موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٢

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٢

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

دربه وعلمه كيفية التخريج والتصنيف وهو الذي عمل له خطب كتبه وسماها له وولي شيخنا العراقي قضاء المدينة سنة ثمان وثمانين فأقام بها نحو ثلاث سنوات ثم سكن القاهرة وأنجب ولده قاضي القضاة ولي الدين. توفي عقب خروجه من الحمام في ثاني شعبان وله ٨١ سنة وربع سنة. انتهى. باختصار (١).

حوادث سنة ٨٠٧ ه‍ ـ ١٤٠٤ م

أحمد بن أويس :

في ذي الحجة من هذه السنة هرب أحمد بن أويس من دمشق إلى جهة بلاده (أنحاء العراق) وكان النائب قد أطلقه من السجن فخشي من عوارض الزمان من جهة الدولة فهرب من دمشق بمن معه ... (٢).

تيمور لنك في سمرقند ـ خطط حربية جديدة :

في أول هذه السنة وصل اللنك إلى سمرقند ، واستقبله ملوك تلك البلاد ، وقدموا له الهدايا ، وأمر بعد قدومه بتزويج ولده شاه رخ ، وعمل له عرسا عظيما بلغ فيه المنتهى وراعى وصية ابن عثمان في التتار ، فاستصحبهم معه في جملة العسكر إلى أن فرقهم في البلاد ، ولم يجعل لهم رأسا فتمزقوا ...

وهناك دبر خطة حربية جديدة فعزم على الدخول إلى بلاد الخطا ، فأمر أن تصنع له خمسمائة عجلة تضبب بالحديد ، وبرز في شهر رجب ، ورحل إلى تلك الجهة فلما وصل إلى أترار (٣) فاجأه الأمر الحق فوعك ، فاستمر في وعكه أياما ، ولم ينجع فيه الطب إلى أن قبض يوم الأربعاء

__________________

(١) الشذرات ج ٧ والأنباء ج ١.

(٢) الأنباء ج ١ وعقد الجمان ج ٢٤.

(٣) أترار هي فاراب القديمة وقد مر ذكرها في الجلد الأول.

٢٨١

١٧ شعبان وحمل إلى سمرقند (١).

وفاة تيمور لنك :

مات هذا الفاتح العظيم بعلة الإسهال القولنجي ؛ وله ٧٩ سنة ، كان قد دوخ الممالك وأدهش العالم ، وملك أقطارا كثيرة ، وعزم في آخر عمره على الدخول إلى الصين فمضى في الشتاء فهلك من عسكره أمم لا يحصون ، وهلك هو ... وكان قد شغل العالم الإسلامي مدة في أيام اضطرابه ، وحالة تعدد حكوماته ، ولا يزال ذكر وقائعه تردده الألسن ... فلا تقل أثرا في النفوس عن وقائع جنكيز وأخلافه أيام صولتهم وتمكن دولتهم ...

والغريب أن هذا الفاتح ترك وقعا في النفوس وأثرا في الأذهان يستحق الدرس والاعتبار ويدعو للبحث والتنقيب ، والمشروع الذي قام به كفاتح عظيم ؛ وسياسي كبير محنك يهم أمر مطالعته كل أحد ، ويجب الالتفاتة إليه برغبة زائدة لكل متفكر ، وخاصة من يحاول إدارة مقدرات البلاد ...

ويختلف عن أكثر الأبطال غير أنهم غالب أحوالهم عادت خرافية ، وصارت حوادث بطولتهم أساطيرية مخلوطة غثا بسمين ... وهذا جاءت أخباره واضحة ، ووقائعه مدونة ، وآثاره مسجلة في تواريخ كتبت في أيامه ، وبعده بقليل انتقلت إلينا من ثقات الرواة وفي كل حروبه وغزواته لم يخل مجلسه من علماء ، ولا من مباحث علمية وتاريخية ...

وأكابر الرجال الذين أدركوا وقته بصروا بوقائعه ؛ وقدروا عظمته ، ونقل عنهم الرجال المشاهير بعض خصاله ومزاياه ... فهو من الفاتحين الذين يحق للمرء أن يقف على نزعاتهم في الفتوح والطريقة التي مضوا

__________________

(١) الأنباء ج ١.

٢٨٢

عليها في إدارة الممالك للحصول على المعرفة ، والاستفادة مما قام به بحيث كان النصر حليفه في غالب مواقفه.

خلف هذا الفاتح في كل قطر من الأقطار التي افتتحها أثرا من آثار عظمته وظاهرة من ظواهر قدرته ... وقد التزمنا الإجمال في تاريخ حياته لنلم بنوع من نهجه إلماما توضيحا لما قدمنا من بعض وقائعه في العراق ...

