موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٤

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٤

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦

حوادث سنة ١٠١٩ ه‍ ـ ١٦١٠ م

الوالي قاضي زادة علي باشا

في هذه السنة (١٠١٩ ه‍) ولي بغداد أمير أمراء روم ايلي. وهذا هو المعروف بقاضي زاده. مر الكلام على ولايته الأولى في بغداد سنة ٩٩٨ ه‍ ولم يتعرض صاحب گلشن خلفا لحكومته الآنفة الذكر في بغداد كما أن صاحب سجل عثماني لم يبين ولايته الثانية وإنما ذكر أنه صهر قپوجي مراد باشا وكان صادقا ، متدينا ، عاقلا (١) ، ولم يعين تاريخ انفصاله ...

حوادث سنة ١٠٢٢ ه‍ ـ ١٦١٣ م

صلح إيران وشروطه

في هذه السنة عقد الصلح مع الشاه وكان من شروطه أن لا يسب الصحابة ولا الأئمة المجتهدون ولا أم المؤمنين عائشة الصديقة ، فتعهد الشاه بذلك كما كان سبق أن تعهد الشاه طهماسب بذلك ، وأن يزول العداء لأهل السنة وأن يؤذن لمن أراد المجيء إلى هذه الأنحاء باختياره فلا يمنع ، وأن تراعى الحدود التي كانت أيام السلطان سليمان ، فلا يتعرض للقلاع والبقاع ، وأن تكون البلدان والممالك التي بيد مبارك بن سنجار (٢) تابعة لبغداد وأن لا يعاون المرقوم ، ولا يحمى بوجه وأن البقاع والبلدان التي استولى عليها (هلو خان) (٣) من لواء شهرزور إذا كانت قد استردت منه فلا يساعد ، ولا يمد بمعاونة ما ، وأن يذهب حجاج إيران من طريق حلب والشام لا من طريق بغداد والبصرة حيث لم

__________________

(١) سجل عثماني ص ٥٠٩.

(٢) السيد مبارك بن سجاد من المشعشعين. وهو الصواب. وجاء ذكر سجاد في تاريخ العراق ج ٣.

(٣) من أمراء أردلان.

٢٠١

يكن الطريق فيها أمينا. إلى آخر ما جاء مما لا يخص العراق. وفي هذه المعاهدة جاء ذكر والي ايالة بغداد الحافظ محمود باشا ، وأمير الأمراء محمد باشا وأنهما أودع إليهما أمر تحديد الحدود (١).

وهذه المعاهدة غالبها يخص العراق والعلاقة به. فهي مما تهمه أحكامها ، وتعين الجهات المختلف فيها.

حوادث سنة ١٠٢٤ ه‍ ـ ١٦١٥ م

الوالي دولار باشا

هذا ما جاء في گلشن خلفا ـ ولي بعد علي باشا قاضي زاده فنال منصب حكومة بغداد برتبة وزارة. والظاهر من سجل عثماني أنه بقي إلى سنة ١٠٢٤ ه‍ لأنه صار بعدها واليا في ديار بكر في التاريخ المذكور. وجاء عنه في تاريخ جامع الدول أنه «كان قد تخرج من البلاط برياسة الچاشنگيرية ، أي رؤساء الميرة (٢). ثم ولي قبرص وبغداد وديار بكر ثم صار وزيرا أعظم بعد عزل حسين باشا إلى آخر سنة ١٠٣٠ ه‍ وقتل يوم ٧ أو ٩ رجب سنة ١٠٣١ ه‍» (٣).

الوالي حافظ أحمد باشا

ثم ولي حافظ أحمد باشا ، ذكره صاحب گلشن خلفا ولم يعين تاريخ حكومته في بغداد. وليس في التراجم الموجودة لدينا ما يعين ولايته أو يشير إلى أنه ولي بغداد في هذه الأيام. وإنما كان حارب العجم ، فلم يفلح في حروبه ، ولا نعلم عن ولايته شيئا.

__________________

(١) فذلكة كاتب جلبي ج ١ ص ٣٥٤.

(٢) أصلها من يذوق الطعام للسلطان. فارسية. فأطلقت على من يقوم بالميرة من الجند.

(٣) جامع الدول ج ٢ ص ١١٣٢.

٢٠٢

حوادث سنة ١٠٣١ ه‍ ـ ١٦٢١ م

الوالي يوسف باشا

وهذا آخر ولاة الترك في بغداد لهذا العهد ومنه انتزعها المتغلبة وفي رأسهم بكر صوباشي. وكان النفوذ على الولاة قبل هذا التاريخ مشهودا إلا أنه لم يظهر كما ظهر في هذه المرة بمجابهة أصل الحكومة والثورة في وجهها. وهذا الوالي لم يعين صاحب گلشن خلفا تاريخ ولايته إلا أنه ذكره بعد أن أورد حوادث سنة ١٠٢٦ ه‍ مما يشير إلى أنه كان قبل هذا التاريخ ولعله أورد أسماء الولاة مطردا ثم مال إلى الوقائع في أيامهم. وصاحب السجل يشير إلى أنه ولي بعد سنة ١٠٣٠ ه‍ لأنه ذكر أنه ولي إمارة روم إيلي سنة ١٠٣٠ ه‍ ووجد في حرب لهستان ثم عهدت إليه ولاية بغداد فقتل فيها عام ١٠٣٢ ه‍ في الثورة التي قام بها بكر صوباشي. وكان من بوسنة فتخرج في البلاط ثم صار آغا الينگچرية وبعدها ولي روم إيلي بالوجه المشروح (١).

