موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٢

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٢

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

هذا وسيلة للتقدم نحو العراق والوقيعة بالسلطان أحمد .. وحينئذ تقابل الجيشان قرب مدينة السلطانية من ممالك السلطان أحمد فكانت جيوش تيمور لا تحصى عدّا ولهجومها وقع كبير في نفوس الجيش الجلايري فقد هجموا هجوما عاما فكانت المعركة دامية فلم يطق القوم الصبر عليها ففروا من وجه عدوهم وتفرقوا شذر مذر في الأنحاء والأطراف فعاد الأمير قائد الجيش إلى بغداد بخفي حنين .. فغضب السلطان عليه وضربه فأوجعه بالوجه المارّ ... أما تيمور فإنه لم يستمر على سيره وإنما اكتفى بهذه النصرة وعاد إلى مملكته ..

هذه أول علاقة حربية وقعت له مع السلطان وهي مقدمة فتح العراق وأن عودته تفسر في اتخاذ الأهبة الكافية للاستيلاء على بغداد ... وهكذا فعل المغول قبله فلم تمض مدة حتى ظهرت طلائعه في لرستان وتبين جيشه هناك فقد كان إذا أراد السير إلى جهة أظهر أنه عازم على غيرها .. وكان حاكم اللر آنئذ الملك عز الدين العباسي فهذا انقاد للأمير تيمور وقدم له المملكة فكانت النتيجة أن أقره. وبهذه الصورة استولى على همذان وبلاد اللر ولم يبق حائل بينه وبين بغداد ...

وهذه الأخبار قد اضطرب لها العراق وسلطانه .. أما السلطان فإنه انتابته الهواجس وأصابته الفكر وأعوزته الحيل في الدفاع والنضال وسدت الطرقات أمامه فكان يتوقع النازلة ويترقب القارعة ... فلم يجد خلاصا إلا بالهزيمة وأن يترك العراق وتبريز .. ولذا أخذ ما تمكن على أخذه من نقود وأموال ، وجعل ابنه طاهرا مع أهله وعياله في قلعة (النجا) (١) القريبة من شروان بالوجه المشروح .. ورحل هو من بغداد

__________________

(١) وصف صاحب عجائب المقدور قلعة النجا وبين مناعتها كما أنه تكلم عن بسالة القائد آلتون وما أتى به من عجائب الشجاعة وما ناله في سبيل الشهامة إلى أن قتل مما أشير إليه فيما سبق ...

٢٢١

عام ٧٩٥ ه‍ ملتجئا إلى الملك الظاهر أبي سعيد برقوق ..

أما تيمور فإنه سار إلى تبريز فنهبها وأذل أهليها ثم وجه قسما من العسكر نحو (قلعة النجا) كما تقدم .. وسار هو نحو بغداد ..

قال صاحب عجائب المقدور :

ولما استولى السلطان (السلطان أحمد) على ممالك العراق مد يد تعديه .. وشرع يظلم نفسه ورعيته ، ويذهب في الجور والفساد ... بالغ في الفسق والفجور ، فتجاهر بالمعاصي. واتخذ سفك الدماء إلى سلب الأقراض وثلم الأعراض سلما. فقيل إن أهل بغداد مجّوه واستغاثوا بتيمور .. فلم يشعر إلا والتتار قد دهمته .. وذلك يوم السبت (١) (١١ شوال سنة ٧٩٥ ه‍) فاقتحموا بخيلهم دجلة وقصدوا الأسوار ، ولم يمنعهم ذلك البحر التيار ، ورماهم أهل البلد بالسهام ، وعلم أحمد أنه لا ينجيه إلا الانهزام فخرج فيمن يثق به قاصدا الشام فتبعه من الجغتاي طائفة. فجعل يكر عليهم ويرد عنهم ويفر منهم فيطمعهم وحصل بينهم قتال شديد ، وقتل من الطائفتين عدد عديد ، حتى وصل إلى الحلة فعبر من جسرها .. ثم قطع الجسر ونجا من ورطة الأسر ، واستمرت التتار في عقبه تكاد أنوفها تدخل في ذنبه فوصلوا إلى الجسر ووجدوه مقطوعا فتراموا في الماء وخرجوا من الجانب الآخر ولم يزالوا تابعا ومتبوعا ففاتهم ووصل إلى مشهد الإمام وبينه وبين بغداد ثلاثة أيام.» ا ه.

ولم يوضح وقعة بغداد وإنما اكتفى بما سرده وقال في موطن آخر :

«فوصل تيمور إلى تبريز ونهب بها. ووجه إلى قلعة النجا العساكر ...

__________________

(١) ومثله في تاريخ مرتضى آل نظمي موافقا لما ذكره ابن خلدون وفي هذا مخالفة لما جاء في روضة الصفا وحبيب السير ... وفي كتاب بزم ورزم والظاهر أنهم تابعوا صاحب عجائب المقدور ونقلوا منه ... وذكر الغياثي أن هذه الحادثة وقعت بتاريخ ٧١ شوال يوم السبت من هذه السنة.

٢٢٢

وتوجه هو إلى بغداد ونهبها ولم يخربها ولكن سلبها سلبها» ا ه (١).

