العبّاس عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

العبّاس عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


المترجم: الشيخ محمّد الحسّون
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 964-95037-0-6
الصفحات: ٣٩١

إلى كربلاء يعقد مجلساً لذكر مصيبة أبي الفضل العبّاس عليه‌السلام ؛ وفاءً لنذر عليه ، فامضِ إلى كربلاء واقرأ مصيبة العبّاس. وغاب عنّي.

فانتبهت من النّوم ، ونظرت إلى والدتي عند رأسي تبكي ، ثُمّ نمت ثانياً ، فأتاني السيّد المذكور وهو يقول : ألم أقلْ لك إنّ ولدي سعيد ذهب إلى كربلاء وأنت تقرأ في مأتم أبي الفضل؟ فأجبته إلى ذلك ، فغاب عنّي ، فانتبهت.

وفي المرّة الثالثة نمت فعاد إليَّ السيّد المذكور ، وهو يقول بزجر وشدّة : ألم أقل لك امضِ إلى كربلاء ، فما هذا التأخير؟! فهبته في هذه المرّة وانتبهت مرعوباً.

وقصصتُ الرؤيا من أوّلها على والدتي ، ففرحت وتفاءلت بأنّ هذا السيّد هو أبو الفضل ، وعند الصباح عَزِمَتْ على الذّهاب بي إلى حرم العبّاس ، ولكنْ كُلَّ مَن سمع بهذا لم يوافقها ؛ لما يراه من الضعف البالغ حدّه ، وعدم الاستطاعة على الجلوس حتّى في السيّارة ، وبقيت على هذا إلى اليوم الثاني عشر من المُحرّم ، فأصرّت الوالدة على السّفر إلى كربلاء بكُلِّ صورة ، فأشار بعضُ الأرحام على أنْ يضعوني في تابوت ، ففعلوا ذلك ، ووصلتُ ذلك اليوم إلى القبر المُقدّس ، ونمت عند الضريح الطاهر.

__________________

سنة ١٣٥٨ هـ ، ودُفن في الحجرة المُلاصقة لباب الصحن المعروفة بباب القزّازين ، وكان السيّد رحمه‌الله باذلاً نفسه ونفيسه في خدمة أجداده الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، وداره العامرة (حُسينيّة) لأهل طرفه (البراق) ، يُقيمون فيها مراسيم العزاء والفرح للأئمّة عليهم‌السلام لا يعدلون بها بدلاً ، وفّقهم اللّه لما يرضيه.

وأمّا ولده السيّد سعيد ، فكانت ولادته في سنة ١٣٢٢ هـ ، وتوفّي في ١٥ ذي القعدة سنة ١٣٥٥ هـ ، ودُفن في الحجرة مع أبيه ، وقام السيّد صالح أبيه في إقامة الأفراح والمآتم ، فنعم الخلف لذلك السيّد الطاهر!

٢٢١

وبينا أنا في حالة الإغماء في الليلة الثالثة عشر من المُحرّم ، إذ جاء ذلك السيّد المذكور ، وقال لي : لماذا تأخّرت عن يوم السّابع وقد بقي سعيد بانتظارك؟ وحيث لم تحضر يوم السّابع فهذا يوم دفن العبّاس ـ وهو يوم ١٣ ـ فقم واقرأ. ثُمّ غاب عنِّي ، وعاد إليَّ ثانياً وأمرني بالقراءة وغاب عنِّي ، وعاد في الثالثة ووضع يده على كتفي الأيسر لأنّي كُنتُ مُضطجعاً على الأيمن ، وهو يقول : إلى متى النّوم؟ قم واذكر (مُصيبتي). فقمت وأنا مدهوش مذعور من هيبته وأنواره ، وسقطت لوجهي مغشيّاً عليَّ ، وقد شاهد ذلك مَن كان حاضراً في الحرم الأطهر.

وانتبهت من غشوتي وأنا أتصبّب عرقاً ، والصحة ظاهرة عليَّ ، وكان ذلك في السّاعة الخامسة من الليلة الثالثة عشر من المُحرّم سنة ١٣٥٤ هـ.

