موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٤

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٤

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦

لها خالصا بالتوغل في قلب مملكتها بدعايات واسعة النطاق كان يقوم بها رجال الشاه وأعوانه بنشر التصوف ، والدعوة له ... ومن ثم تولد النزاع بين الحكومتين وكثيرا ما كانت دولة العجم عائقا مهما ، وصارفا عظيما للدولة العثمانية من التوغل في جهات الغرب بسبب تدخلها في أمرها ، وأطماعها بأمل ابتلاعها ، توسع نفوذها في الدولة العثمانية وكان بإزعاج لا مزيد عليه. فتكون على الدولة خطر.

وأول عمل قامت به الدولة الصفوية كان على يد (شاه قولي) أي (عبد الشاه) المعروف عند الترك (بشيطان قولي) أي (عبد الشيطان). استعمل كثيرا.

تنازعتا السلطة وكل واحدة من هاتين الدولتين وجدت الأخرى حجر عثرة في طريقها والفروق بينهما كبيرة تمنع من اندماج الواحدة بالأخرى. وأهمها الفروق الدينية والقومية. بقيتا مترافقتي النزاع إلى أن قضي على الحكومة الصفوية من جانب الأفغان قبيل أيام نادر شاه فخلفتها حكومات جديدة لم تغير من وضعها إلا اسم الأسرة المالكة بحلول غيرها محلها إلى أن جاءت الدولة البهلوية فأحدثت تجددا. وهكذا بقي الجدال إلى أن انقرضت الدولة العثمانية أيضا بظهور (الجمهورية التركية) ، فبدت آمالها كما هو المشهود في الإصلاح لا في الفتح.

ولا تزال الفروق موجودة إلى اليوم ولكن التقرب ـ دون الاندماج ـ مأمول والمصافاة أكيدة. نظرا لتغير الوجهات وتبدل أشكال الحكومات وتطورها لا سيما بعد الحروب العامة لسنة ١٩١٤ م و ١٩٣٩ م. بدت بوادر التقارب السلمي. لأن كل دولة تريد أن تنال حظها من الإصلاح ، وأن تلحظ مصلحتها ، وليس لها أمل في التسلط على غيرها. ففي كل مملكة ما يغنيها عن التطلع إلى الأطماع خارج حدودها ، وأن تحصل

٢١

٢٢

على الرفاه والثقافة من طريقهما. وهذا لا يتم إلا بالركون إلى الطمأنينة والراحة. والعدول عما هو أشبه بالغزو العشائري.

رأت الدولة العثمانية في أيام السلطان بايزيد أن قد توسع أمر الصفويين في مملكتها وكون خطرا عليها من جراء أن القدرة على المقارعة كانت مفقودة نوعا لأن السلطان بايزيد كان خاملا وإدارته منحلة ...

ثم ولي السلطان سليم الياوز. وهذا من أعاظم ملوك العثمانيين ، كان ولا يزال يحرق الارم على الإيرانيين. خاف من توسعهم لهذا الحد فتولى إدارة الجيوش بنفسه. وقبل الدخول في المعمعة انتقى الإدارة وأتلف الأعضاء الزائغة وعد كل مخالفة أكبر جريرة حتى فيما وقع من وزيره الأعظم. حدثت بينه وبين العجم (حادثة چالديران). كاد فيها يدمر الإيرانيين وهم في بدء تكونهم وإن صدمة كبرى مثل هذه كانت تكفي آنئذ للقضاء على آمالهم. والأهلون لم يخلصوا لهم بعد ، وبينهم من أكره على الطاعة ، ولكن لم يحصل آنئذ من يشاطرهم السلطة أو له أمل في السيادة ... لما نال الناس من ظلم وقسوة في مختلف الأيام فشغلوا بأنفسهم ...

ومن نتائج أعمال الدولة العثمانية أن قضت على نفوذ (المتصوفة في الأناضول) وصار العجم في رعب من صولات الترك. ذاقوا المرارة فعلا ، ولم تكتف الدولة العثمانية بهذا الحادث من كسر شوكة إيران بل مالت إلى متفقتها (مصر) ، فضربتها الضربة القاضية ودمرتها تدميرا تاما لا عودة بعده فخلصت مصر للدولة العثمانية بل دخلت في حوزتها أنحاء إفريقيا الشمالية.

كانت دولة المماليك في مصر بسبب المجاورة ، وتوسع الدولة العثمانية تخشى أن ينالها منها ما تحذر ، فاتفقت مع إيران أو أن إيران

٢٣

أوجدت فيها هذا الخوف مما دعا إلى هذا الاتفاق. ذلك ما أكسب الدولة العثمانية الاهتمام للأمر وأن تقضي على هاتين الحكومتين قبل أن تستكملا العدة. فالدولة العثمانية كانت ممرنة على الحروب أكثر من غيرها وإن كانت الدولة الصفوية اكتسبت بعض الممارسة في حروبها للاستيلاء على كافة أنحاء إيران وعلى بغداد.

وقوة السلطان سليم الياوز أعقبتها سطوة أكبر أيام السلطان (سليمان القانوني). وهذا لم يستطع العجم أن يقفوا في وجهه. وحكومته آنئذ نالت شهرت بلغت الغاية لما وصلت إليه من العز والمنعة في الشرق والغرب ولكن تدابير العجم السياسية مكنتهم من المحافظة على الوحدة من جراء أن حكومتهم لم ترتكب الخطأ الأول في (چالديران) للدخول في مقارعة عظيمة لها خطرها ولا تأمن نتائجها ... أو أن تجرب تجربة أخرى تجازف بها ، فركن الشاه إلى الاختفاء مدة والحكومة لا تطارد المختفين الهاربين فمالت إلى بغداد واكتفت بأخذها وما والاها وعادت ظافرة ...