وفي ابن خلدون جاء عنه بعد عودته من أصل مملكته ما نصه :

«ثم خطا إلى أصبهان وعراق العجم والري وفارس وكرمان فملك جميعها من بني المظفر اليزدي بعد حروب هلك فيها ملوكها وبادت جموعها. وشد أحمد ببغداد عزائمه وجمع عساكره وأخذ في الاستعداد ثم عدل إلى مصانعته ومهاداته فلم يغن ذلك عنه وما زال تيمور يخادعه بالملاطفة والمراسلة إلى أن فتر عزمه وافترقت عساكره فنهض إليه يغذ السير في غفلة منه حتى انتهى إلى دجلة وسبق النذير إلى أحمد فأسرى بغلس ليله وحمل ما أقلته الرواحل من أمواله وذخائره وحرق سفن دجلة ومر بنهر الحلة فقطعه وصبح مشهد علي (رض) ووافى تيمور وعساكره دجلة في ١١ شوال سنة ٧٩٥ ه‍ ولم يجد السفن فاقتحم بعساكره النهر ودخل بغداد واستولى عليها وبعث العساكر في اتباع أحمد فساروا إلى الحلة وقد قطع جسرها فخاضوا النهر عندها وأدركوا أحمد بمشهد علي (رض) واستولوا على أثقاله ورواحله فكر عليهم في جموعه واستماتوا وقتل الأمير الذي في اتباعه ورجع بقية التتر عنهم ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام.» ا ه (٢).

قال في الأنباء وفي هذه السنة (٧٩٥ ه‍) طلب بغداد وذلك في أواخر شوال فنازلها في ذي القعدة (٣) فلم يلبث صاحبها أحمد أن أخذ خزائنه وحريمه وهرب فبلغ تيمور لنك فأرسل ابنه مرزا في طلبه فأدركه فلما كاد أن يقضي عليه رمى بنفسه في الماء فسبح إلى الجهة الأخرى وسلم هو ومن معه ، وأحيط بأهله وخزائنه وهجم تيمور لنك على بغداد

__________________

(١) عجائب المقدور ص ٤٧ و٤٣.

(٢) «ج ٥ ص ٥٥٥ ابن خلدون».

(٣) في موطن آخر قال : «كان دخول تيمور لنك بغداد في شوال».

٢٢٣

فملكها قهرا ثم شن الغارات على بلاد بغداد وما حولها وما داناها وعادوا إلى البصرة والكركر (كذا) (١) والحلة وغيرها وأوسعوا القتل والفتك والسبي والأسر والنهب والتعذيب وفر من نجا من أهل بغداد فوصل الشيخ غياث الدين العادلي إلى حصن كيفا هاربا فأكرمه صاحبها ..

وإنما هرب أحمد بن أويس من بغداد لأنه كان شديد العسف بالرعية ولما قصده تيمور لنك كان إذا أرسل أحدا من الأمراء يكشف خبره يعيد إليه جوابا غير شاف فعميت عليه الأخبار إلى أن دهمه فلم يكن بد من نجاته فخرج من أحد أبواب البلد وفتح أهل البلد الباب الآخر لتيمور لنك فأرسل في طلب أحمد ففات الطلب ودخل الشام وكان تيمور لنك قد غلب قبل ذلك على تبريز وكاتب أحمد أن يذعن له بالطاعة ويخطب باسمه فأجاب لذلك لعلمه أن لا طاقة له بمحاربته فكاتب أهل بغداد تيمور لنك في الوصول إليهم فوصل وكان أحمد أرسل الشيخ نور الدين الخراساني إلى تيمور فأكرمه وقال أنا أتركها لأجلك ورحل ، وكتب الشيخ نور الدين الخراساني يبشره بذلك وسار تيمور لنك من ناحية أخرى فلم يشعر أحمد وهو مطمئن إلا وتيمور قد نزل بغداد في الجانب الغربي فأمر أحمد بقطع الجسر ورحل وهرب أحمد لكن لم يعامل تيمور لنك البغداديين بما كسبوه فإنه سطا عليهم واستصفى أموالهم وهتك عسكره حريمهم وخلا عنها كثير من أهلها وأرسل عسكرا في أثر ابن أويس فأدركوه بالحلة فنهبوا ما معه وسبوا حريمه وهرب هو ووضع السيف بأهل الحلة ليلا ونهبوها وأضرمت فيها النار. ولما وصل أحمد في هزيمته إلى الرحبة أكرمه نعير (أمير آل فضل) وأنزله في بيوته ثم تحول إلى حلب فنزل الميدان وأكرمه نائبها وطالع السلطان بخبره فأذن له في دخول القاهرة ...» ا ه (٢).

__________________

(١) يرى الفاضل مصطفى جواد أن صوابها (كسكر).

(٢) الأنباء ج ١ وفيه تفصيل عن نعير أمير آل فضل وأولاده أبي بكر وعمر وكانوا عصوا على حكومة سورية ثم طلبوا الأمان ...

٢٢٤

وفي حبيب السير يوضح أكثر عن تيمور ووصوله إلى بغداد بتفصيل قال :

