موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٤

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٤

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦

ومن ثم نرى تفاوتا بين المنقول عن جامع الدول وعن عالم آراي عباسي وعن رياض العلماء وخلاصة الأثر.

وحينئذ استولى الإيرانيون على الأبراج وأطلقوا المدافع للإعلام بالاستيلاء على البلدة فعلم الأهلون بما وقع واطلعوا على حقيقة الوضع واستولى عليهم الخوف والهلع واضطربوا لهذا المصاب كثيرا حينما رأوا في وجه النهار تبدل الحالة وأطلق الاعجام النيران وقتلوا أكثر أهل السنة ...

وبعد أن ألبسوا الخلع إلى محمد بن بكر صوباشي وتوابعه وأكرموهم بإنعامات أعلن للعموم بأن يبقى كل في مكانه وباستراحته وأن الشاه آمن الكل وأنه لا ضرر على الشيعة والسنة وأن تفتح الأسواق كالمعتاد ... ثم ألقوا القبض على (بكر صوباشي) وعلى أخيه (عمر أفندي). ولمدة شهرين عذبوهما بأنواع العذاب فقتلوهما بسيف الغدر الذي قتلوا به محمد قنبر آغا وسائر العزب وأولادهم ...

وكان حينما ألقي القبض على بكر صوباشي جيء به إلى الشاه فرأى ابنه جالسا قرب الشاه بجانبه وحينئذ عاتب الشاه بكر صوباشي بكلمات منها : قمت بهذه الأعمال الشائنة فأجابه أن الأعمال الرديئة هي من ابن الزنا هذا وأشار إلى ابنه وابتدر ابنه بالسب والشتم وبكى. أما الشاه فإنه أمر بحبسه في الحال.

وفي تاريخ الغرابي ما نصه :

«فلما أتى حافظ أحمد باشا إلى بغداد ليزيل بكر صوباشي ، ويجلس سليمان باشا مكانه بلغ هذا الخبر بكر صوباشي فأرسل إلى الشاه عباس بأني أنقاد لك ، فأمدني بعسكر كي أدفع هذه الغائلة ، فلما أتى الحافظ إلى بغداد قابله بكر صوباشي خارج بغداد للقتال فلم يكن نصيبه غير الهزيمة ، فتحصن في بغداد وبقي الحافظ متوقفا خارج بغداد

٢٢١

من غير قتال راجيا أخذ البلد بالسهولة فبينما هو منتظر التسليم أتاه الخبر بأنه من طرف الشاه أتى إلى مشهد الحسين (رض) خمسة آلاف مقاتل لإمداد بكر صوباشي ، وأكثر عساكر الشاه قد اجتمعت في (درنة ودرتنك) فخاف سوء العاقبة ، وأرسل منشورا إلى بكر صوباشي يتضمن أننا جعلناك واليا على بغداد فاحفظها ولا تسلمها للشاه ، وارتحل وذهب إلى ديار بكر ثم إن بكر باشا أخذ في تحصين السور وأرسل خبرا لمن أتى لإمداده من عساكر الشاه أن اذهبوا إلى مكانكم فقد حصل المطلوب.

بلغ هذا الخبر الشاه فاستشاط غضبا. فأتى إلى بغداد وحاصرها فقام بكر صوباشي بحفظ القلعة أحسن قيام لكن ابنه درويش محمد بعث خبرا إلى الشاه أني أسلمك البلاد إن أنعمت بها عليَّ فوعده الشاه بذلك ففتح لهم باب السر التي في جانب الشط فدخل منها نحو عشرة آلاف شخص وضربوا البوق وقت السحر فلما تمكنوا من البلد أمسكوا بكر باشا وقتلوه شر قتلة وقتلوا القاضي نوري أفندي ، وقتلوا من أهل السنة والجماعة خلقا كثيرا».

قال الغرابي :

«ولقد رأيت جما غفيرا ممن أدرك هذه الوقعة فكانوا يقولون : ما سلم درويش محمد البلد طمعا فيها بل لما رأى من القحط والغلاء حيث أكلت الناس الكلاب» ا ه (١).

وبعد ثلاثة أيام من فتح بغداد والاستيلاء عليها فرق بدفاتر (أسماء أهل السنة) و (أسماء الشيعة) ودونها وأودع من السنة من لا يحصون بيد الشيعة فعذبوهم بأنواع العذاب وقتلوا فيهم كثيرا ليضطروهم على بيان أموالهم وسائر ممتلكاتهم. وكان في نية الشاه أن يقضي عليهم جميعا

__________________

(١) تاريخ الغرابي ج ٢ ص ١٠٠.

٢٢٢

ولكن الكلدار للإمام الحسين (رض) نقيب الأشراف في بغداد (السيد دراج) (١) من رؤساء الشيعة وله جاه عند الشاه استشفع بالكثيرين إذ إنه أدخلهم في دفتره وبين أنهم من محبي أهل العبا فتمكن من إنقاذهم. وكان صاحب رحمة وشفقة. فقام بما قام به وأنقذ الكثيرين ...

ثم إن السنة المدونين في دفتر الشاه قتلوا جميعا ومثلوا ببعض العلماء وأنالوهم أنواع العذاب والأذى وقضوا عليهم بصورة يقشعر منها بدن الإنسانية ...

