العبّاس عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

العبّاس عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


المترجم: الشيخ محمّد الحسّون
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 964-95037-0-6
الصفحات: ٣٩١

وهكذا خلفاء النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المشاركون له في المآثر كُلِّها ما خلا النّبوَّة والأزواج (١) ومنه حال انقطاعهم عن عالَم الوجود بانتهاء أمد الفيض المُقدّس.

وممّا يشهد له أنّ الفضل بن العبّاس بن عبد المُطّلب كان يحمل الماء عند تغسيل النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، معاوناً لأمير المؤمنين عليه‌السلام على غسله ، ولكنّه عصبَ عينيه ؛ خشية العمَى إنْ وقع نظرُهُ على ذلك الجسد الطّاهر.

ومثله ما جاء في الأثر عن الإشراف على ضريح رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حذراً أنْ يرى النّاظر شيئاً فيعمى (٢) ، وقد اشتهر ذلك بين أهل المدينة ، فكان إذا سقط في الضريح شيءٌ أنزلوا صبيّاً وشدّوا عينيه بعصابة فيخرجه.

وهذه أسرار لا تصل إليها أفكار البشر ، وليس لنا إلاّ التسليم على الجملة ، ولا سبيل لنا إلى الإنكار بمجرّد بُعدنا عن إدراك مثلها ، خصوصاً بعد استفاضة النّقل في أنّ للنّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام بعد وفاتهم أحوالاً غريبةً ليس لسائر الخلق معهم شركة ، كحرمة لحومهم على الأرض ، وصعود أجسادهم إلى السّماء ، ورؤية بعضهم بعضاً ، وإحيائهم الأموات منهم بالأجساد الأصليّة عند الاقتضاء ؛ إذ لا يمنع العقل منه مع دلالة النّقل الكثير عليه واعتراف الأصحاب به (٣) ،

__________________

(١) في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «كلُّ ما كانَ للرَّسولِ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلنَا مثلُهُ ، إلاّ النّبوَّةَ والأزواجَ». المحتضر / ٤٧.

(٢) فقه الإمام الرضا عليه‌السلام لابن بابويه / ١٨٨ ، مُستدرَك الوسائل ٢ / ١٩٧ ، المُسترشد لابن جرير / ٣٣٦ ، بحار الأنوار ٢٢ / ٤٩٢.

(٣) قال الشيخ المفيد في أوائل المقالات / ٧٢ : والأئمّة عليهم‌السلام من عترته خاصّة لا

٢٠١

فيصار التحصّل : إنّ الحواس الظاهرة العاديّة لا تتحمّل مثل تلك الأمثلة القُدسية ـ وهي في حال صعودها إلى سبحات القُدس ـ إلاّ نفوس المعصومين عليهم‌السلام بعضها مع بعض دون غيرهم ، مهما بلغ من الخشوع والطاعة.

لكنّ (عباس المعرفة) الذي منحه الإمام عليه‌السلام في الزيارة أسمى صفة حظي بها الأنبياء والمقرّبون عليهم‌السلام ، وهي : (العبد الصالح) تسنّى له التوصّل إلى ذلك المحل الأقدس من دون أنْ يُذكر له تعصيبُ عينٍ أو إغضاءُ طرفٍ ، فشارك السّبط الشهيد عليه‌السلام ، والرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووصيه المُقدّم مع الروح الأمين عليه‌السلام ، وجملةَ الملائكة في غسل الإمام المجتبى الحسن السّبط صلوات اللّه عليهم أجمعين (١).

__________________

يخفى عليهم بعد الوفاة أحوال شيعتهم في دار الدنيا ، بإعلام اللّه تعالى لهم ذلك حالاً بعد حال ، ويسمعون كلام المُناجي لهم في مشاهدهم المُكرَّمة. وقال العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ٢٧ / ٣٠١ ، بعد ما نقل كلام الشيخ المفيد المُتقدّم : وهذا مذهبُ فقهاء الإماميّة كافّة وحملة الآثار منهم ، ولستُ أعرف فيه لمُتكلّميهم من قبل مقالاً ...

وفي كنز الفوائد للكراجكي ١ / ٢٤٦ ، ومنهج الرَّشاد لمَن أراد السّداد / ٥٦٢ ، وبصائر الدرجات للصفّار / ٤٤٥ : إنّ لحومهم مُحرّمة على الأرض ، وإنّها ترتفع إلى السّماء بعد ثلاثة أيّام.

وحُكي عن الشيخ الأعظم قدوة السّالكين المولى فتح علي ابن المولى حسن السّلطان آبادي : أنّه لمّا زار أمير المؤمنين عليه‌السلام ورجع إلى مشهد الحسين عليه‌السلام أسف على عدم مذاكرته مع علماء النّجف في مسألة بقاءِ جسد الإمام عليه‌السلام طريّاً أو أنّه يبلى ، فرأى في المنام أنّه داخلٌ إلى الروضة ، فرأى جسداً موضوعاً على الحصير والدَّمُ يجري من أعضائه ، فسأل عنه ، فقيل : إنّه جسد الحسين عليه‌السلام ، أما علمت أنّ أجسادَهم لا تبلى.

(١) روى الصفّار في بصائر الدرجات / ٢٤٥ عن الباقر عليه‌السلام : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام شاهد جبرائيلَ والملائكة يُعينونه على غسل النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتكفينهِ ، وحفر

٢٠٢

وهذه هي المنزلة الكبرى التي لا يحظى بها إلاّ ذَوو النّفوس القُدسيّة من الحُجج المعصومين عليهم‌السلام ، ولا غرو إنْ غبط أبا الفضل الصّدِّيقون والشُّهداء الصالحون.

وإذا قرأنا قول الحسين للعبّاس عليهما‌السلام ، لمّا زحف القوم على مخيّمه عشيّة التاسع من المُحرّم : «اركَبْ بنفسِي أنتَ يا أخي حتّى تَلقاهُمْ ... وتسألَهُمْ عمّا جاءَ بِهم». فاستقبلهم العبّاس في عشرين فارساً ، فيهم حبيب وزهير ، وسألهم عن ذلك ، فقالوا : إنّ الأمير يأمر إمّا النّزول على حكمه أو المُنازلة. فأخبر الحسينَ عليه‌السلام ، فأرجعه ليُرجئهم إلى غد (١).