«إن الأمير تيمور كور كان بعد أن فتح مملكة العجم لم ير قاصدا من سلطان بغداد ، ولا أذعن له بطاعة فكان همّ الأمير تيمور مصروفا إلى فتح عراق العرب. وفي ٢٦ رجب سنة ٧٩٥ ه‍ توجه من أصفهان نحو همذان وبقي فيها بضعة أيام للاستراحة وفوض إدارة أنحاء آذربيجان إلى الشهزادة معز الدين ميرانشاه ويوم الثلاثاء ١٣ شعبان هذه السنة نهض من همذان وفي أوائل رمضان وصل صحراء قولاغي ... وفي يوم الأحد ١٠ رمضان عاد من صحراء قولاغي ووافى آق بولاق وقضى أيام رمضان هناك. وأجرى في غرة شوال مراسيم العيد. وبعد يومين جاءه الشيخ عبد الرحمن الأسفرايني من أعاظم مشائخ العصر (١) وبين له أنه رسول السلطان أحمد الجلايري فعظمه الأمير تيمور واحترمه غاية الاحترام إلا أنه لم يقبل منه الهدايا من جراء أن السلطان أحمد لم يضرب السكة باسمه ولا خطب له. أما الشيخ فإنه نال بشخصه من الأمير تيمور الخلعة وكل توقير ومكانة ... ولم يتوان الأمير تيمور في السير وأعاد الرسول ، وفي يوم الجمعة ١٣ شوال نهض الأمير تيمور من آق بولاق وفي ثلاثة أيام وصل مزار الشيخ يحيى المسمى بقبة إبراهيم وحين عاين أهل القبة غبار العسكر قبل وصولهم إليهم أرسلوا إلى بغداد حمامة بورقة تخبر بمجيء تيمور فلما وصل تيمور القبة سأل منهم هل أرسلتم خبرا قالوا نعم أرسلنا حمامة فطلب منهم حمامة أخرى وأمرهم في الحال أن يكتبوا كتابا آخر يبينون فيه أن الغبار الذي رأيناه كان غبار التراكمة والأحشام الذين هربوا من عسكر تيمور وجاؤوا إلى هذه الأطراف وأرسلوها فلما وصلت الحمامة الأولى إلى بغداد عبر السلطان

__________________

(١) جاء في الأنباء أن رسول السلطان هو الشيخ نور الدين الخراساني كما تقدم.

٢٢٥

أحمد إلى الجانب الغربي وعبر جميع أثقاله ويراقه وخيله وعسكره وعياله ولما جاءت الحمامة الأخرى سكن روعه إلا أنه توقف هو وأرسل الأثقال أمامه. أما تيمور فقد سارع في سيره نحو بغداد ... وفي ٢٩ شوال (١) وافى الأمير تيمور بغداد ... أما السلطان أحمد فإنه عبر إلى الجانب الغربي وأغرق السفن ورفع الجسر وفر إلى الحلة وكان عبر جيشه بسفينة (٢) الثقات كما أنه هو عبر بالسفينة الخاصة به المسماة شمس (٣) وحمل ما استطاع حمله من نقود ومجوهرات ونفائس على البغال والإبل ومضى في طريقه بسرعة لا مزيد عليها .. وكان معه جماعة من الأمراء. فتعقب أثره رجال الأمير تيمور ولم يمهلوه في سيره فانقطع جماعة من قومه وترك أثقالا كثيرة. فلم يظفر العدو به ... ا ه ملخصا منه ومن الغياثي ...

وفي روضة الصفا مثله وزاد أنه لم يتعرض جيش الأمير تيمور بالأهلين واستراح هناك مدة .. سوى أنه أخذ منهم (مال الأمان) ولم يقع أي تعد عليهم من الجيش وفيه موافقة لما جاء في عجائب المقدور نوعا ونقل أن المؤرخ نظام الدين (٤) شاهد جيش تيمور في بغداد وبين

__________________

(١) في هذا مخالفة للتواريخ الأخرى وأن حبيب السير وروضة الصفا يكاد ان يتفقان في الموضوع إلا أن في كل منهما تفصيلات ليس في الآخر لمن أراد التوسع.

(٢) هذه تمكن أمراء تيمور من الحصول عليها دون أن يصيبها ضرر وكان ركبها الأمير تيمور كما أن أمير زاده ميرانشاه عبر من دجلة ومضى إلى العقابية.

(٣) جاء في الغياثي : «كان للسلطان أحمد سفينتان إحداهما يقال لها «الشمس» بيضاء ولها ثلاثون مجذافا ، والأخرى يقال لها «القمر» ولها ثمانية وعشرون مجذافا أحمر فرأوا سفينة الشمس سليمة فدخل تيمور فيها وعبر إلى الجانب الغربي ص ١٩١.

(٤) ونظام الدين هذا هو المعروف بنظام الشامي كتب تاريخ تيمور على حدة في ـ كتاب ظفر نامه ـ وكان بأمر من تيمور وفي كتابه هذا أوضح عن قبائل الجغتاي وأحوالهم التاريخية ويحتوي وقائع تيمور إلى سنة ٨٠٦ ه‍ أي قبل وفاته بسنة ، وعلى ما نقل بلوشه أن نسخة من هذا التاريخ في المتحفة البريطانية برقم ٢٩٨٠ ـ إسلامده تاريخ ومؤرخلر ـ.

٢٢٦

أنه لا يحصى عدّا ولا يحصر استقصاء .... فالناس اطمأنوا وطابت خواطرهم ، وأما التجارة فإنها اتصلت بالعراق من سائر الممالك التي في حوزة الأمير تيمور بأمان وطمأنينة ...

والحاصل من النصوص المتقدمة عرفنا بعض الشيء عن فتح بغداد والاستيلاء عليها فصارت العراق ضمن ممتلكات تيمور وتحت سلطته وسيطرته ومن ثم استولى على أنحاء بغداد الأخرى وسار بعض أمرائه إلى واسط والبصرة .. وأما كثافة الجيش وكثرته فإنها لم تقف عند هذا الحد وإنما انتشرت في الأنحاء الأخرى ووجهتها الموصل وفي طريقها مضت إلى تكريت ... وأن تيمور توجه من بغداد إلى تكريت في ٢٤ ذي الحجة سنة ٧٩٥ ه‍ (١).