بكر صوباشي

١ ـ جداله :

قالوا تزايد نفوذ بكر صوباشي من سنة ١٠٢٨ ه‍ وكان في بادىء أمره من أفراد الينگچرية فصار في رتبة (صوباشي) (٢) ، ثم صار آغا الينگچرية ومن ثم جمع له أعوانا في الخفاء واكتسب نفوذا. تابعه نحو اثني عشر ألفا من الجيش الأهلي (قول بغداد). وكان قد خافه جماعة من الأعيان أيضا فمالوا إليه رهبة لا رغبة وانضم إليه الأهلون من كل

__________________

(١) سجل عثماني ص ٦٥٥.

(٢) الصوباشي. له كسوة خاصة. ويقوم بأعمال الشرطة ومهمات البلدية وفي أيام الحرب يؤدي الواجب العسكري (قيافت وتشكيلات عسكرية ص ٦٠).

٢٠٣

صوب فتأثيره كان كبيرا ، وبقي في هذا المنصب مدة حتى نال النفوذ المطلق بحيث صار الوالي يهابه. لا يستطيع مخالفته ، ولا يخرج عن رأيه خصوصا حينما رأى الأهلين معه وهم قوة لا يستهان بها ولم يكن آنئذ للولاة اتصال بحكومتهم. فكانوا يتوقعون منه كل شر. ولما كان عسكر بغداد بيده من مدة فليس للولاة غير الاسم المجرد. والحكم كله له. وهكذا مضى ، ولا يزال يتكامل جمعه ، وتقوى عصبته.

استثقل يوسف باشا هذه الحالة وصار يترقب الفرصة للوقيعة به ، وفي سنة ١٠٣١ ه‍ عصى بعض العشائر في الأنحاء القاصية وزاد ضررهم فتحتم إرسال قوة تأديبية لدفع غائلتهم فذهب (بكر صوباشي) بنفسه لتسكين هذه الفتنة وأقام ابنه محمدا مقامه. وكان آنئذ رئيس كتيبة الخيالة (بلوك باشي) ومحمد آغا العقيد (البيكباشي) فاستمال يوسف باشا محمد آغا المذكور فهرب أولاد بكر صوباشي وأخذت أموالهم وسدت أبواب بغداد وتهيأ يوسف باشا للقتال. ولما كسر بكر صوباشي تلك العشائر وعاد بلغه الخبر ، فحاصر بغداد. انضم إليه جمع عظيم لهذا الغرض وكان من جملة من سافر مع بكر صوباشي (عبد الله الرئيس ابن محمد قنبر أغا العزب) (١) ، وتفصيل الخبر أن محمد قنبر هذا استفادة من غياب بكر صوباشي صار يشوق الأهلين على بكر صوباشي ويحثهم أن يقوموا عليه. فعل ذلك بإغراء الوالي يوسف باشا وبين أن بقاء الحالة بهذا الوضع مما يخل بسمعة البلدة ، ويقضي على مصالح الأهلين ويضر بحقوقهم.

وحينئذ دعا السپاه (٢) والعزب والأشراف والأعيان ممن في بغداد

__________________

(١) العزب صنف من الجيش الأهلي من قسم المشاة. ويشترط أن يكونوا غير متزوجين ، ومن ثم سموا بـ (العزب).

(٢) السباه. جيش من صنف الخيالة يستخدم في الحرب وفي أيام السلم يقوم بانضباط المملكة ويجمع الأعشار. يقوم بتجهيزه التيمار. وله كسوة خاصة. (تشكيلات وقيافت عسكرية ص ٦٢).

٢٠٤

وشاورهم في الأمر واتفقت كلمتهم على لزوم استئصال بكر وأعوانه وإبادتهم كلهم ووجوب مراعاة النظام وإنهاء هذه الحالة المضطربة.

سمع محمد بن بكر أغا وكتخداه عمر أغا بما وقع عليه الاتفاق فتمكن محمد من الفرار وأما عمر أغا الكتخدا فإنه جيء به إلى محمد قنبر أغا فصار يتضرع إليه ويتوسل به. يبكي ويستغيث طالبا أن لا يقتل وأنه يقوم بما يلزم لتأديب بكر وأعوانه. فأبدى بعض الحاضرين لزوم اغتنام الفرصة وأن يقتل لحينه ولكن محمد قنبر قد غر وظن أنه سيكون من أعوانه ، يستميله إليه بالعفو. وعند ذلك أطلق سراحه ، وذهب إلى بيته ومن ثم تقلد سيفه وتقدم في المعمعة وصار يترقب ما تأتي به الأقدار. وبهذا غفل محمد قنبر عن مكر الأعداء وغره ما أظهروا.

وحينئذ ذهب الوجوه والأعيان وكافة الأشياع إلى القلعة ووصلوا إلى الوزير يوسف پاشا فأعلموه بدخائل الأمور وحقائقها وأن الأعداء أشعلوا نيران الفتن والشرور وأوصوه أن يتخذ ما يلزم من التدابير إلا أن هذه كانت في غير أوانها بل شغل الوزير عن اغتنام الفرص بتوجيه المناصب بدل من شغرت مناصبهم. وكان الأولى به أن يراعي التدابير الواقية حذرا من أن يستفحل الأمر فلم يفعل.

