موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٤

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٤

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦

السفير (مير طريف). فورد هذا ميناء جدة فأخبر السلطان بذلك كما أن علي باشا بن أفراسياب عرض قضية مجيئه إلى السلطان بكتاب. ولما وصل السلطان الموصل وافى السفير وقدم الكتاب والهدايا وبين هذه التحف كمر (هميان) مجوهر تقدر قيمته بمائة وخمسين ألف قرش. وترس مصنوع من أذن الفيل ومغطى بجلد الكركدن. ويعتقدون أن هذا لا يؤثر فيه السيف ولا البنادق وأكثر من القول فيه. أما السلطان فإنه أراد أن يجرب قوة سهمه فضربه ضربة كانت قد خرقته. وبهذا كذب دعوى الهنود واعتقادهم في هذا النوع من الترس فابتهج بعمله هذا مما أزال الاعتقاد. وحينئذ وضع داخل الترس خمسمائة فلوري (١) وأعاده إلى السفير.

كان جاء هذا السفير بأموال وافرة للتصدق بها على فقراء الحرمين الشريفين. وإن ملك الهند أيضا كان أشار إلى ذلك بكتابه المرسل كما أنه كان قد سمع بتوجه السلطان إلى بغداد. ولذا قال ونحن أيضا جهزنا جيوشنا على قندهار واستعادتها من أيدي العجم. وآمل أن يسهل الباري علينا تسخير المملكتين.

وفي هذا الأمل ما يدعو إلى إنجاز المهمة التي جاء من أجلها السلطان ، فكان عمل الهند ما يشوش الوضع على إيران من مجاوريها. ويسهل فتح بغداد. وهكذا فعل الشاه عباس الكبير باتفاقه مع الدول الأوروبية المجاورة للعثمانيين ، فلم يظهر لها أثر من جراء أن السلطان عقد الصلح مع بعض المجاورين وأكد وضعه.

وفي الحقيقة تم الفتح. وكان أمر السلطان ببقاء السفير وإقامته في

__________________

(١) الفلوري : نقد ذهبي. ذكره بنيامين في رحلته ص ٨٠ وورد في صبح الأعشى. وشاع في المملكة العثمانية وتغلبت تسميته على الدنانير العثمانية. ويسمى فلورين أيضا. وأصله من فلورنسة. والتفصيل في كتاب النقود العراقية.

٢٦١

الموصل إلى أن يقضي على هذه الغائلة وعين له كافة لوازمه (١).

نقل المدافع ـ إنعامات :

إن السلطان أنعم على جميع الجيش. ثم اجتمع الأعيان والأركان للمشاورة في بعض الأمور المهمة بمحضر من السلطان. تداولوا في كل أمر. ولما انجر الكلام إلى المدافع المعروفة بـ (بال يمز) وطريقة نقلها كان رأي الأكثر من أركان الدولة أن الجاموس الذي كان يسحبها قد هلك غالبه والباقي لا يزال منهوك القوى. وأبدوا صعوبة في النقل من طريق البر. وإن الأولى أن يكون من طريق النهر. وارتأى آخرون أنه ليس من الجائز تسييرها من طريق النهر بحيث ينتظر الكل ورودها ...

أما السلطان وشيخ الإسلام فإنهما قبلا هذا الرأي ووافقا على أن يسير عشرون مدفعا من طريق البر والباقي من طريق النهر فتقرر ذلك وتوزع الزعماء أرباب التيمار القنابل فيما بينهم لتكون معدات المدافع مهيأة.

ظهر حسن هذا التدبير بعد وصول الجيش إلى بغداد. ولم ترد المدافع نهرا إلا بعد عشرين يوما من وصول الجيش ...

وحينئذ وجه منصب مرعش إلى محمد علي باشا الگرجي المعزول من أرضروم فعين في المؤخرة أو الساقة. وجعل والي ديار بكر في طليعة العسكر (مقدمته). وعين للميسرة عساكر الشام وسيواس. وعين للمدفعية نوغاي باشا زاده.

السير من الموصل :

سار السلطان من الموصل متوجها نحو بغداد فوصل إلى منزل

__________________

(١) كاتب جلبي ج ٢ ص ١٩٨ وتاريخ نعيما ج ٣ ص ٣٥٧.

٢٦٢

(يارمجه) ومنه إلى (خضر الياس) ومنه وصلوا إلى الزاب الأعلى. وهناك نصبوا الخيام ثم إن الجيش عبر الزاب من (المعبر) فوصل إلى (شمامك) ومنه إلى بيدرار. ومنه إلى اينجه صو ثم إلى آلتون كپري في الثاني من شهر رجب ثم وردوا (كوك دپه).

وقبل المضي إلى المنازل الأخرى نذكر الرواية القائلة إن السلطان حينما أراد أن يعبر آلتون كپري (قنطرة الذهب) قال :

كيچمه نامرد كوپريسندن قوي آپارسين صوسني

ياتمه­تلكي كولگه سنده قوى يه سين أصلان سنى

ومعناه : دع النهر يجرفك ماؤه ولا تمر من قنطرة الجبان واترك الأسد يختطفك ولا تركن إلى ظل أبي الحصين (الثعلب).

غالب أهل القنطرة يحفظ هذا البيت. ولعله مقول على لسانه.

ثم تحركوا من هناك فنزلوا قرب كركوك ثم مضوا في طريقهم حتى حطوا رحالهم في قنطرة چبوق. استراحوا فيها يوما واحدا.

كانت ثلة من العجم تقيم هناك فأخلوا القلعة وفروا ...