أحوال الأمير تيمور

تيمور لنك : (حياته)

إن تاريخ الرجل العظيم هو في الحقيقة ما قام به من الأعمال الكبرى ، وما أحدثه من دوي في هذه الحياة وتظهر عظمة مترجمنا بما زاوله من الأعمال والمشاريع ، أو ما اختطه من المناهج ... ليسير بها البشرية كما شاء ... لا من ناحية تولده ، والطالع الذي صادفه ، ولا من البيئة التي برز فيها ، ولا من القوم الذين عاش معهم ... فكان من الغلط الاعتماد على المجتمع ، أو المحيط ، أو الطقس وتفاعلاته والألزم أن يظهر للوجود دائما أمثال هذا العظيم في حين أن الأمم لا تستطيع أن تعد من نوابغها الأفذاذ إلا القدر اليسير ... وغاية ما يمكن تلقيه من البيئة أنه استفاد من الأوضاع وربح من الظروف ... ولو لم يجدها لأوجد أمثالها ، وأبدع نظائرها ... ذلك ما دعانا أن نجمل القول في ماضيه قبل ظهوره كفاتح ، وأن نراعي خطته التي نهجها ؛ وما يتراءى من خطيئات أو أغلاط مما شعر به نفسه ، أو ما عرف في نتائج التجارب الحياتية لفاتحين كثيرين ...

يقص علينا أهل الأخبار أن المترجم من ذرية تومنه خان ، من ملوك المغول القدماء ، حكم على قبائل نيرون سنين عديدة ؛ وكان له من

٢٨٣

الأولاد تسعة. ومن كل من أولاده تفرعت القبيلة والقبيلتان ، أو الثلاث ، والأربع ... وأن من أولاده (قابول) و(قاجولي) قد وضعتهما أمهما توأمين كما أن هؤلاء ثالث البطون من أولاده وأن أحدهما (قاجولي) صار له ابن اسمه ايرومجي أو (ارده مجي) بارلاس وأن القبيلة المعروفة باسم (بارلاس) تفرعت منه ... وأن الأمير تيمور من هذه القبيلة. ومعنى (بارلاس) في لغة المغول (القائد) (١).

وتيمور يعرف ب (تيمور لنك) و(تيمور كوركان) و(اقساق تيمور) ... وهو ابن تاراغاي (٢) ويلفظ (طراغاي) و(طوراغاي) أيضا وساق صاحب وقائع تاريخية (٣) وهو الفريق حافظ إبراهيم باشا نسبه أنه تيمور (٤) بن طوراغاي بن أمير يركل بن الشكر بهادر. و«أمه تكين خاتون من آل جنكيز. ولد يوم الثلاثاء ٢٥ شعبان سنة ٧٣٦ ه‍ في مدينة كش من بلاد ما وراء النهر (في قرية خواجة ايلغار). وكان والده تابعا للسلطان غازان ملك الترك وما وراء النهر. وقد أطنب المؤرخون في بيان ما وقع أيام ولادته أو ما شوهد في يده من دم ... ويقصدون إلفات الأنظار من طريق أساطيري إلى عظمته من صغره مما لا يهم كثيرا في التطلع على أحواله إلا أنه من صغره كان مولعا في الألعاب التي من شأنها أن تكون فيها أمرة وسيطرة وإدارة ليتولى القيادة ويدبر شؤون رفقائه خصوصا التي هي بشكل حربي ... لحد أن قيل إنه كان يشعر

__________________

(١) شجرة الترك في المجلد الأول من هذا الكتاب.

(٢) هو الصحيح ويخفف إلى تراغاي وله أصل في لغتهم ويعني السرو ، أو الفاختة وغير ذلك من المعاني اللغوية «لغة جغتاي».

(٣) وقائع تاريخية ص ٢٦٦.

(٤) ويلفظ تمر أيضا والاختلاف في أسماء أجداده وضبطها كبير جدا وقد ساق صاحب الشذرات نسبه بشكل آخر وفي عجائب المقدور ساقه بما يخالف غيره وهكذا ... وفي الأنباء تيمور لنك بن طظرغان راجع عن أوليته فيما سبق من هذا المجلد.

٢٨٤

بذلك وأن رؤيا بعض أجداده أشارت إلى ظهوره ... وكان في أوائل أيامه يمرن نفسه على الركوب واستعمال الأسلحة والتصيد مستمرا ... ولما بلغ العشرين أو تجاوزها صار يزاول الحروب ويشترك في شؤونها ... وفي أيام فراغه يميل إلى المطالعة ومجالسة العلماء فلا يدع وقته يمضي هباء .. وعلى كل ظهر في الخامسة والعشرين من سنه واشتهر أمره في الشجاعة ...