وبهذا تمكن الثائرون من لم شعثهم ومن تدارك الأسلحة خلال غفلة هؤلاء. جمعوا الأشياع والأحزاب ونهضوا. فاحتلّوا منعطفات الطرق وممر الناس. وكذا المواطن الأخرى التي رأوا ضرورة في لزوم احتلالها. ولم يكتفوا بذلك بل أغاروا على القلعة الداخلية والميدان وباشروا الجدال. رشقوا أتباع الپاشا بنيران البنادق حتى سقط الكثير منهم قتلى.

ومن ثم عاد بكر صوباشي وحاصر البلد بل ضيق الخناق على الوالي. ذلك ما دعا الوزير أن يخاطر بنفسه وبمن معه فهاجم صوب

٢٠٥

الميدان وحمل على أعدائه فدامت المعركة بين الطرفين بضع ساعات في خلالها قتل خلق لا يحصى. فكانت النتيجة أن انتصر بكر صوباشي وأتباعه وخذل أتباع الوزير. وحينئذ لجأ أعوانه إلى القلعة الداخلية وفي الحال اتخذ القوم المتاريس والخنادق حولهم فحصروهم.

رأى محمد قنبر أغا هذه الحالة بأم عينه وشاهد الخطر المحدق فأخذته الحيرة من خفوق مسعاه وصار لا يدري أين يتوجه. ارتبك عليه الأمر وأضاع رشده. قطع الأمل من النجاة. لا سيما بعد أن علم أن الكتاب الذي أرسله إلى ابنه قبض عليه بكر صوباشي وكان يحثه به أن يسرع بمن معه من العزب ، ويتخذ تدبيرا عاجلا ، وأن يستأصل بكرا وأتباعه ويأتي بباقي العسكر بلا تأخر. وعندما وقف على منطوياته أمر بالقبض على ابنه عبد الله الرئيس وكان نائما فاعتذر لنفسه ودافع بكل ما أوتي من بيان فلم ينجع. وإنما ضرب عنقه. وفي الحال تفرق أتباعه من العزب في البراري منهزمين ورجع بكر صوباشي لحينه إلى بغداد فعلم بذلك محمد قنبر أغا وشعر بما حل بابنه من الرزية. وما سيناله من مصيبة.

إن بكر صوباشي وأتباعه وافوا على عجل وعبروا دجلة ومالوا ميلة واحدة على أعدائهم فأذاقوهم وبال أمرهم. وفي المعركة قتل الوالي. كان واقفا على تل الطوب فأصابته طلقة نارية أردته قتيلا. واستمر الباقون لبضعة أيام على حصارهم ، وقد قيل (المحصور مغلوب) فلم يروا بدا من التسليم وطلب الأمان.

وهنا تلاعبت أقلام كتابهم في بيان أعمال بكر صوباشي وتمثيله بالمحاربين ، وقسوته ، وأنه لم يقبل أمانا وإنما غصب ودمر ما شاء أن يدمر (١). وقالوا نهبت العتاد (الجبه خانه) المخزونة من أيام السلطان

__________________

(١) خبر صحيح ، كلشن خلفا ، جامع الدول ج ٢ ص ١١٣٧ ، وفذلكة كاتب جلبي ج ٢ ص ٣٩.

٢٠٦

سليمان ومن بعده ، وذهبت أموال كثيرة لا يحصيها قلم ، وكثر السلب. فأصبح كثير من الأغنياء والمتمولين لا يملكون شروى نقير.

٢ ـ تخلص بغداد له :

ومن ثم وقعت بغداد في قبضة بكر صوباشي ، فصار حاكمها المستقل. وقالوا إنه بث العيون للاطلاع على أحوال الناس فصار يذيق المخالفين أنواع العقوبة ، وضروب القسوة. ولم نجد أثرا عراقيا سوى گلشن خلفا يعين نفسية الأهلين تجاه هذا الحادث الذي لم يطل في بغداد أمد حكمه بسبب الهجومات القوية المتوالية عليه من العثمانيين إلا ما جاء في تاريخ الغرابي. قال :

«وفيها ـ في سنة ١٠٣٢ ه‍ ـ تغلب بكر صوباشي في بغداد. فقتل حاكمها يوسف باشا ، وأرسل إلى محافظ ديار بكر حافظ أحمد باشا يطلب منه أن يعرض إلى حضرة السلطان مراد ... هذه الأحوال وأن يجعله حاكما في بغداد. فلما بلغ هذا الخبر إلى السلطنة جعلت سليمان باشا حاكما على بغداد ، وأمر حافظ أحمد باشا أن يسير بعكسر ديار بكر إلى بغداد ويزيل بكر صوباشي ، ويجلس سليمان باشا» ا ه (١).

٣ ـ الوالي سليمان باشا :

وبعد أن تم لبكر صوباشي أمر بغداد حاذر من موقفه هذا وما سيجر من النتائج فعرض الحال على السلطان وطلب العفو وذكر أن يوسف باشا كان السبب فلا يتوجه عليه لوم والتمس أن تنعم عليه الدولة بمنشور الولاية. راجع بذلك والي ديار بكر حافظ أحمد باشا لكن الحكومة اعتبرته عاصيا فلم تمنحه الولاية. فعهدت بإيالة بغداد إلى

__________________

(١) تاريخ الغرابي ج ٢ ص ٩٩.

٢٠٧

سليمان باشا وأرسل هذا (متسلمه) (١) إليها فمنعه بكر صوباشي من الدخول وكان أمله أن يولى هو دون غيره فلما شاهد ذلك قال : «لا حاجة لنا إلى أمير أمراء!» وبهذا عارض رغبة الدولة العثمانية (٢).