وفيات

١ ـ أحمد بن صالح البغدادي :

هو شهاب الدين أحمد خطيب جامع القصر ببغداد. كان من فقهاء الحنابلة مات قتيلا بأيدي اللنكية (جيوش تيمور لنك) لما هجموا على بغداد سنة ٧٩٥ ه‍ (٢).

__________________

(١) روضة الصفا ج ٦ ص ٦٧. وأورد المؤلف تعقيبا فيما يلي نصّه :

في تاريخ ابن الفرات في حوادث سنة ٧٩٥ ه‍ جاء ذكر لابن قشعم (ثامر) تألم من الأمير نعير ومن حكومة الشام ، فأمر عربانه بالرحيل إلى جهة نعير فجازوا على أملاكه بالبصرة فاستولوا عليها ونهبوها. وهناك تفصيلات عن آل مرى وعن نعير وأولاده مما لم نره في غيره (تاريخ ابن الفرات المجلد ٩ ج ٢ ص ٣٢٥ و٣٤٢).

وهكذا يستمر بسعة في حوادث بغداد والسلطان أحمد ... وفي هذا ما يعين أول علاقة لابن قشعم وإمارته بالعراق ، ولم يذكر اسم هذا الأمير في سلسلة الرؤساء الموجودين في المجلد الرابع ، فجاء في هذا ما يبين عن أحد رؤسائهم.

(٢) الدرر الكامنة ج ١ ص ١٤٢ ، الأنباء ج ١.

٢٢٧

٢٢٨

٢ ـ عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي :

هو الحافظ زين الدين عبد الرحمن البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي. ولد ببغداد سنة ٧٣٦ ه‍ ، وسمع بمصر ودمشق ورافق زين الدين العراقي في السماع كثيرا ومهر في فنون الحديث أسماء ورجالا وعللا وطرقا واطلاعا على معانيه. صنف شرح الترمذي فأجاد فيه في نحو عشرة أسفار وشرح قطعة كبيرة من البخاري وشرح الأربعين للنووي في مجلدة وعمل وظائف الأيام سماه اللطائف ، وعمل طبقات الحنابلة ذيلا على طبقات أبي يعلى. وكان صاحب عبادة وتهجد ، ونقم عليه إفتاؤه بمقالات ابن تيمية ، ثم أظهر الرجوع عن ذلك فنافره التيميون فلم يكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء فكان قد ترك الإفتاء بآخره ، وقال ابن حجر : أتقن الفن وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق وكان لا يخالط أحدا ولا يتردد إلى أحد ، مات في رمضان رحمه الله. تخرج به غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق. هذا ما ذكره في الأنباء بصورة القطع دون تردد إلا أنه في الدرر الكامنة اضطربت كلمته فإنه بعد أن ذكر اسمه بالوجه المذكور قال ويسمى عبد الرحمن بن الحسن بن محمد بن أبي البركات مسعود وبين أنه ولد في ربيع الأول سنة ٧٠٦ وفي مادة عبد الرحمن بن الحسن ترجمه أيضا .. وهنا لم يتثبت من صحة الإعلام فاقتضت الإشارة والشرح هنا ... (١).

٣ ـ عبد الرحيم ابن الفصيح :

عبد الرحيم بن أحمد بن عثمان بن إبراهيم بن الفصيح الهمداني الأصل ثم الكوفي ثم الدمشقي الحنفي. قدم أبوه وعمه دمشق فأقام بها وأسمع أحمد أولاده من شيوخ العصر بعد الأربعين وقدم عبد الرحيم هذا القاهرة في سنة ٧٩٥. وفي هذه السنة حدث عن أبي عمرو بن المرابط بالسنن الكبرى للنسائي بسماعه منه في ثبت كان معه وقد وقعت

__________________

(١) الدرر الكامنة ج ٢ ص ٣٢٢ وص ٣٢٧.

٢٢٩

على الأصل بخط والده وثبته سماعه وسماع ولده بخط وليس فيهم عبد الرحيم. فلعله في نسخة أخرى. وحدث عن محمد بن إسماعيل بن الخباز بمسند الإمام أحمد كله ، والاعتماد على ثبته أيضا ، وسمع منه غالب أصحابنا ثم رجع إلى دمشق فمات بها في شوال هذه السنة وهو والد صاحبنا شهاب الدين ابن الفصيح.

٤ ـ عمر بن نجم البغدادي :

عمر بن نجم بن يعقوب البغدادي نزيل الخليل ، يعرف بالمجر وكان مشهورا بالخير والعبادة مات في ذي الحجة وله ٦٣ سنة ...

حوادث سنة ٧٩٦ ه‍ ـ ١٣٩٣ م

وقائع العراق الأخرى

وقعة تكريت :

بعد حادث بغداد وتخلص الإدارة للأمير تيمور لم يستقر جيشه في مكانه كما هو شأنه وإنما سار إلى ديار بكر فاستولى عليها ... وفي الأثناء وجد أن قلعة تكريت قد عصت عليه وأنها لا تزال لم تذعن له بطاعة فسلط عليها مقدارا من عساكره فحاصروها يوم الثلاثاء ١٤ ذي الحجة من السنة الماضية فلم تسلم له بالأمان وصبر أهلها فراسلوا تيمور فأمدهم بأمير شاه ملك وأردفه بخواجة مسعود صاحب خراسان وأقام هو ببغداد إلى آخر السنة ... فسلمت له بالأمان في صفر هذه السنة وكان متوليها حسن بن بولتمور وكانوا قد عاهدوه أن لا يراق دمه فقتل هو ومن بها من رجال وسبى النساء وأسر الأطفال والحاصل دمر تيمور القلعة ومضى عنها (١).

