العبّاس عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

العبّاس عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


المترجم: الشيخ محمّد الحسّون
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 964-95037-0-6
الصفحات: ٣٩١

خليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بسقايته ولو في آنٍ يسير ، إذ الحالة شرع سواء بين قليل الزَّمان وكثيره ؛ ولذلك نُسب فعله هذا إلى الدِّين ، حيث يقول : تاللّهِ ما هذا فعالُ ديني.

على أنّ شيخنا العلاّمة الشيخ عبد الحسين الحلّي يُحدّث في النّقد النّزيه ج ١ ص ١٠٠ ، عن فخر الذاكرين الثقة الثبت الشيخ ميرزا هادي الخراساني النّجفي ، نقلاً عن (عدّة الشهور) : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام دعا العبّاس وضمّه إليه وقبّل عينيه ، وأخذ عليه العهد إذا ملك الماء يوم الطَّفِّ أنْ لا يذوق منه قطرة واُخوه الحسين عليه‌السلام عطشان. فقول أرباب المقاتل : نفضَ الماء من يده ولم يشرب ، إنّما هو لأجل الوصيّة من أبيه المرتضى (ع).

لَم يَذُقْ الفُراتَ اُسوةً بِهِ

مُيمِّمَاً بمائِهِ نَحوُ الخِبَا

لَم يَرَ فِي الدِّينِ يَبلُّ غُلَّةً

وصُنُوهُ فيِهِ الظَّمَا قَد ألهَبَا

والمُرتَضَى أَوصَى إليهِ فِي ابنِهِ

وصيّةً صَدّتْهُ عَن أنْ يَشْرَبَا

لذَاكَ قَدْ أسنَدَهُ لِدينِهِ

وعَنْ يَقيِنٍ فِيهِ لَنْ يَضْطَرِبَا

هَذا مِنَ الشَّرعِ يَرى فِعلَتَهُ

ومِن صِراطِ أحمدٍ مَا ارتَكَبَا

وَمِثلُهُ الحُسينُ لَمّا مَلكَ الْمَاءَ

فَقِيلَ رَحلُهُ قَد نُهِبَا

أمَّ الخِيامَ نَافِضَاً لِماِئهِ

إذ عَظُمَ الأمرُ بِهِ واعَصُوصَبَا

فَكانَ للعَبّاسِ فِيهِ اُسوةٌ

إذ فَاضَ شَهمَاً غَيرَ مَفلُولِ الشِّبَا

١٨١

عثرةُ التأريخ

لقد كان من نفوذ بصيرة العبّاس عليه‌السلام أنّه لم تقنعه هاتيك التضحية المشهودة منه ، والجهاد البالغ حدّه حتّى راقه أنْ يفوز بتجهيز المجاهدين في ذلك المأزق الحرج ، والدعوة إلى السّعادة الخالدة في رضوان اللّه الأكبر ، وأنْ يحظى باُجور الصابرين على ما يَلمّ به من المصاب بفقد الأحبّة ، فدعا إخوته من اُمّه وأبيه ، وهم : عبد اللّه ، وجعفر ، وعثمان ، وقال لهم : تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم للّه ولرسوله ؛ فإنّه لا ولد لكم (١).

فإنّه أراد بذلك تعريف إخوته حقّ المقام ، وأنّ مثولهم بهذا الموقف لم يكنْ مصروفاً إلاّ إلى جهة واحدة ، وهي : المفادات والتضحية في سبيل الدِّين ، إذ لم يكن لهم أي شائبة أو شاغلة تلهيهم عن القصد الأسنى من عوارض الدنيا ؛ من مراقبة أمر الأولاد بعدهم ، ومَن يرأف بهم ويُربِّيهم ، فاللازم حينئذ السّير إلى الغاية الوحيدة ، وهي : الموت دون حياة الشريعة المُقدّسة ، فكانوا كما شاء ظنُّه الحَسَن بهم ، حيث لم يألوا جهداً في الذبِّ عن قُدس الدِّين حتّى قضوا كراماً مُتلفّعين بدم الشهادة.

__________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ٢٠٩ ، مُثير الأحزان لابن نما / ٥٠ ، لواعج الأشجان / ١٧٨.

١٨٢

لكنْ هلمّ واقرأ العجيب الغريب فيما ذكر ابن جرير الطبري في التاريخ ج ٦ ص ٢٥٧ ، قال : وزعموا أنّ العبّاس بن علي قال لإخوته من اُمّه وأبيه ؛ عبد اللّه وجعفر وعثمان : يا بني اُمّي ، تقدّموا حتّى أرثكم ؛ فإنّه لا ولد لكم. ففعلوا وقُتلوا (١).

وقال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : قدّم أخاه جعفر بين يديه ؛ لأنّه لم يكن له ولدٌ ليحوز ميراثه العبّاس ، فشدّ عليه هاني بن ثبيت فقتله (٢).

وفي مقتل العبّاس ، قال : قدّم إخوته لاُمّه وأبيه فقُتلوا جميعاً ، فحاز مواريثهم ، ثُمّ تقدّم وقُتل فورثهم وإيّاه عبيدُ اللّه ، ونازعه في ذلك عمّه عمر بن علي ، فصولح على شيء رضي به (٣).

هذا غاية ما عندهم ، وقد تفرّدا به من بين المؤرّخين وأرباب المقاتل ، ولا يخفى على مَن له بصيرة وتأمّل بعدُهُ عن الصواب.

وما أدري كيف خفي عليهما حيازة العبّاس ميراث إخوته مع وجود اُمّهم اُمّ البنين ، وهي من الطبقة المُتقدّمة على الأخ ، ولم يجهل العبّاس شريعة تربّى في خلالها؟!