وكانت أحوال ما وراء النهر آنئذ من الاضطراب والاختلال ما يضيق القلم عن تبيانه وذلك من أمد ليس باليسير فإن ملك الجغتاي (غازان خان) كان قد قتله الأهلون لما رأوا من جوره واستبداده ، وكذا لم يقف الأمر عند ذلك وإنما قتل ثلاثة آخرون من أخلافه ... ومن ثم افترقت المملكة إلى أمراء عديدين كل صار يتولى إمارة ناحية من تلك المملكة ... ويحارب بعضهم البعض ويتنازعون السلطة.

وفي هذه الأثناء أعلن (طغلوق تيمور) خانيته على الجغتاي وهو من أحفاد جنكيز خان والأولى بمملكة ما وراء النهر فأراد القضاء على الأمراء المتعددين هناك ، المتحاربين دائما فساق جيوشه عليهم إلى ما وراء النهر فخاف أكثر هؤلاء الأمراء وفروا إلى خراسان عام ٧٦١ ه‍. أما تيمور فإنه لم يهرب وإنما وافى إلى قائد الجيش وتكلم معه أن يفاوض طغلوق تيمور خان في إشراكه معه في حروبه فوافق وولاه قيادة عشرة آلاف أي صار (نويانا) ثم ولي قيادة ما وراء النهر برضى من (طغلوق تيمور) ...

ثم ظهر الأمير حسين من أحفاد أحد الأمراء القدماء في ما وراء النهر وصار يدعي السلطنة فأقام زعزعة الحروب هناك فاضطر (طغلوق تيمور) أن يسير عليه جيشا عام ٧٦٢ ه‍ فانتصر على الأمير حسين واكتسح مملكته وأجلس ابنه (الياس خواجة) في حكومة ما وراء النهر

٢٨٥

وجعل الأمير تيمور وزيره وقائده .. إلا أن تيمور لم يرض بأعمال الياس خواجة ونقم عليه أمورا كثيرة ذلك ما دعاه أن يميل إلى (الأمير حسين) وهو صهره تزوج تيمور بأخته ... ومن هناك تولد العداء فساق الياس خواجة جيشا عليهم فتأهبوا له وقابلوه فتمكنوا من طرد جيشه إلى خارج المملكة فذهب الياس خواجة إلى مغولستان وصار ملكا عليها إذ وجد أباه قد توفي ...

إن هذه الأعمال التي قام بها تيمور حببته من أفراد الجيش فإنه لم يدع فرصة ترغبهم فيه إلا اغتنمها ... ومن ثم صار الأمير حسين يخشى من تيمور وعزم على البطش به والقضاء عليه فلم يوفق فأخفق الأمير حسين في المعركة وغلب عليه فقتل في رمضان سنة ٧٧١ ه‍.

وعلى هذا انقادت لتيمور مملكة ما وراء النهر وأعلن سلطنته ولقب (بصاحب قران) إلا أنه لم يلقب نفسه بخان وإنما لقب به أحد الأمراء من أحفاد جنكيز خان ممن أتى إليه وجعله (قائدا) عنده وهكذا نال الحكومة بعد أن رأى من الأخطار الجمة ما لا يوصف فلم يبال بها وقابلها بعقل رزين وتدبير فائق ... وفي كل هذا لم يهمل استشارة ولم يضع حزما ...

ثم إنه قضى بعد إعلانه السلطنة نحو ست سنوات في حروب مع مملكة المغول وخوارزم وانتصر فيها على أعدائه .. أسس الصلح مع سلطان خوارزم وتزوج من أسرته ببنت كما أنه قضى على ثائرين كثيرين عليه فلم ينل أحد منهم مأربا ... وبينا هو في حرب وانتصار وما ماثل إذ دهمه خبر وفاة ابنه جهانكير فكان لها وقع كبير في نفسه وتأثر للمصاب الجلل وذلك عام ٧٧٧ ه‍ فأهمل الأمور ، ولم يلتفت إلى إدارة المملكة إلا أن وزراءه كانوا لا يبرحون مجدين في تسليته ... وفي الأثناء هجم المغول على مملكته فاضطر للكفاح فكانت هذه من أكبر

٢٨٦

دواعي نسيانه الرزء فأدب القائمين وأرجعهم على أعقابهم خاسئين ...

ولما عاد ركن (توقتامش) من أحفاد جنكيز خان إلى تيمور ورجا منه أن يناصره ويساعده لنيل إمارة تاتارستان الكبرى نظرا لحق سلطنته فيها وكان حاكمها آنئذ الأمير (أروس) (أرص) فوافق تيمور على ذلك وأجاب الملتمس فأقام (توقتامش) مكان (أروس) عام ٧٧٨ ه‍.