والعراق كان من الضعف والعجز بمكان ، فلم يقدر أن يحرك ساكنا ، والحكومات السابقة أنهكت قواه ، لا يختلف عن إيران وسائر الممالك الشرقية الأخرى ... ولا يزال الخوف مستوليا عليه مما أصابه من أقوام ليس لهم رأفة به ولا رحمة أو شفقة والقوة لا تزيحها إلا القوة. ولم تكن له قدرة النهوض أو بالتعبير الأصح لم يبق من رجاله من ينقاد له الرأي العام ليقوم بالاستقلال ويربح قضيته استفادة من الفرصة السانحة. ولعل ضعف الأهلين كان أهم سبب فلا مجال للقيام ولا قدرة هناك تكفي لصد العدو. والروح قد أميتت ، فركنوا إلى قوة العثمانيين.

انحلت إدارة العراق فتكونت إدارة تركية. ولم يوسع على الأهلين.

٢٤

ولولا أن الثقافة مكينة ، قائمة على أسس ثابتة من مدارس موقوفة ، وريع وافر لتأمين إدارتها ، وتأكيد معرفتها لكانت في خبر كان.

إن المدارس الموقوفة ثبتت الوضع الثقافي وغيرت الحالة ، ولم تدع مجالا للتخريب والقضاء على الآداب والعلوم. بل حييت حياة طيبة في كل فرصة وجدت فيها راحة وطمأنينة ، وإن العثمانيين كانوا في بدء عمل ثقافي ، فكانت الاستفادة من هذه المدارس كبيرة لاقتباس نظامها ومراعاة طرق تدريسها ... فصار لا يستغني موظف ، أو عالم أو أديب عن العلاقة بهذه المدارس للأخذ بالثقافة الصحيحة.

وعلى كل حال تيسر للسلطان سليمان القانوني (فتح بغداد) بسهولة دون أن يرى أدنى عقبة أو صعوبة ، ولم يجد مقاومة من عدو ولا قياما من أهلين بل فتحوا له الأبواب مستبشرين ، مسرورين.

والشعب لا يريد إلا الراحة والطمأنينة ، أنهكته الحروب ، وتسلطت عليه الأوهام حذر أن تعود إليه هذه الحروب جذعة.

والحق أن العراق اكتسب الراحة ، وسكن مدة ، ولكن بعد قليل دب في الدولة الضعف من جراء استمرار الحروب ، ودوام غوائلها ، فاضطرت الدولة إلى التضييق على الأهلين ، شعر علماء كثيرون بهذا الخطر ، وحذروا الدولة من نتائجه ... فظهر التغلب في مواطن عديدة في بغداد وغيرها ، فتشوشت الحالة في أواخر هذا العهد ، واستفاد منها المجاور وهو بالمرصاد فكان ما كان من وقائع انتهت بدخول السلطان مراد بغداد وانتزاعها من أيدي الإيرانيين ...

وفي هذا العهد لم يستفد العراق من العلاقات الاقتصادية بأصل الدولة ولا بغيرها فليس هناك ما يستحق الذكر سواء في أيام الراحة أو الاضطراب بل بقي العراق على حالته المعتادة ، فلم يظهر ما يزيد في الاقتصاديات ، ولا في السياسة ما يدعو للارتياح.

٢٥

ولا يسأل عن الثقافة في هذه الزعازع ، والاضطرابات ، وأن الفرصة مكنت من استعادتها نوعا في أول العهد إلا أن الأيام الأخيرة حتى استيلاء السلطان مراد قد قضت على الكثير من آثارها ، فصرنا اليوم لا نستطيع أن نعلم عنها إلا القليل النزر. ولعل الأيام تكشف أكثر عما غاب عنا في خزائن الكتب الخاصة ، أو في البيوت من مصادر.

دامت بغداد في إدارة العثمانيين إلى أن حدثت حوادث كان آخرها واقعة (بكر الصوباشي) سنة ١٠٢٨ ه‍ ـ ١٦١٩ م ، ثار على العثمانيين ، وأعلن حكومته في بغداد. ولما رأى تضييقا من هذه الدولة طلب المساعدة من إيران ، فكان من نتائج ذلك أن استولت إيران على بغداد. دخلتها في يوم الأحد ٢٣ ربيع الأول سنة ١٠٣٢ ه‍ ـ ١٦٢٣ م.

جرت هذه إلى حروب وبيلة وقاسية بين العثمانيين والإيرانيين. اكتسبت عنفا وشدة ، ونالت وضعا خطرا على الدولتين ، فصارت كل واحدة منهما على وشك الهلاك ، ولم يبق بين الحياة والموت إلا أنفاس معدودة. جاء السلطان مراد الرابع بنفسه لفتحها ، فحدثت المعارك الهائلة والحروب الطاحنة بين الطرفين مما ولدته الأطماع ، كأن قد ذهبت لهم ذاهبة ، أو كأن العراق مخلوق لأحدهما. فتمكن السلطان مراد من استعادة بغداد في ١٨ شعبان سنة ١٠٤٨ ه‍ ـ ١٦٣٩ م وتم الفتح. ومن ثم عادت بغداد. وكانت هذه المرة الأخيرة ، فلم يتمكن الإيرانيون بعدها من الاستيلاء عليها وإن كانت لم تنقطع الحروب ولا هدأ الأمل.

فتح بغداد

١ ـ بغداد وحاكمها :

كان العراق من الضعف بمكانة ، وبغداد قاعدة بلاده. كانت إدارتها بيد العجم ، فإن محمد خان تكلو كان حاكم بغداد من إيران وهذا

٢٦

علم أن جل أماني السلطان أن تتم سفرته بفتح بغداد فارتبك أمره وأصابه الرعب ... وأول ما قام به السلطان أن أرسل أولامه بك مع الوزير الأعظم إبراهيم باشا إلى الموصل فاستولوا عليها.