على أنّ هذه الكلمة لا تصدر من أدنى النّاس ، سيّما في ذلك الموقف الذي يذهل الواقف عن نفسه وماله ، فأيّ شخص كان يدور في خُلدهِ ذلك اليوم حيازة المواريث بتعريض ذويه وإخوته للقتل ، وعلى الأخصّ يصدر ذلك من رجل يعلم أنّه لا يبقى بعدهم ولا يتهنّأ بمالهم ، بل يكون فعله لمحض أنْ تتمتّع به أولاده؟!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٤٢ ، الكامل في التاريخ ٤ / ٧٦.

(٢) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج / ٥٤.

(٣) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج / ٥٥.

١٨٣

بئست الكلمة القبيحة التي راموا أنْ يُلوّثوا بها ساحة ذلك السيّد الكريم!

فهل ترغب أنت أنْ يقال لك : عرّضت إخوتك وبني اُمّك لحومة الوغى لتحوز مواريثهم؟! أمْ أنّ هذا من الدَّناءة والخسّة فلا ترضاه لنفسك ، كما لا يرغب به سوقة النّاس وأدناهم ، فكيف ترضى أيّها المُنصف ذلك لمَن علّم النّاس الشّهامة وكرم الأخلاق ، وواسى حجّة وقته بنفسه الزاكية؟!

وكيف يُنسب هذا لخرّيج تلك الجامعة العُظمى والمدرسة الكبرى ؛ جامعة النّبّوة ومدرسة الإمامة ، وتربّى بحجر أبيه عليه‌السلام ، وأخذ المعارف منه ومن أخويه الإمامين عليهما‌السلام؟!

ولو تأمّلنا جيداً في تقديمه إيّاهم للقتل ، لعرفنا كبر نفسه ، وغاية مفاداته عن أخيه السّبط عليه‌السلام ، فلذّة كبد النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومهجة البتول عليها‌السلام ، فإنّ من الواضح البيّن أنّ غرضه من تقديمهم للقتل :

١ ـ إمّا لأجل أنْ يشتدّ حزنه ، ويعظم صبره ، ويُرزأ بهم ، ويكون هو المطالب بهم يوم القيامة ، إذ لا ولد لهم يُطالبون بهم.

٢ ـ وإمّا لأجل حصول الاطمئنان والثقة من المفادات دون الدِّين أمامَ سيّد الشُّهداء عليه‌السلام ، ويشهد له ما ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد ، وابن نما في مُثير الأحزان من قوله لهم : تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم للّه ولرسوله ؛ فإنّه لا ولد لكم. ولم يقصد بهم المخايل ، وإنمّا رام أبو الفضل أنْ يتعرّف مقدار ولائهم لقتيل العبرة ؛ وهذا منه عليه‌السلام إرفاق بهم وحنان عليهم ، وأداء لحقّ الاُخوّة بإرشادهم إلى ما هو الأصلح لهم.

١٨٤

٣ ـ وإمّا لأجل أنْ يكون غرضه الفوز بأجر الشهادة بنفسه ، والتجهيز للجهاد بتقديم إخوته ليُثاب أيضاً بأجر الصابرين ، ويحوز كلتا السّعادتين ، وربما يدلّ عليه ما ذكره أبو الفرج في مقتل عبد اللّه من قول العبّاس له : تقدّم بين يدَي حتّى أراك قتيلاً واحتسبك. فكان أوّل مَن قُتل من إخوته.

وذكر أبو حنيفة الدينوري ، أنّ العبّاس قال لإخوته : تقدّموا بنفسي أنتم ، وحاموا عن سيّدكم حتّى تموتوا دونه. فتقدّموا جميعاً وقُتلوا.

ولو أراد أبو الفضل من تقديمهم للقتل حيازة مواريثهم ـ وحاشاه ـ لم يكن لاحتساب أخيه عبد اللّه معنى ، كما لا معنى لتفديتهم بنفسه الكريمة كما في الأخبار الطوال (١).

وهناك مانع آخر من ميراث العبّاس لهم وحده حتّى لو قلنا على بُعدٍ ومنعٍ بوفاة اُمّ البنين يوم الطَّفِّ ؛ فإنّ ولد العبّاس لم يكنْ هو الحائز لمواريثهم ، لوجود الأطراف وعبيد اللّه بن النّهشلية ؛ فإنهّما يشتركان مع العبّاس في الميراث ، كما يُشاركهم سيّد شباب أهل الجنّة وزينب العقيلة ، واُمُّ كلثوم ورقيّة ، وغيرهنّ من بنات أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فكيف والحال هذا يختصّ العبّاس بالميراث وحده؟!

هذا كُلّه إنْ قلنا بوفاة اُمّ البنّين يوم الطَّفِّ ، ولكنَّ التاريخ يُثبت حياتها يومئذ وأنّها بقيت بالمدينة ، وهي التي كانت ترثي أولادها الأربعة.

__________________

(١) الأخبار الطوال / ٢٥٧.

١٨٥

والذي أظنّه أنّ منشأ ذلك التقوّل على العبّاس أنّه أوقفهم السّير على قوله لإخوته : لا ولد لكم. من غير رويّة وتفكير في غرضه ومراده ، فحسبوه أنّه يُريد الميراث ، فنّوه به واحد باجتهاده أو احتماله ، وحسبه الآخرون رواية فشوّهوا به وجه التاريخ ، ولم يفهموا المراد ، ولا أصابوا شاكلة الغرض ؛ فإنّ غرضه من قوله : لا ولد لكم تُراقبون حاله بعدكم ، فأسرعوا في نيل الشهادة والفوز بنعيم الجنان.