وفي ابن خلدون : «وقد كان بعد ما استولى على بغداد زحف في

__________________

(١) عجائب المقدور ص ٤٧ ، والأنباء ج ١.

٢٣٠

عساكره إلى تكريت مأوى المخالفين وعش الحرابة ورصد السابلة وأناخ عليها بجموعه أربعين يوما فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من قتل منهم ثم خربها وأقفرها وانتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها.» ا ه.

وجاء في الأنباء أن تيمور في أول هذه السنة سار بنفسه وعساكره إلى تكريت ، وحاصرها في بقية المحرم كله ، ودخلها عنوة في آخر الشهر فقتل صاحبها وبنى من رؤوس القتلى مأذنتين وثلاث قباب ، وخربت البلد حتى صارت نفرة ، وكان استولى على قلعة تكريت وأميرها حسن ابن زليمور (١) ، فنزل بالأمان فأرسله إلى اللنك إلى دار دس عليه من هدمها ، ومات تحت الردم ، ثم أثخن في قتل الرجال وأسر النساء والأطفال ...

إربل :

وبعد وقعة بغداد سار عسكر تيمور إلى إربل فحاصرها فأطاعه صاحبها .. (٢) وجاء في روضة الصفا أن حاكم إربل الشيخ عليا جاء إلى الأمير تيمور وقدم له الهدايا اللائقة فقبلها منها وعادت إربل بلدة تابعة له ...

البصرة والبحرين :

ثم إن اللنك جهز ولده بعسكر حافل إلى صالح بن صيلان صاحب البصرة والبحرين فقاتلوه فهزمهم ، وأسر ولد تيمور لنك وجرح في إحضاره عز الدين ازدمر وجهز السلطان إليه بثلثمائة ألف درهم فضة برسم النفقة ، فبعث إليهم عسكرا آخر فظفر بهم ... (٣).

__________________

(١) جاء في عجائب المقدور بلفظ بولتمور كما تقدم.

(٢) الأنباء ج ١.

(٣) الأنباء ج ١. وعلق المؤلف على هذه الوقعة بما يلي : جاء ذكر هذه الوقعة في تاريخ ابن الفرات. فورد اسم الأمير صالح بن حولان بدل (صالح بن صيلان) ، ولا تزال التسمية ب (حولان) معروفة.

٢٣١

الموصل وما جاورها :

ثم إنه بعد الاستيلاء على تكريت جعل يعيث ويستأصل ما مر به حتى أناخ يوم الجمعة ١١ صفر سنة ٧٩٦ ه‍ في الموصل ... وكان واليها يارعلي جاء إليه أثناء حصار تكريت وقدم له هدايا تليق به .. فلم يبال بذلك .. وإنما خربها ودمرها ثم أتى رأس عين ونهبها وأسرها ثم تحول إلى الرها ودخلها يوم الأحد ١٠ ربيع الأول فزاد عيثا ... (١).

وفي الأنباء ثم نازل الموصل وصاحبها يومئذ علي بن برد خجا (خواجة) فصالحه وسار في خدمته ...

وقد مر ابن خلدون بهذه الحوادث مجملا قال : «نجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره فسرح بعض خواصه لتلقيه بالنفقات والأزواد وليستقدمه فقدم به إلى حلب وأراح بها ، وطرقه مرض أبطأ به عن مصر. وجاءت الأخبار بأن تيمور عاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة وأقفرت جوانب بغداد من العيث. ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ٧٩٦ ه‍ مستصرخا به على طلب ملكه والانتقام من عدوه فأجاب السلطان صريخه ونادى في عسكره بالتجهيز إلى الشام ... فاستوعب الحشد من سائر أصناف الجند واستخلف على القاهرة النائب سودون وارتحل إلى الشام على التعبية ومعه أحمد بن أويس ... ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وكان أوعز إلى جلبان صاحب حلب بالخروج إلى الفرات واستنفار العرب والتركمان للإقامة هناك رصدا للعدو ... وكان

__________________

(١) عجائب المقدور ص ٤٦ وروضة الصفا ج ٦ ص ٦٧.

٢٣٢

قد شغل العدو بحصار ماردين فأقام عليها أشهرا وملكها ... فارتحل إلى ناحية بلاد الروم ...» ا ه (١).

ولاية الخواجة مسعود ـ مال الأمان :

في هذه السنة في غرة صفر رحل الأمير تيمور عن بغداد بعد أن استصفى أموالها جميعها كذا في الغياثي. وجاء في روضة الصفا أنه رحل عن بغداد في ٢٤ ذي الحجة سنة ٧٩٥ ه‍ وتوجه نحو تكريت بالوجه المار وكان أرسل إليها بعض الأمراء ، وأخذ من الأهلين في بغداد مال الأمان. وقد قص الغياثي هذا الحادث بما نصه :

«دخل تيمور بغداد وأرمى على الأهلين مال الأمان (ضريبة حربية) فطالب أمراؤه الناس على غير طاقتهم. وكان المتولي ذلك شرف الدين البليقي (كذا) ومات في سبيل ذلك خلق من جراء التعذيب والعقوبة ، وذكروا أن الموكلين أرادوا تعذيب رجل فأراهم موضعا وقال احفروا ههنا. وأراد بذلك أن يشغلهم بالحفر عن تعذيبه ولم يكن له شيء فحفروا فلم يجدوا فأرادوا تعذيبه فأقسم لهم أن الذي يعرفه ههنا فحفروا ثاني مرة وعمقوا فوجدوا مالا عظيما ، وذهبا كثيرا. فمن كثرته شرحوا حاله عند تيمور فأحضر ذلك الشخص ، وسأله عن أصل هذا المال فقال لا أعلم له أصلا ، وإنما أردت أن يشتغلوا بالحفر عن تعذيبي فعند ذلك كف تيمور عن تعذيب الناس». ا ه.