أما الوالي فإنه لما سمع من بكر صوباشي الرد وأنه متأهب للقتال عزم على حربه وكان معه أمير أمراء الموصل ، ووالي كركوك ، وأمراء الكرد فساروا بعشرين ألفا من الخيالة وتقدموا نحو بغداد فوصلوا إلى قرية الجديدة (ينگيجه) وآمالهم مصروفة إلى حصار بغداد وكانت المدينة آنئذ في قحط عظيم ولكن الوالي بقي في محله ولم يجسر على التقدم. دام مكثه بضعة أشهر فاتخذ الشدة تارة والسهولة أخرى فلم تظهر نتيجة. ومن ثم قام من مكانه وتوجه إلى ما يقابل (بعقوبا) و (بهرز) فاتخذ هذه المواقع مضرب خيامه. وصاروا يعيثون في القرى نهبا وغارة.

ولما علم بذلك بكر صوباشي أرسل كتخداه عمر آغا لحراسة القرى وصيانتها من التعديات وكان معه من جيش بغداد نحو ثمانية آلاف خرجوا من (الباب الأبيض) المسمى (آق قپو) فعبروا نهر ديالى من شريعة (صفوه) (٣) (كذا) وصاروا تجاه الوالي سليمان باشا في محل يقال له (قباب ليث).

__________________

(١) المتسلم من ينوب عن الوالي في استلام أمور الإدارة والقيام بها إلى حين وروده إلى محل منصبه. وإن الغاية من إرساله أن تتيقن الدولة درجة الطاعة والامتثال وإلا جهزت الجيوش وقضت على أرباب الزيغ. وهذا أول متسلم عرف في بغداد. وكذا يراد بالمتسلم متصرف اللواء التابع لإيالة الوالي ، أو من كان دونه في نطاق السلطة.

(٢) جامع الدول ج ٢ ص ١١٣٧.

(٣) قال الدكتور (مصطفى جواد) لا يزال هذا الاسم (صفوة) معروفا في آثار مدينة النهروان العتيقة في شرقي محطة كاسل بوست بينهما نهر ديالى. ومنهم من يسميه صفي وصافي ، والظاهر أنه قبر الشيخ صفاء من أصحاب السيد تاج العارفين كما ذكر في كتاب مناقبه المؤلف في أواخر القرن الثامن للهجرة المحفوظ في دار

٢٠٨

ومن ثم جرد الوالي عليهم حملة تقدر بخمسة آلاف. عهد بقيادتها إلى بوستان باشا والي كركوك. جاء لمقابلتهم ، وصاروا يتضاربون ، واغتنم جيش بغداد الفرصة فعبر النهر وهاجم الجيش العثماني. وفي المعركة جرح بوستان باشا. وفي تلك الليلة استولى الرعب على جيش الوالي فانهزم سحرا قبل أن يلتقي الجمعان. فولى الوالي الأدبار. وعاد إلى جهة الشام وأخبر حكومته بما جرى فاهتمت للمعضلة وبذلت ما في وسعها للتنكيل بهذا الثائر ودفع غائلته. أرسلت إلى أمير أمراء ديار بكر حافظ أحمد باشا ليكون قائد الحملة (١) ...

حوادث سنة ١٠٣٠ ه‍ ـ ١٦٢٠ م

ملا غانم البغدادي

إن بكر صوباشي في هذه السنة قتل أحد العلماء مفتي بغداد (ملا غانم) ، وكان لهذا أقارب في بغداد من العزب. يخشى منه أن يخالفه فغدر به.

أبدع الترك في تمثيل هذه المأساة فرأوا أنه حين قتله كان مشغولا بقراءة القرآن. يقرأ سورة (يس) وقبل أن يتمها قضى نحبه ولكنه ـ كما قالوا ـ استمر في القراءة حتى أتمها وهو ميت. وعدوا هذا الحادث كرامة تذكر له. وقالوا إن قتله أحدث حزنا في القلوب ، ودعا إلى استياء عام.

قال كاتب چلبي : «ولد في بغداد وحصل العلوم فاستولى عليه

__________________

الكتب الوطنية بباريس وأما قباب ليث فقد ذكر ياقوت في معجمه أنها (قرية قريبة من بعقوبة ...» وزاد في المراصد أنها «من طريق خراسان» وأقول إن صافي في انحاء سلمان الفارسي ومن أوقافه فهي بعيدة عن قباب ليث.

(١) كلشن خلفا ص ٧٠ ـ ١.

٢٠٩

العشق (اعترته الجذبة) فصار يتجول نحو ١٢ سنة في الصحاري والبراري ، ثم إنه وصل إلى الشيخ علاء الدين في عينتاب فسلك عليه. ولما ولي رضوان أفندي منصب قضاء بغداد سنة ٩٩٨ ه‍ سمع عنه أوصافا جميلة فمال إليه ومن ثم أصلح حاله. فجعله مدرسا في المستنصرية وكانت من أجل مدارس بغداد فصار يقضي أيامه في التدريس. فظهر علمه وبان فضله ، ونعت بأعلم العلماء ، وفي سنة ١٠٣٠ ه‍ قتل أيام الاضطراب في بغداد.