على أنّ شيخنا العلاّمة الشيخ عبد الحسين الحلّي في النّقد النّزيه ج ١ ص ٩٩ ، احتمل تصحيف (أرثكم) من (اُرزأ بكم) أو (أرزأكم) ، وليس هذا ببعيد.

وأقرب منه احتمال شيخنا الحجّة ، الشيخ آغا بزرك مؤلّف كتاب (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) تصحيف (أرثكم) من (أرثيكم) ، فكأنّه عليه‌السلام أراد أوّلاً : أنْ يفوز بالإرشاد إلى ناحية الحقّ ، وثانياً : تجهيز المُجاهدين ، وثالثاً : البكاء عليهم ورثائهم ؛ فإنّه محبوب للمولى تعالى.

ويُشبه قول العبّاس لإخوته قول عابس بن أبي شبيب الشاكري لشوذب مولى شاكر : يا شوذب ، ما في نفسك أنْ تصنع؟ قال : اُقاتل معك دون ابن بنت رسول اللّه حتّى اُقتل. فقال : ذلك الظنّ بك ، فتقدّم بين يدَي أبي عبد اللّه حتّى يحتسبك كما احتسبَ غيرَكَ من أصحابه ، وحتّى احتسبك أنا ؛ فإنّه لو كان معي السّاعة أحدٌ أنا أولى به منك لسرّني أنْ يتقدّم بين يدَي حتّى أحتسبه ؛ فإنّ هذا يوم ينبغي لنا أنْ نطلب الأجر فيه بكُلِّ ما قدرنا عليه ؛ فإنّه لا عمل بعد اليوم ، وإنّما هو الحساب (١). (الطبري ج ٦ ص ٢٥٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٨.

١٨٦

حديث الصادق عليه‌السلام

إنّ ما يتعرّف منه منزلة أبي الفضل العالية ، وإثبات الخصال الحميدة له ، إخبارُ أئمّة الدِّين العارفين بضمائر العباد وسرائرهم ، الواقفين على نفسيّات الاُمّة على كَثَب بتحقّقها فيه ، وقد عبثت أيدي التلف في أكثرها ، فإنّ الصدوق يُحدّث في الخصال ج ١ ص ٣٥ ، بعد ذكره حديث السجّاد عليه‌السلام في فضل العبّاس ، أنّه أخرج الخبر بتمامه مع أخبارٍ في فضائل العبّاس في كتاب مقتل الحسين عليه‌السلام.

وظاهره أنّ هناك أخباراً كثيرة في فضل أبي الفضل زويت عنّا ككتابه المقتل ، ولا غرو ، فلقد اندثر بتعاقب الحوادث الكثير من المؤلّفات.

وكيف كان ، فلعلّ من تلك الأخبار ما رواه في عمدة الطالب ، عن الشيخ الجليل أبي نصر البخاري النّسّابة ، عن المُفضّل بن عمر ، أنّه قال : قال الصادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام : «كان عمُّنا العبّاسُ بنُ عليٍّ نافذَ البصيرة ، صلبَ الإيمانِ ، جاهدَ مع أبي عبد اللّهِ وأبلى بلاءً حَسَناً ، ومضى شهيداً» (١).

وكذلك قوله عليه‌السلام فيما علّم شيعته أنْ يُخاطبوه به من لفظ

__________________

(١) عمدة الطالب لابن عنبة / ٣٥٦ ، مقتل الحسين لأبي مخنف / ١٧٦. الأنوار العلويّة للنقدي / ٤٤٢.

١٨٧

الزيارة المروريّة بسند صحيح مُتَّفق عليه ؛ فإنّه عند التأمّل فيما خاطبه به الإمام العارف بأساليب الكلام ومقتضيات الأحوال ، تظهر لنا الحقيقة ، ونعرف منزلةً للعبّاس سامية لا تُعدّ ومنزلة المعصومين عليهم‌السلام ، فقال عليه‌السلام في صدر سلام الإذن :

«سلامُ اللّهِ ، وسلامُ ملائكتهِ المُقرّبين وأنبيائِهِ المُرسَلين ، وعباده الصالحين ، وجميعِ الشُّهداء والصّدّيقين ، الزَّاكيات الطَّيّبات ، فيما تغتَدي وتروحُ عليكَ يابنَ أميرِ المُؤمنين».

فإنّه أشار بهذا إلى مصبِّ سلام اللّه الذي هو رحمته المتواصلة ، والعطف الغير محدود ، اللَّذين لا انقطاع لهما.

وسلام الملائكة المُشاهدين لمقادير الرِّجال في ملأ القدس وحظيرة الجلال.

وسلام الأنبياء الذين لا يعدّون مرضات اللّه ووحيه في أفعالهم وتروكهم.

وسلام الصالحين والشُّهداء الذين أدركوا بفضل الاتّصال بالرُّسل وأوصيائهم ، أو بالتَّجرّد ومشاهدة الحقائق الثابتة في عالم الغيوب ، زيادةً على ما عرفوه من مقام أبي الفضل وفضله.

فكُلُّ هؤلاء يتقرّبون إلى اللّه تعالى بالدّعاء له ، واستنزال الرحمة منه سبحانه ، وإهداء التّسليمات إليه ؛ لما عرفوا أنّه من أقرب الوسائل إليه ، وحيث كانت خالصة للزّلفة ، ماحضة في التقرّب إليه جلّ ذكره ، عادت زاكيةً طيّبةً بنصّ الزيارة : «الزَّاكيات الطَّيّبات».

وأمّا على رواية ابن قولويه في كامل الزيارات من زيادة (واو العطف) قبل الزّاكيات الطَّيّبات ، فيُراد بهما العنايات الخاصّة التي

١٨٨

ليست بدعاءٍ من أحد ، ولا بأسباب عاديّة ، ولا يعدم هذه الأنبياء والأوصياء والأقلّون ممّن اقتفوا أثرهم ، وليست هي شرعة لكُلّ واردٍ ، وإنّما يحظى بها الأفذاذ ممّن كهربتهم القداسة الإلهيّة ، وجذبتهم جاذبة الصقع الربوبي ، وهكذا المُقرّبون والأفذاذ عند صعودهم.