ثم إن أولامه بك بعث بعض رجال قبيلته إلى من هناك من قبيلة (تكلو) برسائل يحث بها على لزوم إظهار الطاعة للسلطان ... وأبدى النصح بوجوب تسليم بغداد بلا حرب وقد صاغ رسائله هذه بتعابير تدل على الترغيب من جهة والترهيب من أخرى فأبدع في الأسلوب وحسن البيان بقصد جلب القوم واستهوائهم لجانب السلطان ...

أما الخان فلم يلتفت وأظهر أنه متأهب للطوارىء ، عازم على القراع ، وصار يعد العدة للنضال. وفي هذا الحين ورد ابن الغزالي من قبيلة تكلو أيضا إلى بغداد حاملا رسالة الشاه يخبر بها محمد خان الوالي ببغداد بأن السلطان قد تحرك قاصدا بغداد ، وفيها حث بالانصراف عن المدينة وأن يأتي إلى إيران على وجه العجلة لينجو بنفسه وبمن معه. وعلى هذا دعا الخان أعوانه وقص عليهم ما وقع ، وشاور في الأمر فلم توافقه قبيلة تكلو على الذهاب إلى الشاه وامتنعت عن طاعته ... فكان مجموع من وافقه نحو ألف فلم ير بدا من الذهاب إلى الشاه وبينا هو يفكر في الأمر إذ ورد كتاب آخر يدعوه الشاه فيه إلى لزوم الإسراع فكان داعية التشوش أكثر. جاء هذا الكتاب مع نديم الشاه (رجب دده) فلم يطق صبرا لا سيما وقد تواترت الأخبار بوصول السلطان واكتساحه الحدود بجيوشه الجرارة واجتيازه خانقين وقلة (١) مما زاد في ارتباكه. فدعا جماعة تكلو. فاوضهم وبالغ في نصحهم. دعاهم للخروج معه من المدينة واللحاق بالشاه فلم يلب دعوته أحد. فتابعه من أعوان الشاه نحو سبعمائة بيت ... وافقوا واستعدوا للذهاب معه امتثالا للأمر.

__________________

(١) أي قولاي المقاطعة المعروفة في خانقين.

٢٧

ولما ألح في الطلب على طائفة تكلو قام في وجهه نحو ثلاثة آلاف. ناصبوه العداء وتحصنوا في المدرسة المستنصرية بقرب الجسر (١) تأهبا لمقارعته وكمنوا له هناك.

وكان في نية الخان آنئذ تخريب دورهم وإهلاك أهليهم ومتعلقاتهم. وفي أمله الهجوم عليهم والتنكيل بهم فخالفه السيد محمد كمونة وسكن الخصام بينهما. وجل غرضهم أن لا يوافقوا الخان ولا ينصاعوا لقوله. تعندوا فلم يمضوا طبق مرغوبه ...

لم يبق للخان أمل ، ولم ير تدبيرا ناجعا ينقذه من هذه الورطة فندم على ما فعل ، وأبدى للقوم أنه عدل عما كان عزم من الذهاب إلى الشاه وإنما مال إلى السلطان وأنه مطيع له. فسر الجميع لقوله هذا. وصوب الجماعة رأيه ...

وعلى هذا ذهب جماعة من رجال تكلو. سارعوا في الوصول إلى السلطان سليمان ليقدموا له مفاتيح بغداد وليعرضوا الطاعة. وكان هؤلاء من أهل الحل والعقد. رأى الخان الحالة وصلت إلى هذا الحد فلم يبق له أمل في أن يبقى رئيسا كما كان فيحافظ على مكانته وأن المذكورين قد غلبوه على أمره. وأنه فقدت منزلته ... ورأى الأسلم له أن يعبر الجسر باتباعه ويذهب إلى الشاه من طريق البصرة فتوجه إلى الشاه (٢).

٢ ـ السلطان سليمان القانوني :

الدولة العثمانية كانت ولا تزال في حالة توسع إلى هذه الأيام ، تترقب الفرص وتتوسل بالأسباب للدخول في معمعة أخرى لتكسر شوكة

__________________

(١) تعين أن محل الجسر في مكانه المعروف اليوم من سنة ٩٤١ ه‍.

(٢) كلشن خلفا ص ٦١ ـ ٢ ونخبة التواريخ وابن كمونة هذا هو غير المذكور في المجلد الثالث من تاريخ العراق بين احتلالين.

٢٨

الصفويين فلا تدع لدولتهم مجالا للدعاية في مملكتها ، وإن التشنيع على إيران من آل الكيلاني من كل صوب ، ومن المغلوبين وفلولهم مما ذكر بواقعة چالديران ، وإن كانت لا تعد أسبابا للدخول في معارك جديدة وإنما قرب الحالة الحربية ما جرى على ذي الفقار من حادث. يضاف إلى ذلك أن أولامه بك من قبيلة تكلو حاكم أذربيجان من جهة الشاه التجأ إلى السلطان سليمان لما وجد من الشاه من خوف ، فرغبه في حرب إيران وزاد في نشاطه. وربما يعد ميله إلى السلطان من أكبر أسباب الاشتباه من والي بغداد محمد خان تكلو ، فمالت قبيلته إلى السلطان فعلا. وهذه من قبائل التركمان المعروفة (١).