وهذا زاحم الأمير تيمور أو أن تيمور خاف من توسعه واتخذ بعض حروبه في إيران وسيلة وحاربه مرارا إلا أنه في جميع حروبه قد خذل ... وتوفي بالوجه المذكور سابقا فخلفه في سلطنته ابنه محمود ...

هذه الانتصارات الكبرى المتوالية بالقضاء على إمارات صغرى والمظفريات العظيمة على المجاورين ... مما شجع الأمير تيمور على امحاء الإمارات المتعددة في إيران وعزم على أن يضمها إلى مملكته لإنهاء أمر هذا التذبذب والاضطراب الذي مله الناس وضجروه ... فمضى إلى خراسان فاستولى عليها عام ٧٨٧ ه‍ وهكذا سار في طريقه حتى اكتسح جميع ممالك العجم وساق جيوشه إلى العراق فكان ما كان مما مر تفصيله ... وهكذا جرت له الوقائع الأخرى في سورية والأناضول والهند ... حتى أيام وفاته ...

وأكبر داع لانتصاراته أنه لم يغتر بقوة ، ولم يضع فرصة ، ولا يزال في اتصال من أخبار المجاورين ومعرفة حركاتهم وسكناتهم ، والتطلع إلى مواطن الضعف فيهم ... كما أنه لم يقصر في تأهب ، ولم يخاطر بمقامرة ، ولا سلم للطالع ... ولم ينم ، أو يغفل عن أمر. فهو أشبه بالذئب نعته العربي بقوله :

ينام بإحدى مقلتيه ويتقي

بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع

ومن كانت هذه حالته ، سار على طريق الحكمة والسداد ، ولم

٢٨٧

يضع الحزم واليقظة .. وحصل على مطلوبه مهما عز وغلا .. هذا ولا ينسى ما زاوله من سفك وما قام به من قتل فقد ندم عليه مؤخرا وأراد أن يكفر به عن سيئاته في محاربة الخطا والقضاء على حكوماتهم ... ولات حين مندم ... وكان رأيه بل فعله ينطق أن الغاية تبرر الواسطة ...

وكان لم يقصر في وسائل الحضارة وضروب العمارة ولكن في مملكته ووطنه فقد عرف عنه من الأنباء وغيره أنه كان أنشأ بظاهر سمرقند بساتين وقصورا عجيبة وكانت من أعظم النزه وبنى عدة قصبات سماها بأسماء البلاد الكبار كحمص ودمشق وبغداد وشيراز ...

كان حادث وفاته من أكبر الحوادث في هذا العالم بعد أن كان في قراع ونضال مع ممالك عظيمة وحكومات متعددة ... فإنه من حين فتح بغداد لأول مرة افتتح ماردين وحلب والشام وبلاد الروم (الأناضول) وأقساما كبرى من الهند وحارب القفچاق ومن في أنحائهم ... وفي خلال هذه الحروب قضى على إمارات كثيرة مختلفة الأهواء لم يكن لتألفها الممالك والأقوام وكانت هذه الممالك بين نيران ملتهبة وحروب دامية وتغلب متوال ... فلا راحة ، ولا استراحة .. ضجر الناس من هذه الحالة وملوها ... بل العالم في حاجة إلى من يقضي على هذه الدويلات وسيطرتها وتحكمها بأهليها وأموالهم ، وليس لها من همّ إلا أن تنال حظا أو قسطا من مجاوريها ... فكان هذا الدواء ـ ظهور تيمور ـ بلاء فتاكا ولكن لا مندوحة منه للقضاء على أمثال هذه الحكومات ...

أبدى في ظهوره حتى أواخر أيامه من الشدة والقسوة ما أرعب قلوب الناس وذكرهم بأيام جنكيز الأولى وحذرهم بطشه ، وأخافهم صولته. لا يعرف التواني ، ولا يبالي بالتعب ، ولا يقف عند غلبة ... فتراه يقضي على حكومة من الحكومات بمعركة دامية انهكت قوى

٢٨٨

الفريقين ... ويتأهب أثرها للوثوب على أخرى فيسير لمفاجأتها والصدام معها ... فكأنه قرر فتح العالم ، والسيطرة عليه والمنقول عنه أنه يرى الدنيا لا تكفي لأكثر من واحد كما أن الله واحد ... ونجد عمله لا لنفسه وإنما كان لمن يخلفه وأراد أن يكون ملكه أبديا ، وضع التصاميم للمحافظة على ما في اليد ، والحصول على الباقي ... وهكذا.