وإذا قرأنا زيارة الصادق عليه‌السلام لجدّه الحسين عليه‌السلام : «سلامُ اللّهِ وسلامُ ملائكتِهِ فيما تروحُ وتغدو ، والزَّاكيات الطَّاهرات لك ، وعليك سلامُ الملائكةِ المُقرَّبينَ والمُسلِّمين لك بقلوبهم ، والنّاطقين بفضلك ...» (١). وضح لنا أنّ منزلة أبي الفضل تضاهي منزلة الحسين عليه‌السلام ؛ حيث اُثبت له مثل هذا السّلام.

ثُمّ قال عليه‌السلام : «أشهد لك بالتسليم والتصديق ، والوفاء والنّصيحة لخلف النّبي المرسل» (٢).

ها هنا أثبت لأبي الفضل منزلة التسليم التي هي من أقدس منازل السّالكين ، وفوق مرتبة الرضا والتوكّل ؛ فإنّ أقصى مرتبة الرضا أنْ يكون محبوب المولى سبحانه محبوباً له ، موافقاً لطبعه ، فالطبع ملحوظ فيه.

وأقصى مراتب التوكّل أنْ يُنزل نفسه بين يدي المولى سبحانه وتعالى منزلة الميّت بين يدي الغاسل ، بحيث لا إرادة له إلاّ ما يفعله الغاسل به ، فصاحب التوكّل مسلوب الإرادة ، وأمّا صاحب التسليم فلا يرى لغير اللّه وجوداً مع اللّه فضلاً عن نفسه ، ولا يكون له طبعٌ يوافق أو يخالف في الإرادة ، أو نفساً قد تنفّست بالإرادة ، فهو

__________________

(١) كامل الزيارات / ٣٥٨ ، بحار الأنوار ٩٨ / ١٤٨.

(٢) كامل الزيارات / ٤٤٠.

١٨٩

قريب من عالم الفناء.

وهذه المرتبة فوق مرتبة التوكّل ، التي هي فوق مرتبة الرضا ، لا تحصل إلاّ بالبصيرة النّافذة ، والوصول إلى أعلى مراتب اليقين ، تلك المرتبة التي أخبر عنها أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لو كُشِف الغطاءُ ما ازدَدتُ يقيناً».

أمّا العناوين الثلاثة ، وهي : التصديق ، والوفاء ، والنّصيحة ، فلا شكّ أنّ الإمام عليه‌السلام يُريد أنّ أبا الفضل في أرقى مراتبها ؛ لانبعاثها عن التسليم وهو حقّ اليقين ؛ فإنّه المناسب لتصديقه بأخيه الحجّة ، وبنهضته في ذلك الموقف الحرج ، وهكذا وفاؤه ونصيحته ؛ فإنّ وفاء شخص لآخر كما يُمكن أنْ يكون لأجل الاُخوّة والرحم والصحبة ، يمكنْ أنْ يكون لأجل المعرفة التامّة بما أوجب اللّه له من الحرمة والحقّ على الاُمّة.

وحيث إنّ الإمام عليه‌السلام أثبت لأبي الفضل أرقى مرتبة السّالكين ، وهي التسليم اللازم لحقّ اليقين ، فلا بدّ أنْ يكون ما صدر منه من التصديق بنهضة أخيه عليه‌السلام ، والوفاء لحقّه والمُناصحة في العمل ، منبعثاً عن حقّ اليقين بذلك الأمر الواجب ، لا لأجل أنّ الحسين عليه‌السلام أخوه أو رحمه أو ابن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ هذه المرتبة وإنْ مُدح عليها الشخص إلاّ أنّ المرتبة الاُولّى أرقى وأرفع ، ولا ينالها إلاّ ذوو النّفوس القُدسيّة ممّن وجبت لهم العصمة.

ويؤيّد ذلك تعقيب العناوين الثلاثة بقوله عليه‌السلام : «لِخَلَفِ النّبيِّ المُرْسَل». فإنّه لو لم يرد هذا لقال في الخطاب : (لأخيك) أو (للحسين) أو (لابن أمير المؤمنين) ، فالتعبير بخلف النّبيِّ لا يُراد منه إلاّ أنّ الدافع لأبي الفضل على التسليم والتصديق ، والوفاء

١٩٠

والنّصيحة بالمفادات إلاّ كون الحسين عليه‌السلام إماماً مفروض الطّاعة ، وهذا مغزى لا يبعث إليه إلاّ البصيرة المميّزة لشرف الغايات المُتحرّية لكرائمها.

ثُمّ إنّ من تخصيص الإمام عليه‌السلام الخطاب له دون غيره من الشُّهداء ، بقوله : «لَعنَ اللّهُ مَنْ جَهلَ حَقّكَ ، واسْتَخفَّ بحُرمَتِكَ». نعرف أنّ غيره من الشُّهداء لم يُدرك هذا المدى ، وإنْ كان لكُلٍّ منهم حقّاً وحرمة ، إلاّ أنّ شبل أمير المؤمنين عليه‌السلام كانت معارفه أوسع ، وإيمانه أثبت ، فكان له حقٌّ في الدِّين ، وحقٌّ على الاُمّة لا يُنكر ، فاستحقّ بكُلٍّ منهما اللعن على جاهلِهِ والمُستخفِ به. فالشُّهداء وإنْ أخلصوا في التضحية والمفادات ، وكان منبعثاً عن طهارة الضمائر والمعرفة بحقِّ الإمام عليه‌السلام ، فلهم حقوقٌ وحُرمات ، لكنّ لحقِّ العبّاس منعةً بين هاتيك الحقوق ، ولحرمته بذخ بين تلك الحرمات ، بعد ما ثبت منهما لأخيه الإمام المظلوم عليه‌السلام ، لنفوذ بصيرته وصلابة إيمانه بنصّ الصادق عليه‌السلام.