كان هذا الولي وصل إلى درجة الكمال في علوم الظاهر والباطن. وله اليد الطولى في الفقه. صار مرجع الفتوى ومن آثاره (ملجأ القضاة) (١) المعروف بترجيح البينات ، وكتاب (مسائل الضمانات) وله كتاب في النحو لم يتمه ، وله (حصن الإسلام) فيما يتعلق بألفاظ الكفر ...» (٢).

القحط :

في هذه السنة استولى القحط على بغداد فلم تنزل الأمطار وقلت الأعمال بسبب هذه المصائب وأخذ يهجر الناس أوطانهم. وإن العربان عدموا الأمطار ولم يجدوا أثرا للكلأ فرموا بأنفسهم إلى بغداد وصاروا يشكون الجوع فاستولى الغلاء على البلدة وصار الناس في فقر وفاقة ، فكان المصاب فادحا مؤلما (٣).

__________________

(١) طبع مرارا. وكذا طبع كتاب الضمانات.

(٢) فذلكة كاتب جلبي ج ٢ ص ٦.

(٣) كلشن خلفا ص ٦٨ ـ ١.

٢١٠

حوادث سنة ١٠٣٢ ه‍ ـ ١٦٢٢ م

حافظ أحمد باشا وبغداد

في (سنة ١٠٣٢ ه‍) نال السلطان مراد الرابع السلطنة. وكان موصوفا بالشجاعة والسطوة والقوة. وفي أيام جلوسه كانت الإدارة في تذبذب واضطراب لم يعهد مثلهما ، وأن الجيش والينگچرية جمحوا فلم يتمكن أحد من ضبطهم ، فحدثت غوائل منها (حادثة بغداد) فأبرز من الشدة والحزم ما مكنه من إزالة الاضطرابات وإرجاع الإدارة إلى نصابها فتولد نشاط وجدة نوعا ...

وقبيل جلوس السلطان كانت الحكومة رأت ما رأت في بغداد من رد متسلمها أرسلت سليمان باشا واليا بالوجه المذكور وهذا خذل. وحينئذ زاد حنقها واهتمت أكثر لدفع الغائلة ففوضت حافظ أحمد باشا أمير أمراء ديار بكر وهو من قدماء الوزراء. جعلت معه ولاة مرعش وسيواس والموصل وأمراء كردستان. فكان من رأي أحمد باشا المداراة وتولية بغداد لبكر صوباشي وإلا فإنه يتوقع أمورا ليست في الحسبان.

وأكثر ما كان يخشى منه أن يميل هذا المتغلب إلى إيران ويسلم بغداد إلى العجم عنادا فيدعو الشاه لصد العثمانيين فيولد مشاكل خارجية فلم يلتفت أعيان الدولة إلى رأيه بل حملوا ذلك على سوء الظن به. اتهموه بأنه أخذ مالا من بكر صوباشي من جراء المراجعة والتوسط لحكومته.

ولما وصل خبر ذلك إلى حافظ أحمد باشا سار إلى بغداد فقاتل هذا الثائر. فكسره فتحصنوا في المدينة ، وشرع في الحصار والقتال في أطراف بغداد. بدأ بالتضييق على بغداد وهاجم عدة هجومات ، جرت خلالها مصادمات فاضطر أخيرا جيش بغداد إلى الهزيمة ، فأضاعوا ثلاثة آلاف وسبعمائة جندي وألفين وخمسمائة أسير. أما الأسرى فإنهم حينما

٢١١

حضروا إلى القائد أمر بقتلهم ولم يقبل منهم عذرا ، ولا رحم شيخا ولا شابا.

بغداد وشاه العجم :

ولما وصل خبر هذه المغلوبية إلى بكر صوباشي ورأى أن الخناق قد ضاق على بغداد كتم غيظه ولم يبال بما جرى على القتلى والأسرى ورأى الصواب في أن يسلم مفاتيح بغداد إلى الشاه عباس الكبير. نظرا لما ناله من الحصار ولما أصاب بلاده من القحط الشديد من جراء ذلك.

وعلى كل لم يطق بكر صوباشي صبرا على هذه الحالة ولم تبق له قدرة المقاومة والتزام الجيش لمدة طويلة فاضطر إلى الاستمداد من الشاه عباس والاستعانة به مبينا له أنه إذا أنقذه من هذه الورطة وخلصه من الترك فسوف يسلم له بغداد خصوصا بعد أن عقد مجلسا للمذاكرة مع أعيانه واتضح للجميع أن العثمانيين لو ظفروا به وبأعوانه لا ينجو منهم أحد فاستولى اليأس عليهم بسبب الضعف عن المقاومة ... ورجحوا أسر العجم على هلاكهم من جانب الترك فقرروا لزوم تسليم بغداد إلى الشاه صيانة لحياتهم. وافق الكل على هذا. وكتب بكر صوباشي كتابا يتضمن أنه منقاد لإيران وعرض المفاتيح والكتاب مع رسول يسمى (عباسا). فذهب هذا لبلاد العجم مسرعا ...

جاء في خلاصة الأثر عن هذا الكتاب «... كتب ـ (بكر صوباشي) ـ للشاه كتابا يقول له أسلمك بغداد بشرط أن تكون الخطبة والسكة باسمك فقط فرضي الشاه بذلك» ا ه.

وفي هذه الأثناء كان الشاه في سفر قندهار فأرسل إليه بريد سريع قدم إليه الرسالة والمفاتيح فخلع الشاه على الرسول وأكرمه إكراما زائدا إذ إنه كان يترقب هذه الفرصة آنا فآنا. ولما حصلت بادر للمساعدة.