ويتبادر لأول وهلة أن الذي ولد فيه شعور الفتح ، والاستمرار على فكرته المتأصلة فيه عاملان مهمان أحدهما فتوح جنكيز وسيطرته على العالم الشرقي الإسلامي المحتضر بسبب قوة جيشه وحسن قيادته وتدريبه على قوانين خاصة (الياسا) رأى لزوم تطبيقها بشدة لا تقبل الرأفة ولا الرحمة ... والآخر الفتح الإسلامي واكتساحه عوالم شرقية وغربية عديدة ... ولكنه بعد أن علم أن قد زالت مهمة الفتوح الإسلامية المصروفة للصلاح العام الشامل وخمدت تلك الفتوح وعادت الأقوام الإسلامية بسبب الحرص على الملك فأغفلت النهج الإسلامي وتركت العمل بأحكامه .. فصارت في تذبذب واضطراب وتشعب إدارات وتعدد حكومات واختلاف أهواء!.

وهنا يرد سؤال سهل الإيراد وهو هل كان من رأيه تطبيق الخطة الحربية كما جاء بها جنكيز عينا أو الفكرة الإصلاحية لتوحيد قيادة المسلمين وجمعهم بحيث يكونون قوة وجهتها موحدة ... ليسيروا على سنن لا يتغير؟!.

شوهد من الأدلة على أنه قرر المضي بمقتضى فكرة جنكيز في قسوته وقتله في المسلمين وتخريب بلادهم ، والقضاء على حكوماتهم بقصد الاستيلاء عليهم ... أو قل إن ذلك كان سجية فيه وفي قومه ببذل الجهود لهذه الناحية ... كما أن عمارته لمملكته ، وإطماعه لقومه ، وعدم اكتراثه بالممالك الأخرى مؤيدات وطنيته الشديدة وحرصه القوي ، أهلك غيره ليعيش هو وقومه ولتعمر مملكته ...!

٢٨٩

أما الوجهة الأخرى فلم تعدم أدلة أيضا وأهمها الصلة التجارية بين الأقطار التي تحت سلطته وأن تسير بحرية وأمن لم تر نظيرهما. وعدله في حكومته وبيانه أنه لم يقطع رؤوس المسلمين ويتخذ منها منارات إلا من القتلى إرهابا للناس وتخويفا وهكذا .. واحترامه للعلماء وصحبتهم .. وللصلحاء وإظهاره الحب والتكريم لهم والاستمداد بشيخه السيد بركة. وقوله للسلطان ييلديرم بايزيد العثماني حينما انتصر عليه معاتبا له : «إنك رأيت ما زرعت ، كنت أود أن أصافيك فاضطررتني للحرب كارها .. وهذه نتائج عنادك ، كنت أفكر في نصرتك لحرب أعدائك ، ولو كانت المخذولية أصابتني في حربك لرأيت وجيشي ما لا يدور في حسبان ، كن واثقا سأحتفظ بحياتك وأؤدي واجب الشكر لله» هذا وأمله أن سيكون قوة ظهر له على أعدائه وأنه ركن ركين له في حراسة مملكته من الأعداء.

وعلى كل رأى أن المملكة الإسلامية يجب أن يحكمها أمير مسلم لا أكثر وأن تتجمع القوى لتتمكن أن تقوم بما قامت به الإسلامية في أوائل أمرها ... كما أنه ندم في أواخر أيامه على ما فعل لأنه لم يتيسر له تحقيق أغراضه فعزم على الجهاد في سبيل الله ومحاربة غير المسلمين فمات في هذه الطريق ..

ومهما كانت الآمال ، أو التصاميم فقد وقع ما وقع ، وجرى ما جرى. والظاهر أنه حاول مزج الطريقة الإسلامية بشدة جنكيز في الصرامة والقطع ... يشهد بذلك وصاياه في إدارة الجيوش من غير الترك والاستفادة من مجموع قوة الكل .. وإرادة الله غالبة ، وعمل الإنسان في هذه الحياة ضئيل فيجب أن يصرف للإصلاح ، والعمارة والعدل ، ولراحة الناس واطمئنانهم وتآلفهم لا السيطرة عليهم والتحكمات المتنوعة فيهم فالطمع والحرص على ما في يد الآخرين لم يولد نتائج مرضية ... وإنما الانكشاف الفكري والمدني في الأمة من أقوى دعائم الاستقلال والعزة ...

٢٩٠

إن حالة العصر الذي ظهر فيه تيمور كانت مشتتة الأهواء في السياسة ، مفرقة الآراء في النحل والعقائد ، مختلفة العوائد .. وهكذا في عقولها وعلومها .. فلا أمل في التأليف بين هذه الأمم إلا بمراعاة طريقة هذه الفاتح التي اختطها وعلم أنها الناجحة لما عزم على القيام به ..

