ممن كان يهلّ لمناة فى الجاهلية ـ ومناة اسم صنم كان بين الصفا والمروة ـ قالوا : يا رسول الله ، إنا كنا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة ، فهل علينا حرج أن نطوف بهما الآن؟ فنزلت هذه الآية (٢). رواه عروة عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ. وقالت عائشة : «قد سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما». أخرجاه فى الصحيحين» (٣).

والثانى : أن المسلمين كانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة ؛ لأنه كان على الصفا تماثيل وأصنام فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

وقال الشعبى : كان وثن على الصفا ووثن على المروة تدعيان بإساف ونائلة ، وكان فى الجاهلية يسعون بينهما ويمسحونهما ، فلما جاء الإسلام كفوا عن السعى بينهما. فنزلت هذه الآية.

والثالث : أن الصحابة قالوا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا كنا نطوف فى الجاهلية بين الصفا والمروة ، وإن الله تعالى ذكر الطواف بالبيت ولم يذكره بين الصفا والمروة ، فهل علينا حرج أن لا نطوف بهما؟ فنزلت هذه الآية (٤). رواه الزهرى عن أبى بكر بن عبد الرحمن عن جماعة من أهل العلم.

وذكر ابن إسحاق فى كتاب السيرة : أن إسافا ونائلة كانا بشرين فزنيا داخل الكعبة ، فمسخا حجرين ، فنصباهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس ، فلما طال عهدهما عبدا ثم حوّلا إلى الصفا والمروة ، ولهذا يقول أبو طالب فى قصيدته :

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٥٨.

(٢) القرى (ص : ٣٦١).

(٣) أخرجه : البخارى (باب وجوب السعى بالصفا والمروة ٢ / ١٥٧ ـ ١٥٨) ، ومسلم (باب : بيان أن السعى بين الصفا والمروة ركن) ٤ / ٦٨ ـ ٧٠.

(٤) أخرجه : المحب الطبرى فى القرى (ص : ٣٦١) وعزاه للبخارى ومسلم ، وقال : أخرجاه بطرقه.

٤٨

وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم

بمقضى سيول من إساف ونائل(١)

الصفا فى اللغة : الحجارة الصلبة الصلدة التى لا تنبت شيئا ، وهو جمع ، واحده صفاة وصفى مثل حصاة وحصى.

والمروة : الحجارة اللينة وجمعها مرو ومروات ، وإنما عنى الله تعالى بهما الجبلين المعروفين بمكة فى طرفى المسعى ، ولذلك أدخل فيهما الألف واللام.

وشعائر الله تعالى : إعلام دينه ، وأصلها من الإشعار وهو الإعلام ؛ واحدتها شعيرة. وكل ما كان معلما لقربات يتقرب به إلى الله تعالى من صلاة ودعاء وذبيحة فهو شعيرة من شعائر الله تعالى.

ومشاعر الحج : معالمه الظاهرة للحواس ، ويقال : شعائر الحج ، فالمطاف والموقف والمنحر كلها شعائر. والمراد بالشعائر هاهنا : المناسك التى جعلها الله تعالى إعلاما لطاعته ، فالصفا والمروة منها حيث يسعى بينهما.

وقال الله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) أى : فرغتم من حجكم وعبادتكم ، وذبحتم نسائككم أى ذبائحكم. وذلك بعد رمى جمرة العقبة ، والحلق والاستقرار بمنى. (فَاذْكُرُوا اللهَ) يعنى : بالتحميد والتمجيد والتهليل والتكبير والثناء عليه.

(كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) : قال أهل التفسير : كانت العرب فى الجاهلية إذا فرغوا من حجهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل ـ وقيل : عند البيت ـ فيذكرون مفاخر آبائهم ومآثرهم وفضائلهم ومحاسنهم ومناقبهم ، فيقول أحدهم : كان أبى كبير الجفنة رحب الفناء يقرى الضيف وكان كذا وكذا يعد مفاخره ومناقبه ، ويتناشدون فى ذلك الأشعار ، ويتكلمون بالمنثور والمنظوم من الكلام الفصيح ، وغرضهم بذلك الشهرة والسمعة والرفعة بذكر مناقب سلفهم وآبائهم ، فلما منّ الله تعالى عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لله تعالى لا لآبائهم ، وقال : (فَاذْكُرُونِي) فأنا الذى فعلت ذلك بكم وبهم ، وأحسنت إليهم وإليكم.