وفي جنوبي كركوك تردد أمراء الجيش في أن يقدم الطوغ (العلم التركي) وهل في تقدمه محذور لأن جيش العدو قريب منهم. أوشكوا أن يصلوا إليه. ولكن لم يكن تقدم الطوغ من القوانين القديمة أو الاعتيادات المرعية ، لذا تركوا الأمر لاختيار السلطان فجاء مصطفى باشا القبودان (القبطان أو الأميرال) إلى حضور السلطان وكان السردار آنئذ خسرو باشا فلم يأذن بتأخر الطوغ حتى يقابل الأعداء. وقال : ينبغي أن لا يخطر على بالنا الخوف أو الحذر مع وجود السلطان معنا. فأمر أن يتقدم إلى الأمام ...

٢٦٣

بشائر الانتصار

إن والي أرضروم الوزير كنعان باشا وحاكم اخسخه سفر باشا كانا قد أغارا على روان وكان حاكمها كلب علي خان فقابلهما بجيش عظيم. فجرت محاربة قوية تشتت فيها شمل العجم! ورجع كلب علي مجروحا إلى جانب القلعة فارا فتعقب الجيش أثره فقتلوا قسما من عسكره وأسروا آخرين. جاءت بشائر ذلك إلى السلطان مع رؤوس بعض القتلى.

وأيضا كانت قد أرسلت ثلة من العسكر إلى شهرزور فوردت البشائر بانتصارها في عين اليوم الذي وردت فيه تلك البشارة.

ثم سار الجيش إلى ما يقابل بعقوبا وفي ٧ رجب نزل الفيلق (باش دولاب) أي أول الكرود. وفي اليوم التالي أي ٨ رجب الموافق ٥ تشرين الثاني نزل بجوار الإمام الأعظم قرب بغداد. قطع السلطان في مراحله من أسكدار إلى تاريخ وصوله ١٩٧ يوما. وكان من هذه الأيام ٧٦ يوما قضاها في الراحة من عناء السفر.

محاصرة بغداد :

قيل المحصور مغلوب. لم يقدر الجيش الإيراني على الحرب في ميدان المعارك ، فتوسل بالحصار وكانت له المهارة في الدفاع بهذه الطريقة. ولكن القوة الغالبة لا تصد. فكان الجيش التركي مزودا بكل الوسائل والمهمات. ومن جهة أخرى إن موت الشاه عباس الكبير ، وظهور السلطان مراد الرابع مما أثر على الوضع ، فشعر الإيرانيون بالضعف.

كان السلطان حين وصوله إلى بغداد رتب الأمور ووزع الوظائف خشية إجراء حركة خروج من الجيش المحصور ... جعل الوزير الأعظم محمد باشا في الباب الأبيض (آق قپو) وكذا آغا الينگچرية حسن آغا

٢٦٤

وأمير أمراء روم إيلي علي باشا بن أرسلان باشا وفوق هؤلاء قپودان باشا ووالي سيواس الخزينة دار إبراهيم باشا وأمراء كستنديل وأولونية ومعهم أربعون چوربچيا ورئيس الصامسونجية حسين آغا ورئيس الزغرجية حيدر آغا زاده محمد آغا فدخلوا المتاريس وجعل محمد باشا وأرسلان باشا بن نوغاي باشا في جانب الباب الشرقي (الباب المظلم) ويقال له (قراكوقپو) أو (قراكلق قپو) باللفظ التركي. وذلك لصد غائلة الهجوم المفاجىء.

وكانت بغداد قد حوصرت قبل هذا من جانب حافظ أحمد باشا من الباب الشرقي وإن خسرو باشا كان قد حاصرها أيضا من ناحية باب الإمام الأعظم. فأحكم الأعجام هذه المواطن وقووها كثيرا ... وأما الباب الوسطاني فإنه بعيد عن النهر فلا يصلح لاتخاذ متاريس. فأغفله العجم ولم يكونوا يعتقدون أن تتخذ متاريس فيه.

علمت قوة العثمانيين بذلك حينما كانت في الموصل. وذلك أن السلطان لما كان في الموصل خرج (مير محمد) مع اثنين من إخوته فجاء إلى تكريت لجمع أموال الشاه فنزل عند شيخ العربان هناك فألقى القبض عليه وجيء به إلى السلطان. فقتل إخوته وأتباعه في الحال. ولكن مير محمد كان امرأ عاقلا عارفا وله صناعة كاملة في الشعر والأغاني فرجاه سلحدار باشا فعفا عنه ، ورافقه إلى بغداد مكبلا فأبان عن أكثر أحوال بغداد وعن الباب الوسطاني وأوضح أن هذا الباب خال من التدابير الحربية ...

عرض الوزير الأعظم ذلك كله إلى السلطان فصدر الفرمان بلزوم محاصرة الباب الوسطاني وتوجيه القوة نحوه. قال نعيما : إن أوطاغ السلطان (خيمته) نصب أمام مزار الإمام الأعظم وإن دجلة تجري من جانب اليمين. ووضعوا (مقصورة) على تل عال مشرف على الأوضاع

٢٦٥

الحربية وهناك ذبحوا ٤٠ رأسا من الغنم فداء له وتصدقوا بها على الفقراء ...