__________________

القبر ونزولهم معه في القبر ، وكذا شاهدَهم مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الحسنُ والحسينُ عليهما‌السلام يُعينونهما على غسل أمير المؤمنين عليه‌السلام وتكفينه ، وشاهدَهم الحسينُ عليه‌السلام مع النّبي وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما) يُعينونه على غسل الحسن عليه‌السلام ، وشاهدهم الباقرُ عليه‌السلام مع النّبيِّ وأمير المؤمنين ، والحسن والحسين (صلوات الله عليهم) يُعينونه على غسل أبيه السجّاد عليه‌السلام.

(١) تاريخ الطبري ، ونصّ العبارة ، قال : وأقبل العبّاسُ بن عليٍّ يركض حتّى انتهى إليهم ، فقال : يا هؤلاء القوم ، إنّ أبا عبد اللّه يسألُكم أنْ تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ينظر في هذا الأمر ؛ فإنّ هذا أمرٌ لمْ يجرِ بينكم وبينه فيه منطقٌ ، فإذا أصبحنا التقينا إنْ شاء اللّه ؛ فإمّا رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه ، أو كرهنا فرددناه.

وإنّما أراد بذلك أنْ يردّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويُوصي أهله ، فلمّا أتاهم العبّاس بنُ عليٍّ بذلك ، قال عمر بن سعد : ما ترى يا شمر؟ قال : ما ترى أنت ؛ أنت الأمير والرَّأيُ رأيُك. قال : أردت ألاّ أكون. ثُمّ أقبل على النّاس ، فقال : ماذا ترَون؟ فقال عمرو بن الحجّاج بن سلمة الزبيدي : سبحان اللّه! واللّه ، لو كانوا من الدَّيلم ثمّ سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أنْ تُجيبهم إليها ... وكان العبّاسُ بنُ عليٍّ حين أتى حُسيناً بما عرض عليه عمر بن سعد ، قال : «ارجعْ إليهِمْ ، فإنْ استطعتَ أنْ تُؤخِّرَهُمْ إلى غدْوَةٍ وتدفَعَهُمْ عنّا العشيّةَ ؛ لَعلَّنا نُصلِّي لربِّنا اللَّيلةَ ونَدعُوهُ ونَستغفِرُهُ ؛ فهو يعلمُ أنِّي كُنتُ اُحبُّ الصّلاةَ له وتلاوةَ كتابِهِ ، وكثرةَ الدُّعاءِ والاسْتغفارِ».

٢٠٣

فإنّك ترى الفكر يسفُّ عن مدى هذه الكلمة ، وأنّى له أنْ يُحلّق إلى ذروة الحقيقة من ذاتٍ مُطهّرة تفتدى بنفس الإمام عليه‌السلام علّة الكائنات ، وهو الصادرُ الأوّل ، والمُمكنُ الأشرف ، والفيض الأقدس للمُمكنات : «بكُمْ فتَحَ اللّهُ وبكُمْ يَخْتمُ» (١).

نعم ، عرفها البصير النّاقد بعد أنْ جرّبها بمحكِّ النّزاهة ، فوجدها غير مشوبة بغير جنسها ، ثُمّ أطلق تلك الكلمة الذهبيّة الثمينة (ولا يعرف الفضلَ إلاّ أهلُهُ).

ولا يذهب بك الظنّ ـ أيّها القارئ الفطن ـ إلى عدم الأهمّيّة في هذه الكلمة بعد القول في زيارة الشُّهداء من زيارة وارث : «بأبي أنتُمْ واُمِّي! طُبتُمْ وطابتْ الأرضُ الّتِي فيهَا دُفنتُمْ».

فإنّ الإمام عليه‌السلام في هذه الزيارة لم يكن هو المخاطِب لهم ، وإنّما هو عليه‌السلام في مقام تعليم صفوان الجمّال عند زيارتهم أنْ يُخاطبهم بذلك الخطاب ؛ فإنّ الرواية جاءت ـ كما في مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي ـ أنّ صفوان قال : استأذنتُ الصادقَ عليه‌السلام لزيارة الحسين عليه‌السلام وسألتُهُ أنْ يُعرّفني ما أعمل عليه.

فقال عليه‌السلام له : «يا صفوان ، صُمْ قبل خروجِكَ ثلاثةَ أيّام ...». إلى أنْ قال : «ثُمّ إذا أتيتَ الحائرَ ، فقُلْ : اللّهُ أكبرُ كبيراً». ثُمّ ساق الزيارة إلى أنْ قال : «ثُمّ اخرُجْ مِنْ البابِ الذي يلي رجْلَي عليِّ بنِ الحُسينِ ، وتوجّه إلى الشُّهداءِ ، وقُلْ : السّلامُ عليكُمْ يا أولياءَ اللّهِ ...» إلى آخره.

فالصادق عليه‌السلام في مقام تعليم صفوان أنْ يقول في السّلام على

__________________

(١) الكافي ٤ / ٥٧٦ ، ح ٢ ، عيون أخبار الرض عليه‌السلام ١ / ٣٠٨ ، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ٦ / ٥٥.

٢٠٤

الشُّهداء ذلك ، وليس في الرواية ما يدلّ على أنّ الصادق عليه‌السلام ماذا يقول لو أراد السّلام عليهم.

وهنا ظاهرةٌ اُخرى دلّت على منزلة كُبرى للعبّاس عند سيّد الشُّهداء عليه‌السلام ؛ ذلك أنّ الإمام الشهيد عليه‌السلام لمّا اجتمع بعمر بن سعد ليلاً وسط العسكرين ؛ لإرشاده إلى سبيل الحقِّ ، وتعريفه طغيان ابن ميسون ، وتذكيره بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقِّه ، أمر عليه‌السلام مَن كان معه بالتنحّي إلاّ العبّاس وابنه علياً ، وهكذا صنع ابن سعد ، فبقي معه ابنه وغلامه.