وممن قتل في هذه الوقعة :

١ ـ قاضي بغداد نوري أفندي. كذا في (خبر صحيح) وفي تاريخ الغرابي. وفي خلاصة الأثر لم يسمه وفي فذلكة كاتب چلبي سماه بهذا الاسم (٢).

٢ ـ نائب المحكمة السيد محمد أفندي. وقد نعته صاحب الخلاصة بالخطيب العظيم وهو على مذهب الإمام الشافعي وخطيب الجامع الكبير (الظاهر أنه جامع الخلفاء) وذكر له في الخلاصة فتوى في فسخ النكاح بسبب تعذر النفقة كما هو مذهب الشافعية.

وممن نقل عنهم بعض الحوادث عن بغداد (الشيخ عثمان الخياط البغدادي) وهذا لم نعرف عنه أكثر مما نقله صاحب خلاصة الأثر.

قتلة بكر باشا :

وأما بكر باشا فإنه وضع في قفص من حديد ولم يدعوا له مجالا أن ينام لمدة سبعة أيام وأكرهوه على إبراز ما عنده من الأموال بطريق

__________________

(١) والسيد دراج هذا هو من أجداد نقيب كربلاء السيد حسن وقد ذكره صاحب خلاصة الأثر في المجلد الأول منه عند الكلام على حافظ أحمد باشا ...

(٢) خلاصة الأثر ج ١ ص ٣٨٣ وفذلكة التواريخ لكاتب جلبي ج ٢ ص ٥٠.

٢٢٣

التعذيب وكووه بالنار إلى أن اشتوى لحمه ليبين مواقع أمواله ... وأن ابنه يشاهده بهذه الحالة ولا يبالي بل كان يشرب ويضحك على أبيه المتألم. وبعد أن بين جميع أمواله ولم يبق أمل في إخراج غيرها أمر الشاه أن يوضع في سفينة ويصب في أطرافه النفط والقطران ويشعل بالنار فأحرقه وأخاه عمر.

وجاء عنه في خلاصة الأثر :

«وبكر باشا هذا رومي الأصل سكن بغداد وصار من أكابر عسكرها ، تغلب عليها وانبسطت يده على مملكتها حتى صار إذا جاءت وزراؤها متولين عليها لا ينفذ من حكمهم إلا ما نفذه وهو الذي أدخل الشاه بغداد وقتله الشاه وأخاه عمر وولده شر قتلة وكان قتلهم سنة ١٠٣٢ ه‍ (١).

وقائع ومظالم أخرى :

ثم إن ابنه لم ينل حظا من الشاه. سخط عليه بعد ذلك فخابت آماله وخسر وناله ما نال والده فقتل.

وفي تاريخ الغرابي :

«ثم إن الشاه أخذ درويش محمد إلى العجم ، وعين له مرسوما يعيش به ، فبقي هناك إلى أن هلك» ا ه (٢).

وكذلك هتكت حرمات وأستار وأرملت نساء وأوتمت أطفال وأتلفت ثروات والحاصل تدمرت البلدة وشوهد ما لم يشاهد واستغاث الناس وتطاول الأشرار حتى على البيوت فصارت بغداد دار المحنة لا مدينة السلام. ولا تسل عن الجوامع والمساجد والمدارس فإنها دمرت

__________________

(١) خلاصة الأثر ج ١ ص ٣٨٢ و ٤٥٥.

(٢) تاريخ الغرابي ج ٢ ص ١٠١.

٢٢٤

وجعلت والأرض البسيطة سواء حتى إن المراقد المباركة مثل مرقد الإمام الأعظم والشيخ عبد القادر وسائر الأئمة قد أهينت وهدمت وانتهبت منها المعمولات الفضية ...

ثم إن الشاه قام على العشائر ونكل بهم وأجرى أنواع المظالم ، وقد عدد في خلاصة الأثر أمثال ذلك مما لا محل لإيراده فقد مضى لها من الأعمال الشائنة وفيها من القسوة ما لا يقبلها دين ، أو ترضى بها طائفة.

وإثر واقعة بغداد أخذ الشاه عبد الباقي المولوي خطاطا لجامع أصفهان وكان من أساتذة الخط ومشاهيره. ولا تزال إيران والمملكة التركية تنتفع من العراق ، من أدبائه وعلمائه وخطاطيه كما وقع أيام عالي أفندي الدفتري وغيره بل ولا يزال الترك يتغذون بشعر فضولي ، وبشعر روحي وأضرابهما إلى هذه الأيام. وإن الإيرانيين كانوا أقرب إلى الأخذ وألصق بالعراق ، فكان أخذ هذا الخطاط من الوقائع المهمة ، ولعله آخر من أخذ من العراق. أوضحت عنه في تاريخ الخط العربي في العراق (١).

حوادث سنة ١٠٣٣ ه‍ ـ ١٦٢٣ م

الاستيلاء على البلاد الأخرى

١ ـ الموصل وكركوك :

إن الشاه بعد أن استولى على بغداد شكا أهل الموصل أمرهم له من جراء ما كان ينالهم من ظلم كور حسين (٢) باشا وحينئذ سير الشاه

__________________

(١) فذلكة جلبي ج ٢ ص ٦٥ وتواريخ عديدة.