فاجتمع علىَّ مَن في الحرم الشريف ، وأقبل مَن في الصحن والسّوق ، وازدحم النّاس في الحضرة المنوّرة ، وكثر التكبير والتهليل ، وخرق النّاس ثيابي ، وجاءت الشُّرطة فأخرجوني إلى البهو الذي هو أمام الحرم ، فبقيت هناك إلى الصباح.

وعند الفجر تطهّرتُ للصلاة ، وصلّيتُ في الحرم بتمام الصحة والعافية ، ثُمّ قرأتُ مصيبة أبي الفضل عليه‌السلام ، وابتدأت بقصيدة السيّد راضي ابن السيّد صالح القزويني ، وهي :

أبَا الفَضلِ يَا مَنْ أسَّسَ الفَضلَ والإبا

أَبا الفضلُ إلاّ أنْ تَكُونَ لَهُ أبا

والأمر الأعجب ، أنّي لمّا خرجت من الحرم قصدتُ داراً لبعض

٢٢٢

أرحامنا بكربلاء ، وبعد أنْ قرأت مصيبة العبّاس خلوتُ بزوجتي ، وببركات أبي الفضل حملت ولداً سمّيته (فاضل) ، وهو حيٌّ يُرزق ، كما رُزقتُ عبدَ اللّه وحسناً ومحمّداً ، وفاطمة كنَّيتُها اُمَّ البنين.

هَذهِ مِنْ عُلاَه إحدَى المَعالِي

وعَلَى هَذِهِ فَقِسْ مَا سِوَاهَا

وذُكر أنّ السيّد الطاهر الزاكي السيّد مهدي الأعرجي ـ وكان خطيباً نائحاً ، له مدائح ومراثي لأهل البيت عليهم‌السلام كثيرة ـ ورد النّجف يوم خروجي إلى كربلاء ، فبات مُفكّراً في الأمر ، وكيف يكون الحال؟! وفي تلك الليلة الثالثة عشر رأى في المنام كأنّه في كربلاء ودخل حرم العبّاس ، فرأى النّاس مجتمعين عليَّ وأنا أقرأ مصيبة العبّاس ، فارتجل في المنام :

لَقد كُنتَ بالسّلِّ المُبرّحِ داؤهُ

فشافانيَ العبّاسُ مِنْ مرضِ السِّلِّ

فَفُضلتُ بينَ النّاسِ قَدْراً وإنَّما

لي الفضلُ إذ أنّي عتيقُ أبي الفضلِ

وانتبه السيّد من النّوم يحفظ البيتين ، فقصد دارنا وعرّفهم بما رآه ، وفي ذلك اليوم وضح لهم الأمر.

وقد نظم هذه الكرامة جماعة من الاُدباء الذين رأوا السيّد سعيد في الحالين ؛ الصحة والمرض.

فمنهم السيّد الخطيب العالم السيّد صالح الحلّي رحمه‌الله.

بأبِي الفَضْلِ استَجَرنَا

فَحبَانَا مِنهُ مُنحهْ

وطَلبنَا أنْ يُداوِي

أَلَمَ القَلْبِ وجُرحَهْ

فَكسَا اللّهُ سَعيداً

بعد سُقمٍ ثَوبَ صِحّهْ

٢٢٣

بدَّلَ الرَّحمنُ منهُ

قرحةَ القلبِ بفرحَهْ

وقال الخطيب الفاضل الاُستاذ الشيخ محمّد علي اليعقوبي :

بأبي الفَضْلِ زالَ عنّي سقامي

مُذْ كَساني منَ الشِّفاءِ بُرودَا

وحَباني منَ السّعادةِ حتّى

صرْتُ في النَّشأتين اُدعَى سعيدَا

وقال العلاّمة الشيخ علي الجشِّي أيَّده اللّه :