وإن السلطان قال : إني أستحيي أن أزور الإمام الأعظم بلا فتح ولا ظفر. ولذا لم يدخل مرقده للزيارة حتى أنه لم ينزل في الأوطاغ الهمايوني. وإنما نزل في المقصورة. وهناك كان يوزع الذخائر الحربية والقازمات والكوركات (١) والبارود والفتيل وسائر لوازم الحرب. وبعد ثلثي الليل باشروا الدخول في المتاريس في أطراف البلد فدخلها من ناحية الباب الوسطاني كل من الوزير الأعظم وآغا الينگچرية حسن آغا وأمير أمراء روم إيلي أرسلان باشا زاده علي باشا. ومن جنوبيهم نحو الباب الشرقي مصطفى باشا وأمير أمراء سيواس كور خزينة دار وأربعون چورباچيا مع رئيس صامسونجية وأمراء كوستنديل وأولونيه وفي أسفل هؤلاء أيضا إلى جهة الجنوب كل من أمير أمراء الأناضول حسين باشا وعسكر مصر وأربعون چورباچيا ورئيس الزغرجية (٢) حيدر آغا زاده. دخل هؤلاء جميعهم المتاريس. وعين أيضا حرس (قراولة) كل من كورچي باشي ونوغاي باشا زاده من جانب الباب الشرقي لدفع ما يحتمل وقوعه من هجوم ليلي.

كانت السماء مقمرة فصفت المشاعل أيضا في السور ولم يصبح الصباح إلا والعمل قد تم وأعدت كافة المتاريس وأحاط الجيش بالمدينة من ناحية الشط الغربية إلى الأخرى الجنوبية على شكل قوس.

وفي تلك الليلة والليلة التالية لها جرت محاربات فجرح أوردار علي باشا وقانلي محمد باشا.

__________________

(١) القزمات والكوركات معروفة في اللغة العامة عندنا. وهي ألفاظ تركية. وآلاتها تستعمل إلى هذه الأيام.

(٢) الزغرجية دون كتخدا الينگچرية في الرتبة كما في (تشكيلات وقيافت عسكرية) ص ٣.

٢٦٦

أحوال العجم في بغداد :

إن الشاه لم يشأ أن يخاطر في معركة كبرى مع السلطان خشية المجازفة واحتمال الخذلان مثل ما وقع مع الشاه إسماعيل فاكتفى أن يضع ببغداد قوة كافية للدفاع والحصار بغرض أن يشغلهم ويطاول في الأمر لعل هذا تكون عاقبته كأمثاله. فاختار من جيشه نخبتهم وجعل القيادة لأكابر أمرائه ، وكان من رؤسائهم (خلف خان) رئيس الرماة المشاة وكان حارب السلطان في أنحاء روان فجعل في أنحاء بغداد. وكذا كان آغا صادق ابن مير فتاح في حرب روان. فعفا عنه السلطان فأطلقه وأعوانه ولكنه دام في تعنده ولم يخش الوقيعة مرة أخرى فجاء باثني عشر ألفا من الرماة بالبنادق فوافى هو وأمراء آخرون للحاق ببكتاش خان (والي بغداد) ونبه الشاه إلى لزوم المحافظة على بغداد وأكد وجوب صيانتها وانسحب وجماعة من العجم بقصد الإمداد والإعانة ليكون قوة لهؤلاء فأقام في محل يبعد نحو ست ساعات.

إن المحصورين في المدينة لم يكونوا يعلمون عن حصار بغداد من (الباب الوسطاني) فكانوا في أمان منه ... ولم يعلموا بما اتخذ من متاريس فرأوا أن قد هوجموا من محل لم يعهد القوم المهاجمة من ناحيته مما دعا أن يذهلوا فلم يقدروا على الدفاع إذ لم يكن أتاهم عدوهم من هذه الجهة فصاروا يرمون بالقنابل والبنادق من جانب القلعة وبادروا للدفاع عن حوزتهم من تلك الناحية أيضا.

في هذا الحين وردت للعثمانيين المدافع من طريق البر وذلك ثاني يوم الحصار مساء فوزعت عشرة منها للوزير الأعظم وستة إلى قبودان باشا وأربعة إلى حسين باشا. وفي تلك الليلة أقروها في مواضعها. وصوبت وقت السحر على المدينة من ثلاث جهاتها.

قال المحبي :

٢٦٧

«أمر السلطان بحفر لغم عظيم وضع فيه البارود وأطلقت فيه النار فهدم جانبا عظيما من جدار السور بحيث قيل إنه لم يكن لغم مثله في محاصرة قلعة من القلاع فصار يرى من هدم اللغم ما في مدينة بغداد من البيوت لأنه صار في ذلك الجانب جدار السور سهلا مستويا مع سطح الأرض ، فلما رأى جيش بغداد ما دهمهم مما لم يعرفوه قط تلاشوا وبعثوا إلى الشاه يريدون التسليم وكان عسكر السلطان قد توانوا في الهجوم وتثبطت همة العجم. وفي أثناء ذلك أرسل الشاه رسولا يطلب الصلح وكان الرسول من أعيان عسكر الشاه يسمى جانبك سلطان. وفي يوم الجمعة ١٣ رجب بكرة النهار اجتمع بالوزير الأعظم في ديوان عظيم ودفع إليه كتاب الشاه بالصلح فقرىء بمسمع من الناس وفهم الكل منه ما قصد الشاه من الحيلة فأبى السلطان وجميع الوزراء والأركان الصلح ...

(قال المحبي) : وقد رأيت الواقعة بخط الأديب رامي الدمشقي. ثم أطلق السلطان الأمر بالمحاصرة الشديدة وشدد في ذلك» ا ه (١).