(٢) وهذا نال مناصب عديدة ومنح منصب الموصل. وفي واقعة بغداد أرسل مددا وجاء إليه (قره جغاي خان) فحاصره في (قزل خان) خمسة وعشرين يوما فاستشهد مع سائر السكبانية المحصورين معه. كان ذلك في هذه السنة وهو مشهور في رمي السهام هو وأحمد باشا أخوه.

٢٢٥

إليهم قاسم خان. أما والي كركوك وهو بستان باشا فإنه حينما علم بالأمر وتيقن أن لا قدرة له على المقاومة ترك البلدة وتوجه نحو ديار بكر ، رآها العجم خالية فاستولوا عليها وذهبوا توا إلى الموصل وكان واليها آنئذ أحمد باشا أخا كور حسين باشا ولم تكن محكمة السور فتمكن قاسم خان من الاستيلاء عليها في مدة قصيرة فأقام قاسم خان فيها وتولى إدارتها ، وسير كتبا إلى أنحاء ديار بكر يدعوهم بها للطاعة (١) ...

٢ ـ استعادة الموصل :

إن كوچك أحمد كان من أعيان السپاهية (٢) أخذ معه جماعة نحو الخمسمائة من السكبان الأرناوود فهاجم بهم الموصل. ولما قرب من المدينة ظن قاسم خان أن السردار قد وافى لمقابلته فهرب إلى جهة بغداد وترك البلدة بمن معه فعلم أحمد آغا بالأمر فتسلم المدينة بمساعدة الأهلين. وحينئذ جاء إليه أمير سنجار فألقى أحمد آغا القبض عليه وقتله قبل أن يصل إليه المدد. أما أحمد آغا فإنه كتب إلى الوزير السردار أحمد باشا بما جرى والتمس أن توجه ايالة الموصل إلى ابن أخيه سليمان بك ففوضت إليه كما طلب ...

حوادث سنة ١٠٣٤ ه‍ ـ ١٦٢٤ م

آلتون كوبري ـ كركوك

إن والي قرمان حسن باشا الچركسي كان قد شتى في الجزيرة

__________________

(١) فذلكة كاتب جلبي ج ٢ ص ١ وجامع الدول ج ٢ ص ١١٣٧.

(٢) من صنف الخيالة. وهم أصحاب تيمار وزعامة. ويقومون في أيام السلم بجمع الضرائب ، وبإدارة الأمن الداخلي. وفي زمن الحرب يتبعون إدارة الوالي التابعين له وأوامره. ولهم كسوة خاصة بهم في كل ولاية. (تشكيلات وقيافت عسكرية ص ٦٢).

٢٢٦

و (حصن كيفا) المسماة عند الترك (حسن كيف) ، فعلم أن قد تجمع الأعداء في آلتون كپري وكركوك وعلى هذا سار عليهم مع كوچك أحمد. كان هؤلاء في جانب من نهر آلتون كوپري وعدوهم في الجانب الآخر فتضاربوا على البعد إلى المساء وظهرت علائم النصر للقزلباشية وحينئذ هاجمهم أحمد آغا بأتباعه فأعادهم إلى الوراء فمزق شملهم في حين أنه كان معه نحو أربعة آلاف وكان القزلباشية اثني عشر ألفا. فر فريق منهم إلى كركوك وهناك لم يستقر لهم قرار فخرجوا من المدينة وانهزموا على وجههم فجاء بوستان باشا فدخل كركوك. واستعادوها من أيدي العجم (١) ...

حكومة صفي قلي خان في بغداد :

إن الشاه عباس قد أسكرته خمرة النصر في بغداد فعزم على تنفيذ آمال أكبر ، ورأى أن يمد يده على بلاد الگرج. فأودع حكومة بغداد إلى (صفي قولي خان) وعاد هو إلى إيران وهجم بقائده قارجغاي خان على الگرج وكان معه نحو ثلاثين ألفا فحدثت حرب بينه وبين أقدم حكام الگرج وهو (طهمورث) وكان هذا قد فاجأ العجم على حين غرة فقتل في هذه المعمعة قرجغاي خان وابنه ولم يبق من جنده سوى ثلاثة آلاف فروا بأرواحهم وأكثرهم جرحى وهلك الباقون.

أما حكومة بغداد فقد كانت مهددة بهجومات الترك ولم يعرف عن داخليتها أكثر من التحدث بأمر الحرب.

مراد باشا يسير إلى بغداد :

إن مراد باشا كان والي حلب فمنح منصب ديار بكر برتبة الوزارة.

__________________

(١) فذلكة كاتب جلبي ج ٢ ص ٦٧.

٢٢٧

وفي هذه الأثناء جاءت الأخبار بأن العجم خرجوا من بغداد وذهب أكثرهم لزيارة الإمام علي (رض) وعلى هذا سير قائدا على حملة تبلغ خمسة عشر ألفا لتكون كمقدمة للجيش إلى الحلة والكاظمية ليحاصر بغداد وليمنع اتصال العجم بها ... وهكذا ذهبت العساكر بصورة متلاحقة. وأرسلت قوة أخرى مع آغا الينگچرية.

وبهذا انتهت هذه السنة.