وأنت تعلم أنّ ميزة أبي الفضل على الصحب الأكارم ، وسروات المجدِ من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين شهد لهم الحسين عليه‌السلام باليقين والصدق في النّيّة والوفاء (١) ، غير أنّه عليه‌السلام أراد أنْ يوعز إلى الملأ من بعده ما لأبي الفضل وعلي الأكبر من الصفات التي لا تحدّها العقول.

ومن هذا الباب ، لمّا خطب يوم العاشر ، وعلا صراخ النّساء وعويل الأطفال حتّى كان بمسامع الحسين عليه‌السلام ، وهو ماثل أمام العسكر ، أمر أخاه العبّاس أنْ يُسكتهنَّ ؛ حذار شماتة القوم إذا سمعوا ذلك العويل ، وغيرةً على نواميس حرم النّبوَّة أنْ يسمع أصواتهنّ الأجانب.

ولو رمتَ تحليلاً لتأخّر شهادة العبّاس عن جميع الشُّهداء ، وهو حامل تلك النّفس النّزّاعة إلى المفادات والتهلكة دون الدِّين ، فلا يمكنه حينئذ التأخّر آناً ما ، فكيف بطيلة تلك المدّة ، وبمرأى منه مصارعُ آل اللّه ونشيج الفواطم ، وإقبال الشرّ من جميع نواحيه ، واضطهاد حجّة الوقت بما يراه من المناظر الشبحية ؛ والواحدة من

__________________

(١) لعلّ جواب قول المُصنّف : وأنت تعلم ... واردٌ هنا ، وقد سقط من الطبعة السّابقة ، وتقديره : (معلومة) ، أي : أنّ منزلة أبي الفضل ... معلومةٌ.

٢٠٥

ذلك لا تترك (لحامل اللواء) مساغاً عن أخذ الترات آناً ما.

لكنْ أهميّة موقفه عند أخيه السّبط عليه‌السلام هو الذي أرجأ تأخيره عن الإقدام ؛ فإنّ سيّد الشُّهداء عليه‌السلام يعدّ بقاءه من ذخائر الإمامة ، وأنّ موتته تفتّ في العضد ، فيقول له : «إذا مَضيْتَ تفرّقَ عَسْكرِي». حتّى إنّه في السّاعة الأخيرة لم يأذنْ له إلاّ بعد أخذٍ وردٍّ.

وإنّ حديث (الإيقاد) لسيّدنا المتتبّع الحجّة السيّد محمّد علي الشاه عبد العظيم قدس‌سره يوقفنا على مرتبة تُضاهي مرتبة المعصومين عليهم‌السلام ؛ ذلك لمّا حضر السجّاد عليه‌السلام لدفن الأجساد الطاهرة ، ترك مساغاً لبني أسد في نقل الجثث الزواكي إلى محلِّها الأخير ، عدى جسد الحسين وجثّة عمّه العبّاس عليهما‌السلام ، فتولّى وحده إنزالهما إلى مقرّهما ، أو اصعادهما إلى حضيرة القدس ، وقال : «إنّ مَعِي مَنْ يُعينُنِي».

أمّا الإمام عليه‌السلام فالأمر فيه واضح ; لأنّه لا يلي أمرَه إلاّ إمامٌ مثلُه ، ولكنْ الأمر الذي لا نكاد نصل إلى حقيقته وكنهه ، فعله بعمِّه الصدّيق الشهيد مثل ما فعل بأبيه الوصيِّ عليهما‌السلام ، وليس ذلك إلاّ لأنّ ذلك الهيكل المُطهّر لا يمسّهُ إلاّ ذواتٌ طاهرة في ساعة هي أقرب حالاته إلى المولى سبحانه ، ولا يدنو منه مَنْ ليس مِن أهل ذلك المحلّ الأرفع.

ولم تزل هذه العظمة محفوظةً له عند أهل البيت عليهم‌السلام دنياً وآخرة ، حتّى إنّ الصّدِّيقة الزَّهراء سلام اللّه عليها لا تبتدأ بالشكاية بأيِّ ظُلامةٍ من ظُلامات آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهي لا تُحصى ـ إلاّ بكفَّي أبي الفضل المقطوعتين ، كما في الأسرار ص ٣٢٥ ، وجواهر الإيقان ص ١٩٤ ، وقد ادَّخرتهما [ليكونا] مِن أهم أسباب الشّفاعة يوم يقوم النّاس لربِّ العالمين.

٢٠٦

العصمة

إنّ مِنَ المُمكنَ جدّاً وليس بمحال على اللّه تعالى ، أنْ يُنشىء كياناً لا تقترب منه العيوب ، أو يخلق إنساناً لا يقترف الذنوب ، ولقد أوجد جلّ شأنه ذواتاً مُقدّسةً ، ونفوساً طاهرةً ، وجبت فيهم العصمة من الآثام ، وتنزّهوا عن كُلِّ رجس : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١).

وقد اتَّفق أرباب الحديث والتراجم على حصر هؤلاء المُنزّهين بالخمسة أصحاب الكساء ، وهُمْ : محمّدٌ وعليٌّ ، وفاطمةُ ، والحسنُ والحسينُ عليهم‌السلام.

ثُمّ أثبت أصحاب السّيرة ما يُضحك الثكلى ويلحق بالخرافات ، فكان للغيرِ مجالُ الطعن والمناقشة ، ذكروا أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا بلغ من العمر سنتين ، وكان خلف البيوت عند بني سعد مع أترابٍ له ، أتاه رجلان عليهما ثيابٌ بيض ، مع أحدهما طست من ذهب مملوء ثلجاً ، فشقّا بطنه وقلبه ، واستخرجا منه علقة سوداء هي مغمز الشيطان!