وكانت في ١٢ رجب قد أفرزت ثلة من الجيش بحرسها وعدتها الكاملة ذهبت إلى جهة شهربان (المقدادية) مع الوزير سلحدار باشا والتحقت بوالي طرابلس شاهين باشا فبلغ المجموع اثني عشر ألفا. وحينئذ وصلوا إليها وهذه من مضافات بغداد ومشهورة بالنعمة والبركة. ومملوءة بالأطعمة والفواكه. لا سيما رمانها. فالعساكر أغاروا على شهربان ونواحيها فغنموا غنائم وافرة وعادوا إلى الفيلق.

وقدموا للسلطان نوعا نفيسا من الرمان فوزنت واحدة منه فبلغت أربعمائة درهم. والترك يسمون الرمان (نارا) ويحكى أنه لما سمع أحدهم المثل (النار فاكهة الشتاء) قال : (خصوصاً شهربان ناري) أي لا

__________________

(١) خلاصة الأثر ص ٣٣٨.

٢٦٨

سيما نار شهربان. فظن أن هذه النار يقصد بها (نار) المراد في لغته ، فصارت تتكرر هذه كملحة.

ثم إن السلطان أمر أن يعبر سلحدار باشا مع ثلاثة عشر مدفعا بمن معه من العساكر ففعل وحاذى باب الشط من الجانب الغربي وصار يرمي داخل بغداد من جهة (قلعة الطيور) فخرب أبنية المدينة وأقام القيامة على رؤوس العجم. وإن سلحدار باشا نصب كتخداه عثمان آغا (باشبوغا) (١) على العساكر واللوندات (٢) جميعهم ممن في (قلعة الطيور) (٣) وأراد هو أن لا ينفك من نظر السلطان فكان يعبر لمرتين يوميا إلى قلعة الطيور ويلاحظ أحوال العساكر ويفتش أمورهم.

وفي اليوم الثامن لأيام المحاصرة شاهد كل من الوزير الأعظم وقبودان باشا (أميرال البحرية) وحسين باشا أن قد تخرب أكثر التلول فملأوها بتراب كانوا ينقلونه بالزبابيل (الزنابيل) وسدوا المطلوب منهم.

وتسهيلا للغرض قطع الجيش نحو ألف نخلة فصنع منها توابي (طوابي) ، وضعت عليها المدافع وصنعوا تلولا تكاد تضارع الجبال في علوها. واشترك في هذا جميع العساكر وملئت الخنادق فتقدموا إلى السور.

__________________

(١) يراد به قائد العساكر غير المنظمة. وهنا يقصد به القائد الوقتي.

(٢) اللوند : كسوتهم خاصة. ويعدون من أفراد الجيش البحري في أصل تشكيلاتهم ، وفي خدمة الساحل البحري. ثم صاروا يستخدمون في خيالة الجيش في الولايات الأخرى. وألغي هذا النوع من الجند سنة ١١٨٦ ه‍ إلا أنهم بقوا في بغداد وفي الولايات النائية. وفي بغداد محلة خان اللاوند من بقايا تسمياتهم. واللفظة إيطالية أصلها (Levant) فاستعملت عندنا لوند ، ولاوند. (تشكيلات وقيافت عسكرية ص ٩١).

(٣) قلعة الطيور تقع بالقرب من تكية خضر الياس للبكتاشية. وكانت في رأس الجسر. وموقعه هناك. وإن الجسر الموجود اتخذ له الطريق من المدرسة المستنصرية فهو حادث.

٢٦٩

وفي اليوم ١٣ ألقي القبض على (علي الهمذاني) من العجم فاعترف أنه جاسوس. وفي حضرة السلطان قال : جئت من رستم خان إلى بغداد وأبرز كتابا. إن شئتم أن تقتلوا أو تمنوا. وسآخذ جواب هذا الكتاب وآتيكم به. فأنقذ نفسه بمثل هذه الحيلة ونجا فدخل المدينة.

السلطان كل يوم يمر بأهل المتاريس من وزراء وأمراء وضباط ويقول ابذلوا جهودكم في سبيل الدين والغيرة الإسلامية ولا تقصروا. هذا يوم السعي وبذل ما في الوسع ... وبأمثال هذه كان يرغبهم وينفث فيهم روح النشاط والهمة.

ثم نصب الخيام لجراحين كثيرين للاهتمام بقضية الجرحى والمحاربين ، وكان ينعم على كل من يجرح في الحرب ويحسن إليه. يطيب القلوب بأنواع الإنعامات ويعنى بشؤون الجميع.

وفي هذه الأيام تيسر للوزير الأعظم أن يجعل تابية الباب الوسطاني قاعا صفصفا وآغا الينگچرية چغال زاده جعل تابية الزاوية (كوشه قله سي) كذلك وكل من حسين باشا والقپودان تمكن أن يهدم تابيتين. فالجميع قدروا على هدم أرض تقدر بثمانمائة ذراع سووها بالأرض.

وفي يوم ١٤ منه قرر السير إلى الأمام والهجوم على العدو إلا أنه شاع أن هناك خنادق ومتاريس عظيمة لا يمكن اجتيازها فرأوا أن الأولى الدخول في المتاريس فانضموا إليها وتأخر الهجوم.

وفي يوم ١٨ منه خرجت ثلة من العجم من ناحية حسين باشا فهاجموا على حين غرة إلا أن العسكر كان متأهبا مستعدا فعاد الأعجام بخيبة ولم ينالوا مأربا ثم خرج من ناحية القپودان ثلة أيضا فلم تفلح.

وفي ١٩ منه جاءت ثلاثة مدافع من طريق دجلة فوضعت في جهة قلعة الطيور ووجهت على المتاريس.