قال ابن عباس : معناه فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء ؛ وذلك أن

__________________

(١) السيرة لابن هشام ١ / ٨٣ ، وقد قال أبو طالب هذا الشعر يحلف بإساف ونائلة حين تحالفت قريش على بنى هاشم فى أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا البيت قبله :

أحضرت عند البيت رهطى ومعشرى

وأمسكت من أثوابه بالوصائل

٤٩

الصبى أول ما يفصح بالكلام فيقول : يا أبه ويا أمه لا يعرف غير ذلك ، فأمرهم أن يذكروه كذكر الصبيان الصغار الآباء.

(أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) : أى أو أكثر ذكرا للآباء ؛ لأنه هو المنعم عليهم وعلى الآباء للذكر والحمد مطلقا. والمقصود منه : الحث على كثرة الذكر لله تعالى.

قوله : (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) : نصب على التمييز ؛ تقديره : كذكركم آباءكم أو أشد منه ذكرا. و «أو» هاهنا لتحقيق المماثلة فى الخبر ؛ كقوله : (كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)(١).

وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً)(٢) يعنى : ذا أمن يؤمن فيه. وأراد بالبلد مكة ، وقيل : الحرم البلد صدر القرى ، والبالد المقيم بالبلد ، والبلدة الصدر ، ووضعت الناقة بلدتها : أى بركت على صدرها.

والمراد بهذا الأمن فيه ثلاثة أقوال :

الأول : أنه سأل الأمن من القتل.

والثانى : من الخسف والقذف.

والثالث : من القحط والجدب.

وقوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٣) قال الرواة : إن الله تعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفى عام وكانت ربذة بيضاء على الماء ، فدحيت الأرض من تحتها ، فلما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض استوحش ، فشكا إلى الله تعالى ، فأنزل الله تعالى البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر ، باب شرقى وباب غربى ، فوضعه موضع البيت. فقال : يا آدم ، إنى أهبطت لك بيتا تطوف به كما كنت تطوف حول عرشى ، وتصلى عنده كما كنت تصلى عند عرشى ، وأنزل الحجر ـ وكان أبيض فاسود من لمس الحيض فى الجاهلية ـ فتوجه آدم من أرض

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٧٤.

(٢) سورة إبراهيم : آية ٣٥.

(٣) سورة البقرة : آية ١٢٧.

٥٠

الهند إلى مكة ماشيا ، وقيض الله تعالى له ملكا يدله على البيت ، فحج البيت وأقام المناسك ، فلما فرغ تلقته الملائكة ، وقالوا : برّ حجك يا آدم ؛ لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام (١).

قوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) هو أساس البيت ، واحدتها قاعدة ، وأما قواعد النساء فواحدتها قاعد وهى العجوز.

قوله : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) وفى الآية إضمار تقديره : ويقولان : ربنا تقبّل منا ، أى : ما عملنا لك ، وتقبّل طاعتنا إياك وعبادتنا لك ، إنك أنت السميع لدعائنا. العليم : يعنى بنياتنا. والسميع بمعنى السامع لكنه أبلغ منه ؛ لأن بناء فعيل للمبالغة.

قال الخطابى : ويكون السماع بمعنى القبول والإجابة ؛ لقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بك من دعاء لا يسمع» أى : لا يستجاب. وقول المصلى : سمع الله لمن حمده ، أى : قبل الله ممن حمده.

وقوله : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)(٢) قوله : من ذريتى : من للتبعيض ، أى : من بعض ذريتى وهو إسماعيل عليه‌السلام.

قوله : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) يعنى : ليس فيه زرع. ومكة واد بين جبلين ، جبل أبى قبيس وجبل أجياد. ومكة واد بينهما.

وقوله : عند بيتك المحرم : سماه محرما ؛ لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره.

وقيل : لأن الله تعالى حرّمه على الجبابرة فلم ينالوه بسوء ، وحرّم التعرض له والتهاون به وبحرمته ، وجعل ما حوله حرما لمكانه وشرفه عنده.