كانت هذه من أكبر المسهلات للدخول في المعمعة مع العجم. جاء في جامع الدول (٢) وفي غيره أنه في هذه السنة (٩٤٠ ه‍) أمر السلطان بالتجهيز لسفر الشرق وجعل الوزير إبراهيم باشا سردارا فعبر الوزير في جمع من الحرس الملكي (قبو قولي) إلى اسكدار في ٢ ربيع الآخر من هذه السنة ثم سار وشتى في حلب وكان سبب ذلك يرجع إلى أمرين :

(١) أن حاكم بغداد ذا الفقار مال إلى السلطان سليمان فأرسل إليه مفاتيح بغداد وأظهر الانقياد ولما بلغ ذلك الشاه طهماسب سار إليه فحاصر بغداد مدة فقاتله ذو الفقار وقتل. فكان الباعث لقصد السلطان.

(٢) أن حاكم بدليس (بتليس) شرف خان أعلن العصيان على

__________________

(١) قاموس الأعلام ج ٣ ص ١٦٦٥ مادة (تكه تركمانلري). وغالب قوة الشاه تستند إلى القبائل التركمانية مثل استاجلو ، وتكه لو ، وبهارلو ، وذي القدرية ، والقاجار ، والافشار ، ذكرهم في تاريخ مختصر إيران تأليف باول هورن. ترجمه إلى الفارسية الدكتور رضا زادة شفق. طبع سنة ١٣١٤ ه‍. ش في طهران.

(٢) ومثله في كلشن خلفا ص ٦١ ـ ١ إلا أن ما في جامع الدول أوسع.

٢٩

السلطان وانقاد للشاه طهماسب كما أن حاكم تبريز أولامه تكلو كان قد تقلد مناصب في إيران إلى أن نال حكومة تبريز. ولما دخلت هذه السنة أوجس خيفة من الشاه طهماسب فهرب إلى الروم. التجأ إلى السلطان فأكرمه وأقطعه بدليس وأمده بعسكر ديار بكر. أرسله إلى قتال (شرف خان) فقاتله قتالا شديدا فقتله ، وكسر جيشه ببدليس وأهلك كثيرا من أتباعه. وصار ذلك أيضا سببا لقصد بلاد الشرق.

وفي أيام وجود الوزير في مشتى حلب في منزل (سواريك) في أول ذي الحجة من هذه السنة بلغه تسخيروان. ففرح بذلك إلا أنه علم أن العسكر يقولون لا يقاتل السلطان إلا السلطان فخاف من الفتنة فأرسل إلى السلطان يعرفه بالحال ويلتمس قدومه فأجاب السلطان ملتمسه. عبر إلى اسكدار في آخر سنة ٩٤٠ ه‍ وتوجه مبادرا نحو الشرق حتى وصل إلى تبريز في ٢٠ ربيع الأول سنة ٩٤١ ه‍. (جرت وقائع بين الوزير والعجم في مواقع حتى وصل السلطان والوزير إلى همذان ثم قطعا بعدها المنازل متوجهين نحو بغداد فوصلا إلى قصر شيرين) ، ومن ثم دخل السلطان بجيشه الحدود العراقية ...

وكل ما عرف عن الوزير في إيران أنه قام بما يجب القيام به لتسهيل الضربة على الشاه فتعقب أثره وقارعه في بعض المواطن ... فكانت الحروب دامية. أخذ الخوف من العجم أكبر مأخذ كان نهض السلطان من استانبول في ٢٨ ذي القعدة سنة ٩٤٠ ه‍ ـ ١٥٣٤ م وصار يطوي المراحل حتى اتصل بجيش الوزير. وصل إلى السلطانية في ٦ ربيع الآخر سنة ٩٤٢ ه‍ ـ ١٥٣٤ م ومنها كانت وجهته همذان فوردها في ٢٤ منه. أما الشاه فكان في حالة يرثى لها يفر من ناحية إلى أخرى ، ويتخفى في الجبال الصعبة ، ويميل عن الطرق المعتادة فرارا من وجه السلطان. والرعب استولى عليه .. وحينئذ أمال السلطان عنان عزمه نحو بغداد وكانت الغاية المقصودة.

٣٠

بين قصر شيرين وبغداد (في طريق بغداد):

لم يتعرض صاحب گلشن خلفا لتفصيل طريق السلطان ولكن ذلك جاء ذكره من مؤرخين كثيرين. قصوا سير السلطان وطريق حركته إلى بغداد وبين هؤلاء المؤرخ نصوح المطراقي والمؤرخ فريدون سوى أن نصوح المطراقي كان مصاحبا للسلطان في سفره هذا ، فحكى ما شاهد بل لم يكتف بذلك وإنما صور البلدان والمراقد المباركة التي مر بها بألوان عديدة وعليه عولنا. ولم نهمل أقوال المؤرخين الآخرين ما أمكن الجمع.

إن السلطان كان قد وصل إلى (ماهي دشت) (١) في غرة جمادى الأولى نهض من مرقد أويس القرني (٢) إليها. وفي السادس منه وصلوا إلى (قلعة شاهين) وهذا المنزل هو الحد الفاصل بين عراق العرب وبين إيران ومن هنا تبدأ حلوان البلدة والمدينة (٣). وهذا المنزل خال من

__________________

(١) وردت في معجم البلدان بلفظ (مايدشت) وعدها من مضافات خانقين. وعين موطنها في رحلة المنشى البغدادي ص ٤٦.

(٢) في أراضي الهارونية مما يحاذي جبل حمرين بالقرب من المكان المسمى (وادي الحصان) قبر يسمى (مرقد أويس القرني) والحال أن مرقد أويس هذا قد جاء ذكره في المحل المذكور أعلاه قبل أن يصل الوارد من إيران إلى ماهي دشت بمرحلة. وهذا محل نظر أيضا. فلا يصح أن تتعدد المواطن ، وتكثر التسميات لمرقد واحد. والهارونية على نهر ديالى من ملحقات شهربان ، تأخذ ماءها من نهر ديالى ، وكانت البلدة في الصدر ، وتمتد أراضيها إلى (بلدروز) أو (براز الروز).