حوادث سنة ١٠٣٥ ه‍ ـ ١٦٢٥ م

بقية وقائع العثمانيين

جاء في تاريخ الغرابي : «أن الوزير حافظ أحمد باشا سار مع جيوش كثيرة إلى بغداد ، فلما أتاها أخذ في محاصرتها ، فجاء الشاه عباس ، ونزل على نهر ديالى تقوية لمن في بغداد من العسكر فحاصر الحافظ بغداد تسعة أشهر ، فلم يحصل منها بطائل بل رجع خائبا ، وهلك أكثر من كان معه لاستيلاء القحط والمرض عليهم ، وألقى كل ما كان معه من الثقل والآلات» ا ه (١).

هذا ، وفي التواريخ العثمانية جاء تفصيل أكثر. وذلك أن السردار حافظ أحمد باشا في المحرم من هذه السنة نزل بجيوشه كركوك وحينئذ عقد مجلس شورى فاستطلع آراء الأمراء وكبار الجيوش لتعيين الخطة الواجبة العمل وقال : إن مراد باشا ذهب إلى بغداد ليمنع الواردين من دخول بغداد. ومع هذا قد دخل بغداد ثمانية آلاف إيراني مع صارو خان ومير فتاح. وإننا ليس لنا قدرة المحاصرة إذ لم تكن لنا مدافع ومن المحتمل أن يوافي الشاه لإمداد المحصورين فهل الأصلح أن نمضي إلى جهة أحمد خان بن جلو خان (هلو خان) ونهاجمها فنصل إلى درنة

__________________

(١) تاريخ الغرابي ج ٢ ص ١٠٣.

٢٢٨

ودرتنك فنضبط مضايقهما ونمنع الصلة بين المحصورين وإيران ثم نمضي إلى بغداد؟ فوافق جماعة على هذا الرأي وآخرون لم يوافقوا وظهر من كل رأس فكر فاضطربت الآراء ثم استقرت في أن يذهبوا إلى بغداد رأسا ويحاصروها نظرا لحلول موسم الخريف وذلك لأن موسم بغداد الشتاء ولا يتيسر الحرب أيام الصيف من جراء شدة الحر. وقالوا إننا حاضرون أن نفدي بأرواحنا ورؤوسنا فقال لهم السردار مهما كان الأمر فليكن ، قوموا بالواجب!

وفي اليوم التالي جاءهم ثلاثة أو أربعة من العجم يحملون كتابا من أحمد خان كتب فيه أن بغداد مملكتكم فقبل أن تذهبوا إليها وتخربوها ابعثوا برسول إلى الشاه واطلبوها بصورة معقولة وأن السفير الوارد هو پياله بك فسألوه عن أحوال الشاه فقال إنه بعد عشرين يوما سيلاقيكم. وفي ذلك المنزل سير سليمان باشا والي الموصل لإرسال أرزاق وذخائر. وأعيد بستان باشا إلى كركوك لمحافظتها. وفي اليوم التالي رحلوا وذلك في ١٠ صفر فنزلوا قرب الإمام الأعظم ... وفي اليوم التالي ساروا إلى الجهة الجنوبية من بغداد على الشط وحطوا أمام (الباب المظلم) (قره كوقپو) ولما مضوا بمجموعهم ضربوهم من القلعة بعدة طلقات من المدافع. أما أراذل الجيش فإنهم صاحوا بالسردار لا نعدل إلا أن نستولي على المفاتيح وحينئذ ترتبت الجيوش في ١٢ صفر ودخلوا المتاريس واجتازوا برج العجم وذلك أن والي حلب مصطفى باشا صار في ساحل النهر ، وآغا الينگچرية والوزير القبطان تجاه برج العجم ، وفي الوسط أمير أمراء روم إيلي محمد باشا الگرجي ووالي الأناضول الحاج الياس باشا ووالي مرعش نوغاي باشا ، ووالي سيواس محمد باشا الطيار ووالي قرمان حسين باشا الچركسي كل من هؤلاء بسكبانيتهم دخلوا المتاريس. وأرسل إلى ديار بكر ، والبصرة لإحضار مهمات ... وإن بغداد لم تكن مستحكمة لدرجة فائقة إلا أن النخيل وما

٢٢٩

ماثل قد جعلتها محكمة فاتخذ الجيش تلولا (توابي) وصاروا يشتغلون بالمتاريس وأن حافظ أحمد باشا كان يشجع القوم وينعم بإنعامات عديدة عليهم ويستميلهم بكل ما أوتي من قوة والجيش لم يقصر في الخدمة والعمل وكان اشتغالهم لمدة شهرين بسعي متواصل واتخذوا في هذه المدة ألغاما من اثنين وخمسين موقعا فعلم العدو بها وأجرى عليها الماء فبطل عملها وكان العمل متواصلا بشدة من الجانبين وقد قطعت آلاف من النخيل لرميها في الخندق ودفنه بالتراب. ولإتمام المحاصرة قد جرت الإحاطة من كافة الجوانب ونصب جسر فعبروه إلى الجانب الآخر من جهة (قلعة الطيور) (جانب الكرخ).