سعيدٌ سُعدتَ وجزتَ الخطرْ

من السّلِّ في مثلِ لمحِ البَصرْ

غداةَ التجأتَ لمثوى بِهِ

أبو الفضلِ حلَّ فردَّ القَدرْ

وقال السيّد حسون السيّد راضي القزويني البغدادي :

سعيد لقد نال الشفا من ابي الفضل

ولولاه كان السقم يأذن بالقتل

ولا غرو أن نال الشفا منه انه

ابوالفضل اهل للمكارم والفضل

وله أيضاً :

ذا سعيدٌ بالبُرءِ أضحى سعيدا

وحَباهُ الإلهُ عُمْرَاً جديدا

مِنْ أبي الفضلِ بالشِّفا نالَ فَضْلاً

وامتناناً ونالَ عَيْشاً رغيدا

وللأديب الكامل السيّد محمّد بن العلاّمة السيّد رضا الهندي رحمه‌الله :

لَمْ أنسَ فضلكَ يا أبا الفضلِ الذي

هيهاتَ أنْ يُحصى ثناه مُفصّلا

يكفيكَ يومَ الطَّفِّ موقفُكَ الذي

قد كان المع ما يكون وافضلا

٢٢٤

ولقدْ نصرتَ بهِ النّبيَّ بسبطِهِ

وغدوتَ في دُنيا الشَّهادةِ أوّلا

وأَنا الذي قدْ كان دائي مُهلِكا

وأجرْتني لمّا استجرتُ مُؤمِّلا

ألبستَني ثوبَ الشِّفاءِ وعدتُ

حيْ يَاً فيكَ يا ساقي عِطاشى كربَلا

وللخطيب الذاكر الفاضل الشيخ عبد علي الشيخ حسين :

سعيدُ التجَى من ضُرِّهِ وسقامِهِ

بقبرِ أبي الفضلِ المُفدَّى فعافاهُ

لَعمرِي ترى الأقدارَ طوعَ يمينِهِ

كوالِدِهِ الكرّارِ يمناه يمناهُ

فآب وإبراهيمُ قُرّت عيونُهُ

ببرءِ سعيدِ النّدبِ يشكرُ مولاهُ

سعيدٌ سعيداً عش بظلِّ لوائِهِ

بأسعد يومٍ لا تزالُ وأهناهُ

بفضلِ أبي الفضلِ الفضيلةَ حُزْتَها

ولولاهُ لمْ تنجُو من الضُّرِّ لولاهُ

وللشيخ جعفر الطّريفي :

عجزَ الطبيبُ لعلَّتي وقلاني

وعجزتُ مِنْ سُقمي وطولِ زماني

هجرَ الصَّديقُ زيارَتي وكأنّني

ما زرتُهُ في سُقمِهِ فجفاني

٢٢٥

حتّى إذا قالوا فقلّوا خفيةً

هجروا الأواني خيفةَ العدوانِ

فقصدتُ باباً للحوائجِ والشِّفا

الْعبّاسَ باباً للشِّفا فشَفاني

لَولاهُ واراني التُّرابُ بحفرتي

نِعمَ الطبيبُ الأوحدُ الربّاني

وللشيخ كاظم السّوداني :

فكَمْ لأبي الفضلِ الأبيّ كراماتٌ

لها تُليتْ عند البريّةِ آياتُ

وشاراتُهُ كالشَّمسِ في الاُفقِ شُوهدتْ

لها من نباتِ المجدِ أومتْ إشاراتُ

سعيدٌ سعيداً عادَ منها إلى الشِّفا

به انسلَّ عنه السّلُّ إذ كمْ به ماتُوا

أبو الفضلِ كَمْ فضلٌ له ومناقبٌ

فيا جاحديهِ مثلَ بُرهانِهِ هاتُوا

هو الشّبلُ شبلٌ من عليٍّ وفي الوغَى

له أثرٌ من بأسِهِ وعلاماتُ

لقدْ شعَّتِ الأكوانُ من بدرِ فضلِهِ

بأنواره أرّخْ : (وفيها مُضيئاتُ)

وللخطيب الشيخ حسن سبتي :