٢١٢

وحينئذ رتب أمير همذان (صفي قولي خان) سردارا وجعل معه كلًّا من حاكم اللر (حسين خان) وحاكم أردلان (أحمد خان) خان أوشار (أفشار) ، وقاسم خان وأمراء آخرين. كتب أن يذهبوا معا على جناح السرعة لإنقاذ بكر صوباشي من مخالب حافظ أحمد باشا وأن يستولوا على المدينة وعين من يذهب توا لتنفيذ هذا الأمر وإعطائه إلى السردار. فكان ما أمده به من الجيوش يبلغ نحو ثلاثين ألف جندي.

فلما ورد إليهم الأمر نهضوا مسرعين متوالين الواحد إثر الآخر فذهبوا إلى بغداد وتسابقوا في الوصول إليها فوصلوا إلى خانقين وضربوا خيامهم هناك. وحينئذ وافى الخبر إلى حافظ أحمد باشا وهذا رأى أن الخطر قد حل به من جهة أن الجيش قد استولى عليه التعب من مشاق السفر والحروب فإذا سمع بورود الجيوش الإيرانية تولد الوهن في قوته المعنوية. ولو خرجت عليهم الجيوش المحصورة أيضا فلا يتيسر صد الاثنين بوجه. ولا قدرة حينئذ على مقاومتهما ...

وحينئذ فكر في اتخاذ تدبير ناجع للنجاة من هذا المأزق الحرج فرأى أن يؤيد بكر صوباشي ويقره في منصبه بإرسال فرمان إليه بمنصب بغداد مع الخلعة السلطانية الفاخرة. وكان الرسول إليه (سيد خان) حاكم العمادية.

ومن ثم أبدى له أن قد عفا السلطان عن جميع أعماله السابقة وجدد المحبة معه بكتاب أرسله إليه موضحا فيه أن الماضي لا يذكر ، وأن يحافظ على مدينة السلطان من تطاول الأيدي إليها. لئلا يؤدي ذلك إلى وقائع مؤلمة في النفوس. مخربة للبلاد ، وأن يهتم بالدفاع بما استطاعه من حول ...

إلى آخر ما جاء في الكتاب من النصائح وأضاف إليه ولاية الرقة. ووجه لواء الحلة لابنه فتمكن من جلبه إليه. وبعد أن بعثه إليه عجل

٢١٣

بالذهاب إلى دار الأمان والنجاة من الخطر بالانسحاب إلى موقع بمعزل عن التقرب إلى أحد الجيشين ...

ثم ورد إلى حافظ أحمد باشا سفير من العجم. أتى بكتاب إليه يقول فيه إن بكر خان دخيل الشاه ، لا تتحركوا بما يخالف الصلح. ارحلوا عن بغداد. وإلا يختل السلم.

فأجاب حافظ أحمد باشا أننا لم نكن في مملكة الشاه وإنما عصى أحد رجال السلطان فجئنا لتأديبه. فقال له السفير إن بكر صوباشي استمد بالشاه فلو أن طيرا لجأ إلى قشة لحمته فأجابه أن الطير لا يزال في قفصنا. فلو فر وذهب إليكم لكان لكم العذر في حمايته. وكان قوله الأخير : أقسم وأقول الحق أنكم إما أن ترحلوا أو أن يأتيكم أمير أمرائنا (خان خانان) بثلاثين ألفا من جنده. وحينئذ استعدوا للنضال. فأجابه : إذا فسد الصلح فالحكومة العثمانية غير عاجزة عن المقابلة.

وعلى هذا نهض السفير ورجع.

دخل بغداد نحو ثلاثمائة من العجم وعرف بواسطة الجواسيس أن السكة ستضرب يوم الجمعة باسم الشاه. فبقي حافظ أحمد باشا متحيرا فاتخذ التدبير الآنف الذكر ووجه ايالة بغداد لبكر صوباشي. بعد أن كان أعلن داخل البلدة أن بغداد للشاه وبكر خان عبد الشاه وضربت النقود باسم الشاه كما شاع على الألسنة. وحينئذ ورد إليه فرمان الايالة وفيه «وجهت إليك بغداد فكن على بصيرة وابذل ما تستطيعه من قدرة لحفظ الايالة وحراستها».

قال أوليا چلبي : اضطر بكر صوباشي إلى الالتجاء إلى إيران ، فأخبر القائد حافظ أحمد باشا دولته ، فاضطر الصدر الأعظم (مره حسين باشا) أن يصدر الفرمان السلطاني بولايته (١).

__________________

(١) أوليا جلبي ج ٤ ص ٤٠١.

٢١٤

فرح كثيرا بمنشور الولاية وندم على دعوة الشاه عباس والركون إليه بالدخالة فاتخذ التدابير لإعادة صفي قولي خان. فكتب إليه يرحب به بعد أن قام بضيافته وقدم له أفخر الهدايا واعتذر له ولكنه أي صفي قولي خان لم يكن ممن يقعقع له بالشنان أو يكتفي بالمدح الفارغ والألفاظ اليابسة وإنما كلفه بتسليم المدينة إليه حسبما عهد إليه. وكان قد قال له بكر صوباشي في كتابه :

ـ إننا عبيد الشاه القدماء وبيننا حقوق الجوار فنشكره على ما أسداه إلينا من المعاونة وما أجراه من الالتفات ونذكر له هذا الصنيع ونثني عليه من أجله دائما ونقدم له هدايانا الحقيرة مع ما استطعنا تقديمه من النقود ولا نزال على عرض العبودية ...