ولما خرج تيمور من بغداد ولى بها الخواجة مسعود الخراساني ... (٢).

__________________

(١) ص ٥٥٦.

(٢) الغياثي ص ١٩٢ ـ ١٩٤.

٢٣٣

السلطان أحمد إلى هذه الأيام :

إن صاحب كتاب بزم ورزم كان في بغداد أيام الوقعة وفر مع من فر مع السلطان أحمد إلا أنه قبض عليه ... وهذا نعت أحمد لهذه المدة فقال ما ملخصه : إن السلطان أحمد من حين ملك زمام السلطنة واستولى على العراقين وآذربيجان صار يفتك بأمرائه الكبار ، وأعاظم رجاله ممن كانت لهم التدابير الصائبة ، والقدرة على إدارة المملكة الواحد بعد الآخر ولم يلتفت إلى أنهم كانوا أصحاب كفاءة ودراية ، وأنهم أهل الرأي الصائب. والتدبير اللائق .. كانوا معروفين في التزام الأخطار ، واقتحام الأهوال ، فأضاع تجاربهم ، وأغفل آراءهم ... وكانوا كما قال الأول (١) :

إذا ما عدوا بالجيش أبصرت فوقهم

عصائب طير تهتدي بعصائب

وهم يتساقون المنية بينهم

بأيديهم بيض رقاق المضارب

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

قتل هؤلاء الواحد بعد الآخر ، وأقام مقامهم الأذناب من المتجندة ، ومن أوباش الناس ممن هم غير معروفي المكانة ، ولا النسب ، وخاملو الذكر ، لا عقل لهم يدبرهم ، ولا شجاعة تؤهلهم .. عطل من الفضائل ... فنالوا المنازل الرفيعة بلا جدارة واستحقاق ...

إن سوء هذا التدبير كان أكبر باعث للعدول عن محجة الصواب ، فكثرت الفتن ، وزادت الاضطرابات فظهرت من كل صوب وانحلت الأمور ، والتذمرات بلغت حدها ...

ففي هذه الأيام ظهر تختاميش خان (توقتامش) في مائة ألف من الجند في ذي الحجة سنة ٧٨٧ ه‍ اجتاز بهم باب الأبواب وساق جيوشه

__________________

(١) هو الشاعر النابغة الذبياني.

٢٣٤

على تبريز دار الملك ، وكانت آنئذ أشبه بالجنة فأغاروا عليها ، قتلوا منها نحو عشرة آلاف من النفوس وفعلوا فعلات قاسية فأسروا أولاد المسلمين وذهبوا بهم إلى أقصى تركستان ولم يقصروا في هتك الأعراض ، وقتل الأبرياء ، وفعل الفساد ... فكانت هذه مقدمة الشرور ، وأول الآلام والرزايا على العباد والبلاد ... إذ تبعتها وقائع تيمور وأعوانه ... ولم يجد في القوم من يذب عن البلاد ...

وذلك أن وقعة تختاميش (توقتامش) لم يمض عليها تسعة أشهر (في سنة ٧٨٨ ه‍) إلا وظهرت في حدودها طامة كبرى ، وداهية عظمى ، جاء الأمير تيمور في جيش بلغت عدته ثلثمائة ألف فوصل همذان ، وهاجم تبريز على عجل فانهزم السلطان أحمد إلى بغداد فوصل الجغتاي والتتار أذربيجان فاستباحوها مدة ٤٠ يوما وقضوا على البقية الباقية من الحرب السابقة فكانت هذه الوقعة أشد قسوة ، وأبلغ في انتهاك الحرمات ، والمصادرات الشنيعة والمظالم الأليمة ... فلم يدعوا منكرا إلا فعلوه ، ولا فجورا إلا أتوه ، برزوا بمظهر أكبر ، وشناعة لا يستطيع القلم وصفها ...

ولم تقف الحوادث عند هذا الحد ففي ٢٠ شوال من سنة ٧٩٥ جاء البلاء ، وعمت المصيبة بغداد بهجوم جيش الأمير تيمور ، وذلك أن إيران أصابها سيل جارف من المغول والتتار فخرب بلادها وقلب ممالكها فقضى على ممالك فارس وكرمان وخوزستان ومازندران وأصفهان ، وهذه الويلات من تخريب ودمار مما لا يسع القول ذكرها لطولها ... وقصد همذان دار الملك فاكتسحها ومن ثم مال إلى بغداد.

وصلوا بغداد ، ولم يدعوا رطبا ولا يابسا إلا قضوا عليه فأهلكوا الحرث والنسل ، وأهلكوا المسلمين وأسروا من أبقوا عليه ، ونهبوا الأموال ... فهم في الحقيقة كما جاء في الآية : (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ

٢٣٥

مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) فانتهكوا كافة الحرمات ... وعليهم تصدق آية : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)).