(٣) حلوان ذكرتها في ملحق تاريخ العراق ج ٢ الكلام على (درتنك). وقلعة شاهين قرية من قرى درتنك. ويقال لها (كاوروان). وتعد اليوم من أنحاء (زهاو). وسميت كاوروان باسم جبل هناك. وأما حلوان فيسمى محلها اليوم باسم (سربل) ويقع بين قلعة شاهين ونفس زهاب وبشيوه وتقع على ضفة نهر ألوند. وهناك كانت مدينة حلوان ولم يبق منها إلا أطلال وقنطرة صخرية لا تزال قائمة. (سياحتنامه حدود) وجاء ذكر (درتنك) في مسالك الأبصار ج ٣ المخطوط في أياصوفيا وفي أوليا جلبي ج ٤ ص ٣٨٨ وج ١ ص ١٨٦.

٣١

القرى وكان ذلك يوم الخميس وبقوا الجمعة في مكانهم. وهناك دفن نشانجي سيدي بك (١). وكانت أصابت الجيش في هذا المحل أمطار غزيرة ورعد وبرق بما لا يوصف .. ويوم السبت ٨ منه وصلوا إلى يكي إمام (يني إمام) أي الإمام الجديد وكانت قلعة خربة آنئذ. حدث هنا من الأضرار ما لا يوصف. وفي التاسع منه جاؤوا إلى قصر شيرين (٢) وعاد هذا يبابا. وجدت فيه قلعة خالية ...

ومن قصر شيرين مضوا إلى (نهر شمران) (٣) كما في نصوح المطراقي وهو (طقوز أولوم) وجاء في غيره أنهم يوم الاثنين في العاشر

__________________

(١) هذا كان الموقع الديواني فقام مقامه جلال زادة نشانجي مصطفى. وهذا فاق في الخط الديواني ودام ٢٤ سنة في هذا المنصب وله معرفة تامة بالقوانين الديوانية. ثم صار طغراكش (طغرائيا) في سنة ٩٧٤ ه‍ وتوفي سنة ٩٧٥ ه‍. وهو مؤرخ ، له طبقات الممالك. وتاريخ عثماني. ومنصب طغرائي كان معروفا عند العثمانيين وكان آخرهم الحاج أحمد كامل آكدك ويعرف بـ (طغراكش) أي طغرائي ، وبين هذين حاز هذا المنصب كثيرون في الدولة. والتفصيل في (تاريخ الخط العربي في العراق).

(٢) كان في العهد العثماني إمارة مستقلة. وأحيانا تابعا لزهاو. ومن سنة ١٢٢٦ ه‍ دخل في حوز إيران أيام إمارة (محمد علي ميرزا) كان الإيرانيون بمقتضى المعاهدة المعقودة سنة ١٢٣٨ ه‍ التزموا أن يعيدوا زهاو وقصر شيرين. وقبلوا الحدود السابقة إلا أنهم لم يبالوا بذلك واستمرت تلك الأصقاع بتصرفهم.

(٣) وجاء (شميلان) بتفخيم اللام على لهجة الكرد ويراد بها حشائش خاصة تسمى بهذا الاسم وأطلقت على جبل شمران ، وسمي نهر ديالى باسم الجبل المار منه تسمية غريبة أو مغلوطة عن (نهر سيروان) فحرف اللفظ. وهو اسم نهر ديالى حتى يصل إلى محل يقال له (دربند خان) فليست اسم (ديالى). ويقال له (سيروان) عند الكرد إلى المحل المذكور ثم يطلق عليه ديالى. والتسمية تتعاقب فالكرد يعرفون (نهر سيروان) ويسمى (نهر شروان). وبعد ذلك يمضي في سيره فيقال له (نهر ديالى). وفي معجم ياقوت يسمى (تامرا) ، ونهر بعقوبا الأعظم ، الجانب الأيمن منه وما تفرع منه من أنهار يقال له (الخالص) ، وما كان في الجانب الأيسر ومشتقاته يقال له (نهر طريق خراسان) ثم خفف فصار ينطق به (خريسان).

٣٢

وصلوا إلى خانقين وفي هذا المنزل (١) ورد القاضي ومعه جماعة أرسلوا من محمد خان حاكم بغداد يبدون أنه طائع منقاد لأوامر السلطان ، فأنعم السلطان على هؤلاء بالخلع وانتظروا يوما واحدا لورود الأثقال والمهمات وفي يوم الأربعاء ١٢ منه وصلوا إلى (طقوز أولوم) وحطوا أثقالهم وجاء أنه (أولوصو) ومعناه النهر الكبير ويقصد به (ديالى) (٢). رأوا المياه في فيضان زائد فاضطروا على البقاء. وفي هذا اليوم أصاب الجيش من الغرق ما لا يوصف ومن نجا لحقه السيل لحد أن فريدون قال : إن هذه المصيبة لم ينلها جيش في التاريخ ولا رأى مثل هذا الهول. وفي ١٤ منه كان الفيضان مستمرا فلم يستطيعوا العبور واستراحوا يوم الأحد ١٦ منه وأنعم السلطان في هذا المنزل على من رآه بخلعة ، ثم جاؤوا إلى كوشك سيلان (٣) ومنها إلى صحراء بردان فوصلوها في ١٩ منه ثم عبروا (نهر نارين). هول المؤرخون بالخسائر والأضرار وأنها لا يمكن تقديرها وكان فيضان ديالى مرعبا جدا. ومنها اجتازوا جبل حمرين فجاؤوا إلى قرية شروين المسماة (طاش كوپرى) وتعرف بـ (دللي عباس) والآن سميت بناحية (المنصورية). وفي ٢٠ منه عبروا نهرا هناك (الخالص) ، وفي ٢٢ منه وصلوا إلى قرب قرية (الوندية) فلم يقفوا وساروا في طريقهم وفي يوم الأحد ٢٣ منه وصلوا مرقد (الشيخ سكران). و (مرقد لقمان الحكيم) بالقرب منه ، ورأوا في طريقهم مرقد (الشيخ مكارم) وفي ٢٤ منه وصلوا (الإمام الأعظم) وإن السلطان حينئذ نزل عن فرسه وزار مرقده ثم ركب ومضى بجيوشه إلى (بغداد) ...