أما صفي قولي خان فإنه تهور وأطال لسانه. ويقال إنه قتل بعض من جاءه وألقى القبض على آخرين ...

مجيء الشاه عباس إلى بغداد :

إن صفي قولي خان كان قد وصل إلى خانقين. وتقدم نحو بغداد. فلما سمع بكر صوباشي ندم على ما فعل. وصار يلتمس الوسائل لرفعهم عن بغداد. ولذا استقبله بواسطة أعيان البلدة لإجراء لازم الضيافة وترصينا للوداد فأنزلهم خارج الباب المظلم (قراكلق قپو) وقام بضيافتهم ثلاثة أيام وقدم لهم الهدايا ورحب بهم غاية الترحيب وكتب بكر صوباشي بذلك كتابا. وقدم لهم بضعة أكياس من النقود.

وفي گلشن خلفا ذكر أنه استشاط غضبا حينما فتح الكتاب وعرف منطوياته وقال إني لم آت لهذا الغرض وسأخبر الشاه بما وقع فأرسل بعض رجاله بصورة مستعجلة إلى الشاه وأخبره بالحالة. وكان الشاه أتم سفر قندهار وعاد إلى أصفهان عاصمته وصار يترقب الأخبار عن بغداد وبينا هو كذلك إذ جاءه الرسول ... وحينئذ تهور أكثر وصار يتطاير من

٢١٥

٢١٦

عينيه الشرر. وفي الحال عين قارجغاي خان قائدا وأرسله وجهز معه من كان لديه من الجنود وأمراء خراسان وگرجستان وگيلان ومازندران ثم توجه هو نحو بغداد بسرعة لا مزيد عليها ...

أما بكر صوباشي فإنه تأهب للمقارعة. أعد جيشه وهيأه. وفي هذه الأثناء ـ قبل أن يأتي الشاه ـ عبر صفي قولي خان إلى الجانب الغربي. فلما علم بذلك بكر صوباشي أرسل كتخداه عمر آغا ، جعله قائد الحملة. وبعد عبورهم من جسر بغداد تحاربا مع عسكر صفي قولي خان ودامت الحرب بضع ساعات ومن ثم ظهرت علائم الانكسار في جيش عمر آغا. وأسر من قبل العجم في هذه المعركة. وبعض الأكابر قد اعتقلوا وأرسلوا إلى جانب الشاه.

ثم إن قارجغاي خان وصل إلى بغداد ، وحاول افتتاحها فلم يفلح وبعد ١٤ يوما جاء الشاه بنفسه فحاصرها من جميع أطرافها واتخذ المتاريس ورتب الأبنية والألغام ونصب المدافع وصار يطلق النيران على بغداد ويمطرها بوابل من القنابل.

أما حافظ أحمد باشا فإنه كان في أثناء الطريق. وصل إلى (درتنك) فأعلمه بكر صوباشي بواسطة رسوله أن يأتي لإمداده. ولكن الباشا كان قد سرح من معه من الجند وفي الحال تدارك قسما من السكبانية والعساكر وأرسل إليه من أمراء الموصل حسين باشا المعروف بشجاعته ومن قدر على تجهيزه من الجند وأخبر استانبول بأن الشاه حاصر بغداد.

ولما كان صادف ذلك أيام جلوس السلطان مراد الرابع لم يعبأ رجال الدولة بأمور مهمة مثل هذه بل ولا فكروا فيها فلم يحصل أمل من هذه المخابرة.

وفي هذه الأثناء ورد كتاب من متسلم ديار بكر يتضمن أنه من

٢١٧

المحتمل مجيء إبازه پاشا إلى ديار بكر فاضطر حافظ أحمد باشا أن يتحرك من الموصل ويتوجه نحو ماردين فذهب إليها ...

وإن حسين باشا حينما أراد الذهاب إلى بغداد ظهر من أمامه قارجغاي خان ومعه بضعة آلاف جندي فتحارب معه في مكان بعيد عن الشط يقال له (قزل خان) (١). وهو خان لا سقف له فحاصر حسين باشا هناك مدة ، بقي خلالها بلا مهمات ولا لوازم وعتاد ، وحيئذ أرسل إليه قارجغاي خان من يفاوضه في الصلح مبينا أن غرضه إنهاء الصلح مع الحكومة العثمانية وقد بعثني الشاه للمفاوضة في أمر الصلح.

وبأمثال هذه الحيلة تمكن من إغوائه فخرج إليه من حصاره. وهذا القائد لم يراع تعاليم الشاه فلم يؤمن الباشا وقتله في الحال ، كما أنه قتل أكثر جنوده ولم يبق إلا القليل وهؤلاء أرسلهم إلى الشاه أحياء. ولما رآهم الشاه أظهر غضبه ـ بصورة ظاهرية ـ على قائده قارجغاي وعاتبه على صنيعه. ولإثبات نواياه وتأييدها أطلق سراح الأسرى فأبعد التهمة عن نفسه وأنه لم يرض بقتلهم ...

سمع بهذا حافظ أحمد باشا وهو في الطريق فتألم كثيرا ولكنه نظرا لما جاءه من الخبر ولحوق موسم الشتاء اضطر إلى العودة.