وطربوا لذلك ؛ حيث إنّ اللّه بلطفه وكرمه قدّس نبيّه الكريم من هذه العلقة! ولكن ما أدري لماذا صنع به هذه العملية الدامية وهو طفلٌ صغير لا يقوى على تحمّل الآلام ومعانات الجروح الدامية؟! ألم

__________________

(١) سورة الأحزاب / ٣٣.

٢٠٧

يكُنْ في وسع القدرة الإلهيّة إيجاد ذات مقدّسة طاهرة من الأرجاس حتّى عن هذه العلقة المُفسّرة بمغمز الشيطان؟! كيف لا وقد خلقه اللّه من نور قدسه ، وبرّأه من جلال عظمته ، واصطفاه من بين رسله ، وفضّله على العالمين! وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ اللّهَ خلَقني مِنْ صفوةِ نورِهِ ، ودعانِي فأطعتهُ». وحينئذ فهل يُتصور نقصٌ في النّور الأقدس؟! تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

تِلكَ نَفسٌ عَزّتْ عَلى اللّهِ قَدْراً

فارتَضاهَا لِنفسهِ واصْطفَاهَا

حَازَ مِنْ جَوْهَرِ التَّقدّسِ ذَاتَاً

تاهتِ الأنبياءُ فِي مَعناهَا

لا تَجلْ فِي صِفاتِ أحمدَ فِكَراً

فَهي الصُّورةُ الّتي لَنْ تَراهَا

وأغرب من ذلك جواب السّبكي عن هذه المشكلة : بأنّ اللّه أراد أنْ يخلق نبيّه ـ أوّلاً ـ كاملاً لا نقصان فيه عن سائر النّاس حتّى في مثل هذه العلقة ؛ لكونها من الأجزاء ، ثُمّ بعد ذلك طهّره منها!

والعجب عدّ هذه العلقة من أجزاء بدن الإنسان التي يُوجب فقدُها نقصانَ الخلقة ، وقد تنزّه عنها جلال النّبوَّة!

على أنّه أثبت ولادة النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مختوناً ، وهذا أظهر في النّقصان عمّا وجد عليه البشر من العلقة ؛ لكونها غير مرئية.

وجواب الحلبي في السّيرة ج ١ ص ١١٥ بأنّه إنّما وُلد مختوناً لئلاّ يطّلع عليه المَحْرَم وتنكشف عورتُهُ ، لا يرفع إشكال النّقصان عمّا عليه النّاس.

وكيف كان فقد ثبت إمكان أنْ يخلق اللّه تعالى ذواتاً مقدّسة ، مُنزّهة عن الأرجاس ، معصومة عن الخطأ ، وقد يجب ذلك كما في

٢٠٨

الهداة المعصومين عليهم‌السلام ؛ لكي يهدي بهم النّاس (١).

وأمّا في غيرهم من الأطهار فلا يجب ، ولكنّه غير ممتنع ؛ فمِن المُمكن أنْ يمنحَ الباري سبحانه أفذاذاً من البشر فيكونوا قدوةً لمَن هم دونهم ، وتكون بهم الاُسوة في عمل الصالحات ، وإنْ كان في مرتبة نازلة عن منزلة الأنبياء المعصومين عليهم‌السلام ؛ فإنّهم وإنْ بلغوا بسبب التفكير والذكر المتواصل ، والتصفية والرياضة إلى حيث لا يُبارحون طريق الطاعة ، ولا يسلكون إلى المعصية طريقاً ، لكنّهم في حاجة إلى مَن يسلك بهم السّبيل الواضح ، ويُميّز لهم موارد الطَّاعة وموادّها عن مساقط العصيان والتهلكة ، بخلاف الحُججِ المُقيَّضين لإنقاذ البشر ، المعنيّون بالعصمة ها هنا.

فمَن كانت عصمتُهُ واجبةً ـ كما في المعصومين عليهم‌السلام ـ سُمّيت عصمته استكفائية ; لأنّه لا يحتاج في سلوكه إلى الغير ، لكونه في غنىً عن أيّ حجّة ؛ لتوفّر ما اُفيض عليهم من العلم والبصائر ، ومَن لم تكنْ فيه العصمة واجبة ، وكان مُحتاجاً إلى غيره في سلوكه وطاعته ، سُمّيت عصمته غير استكفائية ، على تفاوتٍ في مراتبهم من حيث المعرفة والعلم واليقين.

وحينئذ ليس من البدع إذا قلنا : إنّ (قمر بني هاشم) كان

__________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٨٧ ، البداية والنّهاية ٢ / ٣٢٥ ، إمتاع الأسماع للمقريزي ٤ / ٥٧ ، مجمع الزوائد للهيثمي ، وهو ليس تعليلاً من النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما حديث مروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورد فيه : «مِنْ كَرامَتي على ربِّي عزَّ وجل أنْ وُلدتُ مختوناً ، ولم يرَ أحدٌ سَوأتي». وقد اختلفوا في تصحيح هذا الخبر وتضعيفه ، ففي السّيرة الحلبيّة في نفس المصدر قال : ... جاءت أحاديث كثيرة في ذلك ، قال الحافظ ابن كثير : فمِن الحفّاظ مَن صحَّحها ، ومنهم مَن ضعَّفها ...

٢٠٩

مُتحلِّياً بهذه الحلية ، بعد أنْ يكون مُصاغاً من نور القداسة الذي لا يمازجه أيُّ شين ، وعلى هذا كان معتقد شيخ الطَّائفة وإمامها الحجّة الشيخ محمّد طه نجف قدس‌سره ؛ فإنّه قال بترجمة العبّاس من كتاب (إتقان المقال) ص ٧٥ : هو أجلّ من أنْ يُذكر في المقام ، بل المناسب أنْ يُذكر عند ذكر أهل بيته المعصومين عليه وعليهم أفضل التحية والسّلام.

فتراه لم يقلْ عند ذكر رجالات أهل بيته الأعاظم ، بل أثبت المعصومين عليهم‌السلام منهم ، وليس هذا العدول إلاّ لأنّه يرتأي أنْ يجعله في صفِّهم ، ويعدُّه منهم.