قال في الشذرات : «كان له فكر صائب ومكايد في الحروب وفراسة قل أن تخطىء ، وكان عارفا بالتواريخ لإدمانه على سماعها ، لا يخلو مجلسه عن قراءة شيء منها سفرا ولا حضرا ، وكان مغرى بمن له صناعة ما حاذقا فيها ، وكان أميا لا يحسن الكتابة وكان حاذقا باللغة الفارسية. والتركية والمغولية خاصة ، وكان يقدم قواعد جنكيز خان ويجعلها أصلا ... وكانت له جواسيس في جميع البلاد التي ملكها والتي لم يملكها ، وكانوا ينهون إليه الحوادث الكائنة على جليتها ويكاتبونه ... فلا يتوجه إلى جهة إلا وهو على بصيرة من أمرها ... (١)» ا ه.

وعلى كل كان في أيام تغلب وكان قد فاق الكل وتمكن من الاستيلاء على ممالك كثيرة وكاد يضارع جنكيز في حروبه .. بل فاقه في نواح عديدة ... وقد مر من حوادثه ما له علاقة بالعراق ، وقد وصفه صاحب الضوء اللامع بقوله :

«كان شيخا ، طوالا ، مهولا ، طويل اللحية ، حسن الوجه ، أعرج ، شديد العرج ، سلب رجله في أوائل أمره ومع ذلك يصلي عن قيام مهابا ، بطلا ، شجاعا ، جبارا ، ظلوما ، غشوما ، فتاكا ، سفاكا للدماء ، مقدما على ذلك أفنى في مدة ولايته من الأمم ما لا يحصون. جهير

__________________

(١) الشذرات ج ٧ ص ٦٦٠.

٢٩١

الصوت ، يسلك الجد مع القريب والبعيد ، ولا يحب المزاح ، ويحب الشطرنج وله فيها يد طولى ومهارة زائدة وزاد فيها جملا وبغلا ، وجعل رفعته عشرة في أحد عشر بحيث لم يكن يلاعبه فيه إلا أفراد ، يقرب العلماء والشجعان والأشراف وينزلهم منازلهم. وكانت هيبته لا تدانى .. كان ذا فكر صائب ومكائد في الحرب عجيبة ، وفراسة قل أن تخطىء ، عارفا بالتواريخ لإدمانه على سماعها ، لا يخلو مجلسه عن قراءة شيء منها سفرا أو حضرا ، مغرى بمن له معرفة بصناعة ما إذا كان حاذقا فيها ... وله جواسيس في جميع البلاد التي ملكها والتي لم يملكها وكانوا ينهون إليه الحوادث الكائنة على جليتها ، ويكاتبونه بجميع ما يروم ، فلا يتوجه إلى جهة إلا وهو على بصيرة من أمرها .. مات وهو متوجه لأخذ بلاد الخطا على مدينة أترار ... وبالجملة فكانت له همة عالية وتطلع إلى الملك .. والقدر الذي اقتصرت عليه هنا اعتمدت فيه ابن خطيب الناصرية وشيخنا (ابن حجر في أنبائه) ، وترجمته في عقود المقريزي نحو كراستين» ا ه (١).

وفي هذا وغيره من النصوص العديدة ما يعين خطته وأنه لم ينهج نهجا مغلوطا ولا تحرك دون حساب وأهبة للأمر ...

ويطول البحث بالكلام عليه كثيرا إلا أننا نرى محل استفادتنا في دراسة نهجه الحربي والسياسي ومعرفة التعديل في مناهج الفاتحين لإنقاذ البشرية من أوضاعها السيئة التي ولدتها آمال خسيسة والسير بها نحو الطريقة المثلى وهي طريقة الإصلاح لا التخريب ، والعمارة لا الإبادة ، والعلوم لا الجهل والسخافة ، والرأفة لا القسوة ...

__________________

(١) الضوء اللامع ج ٣ ص ٥٠ والتفصيل هناك لا يسعه هذا المقام ومثله في الأنباء ج ١.

٢٩٢

وقد مر بنا الكلام على أوليته ثم وقائعه في العراق حتى وفاته ...

نهجه السياسي والحربي :

من المعروف أن تيمور أوصى أولاده وهو في فراش الموت قائلا : «أولادي! لا تنسوا وصيتي التي تركتها لكم لتأمين راحة الأهلين ، كونوا دواء لأمراض الخلق ، احموا الضعفاء وأنقذوا الفقراء من ظلم الأغنياء. ليكن نهجكم في كل أعمالكم العدل والإحسان. فإذا أردتم دوام سلطتكم فاستعملوا السيف بيقظة واحتياط ولياقة ، اعتنوا كثيرا واحترسوا أن يدخل الشقاق والنفاق بينكم ، ولا تدعوا للصديق الحميم ، أو العدو الألد طريقا ينفذ فيه لإلقاء البذور من هذا النوع أو أن يسعى لها ... وإذا مضيتم على وصيتي وبقيتم عليها دائبين وبدساتيرها آخذين احتفظتم بتاجكم دائما ، اسمعوا وصايا أبيكم الذي هو في فراش الموت وتمسكوا بها ، ولا تنسوها.» ا ه ... وهذه تعين حسن نيته ؛ وعنايته بحكومته وإدارته القويمة وقد قررها بنظام قطعي متبع ...