__________________

(١) أخرجه الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٤٣ ، وابن الجوزى فى العلل (٩٣٧) ، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور ١ / ٢٤٥ إلى الجندى ، والديلمى (٤٨٥١) وفيه : محمد بن زياد اليشكرى الجزرى صاحب ميمون بن مهران الفأفأ ، قال عنه الدارقطنى : كذاب. وقال ابن حبان : كان ممن يضع الحديث ولا يحل ذكره فى الكتب إلا على جهة القدح فيه. وقال عنه الترمذى : ضعيف جدا. وقال عنه النسائى : متروك الحديث.

(٢) سورة إبراهيم : آية ٣٧.

٥١

وقيل : لأنه حرم عن الطوفان ؛ بمعنى أنه امتنع منه.

وقيل : سمى حرما ؛ لأن الزائرين له يحرمون على أنفسهم أشياء كانت مباحة لهم من قبل.

وسمى عتيقا أيضا ؛ لأنه أعتق من الجبابرة أو من الطوفان.

فإن قيل : كيف قال : عند بيتك المحرم ولم يكن هناك حينئذ بيت وإنما بناه إبراهيم عليه‌السلام بعد ذلك؟ فالجواب : أنه يحتمل أن الله عزّ وجلّ أوحى إليه وأعلمه أن له هناك بيتا قد كان فى سالف الأزمان ، وأنه سيعمره ؛ فلذلك قال :عند بيتك المحرم.

وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : عند بيتك المحرم الذى كان ثم رفع أيام الطوفان.

وقيل : يحتمل أن يكون المعنى عند بيتك المحرم الذى جرى فى سابق علمك أنه سيحدث فى هذا المكان.

وقوله تعالى : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(١).

قوله : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) : أى لكم فى البدن منافع من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : قال ابن عباس فى قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قال : ما لم تسم بدنا.

وقال مجاهد فى هذه الآية : المنافع الركوب واللبن والولد ، فإذا سميت بدنة أو هديا ذهب ذلك.

قوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أى : محل الهدى وانتهاؤه إلى البيت العتيق ، كما قال تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ)(٢). والمحل بكسر الحاء عبارة عن المكان كالمجلس والمسجد ، وهو مكة أو الحرم كله.

__________________

(١) سورة الحج : آية ٣٣.

(٢) سورة المائدة : آية ٩٥.

٥٢

وقوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً)(١) النسك فى كلام العرب : الموضع المعتاد لعمل خير ؛ ومنه مناسك الحج.

وقيل : منسكا أى : عيدا.

وقال عكرمة : أى ذبحا.

وقال زيد بن أسلم : إنها مكة ، لم يجعل الله لأمة قط منسكا غيرها.

وقيل : موضع عبادة.

وقوله تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(٢).

قوله : إنما أمرت : يعنى يقول الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة يعنى : مكة ، وإنما خصها من بين سائر البلاد بالذكر ؛ لأنها مضافة إليه ، وأحب البلاد إليه وأكرمها عليه ، وأشار إليها إشارة التعظيم لها ؛ لأنها موطن نبيه وموضع وحيه. (الَّذِي حَرَّمَها) : أى جعلها الله حرما آمنا لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها ولا يدخلها إلا محرم. وإنما ذكر أنه هو الذى حرمها ؛ لأن العرب كانوا معترفين بفضيلة مكة وأن تحريمها من الله تعالى لأمر الأصنام.

وقوله تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا)(٣) قوله : (يُجْبى إِلَيْهِ) : أى يجلب ويجمع إليه ويحمل إلى الحرم من الشام ومصر والعراق واليمن.

(ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : يعنى أهل مكة لا يعلمون ذلك.

وقوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ)(٤).

__________________

(١) سورة الحج : آية ٣٤.

(٢) سورة النمل : آية ٩١.

(٣) سورة القصص : آية ٥٧.

(٤) سورة التوبة : آية ١٩.

٥٣

قوله : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) : والسقاية مصدر كالحماية والرعاية بمعنى الفاعل كالبر بمعنى البار ، وتقديره : أجعلتم سقاية الحاج كعمل من آمن ؛ كقولهم : الشعر زهير ، والجود حاتم.