٢٢٦

ألا عشْ سعيداً يا سعيدُ منعّماً

مدى الدَّهرِ إذ عُوفيتَ من فتكةِ السّلِّ

عتيقَ حُسينٍ كان جدُّكَ أوّلاً

لذا صرتَ ثانيهِ عتيقَ أبي الفضلِ

وللسيّد نوري ابن السيّد صالح ابن السيّد عبّاس البغدادي :

بُشرى لإبراهيمَ في نجلِهِ

مِنْ مرضِ السّلِّ غدا سالمَا

أبرأهُ العبّاسُ من فضلِهِ

وفضلُهُ بينَ الورَى دائِمَا

الخامسة :

حدّثني الشيخ العالم الثّقة الثبت الشيخ حسن ابن العلاّمة الشيخ محسن ابن العلاّمة الشيخ شريف آل الشيخ المُقدّس ، صاحب الجواهر قدس‌سره ، عن حاج منيشد بن سلمان آل حاج عبودة ، من أهل الفلاحيّة ، وكان ثقة في النّقل ، عارفاً بصيراً ، شاهد الكرامة بنفسه ، قال : كان رجل من عشيرة البراجعة يُسمّى (مخيلف) مصاباً بمرض في رجليه ، وطال ذلك حتّى يبستا وصارتا في رفع الإصبع ، وبقي على هذا ثلاث سنين ، وشاهده الكثير من أهل (المحمّرة) ، وكان يحضر الأسواق ومجالس عزاء الحسين عليه‌السلام ويستعين بالنّاس ، وهو يزحف على إليتيه ويديه ، وقد عجز عن المباشرة ويئس.

وكان للشيخ خزعل بن جابر الكعبي في المحمّرة (حُسينية) يُقيم فيها عزاء الحسين عليه‌السلام في العشرة الاُولى من المُحرَّم ، ويحضر هناك خلق كثير حتّى النّساء يجلسن في الطابق الأعلى من الحُسينيّة ، والعادة المُطَّردة في تلك البلاد ونواحيها أنّ (الخطيب

٢٢٧

النّائح) إذا وصل في قراءته إلى الشَّهادة قام أهل المجلس يلطمون بلهجاتٍ مُختلفة وهكذا النّساء ، وفي اليوم السّابع من المُحرَّم كان المتعارف أن تذكر مصيبة أبي الفضل العبّاس ، وهذا الرجل أعني (مخيلف) يأتي الحسينيّة (ويجلس تحت المنبر ؛ لأنّ رجليه ممدودتان) (١) ، وحينما وصل الخطيب إلى ذكر المصيبة ، أخذت الحالة المعتادة مَن في المجلس رجالاً ونساءً ، وبينا هم على هذا الحال إذ يرون ذلك المصاب بالزمانة في رجليه (مخيلف) واقفاً معهم يلطم ، ولهجته : (أنا مخيلف قيّمني العبّاس).

وبعد أنْ تبيّن النّاس هذه الفضيلة من أبي الفضل تهافتوا عليه وخرّقوا ثيابه للتبرّك بها ، وازدحموا عليه يُقبّلون رأسه ويديه ، فأمر الشيخ خزعل غلمانه أنْ يرفعوه إلى إحدى الغُرف ويمنعوا النّاس عنه ، وصار ذلك اليوم في المحمّرة أعظم من اليوم العاشر من المُحرَّم ، وصار البكاء والعويل والصراخ من الرجال ، وأمّا النّساء فمنهنّ مَن تُهلهل ، واُخرى تصرخ ، وغيرها تلطم.

وذكر لي ملاّ عبد الكريم الخطيب من أهل المحمّرة ـ وكان حاضراً وقت الحديث ـ أنّ الشيخ خزعل في كُلِّ يوم يصنع طعاماً لأهل المجلس في الظهر ، وفي ذلك اليوم تأخّر الغداء إلى السّاعة التاسعة من النّهار لبكاء النّاس وعويلهم.