وكان ورد إليه كتاب من (بكر باشا) مؤداه أنه قد حفرت الألغام في أماكن متعددة من السور وعدتها ٥٤ لغما فبقي عاجزا عن المقاومة والدوام على المحاصرة فطلب الإمداد السريع والنجدة العاجلة. فأجابه الباشا بأن الوزير الأعظم سيوافي بقوة لإمداده وأنه في انتظار مجيء الخبر إليه من استانبول. فلم يظهر أثر من هذه المخابرة وسمع أيضا بأن ابازه رجع عن الفرات وعاد.

__________________

(١) قزل خان ذكر في رحلة المنشي البغدادي ص ٨٧ الهامش.

٢١٨

أما القحط في بغداد فإنه بلغ حده حتى أن الأمهات وصلن إلى درجة أكل أبنائهن وبناتهن وبلغت قيمة الحمار ألف أقچه ...

وبهذه الصورة بدت ـ أثناء الحصار ـ علائم الضعف في بكر صوباشي وقلت ذخائره الحربية ومعداته وأن ابنه الكبير محمدا لما شاهد هذه الحالة استولى عليه اليأس ...

مضت بضعة أيام والمدينة تحت حراسة محمد بن بكر صوباشي وكان الأمل أن يأتي الله بفرج من عنده فلم يجد ما يزيل المصيبة أو يدفع هذا الشر. وعجز القوم عن المقاومة مع أن القوة كانت كافية للمقاومة فأرسل سفيرا إلى الشاه وأبدى أنه يسلم بغداد. وعلى هذا أرسل الشاه عيسى خان ومعه بضعة آلاف من العساكر الذين كانوا في الصحراء فدخلوا المدينة بلا عناء ولا تعب وتصرفوا بها.

كان استيلاء الشاه عباس الصفوي على بغداد يوم الأحد ٢٣ من شهر ربيع الأول سنة ١٠٣٢ ه‍ ونال عطف هذا الشاه كل من محمد (درويش) بن بكر (صوباشي) وعبد الرحمن جلبي وبعض نفر فتحوا له المدينة فنجوا من القتل. ثم تعقب الآخرين ممن دخلوا في خصام فعاقبهم بضروب العقوبات كما سمى الآخرين بـ (باقي الظلمة وأهل العدوان) فأوقع بهم جزاء أعمالهم ...! ووجهت ولاية بغداد إلى صفي قلي (١).

وتفصيل هذا الحادث في (تاريخ العصامي) ، وفي (عنوان المجد) لابن بشر ، وفي (تاريخ الدولة العثمانية) للمستشرق همّر المعروف (ج ٩ ص ٢٣) ، ومثله في كتاب (أربعة عصور من تاريخ العراق الحديث) ص ٦١ الطبعة العربية الأولى سنة ١٩٤١ م وما فيها من هامش ، والطبعة الثانية سنة ١٩٤٩ ص ٥٤ مع الهامش أيضا.

__________________

(١) عالم آراي عباسي ج ٣ ص ٧٥٧.

٢١٩

وفي ذيل عالم آراي عباسي أن بكتاش خان لم يستطع أن يسيطر على الجيش في تنفيذ شروط التسليم فدخل في معركة وليس له قدرة ولا زاد ولا عدة ليبرر موقفه ، فبقي الوالي في حيرة لعلمه بهلاك الجيش وتيقنه من عدم التمكن من الاحتفاظ به لدولته. ولذا ركن إلى الترياك وعده ترياقا لتسكين اضطرابه إذ لم يجد مخلصا من هذه الخسارة. فمات. كما أن الشاه نفسه اضطر إلى قبول شروط الصلح (١).

وفي تواريخ تركية عديدة أن هذا الفتح كان في الليلة الثانية من صفر سنة ١٠٣٣ ه‍ ـ ١٦٢٣ م في تشرين الثاني (٢) إلا أن صاحب خلاصة الأثر بين أن الاستيلاء وقتل بكر صوباشي وأخاه عمر وولده كان في سنة ١٠٣٢ ه‍ وهذا يوافق ما جاء في النصوص المنقولة عن المصادر الإيرانية ففي مجمل التواريخ وهو كتاب مختصر في التاريخ مفيد عام ، فيه تفصيل أمر الصفوية أكثر ، كتبه مؤلفه في أيام الشاه عباس الثاني ، ومنه نسخة خطية لدى الأستاذ عباس اقبال ، وأخرى في الخزانة العامة لوزارة المعارف الإيرانية. جاء فيه أن الشيخ لطف الله العاملي توفي سنة ١٠٣٢ ه‍ ثم تصرف الشاه عباس في تلك السنة ببغداد. وبين ميرزا عبد الله أفندي في كتابه (رياض العلماء) نقلا عن عالم آرا أن الشيخ لطف الله توفي في أوائل تلك السنة قبل فتح بغداد وأن تاريخ فتح بغداد جاء في يوم الأحد ٢٣ ربيع الأول سنة ١٠٣٢ ه‍ ـ ١٦٢٣ م.

وعلى كل حال إن تاريخ السنة يوافق ما ذكر في خلاصة الأثر ج ١ ص ٣٨٢ و ٤٥٥ ولكن ما ورد في رياض العلماء قد وافق ما جاء في عالم آراي عباسي ، وخلاصة الأثر ، وفيه ضبط للتاريخ (٣) ...

__________________

(١) ذيل عالم آراي عباسي المطبوع سنة ١٣١٧ ه‍ ـ ش.

(٢) جامع الدول ص ١١٣٧ ج ٢ وغيره.

(٣) مجلة يادكار العدد الأول سنة ١٩٤٥ للأستاذ عباس إقبال.

٢٢٠