وفي اليوم الثاني والسبعين من أيام المحاصرة ترتب الجيش سحرا وتأهب للهجوم وقد بقي من الألغام واحد فلما اشتعلت فتيلته أخذت جانبا من السور إلا أن العجم كانوا قد اتخذوا خندقا وراءه وجعلوا بعده سياجا (حائطا قويا). فلما اجتاز العسكر تولاه الإيرانيون بالبنادق فاضطروا إلى العودة وقد ذهبت منهم خسائر عظيمة.

أما الشاه فإنه جاءه الخبر فنهض حتى وصل إلى درتنك ومنها مضى إلى شهربان وعلم الوزير الأعظم أن قد وافى زينل خان بجيوشه. مر بجسان فعبر ديالى.

ويلاحظ هنا أن قاسم خان أرسل كلب علي خان بخمسمائة فارس وحملوا بارودا كل واحد حمل كيسا. فاخترقوا سحرا وعلى حين غرة صفوف العثمانيين واجتازوهم فوصلوا إلى المحصورين فأمدوهم. وبهذا رفع قاسم خان عنه عار الهزيمة السابقة. ومن ثم عقد العثمانيون مجلس شورى من كبار رجالهم وقال لهم حافظ أحمد باشا إن الشاه جاء لإمداد القلعة ولم يبق من المهمات والبارود إلا القليل. وكان من رأي مصطفى باشا أن ينهضوا ويقارعوا الشاه أو يعودوا لبلادهم وإلا فلا فائدة من

٢٣٠

الحصار فلم يوافق الينكچرية وأصروا على لزوم المحاصرة فحصل الاتفاق على الدوام في الحصار وكتب إلى إستانبول لإمدادهم بمدافع ومهمات وكذا كتبوا إلى الأطراف والبصرة. وجاءهم الخبر من البصرة بأن ستأتيهم مدافع تطلق أحجارا بوزن ٤٩ أوقية. وقد سبق لهم مثلها ...

عزل الدفتري عمر باشا :

في هذه الأثناء وردت من ديار بكر معدات حربية اثنا عشر كيسا وأربعة وعشرون كلكا ذخائر وكانت قد وردت بمحضر القاضي محمد أفندي الحافظ والدفتري عمر باشا وسائر الأمراء وغيرهم فأمر أن يوزن البارود ويثبت في دفتر ويوضع في قلعة الإمام الأعظم ... وفي تلك الليلة ظهرت غائلة وولولة مؤداها أن عمر باشا تبين أنه عدو لنا أعطى الأعداء البارود فانتهبوا خيمته وألقوا القبض عليه وسلموه إلى القاضي فأمر الوزير بإجراء محاكمته أمام القاضي فتحقق أن لا أصل لما نسب وكان بعضهم فعل فعلته هذه وهو مجنون. وعلى هذا أمر بقتل ذلك المجنون وعزل عمر باشا ونصب مكانه عثمان أفندي الطوقاتلي دفتريا. وحدوث أمثال هذه الوقائع في جيش مما يمنع أن يؤمل له نجاة وكانوا يتحرون الطريقة لإيجاد الشغب ...

وعلى كل حال لم تكن القيادة مسيطرة على الجيش بل كان يسوده الاضطراب.

مجيء الشاه إلى ديالى وذهاب مراد باشا إليه :

في غرة رجب وافى الشاه عباس إلى نهر ديالى وفي الليلة التي حط رحاله هناك سمع المحصورون فأظهروا فرحا وسرورا وأبدوا مراسم الاحتفال وظهروا على السور ... وبهذا عرف مقدار الموجود منهم وأن التضييق لما كان قد جرى من جميع الأطراف فالجنود هناك في درجة

٢٣١

كافية للحصار. فما كان يعده حافظ أحمد باشا سهلا قد تبين أنه من أصعب المصاعب. ولا مجال من وقوع المقدر ولا مفر من الصبر.

أطلقوا على المحصورين نيران المدافع بطلقات عديدة وكانت هذه بمقام تسل وعادوا. وفي الأثناء عقد الوزير الأعظم مجلس شورى فقر الرأي على أن يذهب للحرب مراد باشا ووالي الأناضول الياس باشا وأعطى لهما سبعة مدافع.

وفي هذا الحين جاءهم (مدلج العربي) ببضعة آلاف فذهب مع أولئك فصار مجموعهم نحو العشرة آلاف وكان ذلك اليوم فيه ريح عاصف مملوء بالعج لحد أن الواحد لا يكاد يرى الآخر فتحارب مع العجم فغلب وعاد إلى الفيلق مكسورا وأكثر سكبانيته قد غلبوا وتشتتوا وتركوا المدافع.

وفي المساء هاجمهم القزلباشية فوصل حافظ أحمد باشا إلى الخندق فانتظروا حتى الصباح وأن الكتخدا للوزير الأعظم وهو حسين آغا قد أرسل ليأتي بالمدافع المتروكة فجاء بها واستشهد بعض الأمراء وحدثت ضايعات كثيرة ...

وفي تلك الليلة قرب الصباح أطلقت على بغداد عدة مدافع وحينئذ حاول بعض الأعجام الدخول إلى المدينة فلم يتمكنوا فقتل بعضهم وأسر الآخرون وبين هؤلاء برخوردار بك كان عظيم الجثة وهو صاحب لغم ، ومدفعي فجاؤوا بهم إلى الوزير الأعظم فأمر بسجن المرقوم وقتل الباقين ...