__________________

(١) ومنهم من قال إنه في قلعة شاهين ورد إليه كتاب محمد خان يقدم له فيه الطاعة.

(٢) عبروا من بنكدره (بين كدره). وجاء في رحلة المنشي البغدادي أن المعبر كان من قرية رزه من بنكدره. والظاهر أنه لم يختلف. ص ٤٢.

(٣) لعله (كوشك زنكي) كما في رحلة المنشي البغدادي.

٣٣

وكانت المدينة قبل هذا سلمت مفاتيحها إلى (جعفر بك). وجاء في جامع الدول : «ولما قرب الموكب من بغداد هرب حاكمها محمد خان تكلو. تركها خالية فبلغ الخبر إلى الركاب السلطاني فأرسل أولا الوزير فدخلها في ٢٢ جمادى الأولى بلا نزاع ولا قتال ، ثم دخلها السلطان بعد يومين في ٢٤ من الشهر المذكور ...» ا ه (١).

وفي گلشن خلفا أن الشاه لم يستطع مقاومة السلطان حينما توجه إلى بلاده وتوغل في إيران فاستولى على آذربيجان ، ولم يقدر على صده ، فصار يهرب من وجهه إلى هنا وهناك خائفا ، متخفيا ، وغرضه تعجيز السلطان. ولذا عزم السلطان أن يمضي إلى بغداد ، فوصل الخبر إلى والي بغداد محمد خان تكلو ، فأصابه الهلع ، واستولى عليه الرعب.

وفي هذه الأثناء اكتسح إبراهيم پاشا مع أولامه بك تكلو مدينة الموصل ، وأن أولامه بك هذا كتب إلى رجال قبيلته (تكلو) في بغداد رسائل ينصحهم ويحثهم على تسليم بغداد إلى السلطان ، فيها من الترغيب تارة والترهيب أخرى ما يقتضيه المقام ويحذرهم عاقبة العناد ، فكان جواب محمد خان تكلو الرد. وأبدى عدم الإذعان وبين أنه مستعد للكفاح إلا أن الشاه بعث إلى والي بغداد بابن الغزالي من تكلو أيضا يوصيه بالعودة إلى إيران وأن ينجو بمن معه. ومن ثم دعا الوالي قبيلة تكلو ، واستطلع رأي رجالها ، فعارضوا في الذهاب إلى إيران ، وأصر الكثيرون إلا أن نحو ألف رجل منهم وافق محمد خان تكلو. وفي هذا الحين ورد (رجب دده) نديم الشاه يوصيه بالإسراع في العودة. فاضطرب الوالي ، ولم يقر له قرار لا سيما وقد سمع أن السلطان وصل إلى خانقين وقله (قولاي) بجنوده ، فاضطر أن يدعو قبيلة تكلو مرة أخرى

__________________

(١) جامع الدول. ومنشآت فريدون. ومنازل العراقين. وتاريخ العراق ج ٣ ص ٣٦٧.

وفي الأخير إيضاح.

٣٤

وينصحها فلم يجد ذلك نفعا. وفي الأثناء سمع أن أهل بغداد لا يستطيعون الحصار ، ونادوا بالميل إلى السلطان وأبدوا حبهم له ، وأن نحو ثلاثة آلاف من قبيلة تكلو أوقدوا نيران الفتنة ، وجاهروا بالمخالفة وتطاولوا ، بل إن هؤلاء اتخذوا المستنصرية حصنا لهم. وكان أمل الخان أن يوقع بهؤلاء ، وأن يصطدم بهم ، فلم يوافقه السيد محمد كمونة بل مانعه أن يقوم بالفتنة ومن ثم علم أن قبيلة تكلو أبدت المعارضة وتحصنت في المدرسة المذكورة ، وأنها ليست مع الشاه ، فتظاهر بأنه مع السلطان فوجد موافقة ، ومن ثم وبناء على موافقة الخان أرسلوا مفاتيح بغداد مع رؤساء قبيلة تكلو ، وقدموها للسلطان وأبقوا الخان رئيسا ولكن الخان علم يقينا أن إظهارهم المتابعة ليست إلا أمرا وقتيا وأنهم يضمرون له الكيد ، وأنه سوف يرى ما لا يرضاه فندم على ما فعل ، الأمر الذي دعا أن يعبر الجسر ويذهب من طريق البصرة إلى مقر الشاه ، فذهب مملوءا رعبا. وترك بغداد (١).

وإن قائد الجيوش (السر عسكر) لم يفتح الأبواب حذرا من أن ينال الأهلين أذى من الجيش. وأنعم السلطان على هذا القائد إنعاما عظيما (٢).