وقال العلاّمة الشيخ حسن المذكور : ثُمّ إنّه سُئل مخيلف عمّا رآه وشاهده ، فقال : بينا النّاس يلطمون على العبّاس أخذتني سنة

__________________

(١) هذه الجمّلة التي بين قوسين حدّثني بها في دار الشيخ الجليل الشيخ حسن المذكور ملاّ عبد الكريم ، وقد شاهد الرجل بعينه ذلك اليوم.

٢٢٨

وأنا تحت المنبر ، فرأيت رجلاً جميلاً طويل القامة على فرس أبيض عالٍ في المجلس ، وهو يقول : يا مخيلف ، لِمَ لا تلطم على العبّاس مع النّاس؟

فقلتُ له : يا أغاتي ، لا أقدر وأنا بهذا الحال.

فقال لي : قُمْ والطم على العبّاس.

قلتُ له : يا مولاي ، أنا لا أقدر على القيام.

فقال لي : قُمْ والطم.

قلتُ له : يا مولاي ، أعطني يدك لأقوم.

فقال : أنا ما عندي يدين.

فقلتُ له : كيف أقوم؟

قال : الزم ركاب الفرس وقُمْ. فقبضت على ركاب الفرس ، وأخرجني من تحت المنبر وغاب عنّي ، وأنا في حالة الصحة ، وعاش سنتين أو أكثر ومات.

وحدّثني المُهذّب الكامل ميرزا عباس الكرماني ، أنّه تعسّرت عليه حاجة ، فقصد أبا الفضل عليه‌السلام واستجار بضريحه ، فما أسرع أنْ فُتحت له باب الرحمة وعاد بالمسرّة بعد اليأس مدّة طويلة ، فأنشأ :

أبا الفضلِ إنّي جئتُكَ اليومَ سائلاً

لتيسيرَ ما أرجو فأنتَ أخُو الشِّبلِ

فلا غروَ إنْ أسعفتَ مثْلِي بائِساً

لأنّكَ للحاجات تُدعى أبا الفضلِ

هذا ما أردنا إثباته من الكرامات ، وهو قطرة من بحر ؛ فإنّ

٢٢٩

الإتيان عليها كُلِّها يحتاج إلى مجلّد كبير لأنّ اللّه سبحانه منح (حامي الشريعة) جزيل الفضل وأجرى عليه من الفيض الأقدس ما لم يحوه بشر غير الأنبياء المُقرّبين والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ؛ جزاءً لذلك الموقف الباهر الذي لم يزل يرنّ رجع صداه المؤلم في مسامع القرون والأجيال ، مُذكّراً بما أبداه أبو الفضل من إباء وشمّم ، وكرٍّ وإقدام ، وتضحية دون الشّرع القويم.

٢٣٠

اللّواء

اللّواء : ما يُعقد على رمح أو عصا ، ويُقال له : (الراية) ، كما يُطلق عليهما (العَلَم) ، هذا عند أهل اللغة.

وعند المؤرّخين : أنّهما شيئان ، فذكروا أنّ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله عقد لحمزة بن عبد المُطّلب لواءً أبيض في رمضان أوّل الهجرة ، وفيه يقول حمزة :

فما برِحُوا حتّى انْتُدبتُ لغارةٍ

لهمْ حيثُ حلُّوا أبتغي راحةَ الفَضلِ

بأمرِ رسولِ اللّهِ أوَّلِ خافقٍ

عليه لواءٌ لمْ يكُنْ لاحَ منْ قبلي

لواءٌ لَديهِ النَّصرُ مِنْ ذي كرامةٍ

إلهٍ عزيزٍ فعلُهُ أفضلُ الفِعْلِ

وأوّل راية عقدها للمسلمين في شوّال من هذه السّنة (١).