وتابعه على ذلك العلاّمة ميرزا محمّد علي الاُوردبادي ، فقال من قصيدته المُتقدّمة :

أجلَّ عبّاسَ الكِتَابُ والهُدَى

والعِلْمُ والدَّينُ وأصحَابُ العَبا

عَنْ أنْ يطِيشَ سَهمُهُ فَينثَنِي

والإثمُ قَد أثقَلَ مِنهُ مَنْكِبَا

لم نَشتَرِط فِي ابنِ النّبيِّ عُصمةً

ولا نَقولُ إنّه قَد أذْنَبَا

وَلا أَقولُ غَيرَ مَا قَالَ بِهِ

(طَه الإمامُ) فِي الرِّجَالِ النُّجبَا

فَالفِعْلُ مِنهُ حُجّةٌ كَقولِهِ

فِي الكُلِّ يَروِي عَن ذَويِهِ النُّقَبَا

وهذه النّظرية في أبي الفضل لم ينكرها عالمٌ من علماء الشيعة نعرفه بالثقافة العلميّة ، والتقدّم بالأفكار النّاضجة ، وقد استضأنا من اُرجوزة آية اللّه الحجّة الشيخ محمّد حسين الأصفهاني رحمه‌الله ، التي ستقرأها في فصل المديح ، حقائقَ راهنة وكرائمَ نفيسة سمت بأبي الفضل إلى أوج العظمة ، وأخذت به إلى حظائر القدس ، وصعدت به إلى أعلى مرتبة من العصمّة.

٢١٠

وممّا يزيدنا بصيرة في عصمته ، ما ذكرناه سابقاً في شرح قول الصادق عليه‌السلام : «لَعنَ اللّهُ اُمّةً استحلَّتْ منكَ المَحارمَ ، وانْتَهكَتْ في قتلِكَ حُرمةَ الإسلامِ».

فإنّ حُرمة الإسلام لا تُنتهك بقتل أيِّ مسلم مهما كان عظيماً ، ومهما كان أثره في الإسلام مشكوراً ، إلاّ أنْ يكون هو الإمام المعصوم عليه‌السلام ، فلو لم يبلغ العبّاس المراتب السّماوية في العلم والعمل لمقام أهل البيت عليهم‌السلام لما استحقّ هذا الخطاب ، وهذا معنى العصمة ؛ نعم ، هي غير واجبة. وممّا يستأنس منه العصمة له ما تقدّم من قول السجّاد عليه‌السلام : «وإنّ لعمّي العبّاسِ منزلةً يغبطُهُ عليها جميعُ الشُّهداء يومَ القيامة» (١).

ويدخل في عموم لفظ الشُّهداء صريحة بيت الوحي (أبو الحسن علي الأكبر) الذي أفضنا القول في عصمته.

وإذا كان العبّاس غير معصوم ، كيف يغبطه المعصوم عليه‌السلام على ما اُعطي من رفعة ومقام عالي ؛ لأنّ المعصوم لا يغبط غيره؟! فلا بدّ أن للعبّاس أعلى مرتبة من العصمة كما عرفت ، ومن هنا غبط منزلته التي اُعدّت له جميع الشُّهداء حتّى مَن كان معصوماً كعلي الأكبر وأمثاله ، غير الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين.

__________________

(١) الأمالي للشيخ الصدوق / ٥٤٨ ، الخصال / ٦٨ ، بحار الأنوار ٢٢ / ٢٧٤ ، والنّص : «وإنّ للعبّاسِ عند اللّه تبارك وتعالى منزلةً عظيمةً يغبطُهُ بها جميعُ الشُّهداءِ يومَ القيامة».

٢١١

الكرامات

من سُنن اللّه الجارية في أوليائه : (ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (١) إكرامهم بإظهار ما لهم من الكرامة عليه والزلفى منه ، وذلك غير ما ادّخره لهم من المثوبات الجزيلة في الآجلة ؛ تقديراً لعملهم ، وإصحاراً بحقيقة أمرهم ومبلغ نفوسهم من القوّة ، وحثّاً للملأ على اقتفاء آثارهم في الطاعة.

ومهما كان العبد يخفي الصالحات من أعماله فالمولى سبحانه يراغم ذلك الإخفاء بإشهار فضله ، كما يقتضيه لطفه الشامل ورحمته الواسعة وبرّه المتواصل ، وأنّه ـ جلّت آلاؤه ـ يُظهر الجميل من أفعال العباد ، ويزوي القبيح ؛ رأفة منه وحناناً عليهم.

ومن هذا الباب ما نجده على مشاهد المُقرّبين وقباب المُستشهَدين في سبيل طاعته ؛ من آثار العظمة ، وآيات الجلالة ، من إنجاح المُتوسّل بهم إليه تعالى شأنه ، وإجابة الدعوات تحت قبابهم المُقدّسة ، وإزالة المثُلات ببركاتهم ، وتتأكّد الحالة إذا كان المشهد لأحد رجالات البيت النّبويِّ ; لأنّه جلّت حكمته ذرأ العالمين

__________________

(١) سورة فاطر / ٤٣.

٢١٢

لأجلهم ، ولأنْ يعرفوا مكانتهم ، فيحتذوا أمثالهم في الأحكام والأخلاق ، فكان من المُحتّم في باب لطفه وكرمه ـ عظمت نعمُهُ ـ أنْ يصحرَ النّاس بفضلهم الظاهر.

ومن سادات ذلك البيت الطاهر ، الذي أذن اللّه أنْ يُرفع فيه اسمه ، أبو الفضل العبّاس ، فإنّه في الطليعة من اُولئك السّادات ، وقد بذل في اللّه ما عزّ لديه وهان حتّى اتّصلت النّوبة إلى نفسه الكريمة التي لفظها نصب عينه ـ عزّ ذكره ـ ، فأجرى سنَّته الجارية في الصدِّيقين فيه بأجلى مظاهره ؛ ولذلك تجد مشهده المُقدّس في آناء الليل وأطراف النّهار مزدلف أرباب الحوائج ؛ من عافٍ يستمنحه برَّه ، إلى عليلٍ يتطلّب عافيته ، إلى مُضطَهدٍ يتحرّى كشف ما به من غمٍّ ، إلى خائفٍ ينضوي إلى حمى أمنه ، إلى أنواع من أهل المقاصد المتنوّعة ، فينكفأ ثلج الفؤاد بنُجح طلبته ، قرير العين بكفاية أمره إلى مُتنجّز بإعطاء سؤله ، كلّ هذا ليس على اللّه بعزيز ، ولا من المُقرّبين من عباده ببعيد.