ثُمّ قال الصادق عليه‌السلام في الزيارة المتلوّة داخل الحرم : «أشهدُ واُشهدُ اللّهَ أنّكَ مضيتَ على مَا مضَى به البَدريّون» (١).

لقد جرى التشبيه بالبدريّين مجرى التقريب إلى الأذهان في الإشادة بموقف أبي الفضل من البصيرة ؛ فإنّ أهلَ بدر أظهر أفراد أهل البصائر ; لأنّهم قابلوا طواغيت قريش على حين ضعف في المسلمين ، وقلّة في العدّة والعتاد ، فلم يملكوا إلاّ فَرسين ، أحدهما : لمرثد بن أبي مرثد الغنوي ، والآخر : للمقداد بن الأسود الكندي ،

__________________

(١) المزار للشيخ المفيد / ١٢٢ ، المزار للمشهدي / ١٦٦ ، بحار الأنوار ٩٧ / ٤٢٧.

١٩١

وكانوا يتعاقبون على سبعين بعير ، الاثنان والثلاثة (١).

لكنّهم خاضوا غمرات الموت تحت راية النّبوَّة ، بقوّة الإيمان وعتاد البصيرة ، إلاّ مَن استولى الرَّينُ على قلبه ، فردّوا سيوف قريش مفلولة ، ورماحهم محطّمة ، وجموعهم بين قتلى وأسرى ومُشرّدين ، فحظوا بأوّل فتح إسلامي قويت به دعائمُهُ ، وشُيّدت معالمُه من الإمداد : (بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (٢).

وأعظم من ذلك مشهد الطَّفِّ الذي التطمت فيه أمواج الموت ، وكشفت الحرب عن ساقها ، وكشفت عن نابها.

وللأخْطَارِ وَجهٌ مُكفَهِرٌ

يُشيِبُ لِهَولِهِ المُردِي الغُلامُ

تَرَى الأبطَالَ مِنْ فَرقٍ سُكَارَى

يُدَارُ مِنَ الرَّدَى فِيهمْ مُدَامُ

فقابلهم عصبة الحقِّ من غير مدد يأملونه ، أو نصرة يرقبونها ، والعطش مُعتلج بصدورهم ، ونشيج الفواطم من ورائهم ، فتلقّوا جبال الحديد بكُلِّ صدرٍ رحيب وجنان طامن ، فلم تسل تلك النّفوس الطّاهرة إلاّ على قتل اُميّة المنقوض ، ولا اُريقت دماؤهم الزاكية إلاّ على حبلهم المُنتكث ، فلم تبرح آلُ حربٍ إلاّ كلعقة الكلب أنفه حتّى اكتُسحت معرّتُهم من أديم الأرض ، وتفرّقوا أيدي سبا ، فيوم الطَّفِّ فتحٌ إسلامي بعد الجاهليّة المُستردَّة من جراء أعمال الأمويّين (٣).

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ١٢ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٧٢ ، سُبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ٤ / ٢٤ ، تفسير البغوي ١ / ٢٨٣.

(٢) سورة آل عمران / ١٢٥ ، قال تعالى : (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ).

(٣) لقد أجاد العلاّمة السيّد باقر نجل آية اللّه السيّد محمّد الهندي رحمه‌الله ، إذ يقول :

١٩٢

وإليه أشار الإمام الشهيد عليه‌السلام في كتابه إلى بني هاشم لمّا حلّ أرض كربلاء : «مَن لحقَ بيْ منكُمْ اسْتُشهدْ ، ومَنْ تخلّفَ عنِّي لَمْ يَبلغ الفتحَ» (١).

فإنّه عليه‌السلام لم يُرد بالفتح إلاّ ما ترتّب على نهضته المُقدّسة وتضحيته الكريمة ؛ من نقض دعائم الإلحاد ، وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المُطهّرة ، وإحياء دين جدّه الصادع به الذي لاقى المتاعب في تأييده وتشييده.

وأنت أيّها البصير ، إذا استشففت الحادثة من وراء نظارةٍ في التنقيب ، تجد سيّدنا أبا الفضل سيّد القوم بعد أخيه السّبط عليه‌السلام ، وهو المُسدّد لهم في النّضال.

كما أنّ الباحث إذا أعطى النّظر حقّه ، يجد ضحايا (الطَّفِّ) أشدّ انقطاعاً عن المدد من مجاهدي يوم بدر ، وأبلغ بأساً وأقلّ عدداً ـ مع اكتناف الكوارث بهم ـ وإعواز الملجأ أكثر ممّا احتفّ بأهل بدر.

مع أنّ المناوئين لشهداء (الطَّفّ) أوفر عدداً ، وأقوى عتاداً ، وأوثق مدداً ، وأنّ لهم دولةً مُؤسَّسة تنضَّدت جحافلُها ، وخفقت بنودُها ، وتواصلت قوّاتُها بخلاف الحالة يوم بدر.