والمعقود على رمح أو غيره ؛ إنْ كان واسعاً فهو الراية ، وإلاّ فاللّواء ، ويُقال للعَلَم الكبير : البند والعقاب ، وإن خُصّ الثاني بما

__________________

(١) السّيرة النّبويّة لابن هشام ٢ / ٤٢٨ ، الاستيعاب لابن عبد البر ١ / ٣٧٠ ، تاريخ خليفة بن خيّاط / ٣٤ ، المعارف لابن قتيبة / ٤٢٢ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٢١. لكن ابن هشام وغيره قالوا : وقد زعموا أنّ حمزة قد قال في ذلك شعراً يذكر فيه أنّ رايته أوّل راية عقدها رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنْ كان حمزة قد قال ذلك ، فقد صدقْ إن شاء اللّه ... فأمّا ما سمعنا من أهل العلم عندنا فعبيدة بن الحارث أوّل مَن عُقدَ له.

٢٣١

يُعقد للولاة (١) ، والتَّسمية بالعقاب اقتبسها العرب من الروم ؛ فإنّ العقاب والنّسر شارة الرومان ، يرسمونها على أعلامهم ، وينقشونها على أبنيتهم (٢).

وكانت أعلام الروم كباراً ، تحت كُلِّ علم عشرةُ آلاف أو أكثر (٣).

وكانت راية كسرى يوم الجسر سنة ١٣ هجرية من جلود النّمر في عرض ثمانية أذرع ، وطول اثني عشر ذراعاً ، وهي المُسمّاة (درفش كابيان) (٤).

وهذه الراية كانت محفوظة في خزائنهم ، ولم تكن بهذه السّعة ، وإنّما زادوا عليها تبرّكاً ، والأصل فيها : إنّ الضحّاك بيوراسف خرجت من منكبيه سلعتان ، فكان إذا اشتد عليه الألم طلاهما بدماغ إنسان يذبحه ، فلاقى النّاس منه عناءً ونكداً وجوراً ، فأخذ ابنين لرجل من أهل أصبهان اسمه (كابي) فشقّ عليه ، فدعا النّاس للخروج على الضحّاك ، وأخذ عصا وعلّق عليها جراباً وتبعه النّاس ، فتغلّب على الضحّاك وخلعوه عن المُلك واستراحوا من جوره ، فعظّموا ذلك العَلَم وتفأّلوا به ، وزادوا فيه حتّى صار عند ملوك العجم العَلَم الأكبر الذي يتبرّكون به ، وسمّوه (درفش كابيان) (٥).

كما احتفظ الاُمويّون براية ابن زياد التي أخرجها يوم الطَّفِّ ، ففي تاريخ (يزد) للآيتي ص ٧٢ : إنّ أبا العلاء الطّوفي كان هو وأبوه

__________________

(١) تاج العروس بمادة عقب ٢ / ٢٥٣ ، نقلاً عن لسان العرب لابن منظور ١ / ٦٢١.

(٢) المصدر غير موجود.

(٣) لسان العرب ٣ / ٩٧ ، تاج العروس ٤ / ٣٦٦.

(٤) تاريخ الطبري ٢ / ٦٣٩ ، الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ / ٤٣٨.

(٥) تاريخ الطبري ١ / ١٣٦ ، البداية والنّهاية لابن كثير ٧ / ٣٣.

٢٣٢

من عُمّال الاُمويِّين ، طاف البلاد لأخذ البيعة لهم فلُقّب (بالطّوفي) ، وكان مُعلّماً لهشام بن عبد الملك ، فلمّا ولي هشام المُلك أراد أنْ يُكافئه على خدمته ، فبعثه عاملاً على (يزد) ودفع إليه تلك الراية ، فسار أبو العلاء إلى (يزد) ، ونصب الراية في البُستان المشهور باسمه ، ودعا أهل يزد إلى بيعة الاُمويِّين ، وكانوا على طريقة أهل البيت عليهم‌السلام ، وأخذهم على ذلك أخذاً شديداً ، وعاملهم بالقسوة والجور ، وبقوا يتقلّبون على حسك الظلم إلى أنْ ظهر أبو مسلم الخراساني أيّام مروان الحمار ، وتصرّف في خراسان وفارس سنة ١٣٢ وسنة ١٣٣ هجرية ، فراسله اليزديّون وطلبوا إنقاذهم من مخالب الطّوفي ، فبعث أبو مسلم محمّد الزمجي إلى أصفهان ويزد.