٢٧٠

وفي يوم ٢٠ منه وردت ستة مدافع أيضا فأعطيت ثلاثة منها إلى درويش محمد باشا والي ديار بكر. وحينئذ تقرب من (برج العجمي) (١) ومن متاريس الأعداء فتضاربوا بالقنابل مدة فتقدم الباشا مع سبعة من الچورباچية (٢) إلى متاريس أخرى فأبطلوا مدافع خصومهم.

وفي ليلة ٢٣ منه خرج الأعجام بحذافيرهم. ضربوا قنابل وبنادق وعملوا مهر جانا. وسبب ذلك أنه وردت إليهم من جانب ديالى قوة تقدر باثني عشر ألفا.

وفي هذه الأيام هبت رياح عظيمة دامت أربعة أيام وأربع ليال فلم تكد ترى بغداد ولا الصحراء من كثرة الغبار فلم يفارق الجيش مقابلة العدو واستمروا في الدفاع وأبدوا إقداما يذكر ...

وفي يوم ٢ شعبان ألقى أمير العرب ابن أبي ريشة القبض على (علي خان) من أمراء حسين خان اللر (٣) فجيء به فاعتذر بأنه كان جاء إلى العثمانيين فلم تسمع معذرته فقتل.

وفي ٣ و ٤ و ٥ من شعبان أبدى الجيش بسالة وإقداما تاما فجرت معركة طاحنة جدا تبادل الطرفان فيها المدافع والبنادق. وفي هذه الحرب جرح كور خزينة دار وسقط كتخدا الينگچرية شهيدا وجرح كل من أمير أمراء طربزون وأمراء بوزاوق وچورم.

وفي ٦ منه وزعت أيضا إلى العساكر نحو (٢٦٠) هزة (كيسا) لحمل التراب.

__________________

(١) يسمى مقام الشيخ. وهو معروف. اندثر في هذه الأيام. وجاء ذكره مفصلا في تاريخ جهانكشاي جويني.

(٢) الجورباجية لهم كسوة خاصة. وهم كالبلوكباشية ودرجتهم يوزباشي أي رئيس في مصطلحنا. والتفصيل في كتاب (تشكيلات وقيافت عسكرية) ص ٥٤ وعندنا آل الجوربه جي الأسرة المعروفة ببغداد من بقاياهم.

(٣) أمير اللر الفيلية.

٢٧١

وفي ٧ و ٨ منه جمعوا ترابا أمام الخندق كالجبل. ومن هؤلاء الغزاة ممن كان مع قپودان باشا استولوا على الخندق فدخلوه. وإن رئيس الدلية (١) للباشا المذكور جرح وهو راكب فرسه.

وفي ١٠ منه خرجت ثلة دمرت ضعفها من الأعجام.

وفي ١٤ منه كان جاء إلى ساحل ديالى أعجام ، فاقتضى إرجاعهم فأرسل محمد باشا والي حلب وشاهين باشا والي طرابلس وأمير الصحراء ابن أبي ريشة مع خيالة العربان فذهب هؤلاء لصد أولئك. وبوصولهم انسحب الأعجام وقفلوا راجعين.

وفي ليلة ١٥ منه وقع خسوف كلي قرب الصباح. وإلى ١٦ منه اشتد القتال ودام الحرب فاكتسحت من العدو أماكن كثيرة واستشهد آغا الينگچرية والسردنكچدية وأمير آلاي چرمن. وملئت الخنادق بالأتربة من كل صوب فمضى الجيش سائرا إلى الأمام.

وفي يوم ١٧ منه وقت الظهر صار يحرض السردنكچدية الواحد الآخر وهاجموا العدو فتقدموا إلى الأمام وهاجموا التوابي المخربة وهناك اشتبكوا بالعجم واشتعلت نار الحرب.

قال المؤرخ نعيما : ولما سوي الخندق بالأرض في ١٦ شعبان. خاطب السلطان الوزير بأن الجيش وطن نفسه على الهجوم فلماذا لم تهاجم؟ فأجاب الوزير الأعظم : أيها السلطان لنصبر قليلا. فالفتح قريب. والهجوم العام له وقت مرهون! فلا نعجل بمحو الجيش.

ثم إن السلطان عاتبه للمرة الثانية قائلا له : أهذه شجاعتك

__________________

(١) رئيس الدلية ، ويقال له دلي باشي. يراد به الدليل. وكانوا يحمون الثغور من صنف الخيالة ويتولى رياستهم دلي باشي وعندنا ناحية دلي عباس (ناحية المنصورية) سميت باسم أحدهم وجامع دلي فتحي باسم أحدهم.

٢٧٢

وإقدامك. ما هذا الانتظار وما معنى هذا التأخير؟!

وبخه بهذه الكلمات فأجابه :

ـ أنا حاضر لفداء روحي لسلطاني. فلو مات عبدك الطيار فلا قيمة له. اسأل الله أن يسهل الفتح. قال ذلك وقرر التقدم في الغد.

وفي ١٨ منه قام الغزاة بوداع الواحد الآخر وأعدوا أسلحتهم وآلات حربهم وبذلوا ما يستطيعون من قوة وأحضروا ما تمكنوا عليه وصرفوا مجهوداتهم جميعها. وفي تلك الليلة لم يقدر أن ينام أحد. فبلغ التكبير والتهليل عنان السماء.

أما العجم فإنهم أيضا كانوا تأهبوا للهجوم واستعدوا للحرب فهاجموا ليلا واستخدموا كل ما استطاعوا من قوة من المدفعية والبنادق وسائر الآلات النارية فدافعوا دفاع مستميت وحاربوا حربا عظيمة. فتقدم الترك على لسان واحد قائلين : (الله الله) واشتبكوا بحرب أنست كل الحروب التي سبقتها.