وفي ٢ شعبان كان حافظ أحمد باشا في الامام الأعظم فرأى قيام عجاجة تبين منها كتائب القزلباشية فتأهب الجيش العثماني ، فركب الخيالة خيولهم ، ودخل المشاة خنادقهم ، وأخبر حافظ أحمد باشا بذلك فجاء أحد المشاة من العجم. وافى من جانب الشاه وأعطى إلى الباشا

٢٣٢

كتابا كان معه ... وطلب الرسول جواب الكتاب فقال له الباشا سأرسل معك الجواب بعد الحرب فتأهب للنضال واصطفت الجيوش على الأصول المعهودة فجرى بينهم تعاطي بعض نيران المدافع والبنادق وانسحب القزلباشية فكانت الحرب بسيطة.

الغربان والمدافع تأتي من البصرة

وبعد يوم ورد بكر آغا وعلي آغا البصريان مع بضع مئات وبعض النجارين فخلع عليهم وأسكنهم في الأعظمية. جاؤوا بثلاث قطع من الغربان (سفن حربية من نوع قدرغة) (١) ولم تكن لها قنوات في مؤخرتها وأعلاها يرفع بألواح عالية ، وفيها ثقوب (مزاغيل) لضرب الأعداء ، وأن مجاذيفها تسحب من ثقوب فيها وسواريها كالقدرغة. حملوها تمرا وافرا. وفي اليوم التالي وردت المدافع أيضا وعهد إلى مراد باشا بأخذها. فذهب بها إلى الجانب الآخر وأخذ معداتها (٢). وكذلك وردت المدافع من الحكومة العثمانية تسمى (بال يمز) فأعدت في رأس الخنادق ووضعت في المتاريس فلم يتمكنوا من استعمالها فأعيدت إلى الفيلق.

والبصرة كانت آنئذ بيد علي باشا بن أفراسياب وهذا بقي محتفظا بالبصرة ، أراد نصرة الدولة العثمانية ليبقى استقلاله مصونا فناصرها بما تمكن منه ...

__________________

(١) في كتاب الطراز للخفاجي أن للمراكب أسماء منها الأسطول للمعد للقتال وغراب لكبارها. تسير بالمجاذيف كما قال ابن الساعاتي. وقد غلط في ترجمته إلى الرومية لأن اسمها عندهم (قادرغة). أما (الغايغ) فهو الزورق ، ولم يكن محرفا ، أو متصرفا به من قادرغة ، فصار قارغة. أي غراب ، ثم قايغ. نقلا من مجموعة خطية. ومر بنا أصل لفظها.

(٢) فذلكة كاتب جلبي ج ٢ ص ٨٠.

٢٣٣

ذهاب عمر باشا لمحافظة الشط :

إن شاه العجم وصل نهر ديالى وبث العساكر في الأطراف وهؤلاء كان غرضهم أن يقطعوا طريق النهر (دجلة) لئلا تصل الكلكات إلى الجيش فتمدهم. وقع فعلا نهبهم بعض الكلكات ومن ثم أرسل الوزير الأعظم أحد أتباعه عمر باشا الأرناود لمحافظة تكريت. وهذا لقي الأعداء فحاربهم ألا أنهم تغلبوا عليه واستولوا على ما معه ففر إلى الموصل. فانتهبوا ما ترك. وكذا انتهبوا المؤونة في الفلوجة فلما سمع حافظ أحمد باشا بما جرى أمر بمحافظة هذه المواقع وكتب إلى يعقوب باشا وكان في رأس الكوپري (١).

رسول الشاه وجواب السردار :

في هذه الأثناء جاء رسول من الشاه يحمل كتابا يقول فيه إنني أخذت بغداد من يد جلالي (٢) وإني مرسل إلى السلطان برسول وكتاب راجيا أن يترك بغداد لابني وإذا أبى فإني أسلمها لكم فلا تدخلوا معي الآن في حرب.

أجابه حافظ أحمد باشا بقوله أنا وكيل السلطان المطلق وجوابه عندي فلا حاجة لكتابة كتاب إليه رأسا. نحن لا نترك بغداد بأمثال هذه الأقوال.

وفي هذا الحين هب الهواء العاصف وكسر الجسر واعتلى العج بحيث لا يتمكن الواحد من رؤية الآخر وهكذا استمر الريح العاصف في اليوم التالي ولم يتمكنوا من نصب الجسر إلا بكل صعوبة (٣) ...

__________________

(١) فذلكة كاتب جلبي ج ٢ ص ٨١.

(٢) يريد المتغلب لأن الجلالية ثاروا على الحكومة العثمانية وصار يسمى كل ثائر عليهم جلاليا ...

(٣) فذلكة كاتب جلبي ج ٢ ص ٨١.

٢٣٤

الحرب الثانية :

وفي الحال علم أن القزلباشية جاؤوا إلى قلعة الطيور (جانب الكرخ) وسيضعون العتاد هناك فكان من رأي الوزير أن يتخذ ما يلزم. وأرسل بعض رجاله وبينا هم متأهبون إذ ظهرت جيوش العدو للعيان في (جانب الرصافة). جاؤوا من ثلاثة مواقع فتأهبوا للمقارعة وتركوا تلك الإجراءات. مضى إلى جانب الكرخ حسن باشا وفي هذا الجانب جرت المضاربات بمدافع وبنادق ثم عاد الطرفان مساء إلى مواطنهم ... وفي اليوم التالي قتل بعض الأمراء ودخل العدو متاريسهم واستشهد كثيرون ليلا.