٤ ـ دخول بغداد :

إن الجيش دخل بغداد بلا حرب ولم يقع أي ضرر ، كان جاء الوزير الأعظم إبراهيم پاشا السردار بأربعين ألفا. وأما السلطان فإنه وافى بغداد بمائة ألف إلا أن ما أصاب العساكر من طغيان المياه ، والأمطار والزعازع أضعاف ما لو كان حرب. وكادت تحبط مساعي القوم.

__________________

(١) كلشن خلفا ص ٦١ ـ ٢.

(٢) نصوح المطراقي ، وعزيز جلبي في سليماننامه ، وأوليا جلبي ، وجامع الدول.

٣٥

إن أبناء الترك ومن معهم صبروا للمصاب ومضوا حتى ربحوا بغداد. فكان لدخولهم رنة فرح زاد في سرور الأهلين وأنعشهم فلم يروا ضررا من الجيش خلاف ما كان عليه الفاتحون الآخرون في غالب أحوالهم. وأما حاكم بغداد محمد خان فإنه حينما علم بقربهم من بغداد ركب بأهله وعياله السفن وذهب إلى البصرة. وإن الجيش الإيراني عبر ديالى وسار من جهة درنه ودرتنك قاصدا ديار العجم. مضوا إلى أنحاء قم وقاشان.

وعند دخول السلطان المدينة زينت له تزيينا بديعا وملئت جميع الأبراج بالعساكر فأخذوا مواقعهم ونشرت في تلك المواقع الطوغات والأعلام على اختلاف أنواعها ... وأطلقوا له حين دخوله ثلاث طلقات نارية من مدافعهم وبنادقهم إظهارا للسرور ، وصارت الطلقات تترى. فكان لها وقعها في النفوس واحتفل به الأهلون احتفالا لا مزيد عليه. كذا في أوليا چلبي نقلا عن والده درويش محمد أغا أحد الصاغة في البلاط كان حضر الفتح (١).

وجاء في گلشن خلفا أن الأهلين استقبلوا السلطان بمهرجان عظيم فنالوا كل التفات ولطف منه. وكان حينما ورد الموكب قصبة الأعظمية وأقام بها منع منعا باتا أن يدخل أفراد الجيش المدينة ، أو يلحقوا ضررا ما بأحد ، وحظر أن يتطاول شخص أو يمد يده إلى مال آخر. ذلك ما أدى إلى توليد الأمن وراحة الرعايا. وتقدم الشاعر المشهور فضولي البغدادي يمدح السلطان بنادرة مطلعها :

أيد اللهم في الآفاق أمن المسلمين

با دوام دولت پايندهء سلطان دين

__________________

(١) أوليا جلبي ج ٤ ص ٣٩٩.

٣٦

نور اللهم في الإسلام مصباح البقا

با ثبات حشمت شاهنشه روى زمين

خلد اللهم سلطانا به باهى الزمان

شدز فيض أو فضاى ملك فردوس برين

وأورد صولاق زادة للشاعر فضولي البغدادي أيضا في تاريخ هذا الفتح :

گلدى برج أوليايه پادشاه نامدار (١)

ومن التواريخ قولهم (فتحنا العراق). وعلى كل حال اتخذ السلطان بغداد عاصمة له مدة بقائه.

السلطان سليمان في بغداد

كان دخول السلطان بغداد يوم الاثنين ٢٤ جمادى الأولى سنة ٩٤١ ه‍ ـ ١٥٣٤ م. رافقه أمراء وولاة كثيرون بينهم أمير أمراء مصر سليمان باشا ، ونصوح المطراقي الذي حكى هذا الفتح (٢). ثم تجول السلطان في ٢٨ جمادى الأولى سنة ٩٤١ ه‍ في أنحاء عديدة من العراق قضاها في زيارة المراقد المباركة في الكاظمية وكربلا والنجف ومر في طريقه بالكوفة والحلة ... ثم عاد إلى استانبول من طريق إيران متوجها نحو أذربيجان. والشاه مال إلى طريق التخفي ، والعدول من وجه السلطان فوصل إلى تبريز دون أن يقع حرب. وفي خروجه من تبريز جاءه القاصدون من الشاه يتضرعون إليه بإسدال العفو وقبول الصلح فقبل ذلك. ومن ثم عاد إلى استانبول (٣).

__________________

(١) كلشن خلفا ص ٦١ ـ ٦٢. وتاريخ صولاق زاده ص ٤٨٧.

(٢) أسفار بحرية عثمانية ومرآة الممالك.

(٣) كلشن خلفا ص ٦٢ ـ ٢.

٣٧

وفي أيام استقراره ببغداد قام بأعمال أهمها :

١ ـ اجتماع الديوان :

كان أثر وصول السلطان اجتمع (الديوان) وأجريت التوجيهات فأكرم الجيش بإنعامات وافرة. ولما كان من أعظم ملوك الأرض فلا يقال في توجيهاته ولا في عطاياه وهباته أكثر من أنها كانت عظيمة (١).

٢ ـ تعميره قصبة الإمام الأعظم ـ الجامع والمرقد :

إن السلطان سليمان في ٥ جمادى الثانية سنة ٩٤١ ه‍ زار مرقد الإمام الأعظم وأمر بتعمير قبته لما رآها فيه من حالة الخراب والتدمير ، وأنه رأى جدرانها متهدمة النواحي والأطراف متداعية فعمر المرقد الشريف ، وأسس دار ضيافة للوارد والصادر غداء وعشاء ولم يكتف بهذه ، وإنما أمر أن يتخذ سور لحراستها من أيدي المتغلبة والعابثين (٢). وأوسع من هذا ما جاء في أوليا چلبي قال :

«إن السلطان سليمان خان شرع عام ٩٤١ ه‍ في بناء قصبة الإمام الأعظم تبركا. وإن البلدة حينما كانت في يد السلطان حسن الطويل (أوزن حسن) رأى سادن حضرة الإمام الأعظم رؤيا مؤداها أن الإمام الأعظم قال له : ضع الصندوق الذي على قبري على الضريح الذي هو في المحل الفلاني. لأن هناك كافرا مستحقا للعذاب. وحينئذ استيقظ السادن وفعل طبق ما أمر الإمام. وكان آنئذ وفي ذلك العصر لا توجد على (قبر الإمام) قباب ولا تكلفات (٣). وذلك أنه كان قد سجن من قبل المنصور وعمره آنئذ ثمانون عاما فتوفي ، ودفن بناء على وصيته في غرفته

__________________

(١) منشآت فريدون.