الوصاية المنوه عنها :

إن وصاياه في خطابه هي المذكورة في (تزك تيمور) وقد مر وصفها .. وفيها تتجلى نفس هذا الرجل العظيم أكثر مما قام به في حروبه وما اشتهر في مقارعاته الفعلية وما عرف عنه نقلا عن أعدائه من أصحاب الحكومات المغلوبة ، فهي تجاربه وأعماله الإدارية والسياسية وفيها علاقته بأمرائه ووزرائه وجيوشه وسائر أتباعه وبالأهلين ممن دخل تحت سلطته .. وهنا يجب أن نقول إن هذا الرجل متمسك بعقيدته الإسلامية تمسكا ليس وراءه ... واشتهر تواترا عنه حبه للعلماء ومصاحبتهم حتى في حروبه وأسفاره ... ولعله أول من استفاد من أصحاب العلوم والمواهب للحياة العملية والسياسة المدنية فجمع بينهما ... ونرى في تاريخ ابن الشحنة صفحة من مجالسه العلمية ،

٢٩٣

٢٩٤

وحمايته العلماء ، وسعة الصدر لهم وأن يتكلموا بحرية تامة ... ومخابراته السياسية مع الحكومات الأوروبية لا تتجاوز حدود المجاملة والمقابلة بالمثل ؛ ومراعاة المصافاة لمن ليس بينه وبينه علاقة جوار ؛ أو احتمال حرب .. وليس أصح للبرهنة على ذلك من كلامه للسلطان ييلديرم بايزيد حين أصر في حروبه معه .. ومن بكائه لفقده يوم وفاته ، وانعامه على أولاده ... والمنقول أنه لم يقتله وإنما مات كمدا مما أصابه في الاعتقال ...

ـ نعم نرى أعداءه من رجال الحكومات كثيرين وأكبر من شنع عليه الترك العثمانيون والعرب ونخص بالذكر صاحب عجائب المقدور وصاحب الأنباء وبعض العجم ...

ومما نقله ابن أبي عذيبة في (تاريخ دول الأعيان) عن وقائع تيمور ما نصه قال : «رأيت الشيخ جلال الدين بن خطيب داريّا كتب على هذه الوقعة ـ وقعة التتر ـ في الهامش من تاريخ الذهبي :

لقد عظموا فعل التتار ولو رأوا

فعال تمر لنك لعدوه أعظما

لقد خرب الدنيا وأهلك أهلها

وطائره في جلق كان أشأما

قال لي الشيخ شهاب الدين ابن عرب شاه الأمر كما قال ابن خطيب داريّا. فإن تيمور سار بأعوان قيل كالجراد المنتشر فالجراد من أعوانها. أو كالسيل المنهمر فالسيل يجري من خوضانها ، أو كالفراش المبثوث فالفراش يحترق عند تطاير شهابها ، أو كالقطر الهامي فالقطر يضمحل عند انعقاد قتامها ، برجال توران ، وأبطال إيران ، ونمور تركستان ، وصقور الدشت والخطا ، وكواسر الترك. ونسور المغول ، وأفاعي خجند وأندكان ، وهوام خوارزم وجرجان ، وعقبان صغانيان ، وضواري حصار شاه ومان. وفوارس فارس ، وأسود خراسان ، وليوث مازندران ، وطلس أصبهان ، وضباع الجبل ، وسباع الجبال ، وأفيال

٢٩٥

الهنود ، وهنود الأفيال ، وعقارب شهرزور ، وعسكر سابور مع ما أضيف إلى ذلك من التراكمة والعرب والعجم ما لا يدخل تكييفه ديوان ، ولا يضبطه دفتر ولا حسبان. وبالجملة كان معه يأجوج ومأجوج ، والرياح العقيمة الهوج ...

وذكر ابن الشحنة أن المدوّن من عسكر تيمور كان ثمانمائة ألف وما عمل أحد عمله من إحراق البلاد وإزالة رسومها. قال ابن عرب شاه «وكان معه أهل الثلاث وسبعين فرقة الإسلامية ما عدا أهل الكفر وهم كثير ، من كل فرقة خلق كثير متظاهرون بمذاهبهم» ا ه.

هذا ما نقله ابن أبي عذيبة عن المؤرخين المعاصرين في الجلد الخامس من كتابه (١). ونحوه في تاريخ الخلفاء للسيوطي ...