وحينئذ سار الوزير بعساكره وآغا الينگچرية بمن معه فخرجوا من متاريسهم وتقدموا نحو التوابي من كل صوب ، تقدم قسم وركز العلم في التابية التي أمامه. فقارعهم الأعجام. اشتبكوا بقتال عنيف ، وحرب طاحنة. دام القتال حتى دارت الدائرة على العجم وولوا الأدبار ...

وفي هذا اليوم استشهد كثيرون لكن الغلبة كانت نصيب الترك أحرزوها وضبطوا التوابي ...

شهادة الطيار محمد باشا وفتح بغداد :

إن عساكر الترك تمكنوا من الاستيلاء على التوابي فاستقروا فيها. ولكن العجم احتفظوا ببعض المواقع. صاروا يبدلون حراسها في الليلة ثلاث مرات أو أربعا. أما الوزير الأعظم محمد باشا فإنه كان سل سيفه

٢٧٣

يوم الخميس ١٧ شعبان فمشى على التوابي التي أمامه بما عنده من عساكر في جهته وأعمل في عدوه السيف وأبدى بسالة لا مثيل لها ، ولكنه جاءته رصاصة من العدو أردته قتيلا. فنقلوه إلى خيمة. توفي ولم يتيسر له أن يشاهد الفتح.

ومحمد باشا الطيار هو ابن مصطفى باشا المعروف بصارقچي والي بغداد الأسبق. كان توفي والده ودفن في مقبرة الإمام الأعظم. ولذا دفن محمد باشا أيضا عند قدم والده ، وكان محمد باشا قبل أن ينال الوزارة واليا على الموصل ...

ولما اطلع السلطان على هذا الحادث قال : آه طيار! أنت لا تقدر بمائة مدينة مثل بغداد. عفا الله عنك وأغدق عليك الرحمة والرضوان!

الدوام في أمر الفتح ـ وكالة الصدارة العظمى :

وحينئذ أنعم بختم الوكالة العظمى على مصطفى باشا القپودان وقال له :

ـ أراك أراك! سيتم الفتح بعونه تعالى على يدك. أطلب منك الخدمة والمفاداة ليكن الله تعالى في عونك!

قال له ذلك ودعا له بالخير. وحينئذ قبل أقدام السلطان وقال أتمنى أن يتوجه قلب السلطان نحوي وأرجو منه الأدعية الخيرية. قال ذلك وبكى فخرج من الأوطاغ الهمايوني وذهب توا إلى متاريس الوزير. وهذا ولد روحا جديدا ونشاطا في الجيش. وبادروا كالأول في القتال. سارعوا في الحرب.

إن الصدر الأعظم الجديد تقدم بمن معه من جميع الأغوات واللوند والحرس الملكي ومشوا على عدوهم بعساكر فهاجموا بهجوم عام فبذلوا نفوسهم قائلين إن الموت إنما يكون في مثل هذا اليوم. وإن كتخدا الوزير رضوان آغا مع جماعة من أغوات البلاط وغيرهم سقطوا.

٢٧٤

وأما العجم فقد هلك منهم خلق لا يحصى فاكتسحت التوابي القريبة من السور بتمامها وامتلأت بالعساكر. فلم يستطع الإيرانيون الاحتفاظ بها.

وفي اليوم التالي سحرا سل العثمانيون سيوفهم وتقدموا نحو العجم. وهناك قطع العجم آمالهم من النجاة. حاربوا حرب المستميت.

وفي اليوم الأربعين من أيام المحاصرة في ١٨ شعبان (١) يوم الجمعة صاح العجم الأمان الأمان وعلقوا آمالهم بعفو السلطان.

بكتاش خان والي بغداد

في حضرة السلطان

وفي هذه الأثناء ظهر إليهم أحد الأعجام قال : الخان يرغب أن يسلم البلد أرسلوا واحدا منكم. فأرسل إليهم (چاووش باشي) (٢) طوراق آغا ومتصرف نيكده حسن باشا. فوصلا إلى بكتاش خان (حاكم بغداد) فأعلماه بأن من طلب الأمان من السلطان أعطاه كما هو دأب العثمانيين ومن رسمهم المعتاد القديم. وطمأنوا الحاكم وجاؤوا به إلى الوزير الأعظم. وبعد الملاقاة معه أحضر إلى السلطان فنبه بلزوم اجتماع العسكر وترتيب الديوان. وإن الوزير الأعظم بقي ثابت القدم في مقامه وإن الجيوش بين خيمة الوزير وأوطاغ السلطان صفت في الجانبين مثنى مثنى سواء السپاه أو السلحدارية (٣). وكانت العساكر مصطفة في الجانبين. لا يحصى عددها ...

__________________

(١) في نعيما أن الفتح كان يوم ثامن شعبان وهذا غير صحيح والصواب ما ذكره صاحب كلشن خلفا من أنه كان يوم ١٨ منه لأن السلطان ورد بغداد يوم ٨ رجب وطالت المحاصرة أربعين يوما فبلغت ما ذكره صاحب كلشن ...

(٢) جاووش باشي. من ضباط الينكجرية. وله لباس خاص. (تشكيلات وقيافت عسكرية) ص ٥٢.

(٣) السلحدارية جند الحرس الملكي الخيالة.