وقرأ الضحاك : والسقاية بفتح السين وبنو الزبير سقاة وعمرة ، وهما جمع ساق وعامر.

وقيل : السقاية والعمارة بمعنى الساقى والعامر ، تقديره : أجعلتم ساقى الحاج وعامر المسجد الحرام.

(كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) : يعنى لا يستوى حال هؤلاء الذين آمنوا بالله وجاهدوا فى سبيله بحال من سقى الحاج وعمر المسجد الحرام وهو مقيم على شركه وكفى ؛ لأن الله تعالى لا يقبل عملا إلا مع الإيمان به ، والله لا يهدى القوم الظالمين (١).

عن ابن عباس قال : إن المشركين قالوا : عمارة بيت الله الحرام والقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفتخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم من أهله وعماره ، فذكر الله استكبارهم وإعراضهم ، فقال لأهل الحرم من المشركين : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ)(٢) يعنى : أنهم كانوا يستكبرون بالحرم ، قال : (بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) ؛ لأنهم كانوا يسمرون به ويهجرون القرآن والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخيّر الإيمان والجهاد على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية ، ولم تكن تنفعهم عند الله مع الشرك به وإن كانوا يعمرون بيته (٣).

قال الله تعالى : (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٤) يعنى :الذين زعموا أنهم أهل العمارة فسماهم الله الظالمين لشركهم فلم تغن عنهم

__________________

(١) تفسير الطبرى ٤ / ٢٩٣١.

(٢) سورة المؤمنون : آية ٦٦.

(٣) أخرجه : السيوطى فى الدر المنثور ٣ / ٢١٨ ، وعزاه إلى ابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.

(٤) سورة التوبة : آية ١٩.

٥٤

العمارة شيئا.

وقال علىّ بن طلحة ، عن ابن عباس فى تفسير هذه الآية ، قال : نزلت فى العباس بن عبد المطلب بعد بدر أنه قال : إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقى الحاج ونفك العانى ، قال الله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) إلى قوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يعنى : إن ذلك كان فى الشرك ، ولا أقبل ما كان فى الشرك (١).

وعن النعمان بن بشير الأنصارى قال : كنت عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى نفر من أصحابه ، فقال رجل منهم : ما أبالى أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج ، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام ، وقال آخر : بل جهاد فى سبيل الله خير مما قلتم ، فزجرهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يوم الجمعة ولكنى إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ، قال : ففعل ، فأنزل الله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) إلى قوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أى : الواضعين الفخر والمدح فى غير موضعهما (٢).

وقوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ)(٣) سبحان علم للتسبيح كعثمان علم للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره : أسبح الله سبحانا ، ثم نزّل سبحان منزلة الفعل فسد مسدّه ودلّ على التنزيه البليغ من جميع القبائح التى يضيفها إلى الله أعداء الله تعالى.

قوله : (سُبْحانَ) : يعنى يمجد الله تعالى نفسه ويعظم شأنه ؛ لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه فلا إله غيره.

__________________

(١) تفسير الطبرى ١٠ / ٦٧ ، والحديث أخرجه السيوطى فى الدر المنثور ٣ / ٢١٨ ، وعزاه لعبد الرزاق فى مصنفه ، وابن أبى شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، وأبى الشيخ عن الشعبى.

(٢) تفسير الطبرى ٤ / ٩٣١.

(٣) سورة الإسراء : آية ١.

٥٥

(الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) : يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لَيْلاً) : أى فى جنح الليل.

(مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهو : مسجد مكة. (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) : وهو مسجد بيت المقدس الذى بإيلياء ، وسمى أقصى لبعده عن المسجد الحرام ؛ ولأنه لم يكن وراءه مسجد ، وهو معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل صلوات الله عليه ولهذا اجتمعوا له هناك كلهم ؛ فإنهم فى محلتهم ودارهم ؛ فدل على أنه هو الإمام المعظم والرئيس المقدم صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.

وقال صاحب الكشاف : (لَيْلاً) نصب على الظرف ، فإن قلت الإسراء لا يكون إلا ليلا فما معنى ذكر الليل؟ فإن أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء ؛ فإنه أسرى به فى بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية ، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة «من الليل» أى : بعض الليل ، كقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) يعنى الأمر بالقيام فى بعض الليل (١).