ومما نقل أن تيمور قال على قبر الفردوسي صاحب الشهنامة :

سر از كور بردار وايران ببين

ز دست دليران توران زمين

وحينئذ تفاءل بالشهنامة فظهر له هذا البيت :

چو شيران برفتند زين مرغزار (٢)

كند روبه لنك اينجا شكار

فكان جوابا مسكتا له وذلك أنه في البيت الأول قال أخرج رأسك من القبر وعاين ما يكابده الإيرانيون من أيدي الطورانيين. وأما الجواب فهو أن هذه الأرض المترعة بطيورها دخلتها السباع فولت عنها الطيور فصارت قنصا للثعلب الأعرج يتصيد دون أن يخشى بطشا ، ولا أصابته رهبة ... والمظنون أنه تقوّل عليه.

والظاهر كما يستدل من أوضاع تيمور ، وحالاته أنه لم يعتن بالشعراء ، ولم يقرب منهم أحدا وإنما يكره لقياهم ... ومن المشهور

__________________

(١) ص ٣٦٩.

(٢) مرتع.

٢٩٦

عنه تخريب قبر الفردوسي ولعل ذلك من جراء انصرافه للخيال ، ومبالغاته الزائدة في شعره بما نسبه للقدماء من الفرس كأنهم خلق آخر غير هؤلاء البشر ...

هذا ونقف في ترجمته هنا ونقول إن المترجم كان في نيته أن يعمر بغداد بعد أن خربها ودمرها ولكنه لم يتحقق له ذلك ولا تيسر لأولاده من بعده فبقيت على خرابها ، وكان قد هدم آثارها الناطقة بالعظمة ؛ ومخلفاته الجليلة ... فلم ينتفع منه العراق وإنما تضرر كثيرا ... هذا ومن أراد التوسع وأحب التفصيل عن وقائعه وإتقانها من ناحية سوق الجيش ، أو عن سياسته وإدارته الممالك ومعرفة وزرائه مع مقابلة سائر أعماله بالإدارات الحاضرة ، وبأعمال الفاتحين الآخرين ... لاستخلاص نتائج عصرية نافعة فليرجع إلى المصادر التي تستحق النظر والمطالعة مما مر بيانه من المراجع التاريخية المعاصرة له ، أو التالية لعصره بقليل ...

وهذه التواريخ مكتوبة في أيامه :

١ ـ ظفر نامة نظام الشامي :

وهذه مر الكلام عليها في هذا الكتاب. ومنها نسخة في المتحفة البريطانية برقم ٢٣٩٨٠ ومؤلفها نظام الدين الهروي المعروف ب (شنب غازاني) وهذا هو أول من قدم مستقبلا للأمير تيمور من بغداد حين قصد إليها فصار مكرما عنده ...

٢ ـ جوشن وخروشن :

للشيخ محمود زنكي الكرماني ، قارب إتمامه ومات ، سقط في النهر من قنطرة تفليس سنة ٨٠٦ ه‍. وهذا لم ينتشر كما ذكر صاحب حبيب السير.

٢٩٧

٣ ـ تاريخ صفي الدين الختلاني من علماء سمرقند :

كتب طرفا من وقائعه باللغة التركية. كذا في كشف الظنون.

وهذه الكتب لم تنل رواجا ولا عرفت مواطن وجودها ، غطت عليها الكتب التاريخية المدونة بعد هذا التاريخ في أيام أولاده منها ما ذكرناه في المراجع أو مر أثناء البحث ومنها ما سنتعرض لذكره ... فلم يبق غامض من تاريخ حياة تيمور ووقائعه وإنما عرف (تزك تيمور) الذي مر وصفه. وفيه ما يفوق كثيرا من الكتب ... والكتب العربية المعاصرة أو التالية لهذا العصر كتبت بسعة زائدة ... ولا يستغنى عنها نظرا لما نراه من كتاب آل تيمور من الإغراق في المدح غالبا ...

أولاد تيمور وأحفاده :

وهنا نجمل عن أولاده وأحفاده لنكوّن فكرة مختصرة والأولى أن نقدم مشجرا في أولاده وأحفاده ومن وليهم ... فهو أعلق في الذهن وأقرب للفهم. وملخص القول أن أخلافه من حين وفاته خرقوا وصيته وانتهكوها ومضوا على الضد منها ... ووقع ما كان يتوقعه من الفتنة وسوء الحالة والتقاتل على الإمارة فتوزعت المملكة إلى إمارات عديدة وطمع فيها المجاورون والأمراء ممن كانوا يعدون بمنزلة ساعد له فصاروا يتطلبون الإمارة ، ويولدون الشغب وهكذا ... على أن بعض الحكومات دامت لأحفاده طويلا.

٢٩٨

٢٩٩

٣٠٠