٢٧٥

وكان السلطان جالسا على تخت ذهبي وبلباس أحمر بأبهة لا مثيل لها مزين مكانه بالجواهر ، ومرصع بالنفائس والتحف ، وعلى ركبته سيف مرصع. وعن يمينه ويساره الغلمان المدرعون بالدروع المرصعة والهميانات الذهبية. وهم من خيرة الشجعان تراهم مكتوفي الأيدي واقفين أمام السلطان باحترام.

وكذا شيخ الإسلام والوزراء العظام وسائر أركان الديوان كانوا بوقار وأدب لا مزيد عليه. وكل في موقعه. فترتب الديوان حسب المراسيم المعتادة ...

وحينئذ جاء الصدر الأعظم (ببكتاش خان) إلى حضور السلطان ولما رأى الوضع والأبهة التي عليها السلطان أخذته الرهبة فلم يسعه إلا أن قبل الأرض. ولم يستطع أن يتحرك إلى الأمام وأبدى خضوعا وتذللا.

أما السلطان فإنه أعطاه الأمان قائلا له أمنتكم على أن تخلوا المدينة في هذا اليوم. إنك لو جئتنا أولا لما رأيت هذا العناء. لكنك قمت بواجب الخدمة لمتبوعك جهد طاقتك فأنت معذور. وأعطاه تاجا (سرتوغا) مرصعا وخلعة سمور وخنجرا مجوهرا وقال له : اذهب إلى المدينة. وليخرج كل من فيها من الخانات والعساكر على وجه العجلة. ومن شاء أن يذهب إلى الشاه فليذهب ومن شاء أن يكون تابعا لنا فليبق. لا يجبر أحد فهم على اختيارهم.

وعلى هذا أعيد بكتاش خان إلى خيمة الوزير الأعظم فكتب كتابا إلى الخانات الذين هم داخل المدينة وإلى سائر العساكر بأن السلطان أنعم بالأمان ، وأن مير فتاح ويار علي وخلف خان ونقد علي خان وسائر البيكباشية (المقدمين) واليوزباشية (الرؤساء) يجب أن يخرجوا في هذا اليوم إلى وقت العصر إلى الخارج ، وأن العسكر أيضا سحرا

٢٧٦

يخرجون من (الباب الشرقي) وهو الطريق الذي يذهب إلى الشاه. ومن بقي فليخرج من باب الإمام الأعظم كتب الكتاب وأرسله إلى العجم في المدينة وصار ينتظر خروجهم.

ثم إن بكتاش خان أخبر الوزير الأعظم بأن الجيش الذي هو داخل البلدة على أغلب احتمال قد اتخذ ألغاما تحت التوابي التي استولى عليها الجيش العثماني وملأوها بارودا واتخذوا بذلك حيلة. أما الوزير الأعظم فإنه أخبر جيشه بذلك ونبههم على حيلة هؤلاء وما يحاولون إيقاعه. وعجل بلزوم إبطال ما مكروا به.

أوضاع الجيشين

إن الجيش العثماني كان يلتمس وسيلة ما للوقيعة بالعسكر الإيراني. قاموا بأجمعهم وهاجموهم وأعملوا فيهم السيف. ولما وصل كتاب بكتاش خان وأعلم بالأمان بكتابه المرسل إليهم ، خافوا وأبوا أن يخرجوا وتعللوا بعلل وبقوا تلك الليلة. ولما رأوا هجوم الجيش تحصنوا في تابية نارين. وحينئذ وقعت مصادمة عنيفة بين الفريقين فلم يروا طريقا للخلاص. فركنوا إلى الفرار.

وفي تلك الليلة قتلوا كل من وجدوه من العجم وانتهبوا أموالهم. وإن بقاياهم اجتمعت في (الباب الشرقي). وقفت هناك. وإن العسكر في تلك الحالة نهب من نهب ولم يمكن المنع من الغارة فعين الجبه جية (١) لحراسة سراي بكتاش خان ودور سائر الخانات والبزازين حفظا لها من النهب.

__________________

(١) الجبه جية : يوزعون الأسلحة والمهمات الحربية للجيش ، ويقومون بحراستها أيضا. وآل الجبه جي عندنا معروفون. وهم من بقايا أولئك.

٢٧٧

القتل العام في العجم

ثم إن الوزير الأعظم مع أمرائه ورؤسائه ركبوا وقت السحر فدخلوا بغداد لتسلمها فوجدوها مملوءة بأجساد الأعداء. وملطخة بدمائهم. ونحو ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف من العجم حذروا على أرواحهم فلجأوا إلى (الباب الشرقي) فتحصنوا ببعض التوابي والأماكن. فلما وصل الوزير الأعظم إلى هناك شاهد بعض عساكر العجم فتعرض بهم. وهؤلاء خافوا ، ومن حيرتهم دافعوا عن أنفسهم إلا أن عسكر الوزير سار إليهم فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين. وحينئذ وبعد مغلوبية الإيرانيين قام الملتجئون إلى التوابي وغيرها فصاروا يضاربون جيش الوزير بالأحجار والسهام والبنادق فاستشهد من جيش الوزير جماعة حتى أن رئيس الكتاب (إسماعيل أفندي) كان في ركاب الوزير الأعظم فأصابته رمية حجر وأعقبتها رمية سهم فسقط شهيدا.

وإن الموما إليه من أهل طرابزون ، كان ذا علم ومعرفة وطبع لطيف وصناعة إنشاء فاق بها أقرانه.

وفي ذلك الحين سل أحد الأعجام سيفه وحمل على سلحدار باشا لكن أحد الغلمان الشجعان وكان شابا أمرد اسمه خليل سل سيفه وهاجم ذلك الرجل فقطع (ذراعه) فانسحب الإيرانيون وتجمعوا في محل وشرعوا في الحرب أيضا.