قال مقاتل : كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة.

ويقال : إنه كان فى رجب. وقيل : كان فى شهر رمضان.

واعلم أن القول الأصح عند صاحب «المنتقى» أن المعراج كان فى ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة ، وكثير من أهل السير على أنه كان فى الليلة السابع والعشرين من رجب ، قبل الهجرة بسنة ، وعليه رأى النووى.

والأقوال كثيرة لأهل السير فى ذلك.

وقوله تعالى : (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) أى : فى الزروع والثمار والأشجار والأنهار.

وقيل : سماه مباركا ؛ لأنه مقر الأنبياء ومهبط الوحى والملائكة ، وقبلة الأنبياء قبل نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإليه يحشر الخلق يوم القيامة كما يجىء بيانه فى القسم الثالث.

__________________

(١) تفسير الكشاف ٢ / ٤٣٧.

٥٦

(لِنُرِيَهُ) : أى : محمدا. (مِنْ آياتِنا) : أى : من عجائب قدرتنا ، وقد رأى هنالك الأنبياء والآيات الكبرى كما قال تعالى : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى).

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) : ذكر السميع ؛ لينبه على أنه المجيب لدعائه. وذكر البصير ؛ لينبه على أنه الحافظ له فى ظلمة الليل (١) ، والله أعلم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ٢ / ٤٣٧.

٥٧

الفصل الثانى

فى ذكر حديث الإسراء على عدد الروايات

وأنا أذكر رواية أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة وهى أصح الروايات عند أهل هذا الفن ؛ قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا عثمان ، حدثنا همام ، قال :سمعت قتادة ، يحدث عن أنس بن مالك ، أن مالك بن صعصعة حدثه ، أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثهم عن ليلة أسرى به قال : «بينما أنا فى الحطيم (١) ـ وربما قال قتادة : فى الحجر ـ مضطجعا ، وفى طريق آخر أنه أسرى به من بيت أم هانئ ، وفى طريق :بينا أنا بالمسجد الحرام ، وفى طريق : أنا نائم ، وفى طريق : أنه كان بالحطيم بين النائم واليقظان ـ إذ أتانى آت فجعل يقول لصاحبه : الأوسط بين الثلاثة ، قال :فأتانى فقد سمعت قتادة يقول : فشق ما بين هذه إلى هذه ـ وقال قتادة : فقلت للجارود وهو إلى جانبى : ما يعنى به؟ قال : نقرة نحره إلى شعرته ، وقد سمعته يقول من قصته إلى شعرته ـ قال : فاستخرج قلبى. قال : فأتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا وحكمة فغسل قلبى ، ثم حشى ، ثم أعيد ، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض ـ فقال الجارود : هو البراق يا أبا حمزة؟ قال : نعم ـ يضع خطوة عند أقصى طرفه. قال : فحملت عليه ، فانطلق بى جبريل عليه‌السلام حتى أتى بى إلى السماء الدنيا فاستفتح. فقيل : من هذا؟ قال : جبريل : قيل : ومن معك؟ قال : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم. فقيل : مرحبا به ولنعم المجىء جاء. قال : ففتح ، فلما خلصت فإذا فيها آدم عليه‌السلام. قال : هذا أبوك آدم ، فسلّم عليه ، فسلّمت عليه فردّ علىّ السلام ، ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح ، ثم صعد بى حتى أتى السماء الثانية فاستفتح ، فقيل : من هذا؟ فقال : جبريل. قيل : ومن معك؟ قال : محمد. قيل أو قد أرسل إليه؟ قال :نعم. قيل : مرحبا به ولنعم المجىء جاء ، ففتح ، فلما خلصت فإذا يحيى بن زكريا

__________________

(١) سيأتى كلام المؤلف عليه.

٥٨

وعيسى ابن مريم وهما ابنا خالة. قال : هذا يحيى وعيسى فسلّم عليهما. قال :فسلّمت عليهما فردا السلام. ثمّ قالا : مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح ، ثم صعد بى حتى أتى السماء الثالثة ، فاستفتح ، فقيل : من هذا؟ فقال : جبريل.