فلقد كان المحاربون للمسلمين شتاتاً من طواغيت العرب ،

__________________

لَو لَمْ تَكُنْ جُمعَتْ كُلُّ العُلا فينا

لكَانَ مَا كَانَ يَومَ الطّفِّ يَكفيِنَا

يَومٌ نَهضنَا كأمثالِ الاُسودِ بهِ

وأَقبلَتْ كالدِّبا زَحفَاً أعاديِنَا

جَاؤوا بسبعيِنَ ألفاً سَلْ بَقيَّتَهُمْ

هَل قَابلونَا وَقد جِئنَا بِسبْعينَا

 (١) بصائر الدرجات للصفّار / ٥٠٢ ، دلائل الإمامة للطبري الشيعي / ١٨٨ ، الخرائج والجرائح للراوندي ٢ / ٧٧١ ، مُثير الأحزان لابن نما / ٢٧.

١٩٣

حداهم إلى الحرب بواعثُ الحُقدِ والنّخوة ، ومن المُحتمل القريب انحلال جامعتهم إذا ضربت الحرب عليهم بجرانها ؛ لأنّهم كانوا يفقدون أيّ مدد من القبائل ، ولم يخرجوا متأهّبين للاستمداد ، حيث ظنّوا خوراً في المسلمين ، وحسبوا استئصالَ شأفتهم وأنّهم كشربة ماء ، (ولكنْ لا مُبدّل لحُكمِ اللّه تعالى).

فالموقف يوم الطَّفِّ أحرج ، والكرب أكثر ، والمقاسات أصعب ، وبقدر المشقّة تجري الاُجور وتُقسّم الفضائل ، فشهداء كربلاء أولى بالفضيلة.

وضَرب الإمام عليه‌السلام المثل لهم بأهل بدر ، إذ يقول : «إنّكَ مضيتَ على ما مَضَى به البدريّون». لا يوجب فضيلة أهل بدر عليهم ، كما هي قاعدة التشبيه ، وإنّما ذلك من باب التقريب إلى الأفهام ، كما في قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ ...) (١).

وأين من النّور الإلهي المشكاة ومصباحها ، ولكنْ لمّا لم تُدرك الأبصار ذلك النّور الأقدس ، وإنّما تُدركه البصائر ، ضرب اللّه تعالى المثل بما يُدركونه تقريباً للأذهان ، وهكذا الحال فيما نحن فيه.

وإلى هذه الدقيقة وقع الإيعاز منه عليه‌السلام فيما بعد هذه الفقرة من الزيارة بقوله عليه‌السلام : «فجزاكَ اللّهُ أفضلَ الجَزاءِ وأكثرَ الجَزاءِ ، وأوفرَ الجَزاءِ وأوفَى جزاءِ أحَدٍ مِمّنْ وفَى ببيعتِهِ ، واسْتَجابَ له دعوتَهُ ، وأطاعَ ولاةَ أمرِهِ» (٢).

فلو كان في المجاهدين مَن هو أوفر فضلاً من أبي الفضل

__________________

(١) سورة النّور / ٣٥.

(٢) كامل الزيارات / ٤٤١ ، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ٦ / ٦٦ ، المزار للمفيد / ١٢٢ ، المزار للمشهدي / ١٧٨.

١٩٤

العبّاس ، لكان هذا الدعاء ، أو الإخبار عن أمره شططاً من القول ، خارجاً عن ميزان العدل ، تعالى عنه كلامُ المعصوم ، فإذاً لمْ يكنْ غيره من المجاهدين مطلقاً أوفر فضلاً ، ولا أكثر جزاءً ، ولا أوفى بيعةً إلاّ مَن أخرجه الدليل من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

ثُمّ إنّ هناك مرتبة اُخرى ثبتت لأبي الفضل ، خصّه بها الإمام الصادق عليه‌السلام بقوله : «أشهدُ أنّكَ قدْ بالغتَ في النَّصيحةِ ، وأعطيتَ غايةَ المَجْهودِ ، فبعثكَ اللّهُ في الشُّهداءِ ، وجَعلَ روحَكَ مَعَ أرواحِ السُّعداءِ ، وأعطاكَ مِنْ جنانِهِ أفسَحَها مَنْزلاً ، وأفضلها غُرَفاً» (١).

فإنّ المبالغة في أمثال المقام عبارة عن بلوغ الأمر إلى حدوده اللازمة ، وكم له من نظير في استعمالات العرب ومحاوراتهم. ولا شكّ أنّ كُلَّ واحدٍ من شهداء الطَّفِّ قد بالغ في النّصيحة ، ولم يألُ جهداً في أداء ما وجب عليه ، ولكُلٍّ منهم في ذلك المشهد الدامي شواهد من أقواله وأعماله.

ومن المُسلَّم أنّ المعروف بقدر المعرفة كمَّاً وكيفاً ، فصاحب السّنام الأرفع في العرفان ، المُتربّع على أعلى منصّة من الإيمان ، لا بدّ وأنْ يُقاسي أشدَّ ضروب الجهاد ، ويتظاهر بأجمل مظاهرها ؛ من الدؤوب على الحرب والضرب ، وإنْ طال المدى وبعد الأمد إنْ كان الجهاد نضالاً ، كما لا بدَّ له من المثابرة على مكافحة النّفس الأمّارة وكسر شوكتها ، وردّ صولتها وكبح جماحها ، وترويض النّفس بالطّاعة ، وإلزامها بلوازمها الشاقّة طيلة حياته إنْ كان الجهاد نفسيّاً.

__________________

(١) كامل الزيارات / ٤٤١ ، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ٦ / ٦٦ ، المزار للمفيد / ١٢٢ ، المزار للمشهدي / ١٧٨.

١٩٥

وفي هذين الحالتين لا بدّ وأنْ يكتنف العمل المقارنات المطلوبة ، مثل : نيّة القربة ، والإخلاص فيها المنبعث عن حبِّ المولى سبحانه ، الهادي إلى معرفة تؤهله إلى الطاعة ، وعن معرفة نِعم الباري عزّ وجل الواجب شكره ، وعن الهيبة النّاشئة عن لحاظ عظمته ، إلى أمثال هذه من الملحوظات.