وبلغ الطّوفي إقباله بجيش جرّار وأنّ اليزديّين معه ، فخرج ليلاً من يزد إلى قرية (ابرند آباد) ، فبعث محمّد الزمجي جماعة فقبضوا عليه وأتوا به إلى يزد ، وتجمهر اليزديّون رجالاً ونساء عليه ، واستقرّ الرأي على إحراقه والراية معه ، ففُعل بهما ذلك ، وانتهبوا القصر والبُستان.

وإنّ المصادر التاريخيّة لم تُرشدنا إلى أوّل مَن رفع اللّواء ، ويقوي في الظنِّ أنّ (كابي) المُتقدّم أوّل مَن اتّخذه ، كما أنّ الخليل إبراهيم عليه‌السلام أوّل من اتّخذ الرايات ؛ وذلك لمّا غلب الرومُ على لوط وأسروه ، رفع الخليلُ رايةً وسار لمحاربة الروم ، فغلبهم واسترجع لوطاً (١).

ولمّا جاء الإسلام ، وانتشر العرب في أنحاء الشام وفارس ومصر ، وتعدّدت دُولهم ، كثرت ضروب الألوية عندهم وتنوّعت

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ / ١٧٠ ، باب النّوادر ، مُستدرَك الوسائل ١١ / ٩.

٢٣٣

أشكالها ، وتعدّدت ألوانها وأطالوها ، وسمّوها بأسماء مختلفة حتّى تفاخروا بتعدادها ، فقد بلغت رايات العزيز باللّه الفاطمي لمّا خرج إلى فتح الشام خمسمئة راية ، ومثلها البوقات.

وكانوا ينقشون على راياتهم أسماء الخُلفاء والسّلاطين والقوّاد ؛ إرهاباً وإعزازاً وتفاؤلاً بالظفر ، فقد كتب ابن بشكم على رايته (الرائقي) نسبة إلى ابن رائق ، وربما كتبوا آيات القرآن عليها ، فقد وُجد في دير الظاهر بمدينة برغوس في الأندلس راية من الحرير الخالص مُطرَّزة بالنّقوش الجميلة ، وعليها آياتٌ قُرآنية (١).

وكتب أبو مسلم الخراساني بالحبر على لوائه : (اُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (٢). ثُمّ إنّه عقد لواء بعثه إليه إبراهيم الإمام اسمه (الظِّل) على رمح طوله أربعة عشر ذراعاً ، وعقد آخر بعث به إليه اسمه (السّحاب) على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعاً (٣).

أمّا الوان الألوية والرايات ، فلا يُعرف عنها شيء في الجاهليّة سوى راية العقاب فإنّها سوداء ، وكذلك راية النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويُقال : إنّ رايات العرب كانت بيضاء (٤).

__________________

(١) التمدّن الإسلامي ١ / ١٩٦ ، وفي الصفحة ١٦٨ ذكر اهتمام الفاطميِّين بالولاية والرايات والدرق ، فمِن ذلك أنّهم صنعوا بيتاً بمصر يُقال له : (خِزانة البنود) ، اختزنوا فيها الأعلام والرايات ، والأسلحة والسّروج ، واللجم المُذهَّبة والمُفضّضة ، وكانوا يُنفقون عليها في كلّ سنة ثمانين ألف دينار ، ولمّا احترقت الدار بما فيها ، قُدّرت الخسارة بثمانية ملايين دينار ، وكان في جملتها لواء يُسموّنه : لواء الحمد.

(٢) سورة الحجّ / ٣٩.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥.

(٤) آثار الدول للقرماني.

٢٣٤

أمّا رايات النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مغازيه فمختلفة ؛ ففي بدر كانت رايةُ حمزة حمراء ، ورايةُ أمير المؤمنين عليه‌السلام صفراء ، ويوم اُحد وخيبر اللّواء والراية أبيضان (١) ، وفي عين الوردة الراية بلقاء (٢).