أما الوزير فإنه حينما رأى ذلك بادر لمحاربة الإيرانيين ومن ثم كسروا. وإن راوي هذه القصة إبراهيم آغا كان آنئذ من مقربي الحرم الخاص قال : بعد الفتح أمر السلطان فصاحوا بالأمان ونادوا به وفي هذه الأثناء جاء أحد عساكر روم إيلي إلى حضور السلطان فقال : أنت بذلت الأمان ولكن نحن لا نوافق على ذلك. وحينئذ استغرب السلطان من جرأته هذه فقال ما هذا الكلام الغريب فأجابه بجرأة أيضا : أيها الملك نحن من سنين نقوم بالأسفار على بغداد ولم

٢٧٨

نكتف بصرف المبالغ الطائلة بل بذلنا النفوس الكثيرة حتى أنه لم يبق لي أب ولا عم ولا إخوة فالكل هلكوا في هذه السبيل. فالآن سنحت الفرصة فلماذا لم نأخذ انتقامنا منهم. فكيف نبذل لهؤلاء (الأمان) ، الحق لا تفعل ذلك.

أما السلطان فإنه عجب من قوله هذا وضحك بقهقهة.

وبينا هو في هذه الحالة إذ دخل الباشوات عليه وأبدوا أن العجم شرعوا في القتال فقتلوا الرئيس وكثيرا من الرجال فاضطر الأمراء على الحرب.

وفي ذلك الحين جاء رجل من علماء بغداد بزي شيخ لابسا طيلسانا وأتى باثنين من العجم مصفدين. فغضب السلطان وقال : أنا أعطيت الأمان لماذا تفعل هذا؟ فعاتبه. فقال أيها الملك إن هؤلاء عادوا للحرب الكرة الثانية ولم يصغوا للأمان.

وعلى هذا بعث السلطان غلاما تتارا ليأتيه بالخبر. وهذا التتار وصل إلى الباب الشرقي فرأى أن الحرب مشتعلة فأخبر السلطان بذلك فأرسل السلطان أمير أمراء روم إيلي حسين باشا وقال له : اذهب إلى هؤلاء الأشرار وادفع فسادهم فإذا تعندوا فاقتلوهم قتلا عاما ...

أما حسين باشا فإنه ذهب إلى محل الواقعة وأخذ معه سلحدار باشا (١) فأتيا إلى التابيتين اللتين كان قد تحصن بهما العجم وأفهموهم بأن السلطان بذل الأمان فلا تخافوا. تعالوا من الخارج. وبذلك استمالوهم فمن هؤلاء مير فتاح وعلي يار وخلف خان ذهبوا إلى الخارج فجاؤوا إلى السلطان فسلموا إلى حبس سلحدار باشا ولكن كان لمير

__________________

(١) أكبر آمر من خيالة الحرس الملكي يقال له (سلحدار باشا). قاله في (تشكيلات وقيافت عسكرية) ص ٦.

٢٧٩

فتاح ولدان كبيران لم يخرجا من التابية ولا يزالان متمنعين بها مع جماعة من العجم فأظهروا العصيان للمرة الأخرى. وحينئذ وجهوا عليهم مدافع ضخمة وشرعوا في قتلهم لعدم قبولهم الأمان. وفي بضع ساعات قتل منهم عدة آلاف وأسر منهم ثلة أحياء فجاؤوا بهم إلى السلطان ، وأمام خيمة السلطان (أوطاغه) ضربت أعناقهم وفي تابية نارين جماعة من العجم طلبوا الأمان فأخبروا بأن يخرجوا أولاد مير فتاح فخرجوا. أما الباقون فإنهم طلبوا الأمان وحينئذ صدر الفرمان بأن لا يأتوا بالأحياء ولا بالرؤوس.

وفي ذلك المحل كان أمير أمراء الأناضول حسين باشا حضر بنفسه مع ثلة من أتباعه إلى السور فقال لجيشه آتوني بمن بقي من هؤلاء فنزل عليهم الجيش. وكانوا قد تألموا من العجم وامتلأت قلوبهم عليهم فلم يصغوا إلى طلبهم الأمان فأخرجوهم من متاريسهم وقتلوا أكثرهم. وأما الذين نجوا من القتل فقد بذلوا لهم الأمان. وإن أبناء مير فتاح جاؤوا إلى الفيلق وأما العجم وعدتهم بضع مئات فإنهم خرجوا من الباب الشرقي وتوجهوا نحو جهة ديالى. وهؤلاء حينما خرجوا عقب أثرهم عسكر مصر فقتلوا بضع مئات منهم. ولم يسلم منهم إلا القليل فرموا بأرواحهم إلى شهربان وهؤلاء في يوم ماطر دخلوا تحت قبة كبيرة. وهذه القبة قد سقطت عليهم فأهلكت أكثرهم.

والحاصل لم ينج من مجموع الجيش الإيراني البالغ ثلاثين ألفا إلا نحو ثلاثمائة تمكنوا من الوصول إلى فيلق الشاه ومن جيش العجم نحو عشرة آلاف هلكوا بنيران المدافع والبنادق وأما الذين نقضوا الأمان وقدرهم عشرون ألفا فإنهم قتلوا في خلال الثلاثة أيام وكانوا تحاربوا بعد الأمان.

وقال أوليا چلبي إن العجم رفعوا الأعلام البيض وطلبوا الأمان.

٢٨٠