قيل : ومن معك؟ قال : محمد. قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم. قال : مرحبا به ولنعم المجىء جاء. قال : ففتح ، فلما خلصت فإذا يوسف عليه‌السلام ، وإذا هو قد أعطى شطر الحسن. قال : هذا يوسف فسلّم عليه. قال : فسلّمت عليه فردّ السلام علىّ ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح ، ثم صعد بى حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال :محمد ، قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به ولنعم المجىء جاء ، قال : ففتح ، فلما خلصت فإذا إدريس عليه‌السلام ، قال : هذا إدريس عليه‌السلام ، فسلّم عليه. قال : فسلّمت عليه فردّ السلام علىّ. ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح ، قال : ثم صعد بى حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح.

فقيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : أو قد أرسل إليه ، قال : نعم ، قيل : مرحبا به ولنعم المجىء جاء ، ففتح. فلما خلصت فإذا هارون عليه‌السلام فسلّمت عليه فردّ السلام ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح ، ثم صعد بى حتى أتى السماء السادسة فاستفتح ، فقيل : من هذا؟ قال :جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به ولنعم المجىء جاء ففتح ، فلما خلصت فإذا أنا بموسى عليه‌السلام فسلّمت عليه فردّ السلام ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح. قال :فلما تجاوزت بكى ، قيل له : ما يبكيك؟ قال : أبكى لأن غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتى ، ويزعم بنو إسرائيل أنى أكرم بنى آدم على الله تعالى وهذا رجل من بنى آدم عليه‌السلام ، قال : ثم صعد بى حتى أتى السماء السابعة فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال : جبريل. قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به ولنعم المجىء جاء. ففتح ، فلما خلصت فإذا إبراهيم عليه‌السلام وهو رجل أشمط. فقال : هذا إبراهيم عليه‌السلام فسلّم عليه فسلّمت عليه فردّ السلام ، ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبى

٥٩

الصالح. قال : ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها (١) مثل قلال هجر (٢) وإذا ورقها مثل أذان الفيلة ، فقال : هذه سدرة المنتهى ، قال : وإذا أربعة أنهار ، نهران باطنان ونهران ظاهران ، فقلت : ما هذا يا جبريل؟ قال : أما الباطنان فنهران فى الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات ، قال : ثم رفع لى البيت المعمور.

قال قتادة : وحدثنا الحسن ، عن أبى هريرة ، عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون فيه (٣).

ثم رجع إلى حديث أنس قال : ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل. قال : فأخذت اللبن ، قال جبريل : هذه الفطرة التى أنت عليها وأمتك ، قال : ثم فرضت الصلاة خمسين صلاة كل يوم وليلة ، قال : فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال : ما فرض ربك على أمتك ، قال : قلت : خمسين صلاة كل يوم وليلة. قال : إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وليلة ؛ وإنى جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، قال : فرجعت ، فوضع عنى عشرا ، قال : فرجعت إلى موسى ، فقال : بما أمرت؟ قلت : بأربعين صلاة كل يوم وليلة ، قال : أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم وليلة ، وإنى قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، قال : فرجعت فوضع عنى عشرا أخر ، فرجعت إلى موسى ، قال : بما أمرت؟ قلت بثلاثين صلاة كل يوم وليلة قال : إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم وليلة ؛ وإنى قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، قال : فرجعت فوضع عنى عشرا أخر ، فرجعت إلى موسى ، قال : بما أمرت؟ قلت : بعشرين صلاة كل يوم وليلة ، فقال : إن أمتك لا تستطيع عشرين صلاة كل يوم وليلة ؛ وإنى قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، قال : فرجعت فوضع عنى عشرا أخر ، فرجعت إلى

__________________

(١) النبق : جمع نبقة ؛ وهو حمل السدر.

(٢) القلال : الجرار ، يريد : أن ثمرها فى الكبر مثل الجرار ، وهجر : اسم بلد بقرب المدينة المنورة.

(٣) أخرجه : البيهقى فى دلائل النبوة ٢ / ٣٧٨ ، ٣٧٩.

٦٠