ولكثرة كراماته وآيات مرقده التي لا يأتي عليها الحصر ، نذكر بعضاً منها تيمّناً ؛ ولئلاّ يخلو الكتاب منها ، وتعريفاً للقرَّاء بما جاد به قطبُ السّخاءعلى مَن لاذ به واستجار بتربته :

الاُولى : ما يُحدّث به الشيخ الجليل العلاّمة المتبحّر الشيخ عبد الرحيم التستري ، المُتوفّى سنة ١٣١٣ هـ ، من تلامذة الشيخ الأنصاري أعلى اللّه مقامه ، قال :

زرتُ الإمام الشهيد أبا عبد اللّه الحسين عليه‌السلام ، ثُمّ قصدت أبا الفضل العبّاس عليه‌السلام ، وبينا أنا في الحرم الأقدس إذ رأيتُ زائراً من الأعراب

٢١٣

ومعه غلامٌ مشلولٌ ، وربطه بالشباك ، وتوسّل به وتضرّع ، وإذا الغلام قد نهض وليس به علّة ، وهو يصيح : شافاني العبّاس. فاجتمع النّاس عليه ، وخرّقوا ثيابه للتبرّك بها.

فلمّا أبصرت هذا بعيني ، تقدّمت نحو الشباك وعاتبته عتاباً مُقذعاً ، وقلت : يغتنم (المعيدي) الجاهل منك المُنى وينكفأ مسروراً ، وأنا مع ما أحمله من العلم والمعرفة فيك ، والتأدّب في المثول أمامك ، أرجع خائباً لا تقضي حاجتي؟! فلا أزورك بعد هذا أبداً. ثُمّ راجعتني نفسي ، وتنبّهت لجافّي عتبي ، فاستغفرت ربي سبحانه ممّا أسأت مع (عباس اليقين والهداية).

ولمّا عُدت إلى النّجف الأشرف ، أتاني الشيخ المرتضى الأنصاري ، قدّس اللّه روحه الزاكية ، وأخرج صرّتين ، وقال : هذا ما طلبته من أبي الفضل العبّاس ، اشتري داراً ، وحجّ البيت الحرام ، ولأجلهما كان توسّلي بأبي الفضل (١).

ومَا عَجِبتُ مِنْ أبي الفَضلِ كَما

عَجبتُ مِنْ اُستَاذِنَا إذ عَلما

لأنّ شِبلَ المُرتَضى لَمْ يَغربِ

إذا أتى بمُعجِزٍ أو مُعْجَبِ

بِكُلِّ يَومٍ بَلْ بِكُلِّ سَاعهْ

لَمَن أتَاهُ قَاصِداً رِبَاعَهْ

وهُوَ مِن الشَّيخِ عَجِيبٌ بَيّنْ

لكنَّ نُورَ اللّهِ يَرنُو المُؤمِنْ (٢)

الثانية : ما في أسرار الشهادة ص ٣٢٥ ، قال : حدّثني السيّد

__________________

(١) طُبعت هذه الكرامة مع صلاة الشيخ الأنصاري ، وذكرها في الكبريت الأحمر ج ٣ ص ٥٠ ، قال : وذكرها عنه جماعة من أكابر العلماء والثّقات المُتديّنين.

(٢) للعلاّمة الشيخ محمّد السّماوي.

٢١٤

الأجل ، العلاّمة الخبير ، السيّد أحمد ابن الحُجّة المُتتبّع السيّد نصر اللّه المُدرّس الحائري ، قال : بينا أنا في جمع من الخُدّام في صحن أبي الفضل عليه‌السلام ، إذ رأينا رجلاً خارجاً من الحرم مُسرعاً ، واضعاً يده على أصل خنصره والدَّم يسيل منه ، فأوقفناه نتعرّف خبره ، فأعلمنا بأنّ العبّاس قطعه ، فرجعنا إلى الحرم فإذا الخنصر معلّق بالشباك ولم يقطر منه دمٌ ، كأنّه قُطع من ميّت ، ومات الرجل من الغد ؛ وذلك لصدور إهانة منه في الحرم المُقدّس.

الثالثة : ما حدّثني به العلاّمة البارع الشيخ حسن دخيل حفظه اللّه عمّا شاهده بنفسه في حرم أبي الفضل عليه‌السلام ، قال : زرت الحسين عليه‌السلام في غير أيّام الزيارة ، وذلك في أواخر أيّام الدولة العثمانيّة في العراق ، في فصل الصّيف ، وبعد أنْ فرغت من زيارة الحسين عليه‌السلام توجّهت إلى زيارة العبّاس عليه‌السلام قرب الزوال ، فلم أجد في الصحن الشريف والحرم المُطهّر أحداً ، لحرارة الهواء ، غير رجل من الخَدَمة واقف عند الباب الأوّل ، يُقدّر عمره بالسّتّين سنة ، كأنّه مراقبٌ للحرم ، وبعد أنْ زرتُ صلّيت الظهر والعصر ، ثُمّ جلست عند الرأس المُقدّس مُفكِّراً في الاُبّهة والعظمة التي نالها قمر بني هاشم عن تلك التضحية الشريفة.

وبينا أنا في هذا إذ رأيت امرأة مُحجّبة من القرن إلى القدم ، عليها آثار الجلالة ، وخلفها غلام يُقدّر بالسّتّة عشر سنة بزيِّ أشراف الأكراد ، جميل الصورة ، فطافت بالقبر والولد تابع.