ثم أمد الشاه بالعتاد وغيرها. كما جاءت السفن حاملة ما يحتاج إليه الجيش العثماني فاستولوا عليها حربا وبشق الأنفس. وقد فصل صاحب الفذلكة ذلك مما لا نرى ضرورة لذكره.

الحرب الثالثة :

وفي آخر شعبان شاع خبر دخول الشاه في الحرب وفي ١٢ رمضان هاجم عسكر الشاه من ناحية الشرق ومن الغرب وبعض القزلباش تأهبوا للقراع وكانت جيوش العثمانيين كثيرة ، وإن كاتب چلبي كان شهد هذه الواقعة. وقف عقب جيش السلحدار على تل عال فجرى الحرب وأطلقت المدافع من ناحية برج العجمي واشتد القتال إلا أن الحرب سكنت قبيل الظهر. وفي هذا الحين تحفز الأفراد للهجوم وطلبوا الإذن لهم في الحرب فكان حافظ أحمد باشا يمنعهم ويقول لهم أنتم لا تعرفون شيئا التزموا مكانكم ...

ثم تحاربوا من ثلاثة مواطن فكانت هذه الحرب مؤلمة جدا. وصف كاتب چلبي هولها وأوضح حالة الجيش العثماني ومغلوبيته ، وأن المشاة منهم صدوا الهاجمين وصاروا يذبحونهم في الخنادق ... وأما

٢٣٥

الغبار فصار لا يستطيع معه الواحد أن يرى الآخر ، وأن حافظ أحمد باشا عاد لا يتمكن أن يرى جيشه كما وأنه قتل له أمراء كثيرون ودمر له جيش عظيم ...

ثم انجلى الغبار فكان الجيش التركي في مكانه والعجم قد انسحبوا ... والجيش التركي ظهرت عليه علائم الهزيمة وصار لا يلوي إلى جهة إلا أن أعداءه لم يعلموا بالخبر لما ثار من الغبار والريح الزعزع ... ولو بقي الجيش على حالته لساء أمره ... حدثت تلفيات من الجانبين كثيرة لا تقدر ... فعاد الجيش إلى خيامه ...

وفي ٢ شوال يوم السبت اجتاز العجم دجلة وجاءوا إلى الجسر على حين غرة وهناك جرت معركة عظيمة ، وأن يعقوب باشا (كافر أوغلي) والي الموصل قد جرح عند قلعة الطيور فكانت الحرب مؤلمة بسبب الجهود المبذولة لإيصال العتاد. ثم ورد رسول من الشاه يطلب إرسال رسول من جانب الوزير للمذاكرة في الصلح وبعد ذلك وافى من العجم (توخته خان). وهذا قدم الكتاب باحتفال وانعقد المجلس فلما أعطى الوزير الأعظم كتاب الشاه أخذه ووضعه تحت مخدته وقال له أنت اليوم ضيفنا وغدا نتواجه وختم المجلس ...

وفي كتابه يقول :

«قد هلكت الرعية. فما الباعث للنزاع بين المسلمين ، أنا انتزعت بغداد من جلالي (١) ، وأرجو من السلطان أن يمنحها لابني وأنا وكلت توخته خان في جميع الأمور» ا ه.

وهذه الألفاظ نسمعها دائما في مواطن كهذه. ولا شك أنهم رأوا العطب من العثمانيين ...

__________________

(١) مر تفسير الجلالي.

٢٣٦

ولما سأله الوزير الأعظم عن فكره باعتباره وكيلا للشاه أجابه بأن (الصلح خير) جئت للصلح بين الطرفين فسأله على أي شيء نتصالح؟ فلم يتم بينهما صلح.

قال الوزير أنا لم آتكم لأسلم لكم المدينة وحينئذ صاح الجيش لا نرجع حتى نأخذ المدينة ...

فصل كاتب چلبي المحادثة بطولها (١) ... وفي أثناء المذاكرات وبقاء السفير هاج العسكر. قالوا إن الوزير اتفق مع الأعداء وخان السلطان ولم يسكنوهم إلا بشق الأنفس ... واحتفظوا بالسفير.

وفي يوم ٧ شوال الخميس دعا الوزير آغا الينگچرية وسأله عن اللغم. وهذا ثار في اليوم التالي من جهة أنه لم يحكم سده فتوجه نحو العثمانيين عند ما أخذ النار. ولد بعض التخريبات فلم يبق أمل في البقاء فاضطر الوزير على العودة. حرقوا أثقالهم وأخذوا ما تمكنوا من حمله ...

رحلوا يوم الجمعة بعد أن دفنوا بعض المدافع التي تقدر قيمتها بما يعادلها ذهبا وكسروا الأخرى ثم إن الشاه عثر أخيرا على الدفائن منها وأخرجها وأخذها معه إلى أصفهان ... أما توخته خان فقد أخذوه معهم حينما عزموا على الرحيل ... وفي ثالث منزل سيروا توخته خان. أعادوه إلى العجم ولكن الجيش الإيراني كان في عقبهم. حارب عدة مرات.