أما السلطان أحمد فقد توالت على مملكته الأرزاء من حين ولي. وكان كما قدمنا صار يقتل بالأمراء الواحد إثر الآخر فحدث ما حدث من وقائع توختامش وتيمور فهرب إلى العراق وجاء بغداد ولكنه لم ينتبه من غفلته ولا التفت إلى ما أصابه وإنما تمادى في غيه وانهمك في ملاذه وما كان فيه من أنس ومجالس لهو كأنه خلق لهذه الأمور ومضت الحال عليه وهو غارق في بحر المعازف والملاهي ، وارتكاب المحرمات والمناهي بل مستغرق فيها استغراقا لا يكاد يكون معه صحو ... لحد أنه لم يلتفت ولو لحظة واحدة إلى إدارة الملك كأنه بعيد عنها لا تهمه .. ويرى وقته الثمين يجب أن لا يضيع في مثل هذه الالتفاتة. ومضت على ذلك مدة سبع سنوات وهو على ما عليه ...

ويصدق فيه ما قيل :

إذا غدا ملك باللهو مشتغلا

فاحكم على ملكه بالويل والحرب

أما ترى الشمس في الميزان هابطة

لما غدا برج نجم اللهو والطرب

ونتائج ذلك معلومة فقد سببت هذه الغفلة إهمال الأمور ، واختلال القواعد ، واضطراب الأوضاع وتشوش الأحوال ... وفي الوقت نفسه كسد سوق العلم ، وراج النفاق ، وضاعت الحكمة أو ابتذلت ... وأهملت الفضائل .. ومن ثم تسنم الجهال والمجاهيل أعلى المراتب ، وأسنى المناصب ... فجرى ما جرى ووقع ما وقع ... فلم يحصل مدافع عن حوزة البلاد ، ولا صادّ عن حريمه فصار الناس بين قتيل وأسير ، وكانت أموالهم نهبا وغنائم مقسمة وهكذا يقال عن الأمور الأخرى ... فضربت على القوم الذلة والمسكنة ...

٢٣٦

أصابته الضربة وهو على حين غفلة فلم يسعه إلا الفرار إلى بلاد الشام ، ولم ينتبه للحوادث قبل الواقعة ، وإنما أضاع الحزم ، وفقد العزم ...

وعاجز الرأي مضياع لفرصته

حتى إذا فات أمر عاتب القدرا

فلله العجب! لا برز بروز الشجاع ، ولا انهزم انهزام الحازم الجازم ، غفل سهوا ، واشتغل زهوا ولهوا ؛ حتى جرى ما جرى من تقلب الأحوال ؛ وتغلب الأهوال ، واستقلال الأراذل ، واستئصال الأفاضل ، وازدحام الفتن ، واقتحام المحن ، وهتك الأستار ، وقتل الأحرار ، وسبي الحرم ، وأسر الخدم والحشم ، وانحلال نظام الأمور ؛ واختلال مصالح الجمهور ؛ وانكسار الناموس ، وانحصار الناس في اليأس والبوس ، وتخريب البلاد ، وتعذيب العباد ، فبقيت المدارس مندرسة ؛ والخوانق مختنقة ؛ والبرايا عرايا ، والأجّلة أذلة ، والبدور أهلّة ، وبلغ الأمر إلى أن وقع في كربة الغربة ، وحرقة الفرقة ، وحيرة الغيرة ، وكسرة الحسرة ؛ ودهشة الوحشة ، وابتلي بالحور بعد الكور ، والذلة بعد العزة ؛ والقلة بعد البزة ، فأصبح نادما على ما فات ، وقال هيهات وهيهات «ما أغنى عني مالية ؛ هلك عني سلطانيه».

إلى الله أشكو عيشة قد تكدرت

عليّ ودهرا قد ألحت نوائبه

تكدر من بعد الصفاء نميره

وأحزن من بعد السهولة جانبه

أما ميران شاه ابن الأمير تيمور فإنه عبر الفرات ؛ وسار يتعقب أثر السلطان أحمد ... وهذا مال إلى طريق الشام فسلكه خائفا وجلا «كم دب يستخفي وفي الحلق جلجل» ، وناله من الندم ما ناله وأصابه من الرعب ما أصابه ... ولكن لم ينفع ذلك الندم «ولات حين مناص».

إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة

فلا تستعدن الحسام اليمانيا

ولا تستطيلن الرماح لغارة

ولا تستجيدن العتاق المذاكيا

٢٣٧

عثر عليهم القوم في صحراء كربلاء ؛ فلم ينج هو وأعوانه إلا بشق الأنفس ...

نسوا أحلامهم تحت العوالي

ولا أحلام للقوم الغضاب

إذا كانت دروعهم نحورا

فما معنى السوابغ في العياب

وعلى كل نجا السلطان أحمد من تلك المهلكة ، وأن أعوانه كل واحد منهم سلك ناحية ، فتفرقوا في الصحاري شذر مذر فاختفوا فيها .. الخ. ما جاء هناك مما ذكره المؤلف فكان مع القوم من ضرب إلى جهة النجف ولكنه ألقي القبض عليه وأحضر إلى ميران شاه في الحلة ومن ثم عفا عنه ميران شاه ؛ وعطف عليه بنظر عنايته ، ولحظه بعين رأفته فسلم من الأخطار ... كما قال ...

وهذا الجيش بعد أن أتم أعماله في بغداد من قلع ، وقتل ، وأسر مالت الجيوش إلى أنحاء ديار بكر فوصلوا جهات ماردين ... ومن هناك سنحت لصاحب الكتاب المذكور الفرصة للهزيمة وهم بين آمد وماردين وحدثته نفسه بذلك فسار ليلا ووصل قلعة صور ومنها توجه نحو سيواس فوصلها في ١١ شعبان سنة ٧٩٦ ه‍ (١). وبقي عند سلطانها وقدم له كتابه (بزم ورزم) وقد سبق وصفه.