(٢) سليماننامه ص ١١٩.

(٣) في تحفة النظار ما يخالف ذلك ج ١ ص ١٣٦ كما أن حكاية وضع الصندوق لم يعرف لها أصل.

٣٨

على السنة. ثم إنه قد وضع بعض السلاطين على ضريحه صندوقا. وإن ذلك السادن بناء على الرؤيا وأمر الإمام وضع هذا الصندوق على قبر كافر. ولم تمض مدة طويلة حتى استولى الشاه إسماعيل على العراق. وحينئذ كسر الصندوق وفتح عن القبر فوجد جسدا ملوثا. فألقاه في النار فزعم أنه انتقم من الإمام وكفى شره.

ولما جاء السلطان إلى بغداد وبينما هو في طريقه رأى چاوش رؤيا مؤداها أن الإمام ظهر له وقال له إن (طاشقين (١) خواجة) يعلم ضريحي. وبعد الفتح قد أشار ذلك الرجل إلى أرض الإمام فحفروها فظهر الأساس القديم فأخرجت صخرة كبيرة فرفعوها ومن ثم ظهرت منها رائحة طيبة فانتشرت وعطرت جميع أدمغة الحاضرين. أما السلطان سليمان فإنه وضع ذلك الحجر على حاله وغطاه بتراب وأعاده كما كان. وأخذ في البناء فبنى قبة على قبر الإمام بصورة لا يستطيع اللسان وصفها. وبنى عمارة هناك ومدرسة وعمر في أطرافها قلعة. واتخذ جامعا ودار ضيافة وحماما وخانا ونحو ٤٠ أو ٥٠ دكانا وعين للقلعة دزدارا (محافظا) وجندا لحراستها يبلغون مائة وخمسين ووضع فيها معدات حربية كافية ، ومدافع. وشكل القلعة مربع باستطالة قليلة ومحيطها ثمانية آلاف خطوة. وفي أطرافها من الخارج بساتين وحدائق.

وقال : وحينما ذهبت مع ملك أحمد باشا عام ١٠٥٨ ه‍ عمرها في ذلك التاريخ. وهناك اتخذ لها آبارا ذوات سواقي وصنع لها غرفا. وقد أرسل إليها من الآستانة من (قيا سلطان) قنديل ذهبي (٢).

وإن السلطان مراد خان صنع الباب الأسفل والأعلى وشبكة

__________________

(١) وفي تاريخ بجوي طاشقون خليفة.

(٢) أصل اسمها قيا اسميخان سلطان. كذا في سجل عثماني وهي بنت السلطان مراد الرابع ج ١ ص ١٠.

٣٩

الضريح من فضة. وكذا مصراعي الباب فصار الجامع وقبر الإمام كأنه جنة الفردوس.

ومن ذلك العصر نرى جميع الوزراء والوكلاء والأعيان الكبار يزيدون في الآثار الخيرية من بناء وعمارة ويزينون المحل بأنواع الثريات بصورة بديعة» ا ه (١).

ومثله في تاريخ پچوي نقلا عن المؤرخ عالي أفندي عن جلال زادة مصطفى النشانجي في كتابه (طبقات الممالك) (٢) فلا نرى ضرورة لتكراره. وفي تاريخ رمضان زاده محمد النشانچي ذكر لأعمال السلطان هذه إلا أنه مختصر جدا. وجاء في تاريخ هامر أن السلطان عين مرقد الإمام الأعظم تخليدا لذكراه دون علم منه يقينا بموضع قبره الذي صيره العجم مزرعة كما أن سلفه السلطان محمد خان الفاتح ابتدع مرقدا في استانبول لأبي أيوب الأنصاري (٣) ... ولا نعطف اهتماما كبيرا لأمثال هذا. وإنما نذكر في معرض المقابلة ما عملته إيران من انتهاك حرمات القبور ، وما عمله الترك من تعميرها واحترامها وزيارتها. كما أننا لا نرى مبررا لاختلاق قبر الإمام الأعظم وذكراه وشهرته تغني عن تعيين قبره فهو محترم من غالب المسلمين مقلديه وغير مقلديه. ولا يزال مذهبه

__________________

(١) أوليا جلبي ج ٤ ص ٤٢٦.

(٢) تاريخ بجوي ج ١ ص ١٨٥.

(٣) قال الخطيب في تاريخ بغداد : «حضر أبو أيوب العقبة ونزل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين قدم المدينة في الهجرة. وشهد بدرا والمشاهد كلها. وكان سكنه بالمدينة وحضر مع علي بن أبي طالب حرب الخوارج بالنهروان وورد المدائن في صحبته وعاش بعد ذلك زمانا طويلا حتى مات ببلد الروم غازيا في خلافة معاوية بن أبي سفيان وقبره في أصل سور القسطنطينية ... توفي سنة ٥٥ ه‍ ...» ا ه. وقد مر ذكر جلال زاده مصطفى النشانجي في ص ٢٤ الهامش. وعالي أفندي مؤرخ معروف. له كنه الأخبار وكتاب هنر وهنروران.

٤٠