وقصارى القول : كما أنّ مراتبَ الإيمان والمعرفة متفاوتةٌ مقولة بالتشكيك ، كذلك مراتب العمل متفاوتة حسب تفاوت تلك المراتب ، فصاحب عمل كُلِّ مرتبة محدود بحدودها.

وحينئذ فلا شكّ أنّ كُلَّ واحد من شهداء الطَّفِّ ، وإنْ بلغ الغاية في الجهاد وأدّى حقّ النّصيحة ، لكنّ (شهيد العلقمي) لمّا كانت بصيرته أنفذ ، وعلمه أوفر ، وإيمانه أثبت ، كان مداه أبعد ، وغايته أسمى ، وحدوده أوسع ؛ ولذلك خاطبه الصادق عليه‌السلام بهذا الخطاب ، وخصّه بالمبالغة في التضحية ، فكان هذا كفضيلة مخصوصة به ; لأنّ هاتيك المراتب الراقية لم توجد في غيره.

ولعلّ من ناحية هذه المراتب الثلاث ثبت له عليه‌السلام حقٌّ في الدِّين ، وحقٌّ على الاُمّة ، وحرمةٌ لا تُنكر ، فاستحقّ أنْ يُخاطبه الإمام عليه‌السلام في سلام الإذن بقوله : «لَعنَ اللّهُ مَنْ جَهلَ حَقّكَ ، واسْتَخفَّ بحُرمَتِكَ» (١).

وهناك درجة أربى وأربع أشار إليها الصادق عليه‌السلام بقوله : «ورَفَعَ ذكْرَكَ في عِلِّيِّينْ» (٢).

فإنّ (حامى الشريعة) لمْ يبرح مواصلاً في الخدمات حتّى أقبل إلى اللّه تعالى مُتلفّعاً بدم الشّهادة ، شهادة صكٍّ نَبؤها مسامع

__________________

(١) المزار للشهيد الأوّل / ١٦٥.

(٢) كامل الزيارات / ٤٤١ ، المزار للشهيد الأوّل / ١٣٣.

١٩٦

الملكوت حتّى أشرأب له هنالك من أنبياءَ ومُرسَلين ، وحُججٍ معصومين ، وملائكة مُقرّبين ، وحورٍ وولدان ، وأرواح مُقدّسة ، ومُقدّساتٍ زاكياتٍ طيِّباتٍ ، فلمْ يلقَ عليه‌السلام في صعوده إليهم إلاّ ثغوراً باسمةً ووجوهاً مُستبشرةً ، وايذاناً له بالبشرى الخالدة ونعيمَ الأبد ؛ فطفق يرفل بين ذلك الجيل القُدسي ، الزّاهر بنور العصمةِ ورونقِ العلم ، وهيبةِ العظمة وسماتِ الجلالة ، وشاراتِ النّزاهة وبهجةِ العطفِ الإلهي ، وبهاءِ النّظر إلى الجلال السّرمدي ، والاتّصالِ بالرّضوان الأكبر ، وعليه اُبّهةُ الولاء وجلالةُ الطّاعة ، وبلجُ التضحية وزُلفى المفادات ، وزهو العلمِ والعملِ ، ولذكره في ذلك المُنتدى الرهيب رفعةٌ ومنعةٌ ، وإليه يُشير الإمام الصادق عليه‌السلام في لفظ الزيارة : «ورَفَعَ ذكْرَكَ في عِلِّيِّينْ».

فإنّ الغرضَ من هذا التعبير ليس إلاّ ما شرحناه ، لا مجرّد صعود ذكرهِ الطيّب إلى ذلك الملأ الأرفع ، شأن كُلِّ صالح في عالم الوجود ، لكنّ الشأن كُلَّه أنْ يكون هنالك بذخٌ وإكبارٌ ، فيرمقه كُلُّ طرفٍ بنظر الإجلال ، ويسمع الهتافَ به بإذنِ التقدير ، وتنعقد الضمائر على تقديسه ، ولو أراد الإمام عليه‌السلام مُجرّد ذكره إلى ذلك العالم القدسي ، لقال في الخطاب : ورفع ذكرَك إلى علِّيِّين ، ولكنْ حيث إنّه أراد رفع الذكر بين أفراد اُولئك الذين أختصّ محلّهم فيه ، جاء بفاء الظرفيّة ، فقال : «في علِّيِّين».

وأمّا قوله عليه‌السلام في الزيارة التي رواها المجلسي في مزار البحار ص ١٦٥ ، عن مزار الشيخ المفيد وابن المشهدي : «لعَنَ اللّهُ اُمّةً استحلَّتْ منكَ المحارِمَ ، وانْتهكتْ فيك حُرمةَ الإسلامِ» (١). فيرشدنا

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ / ٢١٩ ، المزار للمفيد / ١٢٤ ، المزار للمشهدي / ٣٩١.

١٩٧

إلى مكانة سامية لأبي الفضل تصعد به إلى فوق مرتبة العصمة ؛ فإنّا لم نجد مثل هذا الخطاب في أيِّ واحد من الشُّهداء ، مع بلوغهم أعلى مرتبة الفضل التي لم يحزها أيُّ شهيد غيرهم ، حتّى استحقّوا أنْ يخاطبهم الإمام عليه‌السلام في زيارة النّصف من رجب بقوله : «السّلامُ عليكُمْ يا مَهديُّون ، السّلامُ عليكُمْ يا طاهرونَ مِنَ الدَّنَس» (١). ويقول أيضاً : «طبتُمْ وطابَتْ الأرضُ الّتِي فيها دُفنْتُمْ» (٢).