ذكر كاتب چلبي ما أصاب الجيش العثماني من الضرر وما كابد من تعب وألم وجوع لحد أنه لم يجر على جيش قبلهم ما جرى عليهم. مضوا بهذه الحالة والكثير منهم لم يستطع الدوام. وإنما بقي في محله

__________________

(١) فذلكة كاتب جلبي ج ٢ ص ٨٦.

٢٣٧

٢٣٨

لشدة ما ناله من الجوع فلما وصلوا الزاب أخذوا راحة ، وتيسر لهم أن يجدوا الطعام والأرزاق فمضوا من هناك إلى الموصل وحينئذ أعطيت لهم مواجبهم بتمامها ... كما منح الوزير ايالة الموصل إلى بكر آغا الذي جاء من البصرة وعين حسن باشا الچركسي لمحافظة الموصل ... وكتب ما وقع إلى الآستانة فجاءه الجواب أن يشتي هناك ...

قال كاتب چلبي هذا مجمل ما أمكن إيراده بوجه الاختصار ... وأقول : إن هذا ملخص ما نقل عن كاتب چلبي والتفصيلات تخص الجيش العثماني ووحداته وأسماء أمرائه مما لا يهم العراق كثيرا ...

خلاصة في حصار بغداد :

إن الوزير الأعظم حافظ أحمد باشا حاصر بغداد بالوجه المشروح. وكان مدبرا ، ومفكرا عميقا ... ولم يكن هذا الحصار موافقا لرغبته كما قصه شاهد عيان (كاتب چلبي) وكان من رأيه التسلط على النقاط الحربية المهمة لقطع طريق إمداد الشاه فلم يفلح فتابع رغبة الأمراء الذين كانوا معه فابتدأ بمحاصرة بغداد ... وفي خلال الحصار تم الاستيلاء على الحلة وكربلاء كما أدى إلى حرب دامية قتل فيها الألوف من الطرفين إلا أنه لم يتيسر الاستيلاء على المدينة وحين سمع الشاه وافى بنفسه وكان هذا ملحوظا. فأرسل في مقدمته زينل خان بثمانين ألفا ولما وصلوا إلى شهربان سير قاسم خان بوجه السرعة ابنه كلب علي خان بخمسمائة من الخيالة وأرسل مع كل واحد كيسا من البارود لإمداد المحصورين فاخترقوا الجبهة سحرا وعلى حين غرة فمضوا إلى المحصورين وأمدوهم ... وبهذا أنسي ما أصاب والده قاسما في الموصل من كسرة وأن حافظ أحمد باشا صد جيش زينل خان الذي سار من شهربان إلى قرية بهرز ليعبر ديالى ... ولكن سار الشاه بقوته لإمداد جيوشه ...

٢٣٩

كل هذا مما ضعضع قوة الجيش العثماني ، وولد ضعفا أو فتورا فيهم ، وكذا قلت أرزاقهم ، وعزت المؤونة فاتفق أعداؤهم جميعا على مهاجمتهم ، والجيش العثماني في حالة دفاع فلم يتمكن العجم أن يخترقوه. إلا أنهم تمكنوا من قطع طريق المواصلة للعثمانيين ...

والعثمانيون صابرون ، مثابرون على حرب عدوهم حتى أن الوزير في ساعة الحرج كان طلب من الشاه المبارزة فأجابه أن البازي المفترس لا يصغي لصوت الزاغ ومن كان همه صيد الأسود لا يبالي ببنات آوى. قال صاحب گلشن خلفا (هذا ما نقلته عن الثقة) والظاهر أنه نقل ذلك عن والده نظمي البغدادي فإنه شهد الحادثة ، وكان فر أثناء سقوط بغداد وذهب مع أمه بصفة درويش إلى كربلاء والحلة وبقي هناك إلى أن اتصل بحافظ أحمد باشا ومدحه بقصيدة مهمة (١) ...

هاجم العجم الترك عدة مهاجمات فلم يتمكنوا بل باؤوا بالفشل إلا أن قطع مواصلة الجيش أثر كثيرا عليهم ... وكذلك قطع عنهم طريق الميرة فلم يستطيعوا أن يتصلوا بالخارج فصار المحاصرون محصورين فانعكست الآية ... فاستولى الجوع وكان البقاء في محل واحد سبب أمراضا في الجيش بسبب طول البقاء لمدة نحو تسعة أشهر.

دعا ذلك إلى الضجر من الحالة واضطر الجيش إلى الانسحاب. وفي هذا كله أبدى حافظ أحمد باشا من المهارة الحربية ما أكد قدرته. احتاط وراعى كل تدبير ناجع لتحقيق غرضه فلم يفلح الأمر الذي جعل أرباب الزيغ يتخذون ذلك وسيلة للطعن به وإسقاط منزلته. والآستانة آنئذ في هرج ومرج فلم ينل مددا كافيا مع العلم بأن الشاه وجه عليه جميع قوته. ورأت إيران ما رأت من عطب. وبالرغم من ذلك كاد يتم الصلح بينه وبين الشاه لولا أن الينكچرية لم يصبروا للنتائج فقاموا بعصيان اطلع

__________________

(١) أوضحنا ذلك في لغة العرب.

٢٤٠