ثُمّ دخل بعدهما رجل طويل القامة ، أبيض اللون مُشرباً بحمرة ، ذو لحيةٍ ، شعره أشقر يُخالطه شعرات بيض ، جميل

٢١٥

البزّة ، كردي اللباس والزَّيِّ ، فلم يأت بما تصنعه الشيعة من الزيارة أو السُّنّة من الفاتحة ، فاستدبر القبر المُطهّر ، وأخذ ينظر إلى السّيوف والخناجر والدرق المُعلّقة في الحضرة ، غير مُكترثٍ بعظمة صاحب الحرم المنيع ، فتعجّبتُ منه أشدّ العجب ، ولم أعرف الملّة التي ينتحلها ، غير أنّي اعتقدت أنّه من مُتعلّقي المرأة والولد.

وظهر لي من المرأة ، عند وصولها في الطواف إلى جهة الرأس الشريف ، التعجّب ممّا عليه الرجل من الغواية ، ومن صبر أبي الفضل عليه‌السلام عنه ، فما رأيت إلاّ ذلك الرجل الطويل القامة قد ارتفع عن الأرض ، ولم أرَ مَن رفعه وضرب به الشباك المُطهّر ، وأخذ ينبح ويدور حول القبر وهو يقفز ، فلا هو بملتصقٍ بالقبر ولا بمُبتعدٍ عنه ، كأنّه مُتكهربٌ به ، وقد تشنّجت أصابعُ يديه ، وأحمرّ وجههُ حُمرةً شديدة ، ثُمّ صار أزرقاً ، وكانت عنده ساعة علّقها برقبته بزنجيل فضّة ، فكُلّما يقفز تضرب بالقبر حتّى تكسّرت ، وحيث إنّه أخرج يده من عباءته لم تسقط إلى الأرض ؛ نعم ، سقط الطرف الآخر إلى الأرض ، وبتلك القفزات تخرّقت.

أمّا المرأة ، فحينما شاهدت هذه الكرامة من أبي الفضل عليه‌السلام قبضت على الولد ، وأسندت ظهرها إلى الجدار ، وهي تتوسّل به بهذه اللهجة : (أبو الفضل دخيلك أنا وولدي).

فأدهشني هذا الحال ، وبقيت واقفاً لا أدري ما أصنع ، والرجل قويُّ البدن ، وليس في الحرم أحدٌ يقبض عليه ، فدار حول القبر مرّتين وهو ينبح ويقفز ، فرأيت ذلك السيّد الخادم الذي كان واقفاً عند الباب الأوّل دخل الروضة الشريفة ، فشاهد الحال فرجع

٢١٦

وسمعته يُنادي رجلاً اسمه جعفر ـ من السّادة الخُدّام في الروضة ـ فجاءا معاً ، فقال السيّد الكبير لجعفر : اقبض على الطرف الآخر من الحزام ـ وكان طول الحزام يبلغ ثلاثة أذرع ـ فوقفا عند القبر حتّى إذا وصل إليهما وضعا الحزام في عنقه وأداراه عليه ، فوقف طيِّعاً لكنّه ينبح ، فأخرجاه من حرم العبّاس ، وقالا للمرأة : اتبعينا إلى (مشهد الحسين). فخرجوا جميعاً وأنا معهم ، ولم يكنْ أحدٌ في الصحن الشريف ، فلمّا صرنا في السّوق بين (الحَرَمين) تبعنا الواحد والاثنان من النّاس لأنّ الرجل كان على حالته من النّبح والاضطراب ، مكشوفَ الرأس ، ثُمّ تكاثر النّاس.

فأدخلوه (المشهد الحُسيني) وربطوه بشباك (علي الأكبر) ، فهدأت حالته ونام ، وقد عرق عَرقاً شديداً ، فما مضى إلاّ ربع ساعة فإذا به قد انتبه مرعوباً ، وهو يقول : أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب خليفةُ رسول اللّه بلا فصل ، وأنّ الخليفة من بعده ولده الحسنُ ، ثُمّ أخوه الحسينُ ، ثُمّ عليُّ بنُ الحسين. وعدّ الأئمّة إلى الحُجّة المهدي عجّل اللّه فرجه.

فسُئل عن ذلك ، قال : إنّي رأيت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الآن وهو يقول لي : «اعتَرِفْ بهؤلاء وعدَّهُمْ عليَّ ، وإنْ لمْ تفعلْ يُهلككَ العبّاسُ». فأنّا أشهد بهم وأتبرّأ من غيرهم.

ثُمّ سُئل عمّا شاهده هناك ، فقال : بينا أنا في حرم العبّاس إذ رأيت رجلاً طويل القامة قَبض عليَّ ، وقال لي : يا كلب إلى الآن بعدك على الضلال. ثُمّ ضرب بي القبر ، ولم يزل يضربني بالعصا في قفاي

٢١٧

وأنا أفرّ منه.

ثُمّ سألت المرأة عن قصّة الرجل ، فقالت : إنّها شيعية من أهل بغداد ، والرجل سُنّي من أهل السّليمانيّة ساكن في بغداد ، مُتديّن بمذهبه ، لا يعمل الفسوق والمعاصي ، يُحب الخصال الحميدة ، ويتنزّه عن الذميمة ، وهو (بندرجي تُتن) ، وللمرأة أخوان حرفتهما بيع التُّتن ، ومعاملتهما مع الرجل ، فبلغ دَينُهُ عليهما مئتا (ليرة عثمانية) ، فاستقرّ رأيهما على بيع الدار منه والمهاجرة من بغداد ، فأحضراه في دارهما (ظهراً) ، وأطلعاه على رأيهما ، وعرّفاه أنّه لم يكن دَين عليهما لغيره ، فعندها أبدى من الشهامة شيئاً عجيباً ، فأخرج الأوراق وخرّقها ثُمّ أحرقها ، وطمأنهما على الإعانة مهما يحتاجان.