ومن هذا النص المنقول عرفت حالة السلطان أحمد وأعتقد فيها الكفاية ...

وقائع تيمور الأخرى :

ثم إن تيمور لنك نزل رأس العين فملكها ونازل الرها فأخذها بغير قتال ووقع النهب والأسر وانتهى ذلك في أواخر صفر واتفق هجوم الثلج والبرد. ولما بلغ ذلك صاحب الحصن جمع خواصه وما عنده من

__________________

(١) بزم ورزم ص ١٧ : ٢٥.

٢٣٨

التحف والذخائر وقصد تيمور لنك ليدخل في طاعته فقرر ولده شرف الدين أحمد نائبا عنه وسار إلى أن اجتمع به بالرها فقبل هديته وأكرم ملتقاه ورعى له كونه راسله قبل جميع تلك البلاد. ثم خلع عليه وأذن له بالرجوع إلى بلاده وأصحبه بشحنة من عنده ثم قصده صاحب ماردين فتنكر له كونه تأخرت عنه رسله وتربص به حتى قرب منه فوكل به فصالحه على مال فوعده بإرساله إذا حضر المال فلما حضر زاد عليه في التوكيل والترسيل ثم أخذ في نهب تلك البلاد بأسرها. واستولى على بلاد الجزيرة والموصل وسار فيهم سيرة واحدة من القتل والأسر والسبي والنهب والتعذيب. ثم أقام على نصيبين في شدة الشتاء فلما أتى الربيع نازل ماردين في جمادى الآخرة فحاصرها وبنى قدامها جوسق يحاصرها منها ففتحوها عن قرب وقتل من الناس من لا يحصى عددهم وعصت عليه القلعة فرحل عنها ، ثم رحل إلى آمد فحاصرها إلى أن ملكها وفعل بها نحو ذلك. ثم توجه إلى خلاط ففعل بها نحو ذلك.

وسبب رجوعه عن البلاد الشامية أنه بلغه أن طقتمش (توقتامش) صاحب بلاد الدشت والسراي وغيرها مشى على بلاده فانثنى رأيه فقصد تبريز وصنع في بلاد الكرج عادته في غيرها من البلاد ثم رحل راجعا إلى تبريز فأقام بها قليلا ثم توجه قاصدا إلى قتال طقتمش خان صاحب السراي والقفجاق. وكان طقتمش قد استعد لحربه فالتقيا جميعا ودام القتال وكانت الهزيمة على القفجاق والسراي فانهزموا وتبعهم الجقطاي بآثارهم إلى أن ألجأوهم إلى داخل بلادهم وراسل اللنك صاحب سيواس القاضي برهان الدين أحمد يستدعي منه طاعته فلم يجبه وأرسل نسخة كتابه إلى الظاهر صاحب مصر ، وإلى أبي يزيد ملك الروم.

وفي رجب غلب على سائر القلاع وتوجه في ذي القعدة إلى بلاده وأمر بسجن الظاهر بمدينة سلطانية ...

٢٣٩

رسل تيمور ـ علاقات عراقية :

وفي هذه السنة وصل رسل تيمور لنك إلى الظاهر (برقوق) يتضمن الإنكار على إيواء أحمد بن أويس والتهديد إن لم يرسل إليه فجهز السلطان إليهم من أهلكهم قبل أن يصلوا إليه ؛ وأحضر إليه ما معهم من الهدايا فكان فيها ناس بزي المماليك فسألهم عن أحوالهم فقالوا إنهم من أهل بغداد ومن جملتهم ابن قاضي بغداد وإن تيمور لنك أسرهم واسترقهم فسلمهم السلطان لجمال الدين ناظر الجيش فألبس ابن قاضي بغداد بزي الفقهاء. وكان في كتاب تيمور لنك إيعاد وإرعاد. وفي أوله :

«قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اعلموا أنا جند الله خلقنا من سخطه ، وسلطان على من حل عليه غضبه ، لا نرق لشاكي ، ولا نرحم عبرة باكي» وهو كتاب طويل وفيه : ودعاؤكم علينا لا يستجاب فينا ولا يسمع فكيف يسمع الله دعاءكم وقد أكلتم الحرام وأكلتم أموال الأيتام ، وقبلتم الرشوة من الحكام ...» (١).

قال صاحب الأنباء : قلت وأكثر هذا الكتاب منتزع من كتاب هولاكو إلى الخليفة ببغداد ، وإلى الناصر بن العزيز بدمشق ، وهو من إنشاء النصير الطوسي.

وكتب جواب اللنك ابن فضل الله (العمري) وهو كلام ركيك ملفق غالبه غير منتظم لكن راج على أهل الدولة وقرىء بحضرة السلطان والأمراء فكان له عندهم وقع عظيم وعظموه جدا وأعادوه (٢) .. وتجهز السلطان إلى السفر ... ودخل دمشق ١٢ جمادى الأولى فأقام بدمشق خمسة أشهر وعشرة أيام واستسر الأخبار يتحقق رجوع اللنك فجهز

__________________

(١) أورده القرماني في أخبار الأول وآثار الدول بنصه ص ٢٠٦.

(٢) جاء نصه في أخبار الدول وآثار الأول صحيفة ٢٠٧ وذكر حضور الرسل في ١٣ صفر سنة ٧٩٩ ه‍ والصحيح ما جاء في الأنباء كما مذكور في الأصل ...

٢٤٠