بل لم يخاطب بمثل ذلك عليّاً الأكبر الذي لا شكّ في عصمته ، ومنه يظهر أنّ للعبّاس منزلة ومقاماً يُشارف مقام الحُجج المعصومين عليهم‌السلام ، تُناط به حرمةُ الإسلام كما تُناط بهم صلوات اللّه عليهم ، وإنّها تُنتَهك بمثله كما تُنتَهك بمثلهم عليهم‌السلام ، وهذا مقام فوق العصمة المرجوّة له.

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ / ٣٣٠ ، والوارد في الزيارة : «... السّلامُ عليكُمْ يا طاهرونَ ، السّلامُ عليكُمْ يا مَهديُّونَ ...». نعم ورد في زيارات اُخرى قوله عليه‌السلام : «وطهّرَكُمْ مِنَ الدَّنسِ». كامل الزيارات / ٥٢٧.

(٢) المزار للشهيد الأوّل / ١٢٩ ، المزار للمشهدي / ٤٦٥.

١٩٨

العبّاس في نظر الأئمّة عليهم‌السلام

إنّي لا أحسب القارئ في حاجةٍ إلى الإفاضة في هذه الغاية بعد ما أوقفناه على مكانة أبي الفضل عليه‌السلام من العلم والتّقى ، والملكات الفاضلة ؛ من إباء وشمم ، وتضحية في سبيل الهدى ، وتهالك في العبادة ؛ فإنّ أئمّة الهدى من أهل البيت عليهم‌السلام يُقدّرون لمَن هو دونه في تلكم الأحوال فضله ، فكيف به وهو من لُحمتهم وفرعِ أرومتهم ، وغصن باسق في دوحتهم؟! وقد أثبت له الإمام السّجاد عليه‌السلام منزلة كبرى لم يَنلها غيره من الشُّهداء ، ساوى بها عمّه الطيّار ، فقال عليه‌السلام :

«رحمَ اللّهُ عمِّي العبّاسَ بنَ عليٍّ ، فلقد آثرَ وأبلَى ، وفدَى أخاه بنفسِهِ حتّى قُطِعتْ يَداهُ ، فأبدلَهُ اللّهُ عزّ وجل جناحينِ يطيرُ بهمَا مع الملائكةِ في الجنّةِ ، كما جعلَ لجعْفرِ بنِ أبي طالبٍ. إنّ للعبّاسِ عندَ اللّهِ تباركَ وتعالى منزلةً يَغبطُهُ عليها جميعُ الشُّهداءِ يومَ القيامةِ» (١).

ولفظ (الجميع) يشمل مثل حمزة وجعفر الشاهدين للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة ، وقد نفى البُعد عنه العلاّمة المُحقّق المُتبحّر في الكبريت الأحمر ص ٤٧ ج ٣.

ولعلّ ما جاء في زيارة الشُّهداء يشهد له : «السّلامُ عليكُمْ أيُّها الرَّبّانيّونَ ، أنتُمْ لنا فرطٌ وسَلفٌ ونحنُ لكُمْ أتباعٌ وأنصارٌ ، أنتُمْ سادةُ

__________________

(١) الأمالي للشيخ الصدوق / ٥٤٨ ، الخصال / ٦٨.

١٩٩

الشُّهداءِ في الدُّنيا والآخرةِ» (١).

وكذلك قوله عليه‌السلام فيهم : إنّهم لم يسبقهم سابقٌ ، ولا يلحقهم لاحقٌ.

فقد أثبت لهم السّيادة على جميع الشُّهداء ، أنّهم لم يسبقهم ولا يلحقهم أيُّ أحدٍ ، وأبو الفضل في جملتهم بهذا التفضيل ، وقد انفرد عنهم بما أثبته له الإمام السّجاد عليه‌السلام من المنزلة التي لم تكن لأيِّ شهيد.

ولهذه الغايات الثمينة والمراتب العُليا ؛ كان أهلُ البيت عليهم‌السلام يُدخلونه في أعالي اُمورهم ما لا يتدخّل فيه إنسانٌ عادي ، فمِن ذلك : مُشاطرتُه الحسينَ عليه‌السلام في غسل الحسن عليه‌السلام (٢).

وأنتَ بعد ما علمت مرتبة الإمامة ، وموقف صاحبها من العظمة ، وأنّه لا يلي أمره إلاّ إمامٌ مثله ، فلا ندحة لك إلاّ الإيمان بأنّ مَن له أيّ تدخل في ذلك ـ بالخدمة من جلب الماء وما يقتضيه الحال ـ [هو] أعظم رجلٍ في العالم بعد أئمّة الدِّين عليهم‌السلام ؛ فإنّ جثمان المعصوم عليه‌السلام عند سيره إلى المبدأ الأعلى ـ تقدّست أسماؤه ـ لا يُمكن أنْ يقربَ أو ينظر إليه مَن تقاعس عن تلك المرتبة ؛ إذ هو مقامُ قابَ قوسين أو أدنى ، ذلك الذي لم يطق الروح الأمين أنْ يصل إليه حتّى تقهقر ، وغاب النّبيُّ الأقدس في سبحات الملكوت والجلال وحدهُ إلى أنْ وقف الموقف الرهيب.

__________________

(١) كامل الزيارات / ٣٧٢ ، تهذيب الأحكام ٦ / ٦٥ ، المزار للمفيد / ١٢٠ ، المزار للمشهدي / ٣٨٨.

(٢) ورد في ذخائر العقبى / ١٤١ ، والذرِّيَّة الطّاهرة للدولابي / ١٢٠ ، وكشف الغُمَّة ٢ / ١٧١ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ١٣٧ : وولّى غُسلَهُ الحسينُ ومحمّدٌ والعبّاسُ إخوتُه ... ولمْ يردْ في مصدر أنّ المُشارك للحسين عليه‌السلام العبّاس فقط.

٢٠٠