فطارا فرحاً ، وأرادا مجازاته في الحال ، فذاكرا المرأة على التزويج منه ، فوجدا منه الرغبة فيه ؛ لوقوفها على هذا الفضل مع ما فيه من التمسّك بالدِّين واجتناب الدَّنايا ، وقد طلب منهما مراراً اختيار المرأة الصالحة له ، فلمّا ذكرا له ذلك زاد سروره ، وانشرح صدره بحصول اُمنيته ، فعقدا له من المرأة وتزوّج منها.

ولمّا حصلت عنده ، طلبت منه زيارة الكاظميَّين عليهما‌السلام إذ لم تزرهما مدّة كونها بلا زوج ، فلم يجبها ، مُدَّعياً أنّه من الخرافات ، ولمّا ظهر عليها الحمل سألته أنْ ينذر الزيارة إنْ رُزق ولداً ، ففعل ، ولمّا جاءت بالولد طالبته بالزيارة ، فقال : لا أفِ بالنّذر حتّى يبلغ الولد. فأيست المرأة ، ولمّا بلغ الولد السّنة الخامسة عشر طلب منها اختيار الزوجة ، فأبت ما دام لم يفِ بالنّذر ، فعندها وافقها على

٢١٨

الزيارة مكرهاً ، وطلبت من الجوادَين عليهما‌السلام الكرامة الباهرة ليعتقد بإمامتهما ، فلم ترَ منهما ما يسرّها ، بل أساءها سخريته واستهزاؤه.

ثُمّ ذهب الرجل بالمرأة والولد إلى العسكريَّين عليهما‌السلام وتوسّلت بهما ، وذكرت قصة الرجل ، فلم تشرق عليه أنوارهما ، وزادت السّخرية منه.

ولمّا وصلا كربلاء قالت المرأة : نقدّم زيارة العبّاس عليه‌السلام ، وإذا لم تظهر منه الكرامة ، وهو أبو الفضل وباب الحوائج ، لا أزور أخاه الشهيد ، ولا أباه أمير المؤمنين ، وارجع إلى بغداد. وقصّت على أبي الفضل قصّة الرجل ، وعرّفته حال الرجل وسخريته بالأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام ، وأنّها لا تزور أخاه ولا أباه إذا لم يتلطّف عليه بالهداية وينقذه من الغواية ، فأنجح سُؤلها ، وفاز الرجل بالسّعادة.

الرابعة : ما في كتاب (إعلام النّاس في فضائل العبّاس) تأليف الزاكي التّقي السيّد سعيد بن الفاضل المُهذّب الخطيب السيّد إبراهيم (١) البهبهاني ، قال :

__________________

(١) هو ابن السيّد محمّد ابن السيّد جعفر ابن سيّد محمّد ابن سيّد هاشم ابن سيّد محمّد ابن سيّد عبد اللّه ابن سيّد محمّد الكبير ابن سيّد عبد اللّه البلادي ابن سيّد علوي ، عتيق الحسين عليه‌السلام ، ابن سيّد حسين الغُريفي ابن سيّد حسن ابن سيّد أحمد ابن سيّد عبد اللّه ابن سيّد عيسى ابن سيّد خميس ابن سيّد أحمد ابن سيّد ناصر ابن سيّد علي بن كمال الدِّين ابن سيّد سلمان ابن سيّد جعفر بن أبي العشا موسى بن أبي الحمراء محمّد بن علي الطاهر بن علي الضخم بن أبسي علي محمّد الحسن بن محمّد الحائري بن إبراهيم المُجاب بن محمّد العابد ابن الإمام الكاظم عليه‌السلام ؛ ولهذه الكرامة كتب السيّد سعيد كتاباً في أحوال العبّاس عليه‌السلام يزيد على أربعمئة صفحة ، أجهد نفسه ، وسهر الليالي في جمعه وتبويبه ، جزاه اللّه خير الجزاء.

٢١٩

تزوّجتُ في أوائل ذي القعدة سنة ١٣٥١ هـ ، وبعد أنْ مضى اُسبوع من أيّام الزواج أصابني زكامٌ صاحبته حُمَّى ، وباشرني أطبّاء النّجف فلم انتفع بذلك ، والمرض يتزايد ، ومن جملة الأطبّاء الطبيب المركزي (محمّد زكي أباظة).

وفي أول جمادى الأوّل من سنّة ١٣٥٣ هـ خرجت إلى الكوفة وبقيت إلى رجب ، فلم تنقطع الحمَّى ، وقد استولى الضعف على بدني حتّى لم أقدر على القيام ، ثُمّ رجعت إلى النّجف وبقيت إلى ذي القعدة من هذه السّنة بلا مراجعة طبيب ؛ لعجزهم عن العلاج.

وفي ذي الحجّة من هذه السّنة اجتمع الطبيب المركزي المذكور مع الدكتور محمّد تقي جهان ، وطبيبين آخرين جاؤوا من بغداد وفحصوني ، فاتّفقوا على عدم نفع كُلّ دواء ، وحكموا بالموت إلى شهر.

وفي محرّم من سنة ١٣٥٤ هـ خرج والدي إلى قرية القاسم ابن الإمام الكاظم عليه‌السلام للقراءة في المآتم التي تُقام لسيّد الشُّهداء عليه‌السلام ، وكانت والدتي تُمرّضني ، ودأبها البكاء ليلاً ونهاراً.

وفي الليلة السّابعة من هذه السّنة رأيت في النّوم رجلاً مهيباً ، وسيماً جميلاً ، أشبه النّاس بالسيّد الطاهر الزكي (السيّد مهدي الرَّشتي) ، فسألني عن والدي ، فأخبرته بخروجه إلى القاسم ، فقال : إذاً مَن يقرأ في عادتنا يوم الخميس؟ وكانت الليلة ليلة خميس ، ثُمّ قال : إذاً أنت تقرأ.

ثُمّ خرج وعاد إليّ ، وقال : إنّ ولدي السيّد سعيد (١) مضى

__________________

(١) ولد السيّد مهدي الرَّشتي سنة ١٣٠٣ هـ ، توفّي في النّجف يوم ١٤ رجب

٢٢٠