وكانت أعلام بني اُميّة حُمراً ، وكُلُّ مَن دعا إلى الدولة العلويّة فعلمه أبيض ، ومَن دعا إلى الدولة العبّاسيّة فعلمه أسود ، ويقرب في الظنّ أنّ شعار العلويّين الخضرة حتّى في راياتهم ؛ فإنّ المأمون لمّا عقد ولاية العهد للإمام الرضا عليه‌السلام ألزم النّاس بالخضرة وترك شعار العبّاسيِّين.

نعم ، لمّا عقد المتوكّل لبنيه البيعة عقد لكُلِّ واحد منهم لوائين ؛ أحدهما أسود وهو لواء العهد ، والآخر أبيض وهو لواء العمل (٣).

وكيف كان ، فالراية : عقدُ نظام العسكر وآيةُ زحفهم ، فلا يخالون انجفالاً ما دامت تسري أمامهم ، فهي بتقدّمها شارة الظفر وعلامة الفوز ، فلنْ تجد جحفلاً منثالاً ، وفيلقاً ملتاثاً إلاّ إذا انكفأت الراية أو اُصيب حاملها فخرّت ، ولذلك لا تُعطى إلاّ للأكفّاء الحُماة الغيارى على المبدأ ممّن لا يُجبّنه الخَوَر ، أو يُفشلهُ الضعفُ ، أو يخذلهُ الطمع.

وفي قول سيّد الوصيّين عليه‌السلام شاهد عدل على هذا ؛ فإنّه كان يحرّض النّاس يوم صفين ، ويقول : «ولا تَميلوا براياتِكُمْ ولا تزيلوا ، ولا تجعلُوها إلاّ معَ شُجعانِكُمْ ؛ فإنّ المانعَ للذِّمارِ ، والصابرَ عندَ نُزولِ

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٨٤.

(٢) تاريخ الطبري ٤ / ٤٦٩.

(٣) التمدّن الإسلامي ١ / ١٦٦.

٢٣٥

الحقائقِ هُمْ أهلُ الحفاظِ ... واعلَمُوا أنّ أهلَ الحفاظِ هُمْ الذينَ يحتفونَ براياتِهمْ ويكتنفونَها ، ويَصيرونَ حفافيها وورائها وأمامها ، ولا يُضيِّعونها ، ولا يتأخَّرون عنها فيُسلمونَها ، ولا يتقدّمونَ عنها فيُفردونَها» (١).

ولقد كان حمَلَةُ الرايات يتهالكون دون حملها إلى آخر قطرة تسقط من دمائهم ؛ حذراً من وصمةِ الجُبنِ وشيةِ العارِ وسمةِ الخزي ، ولا يدعُ لهم ثَباتُ الجأش وحمى الذِّمار واصرّة الشرف أنْ يلقوها ما دامت أيديهم تقلّها.

لا عَيبَ فيهمْ غَيرَ قَبضِهمُ اللّوا

عندَ اشتباكِ السُّمر قبضَ ضَنينِ

من أجل ذلك كانت راية الإسلام مع أمير المؤمنين عليه‌السلام في جميع مغازي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يفته مشهدٌ إلاّ تبوك حيث لم يقع فيها قتالٌ (٢) ، وإلاّ لما تركه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة مع ما يعلمه من بلائه وإقدامه.

وفي يوم بدر أعطاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (راية الإسلام) ، فزحف بها والمسلمون خلفه ولمّا يبلغ الخامسة والعشرين من عمره ، فأظهر أمير المؤمنين عليه‌السلام فيها من البسالة والنّجدة والبأس ما أطاش الألباب وحيّر العقول ، وجبّن الشجعان ووضع من قدرها ، فطار (أبو الحسن عليه‌السلام بذكرها ، وحاز مجدها ، واستأثر بفضلها.

وإنّ عملَهُ في هذا اليوم الذي كسر اللّه به شوكة المشركين وفلّ خَدَّهم ، لَمِن خوارق العادة وأجلّ الكرامات ؛ إذ لمْ يُباشر قبله

__________________

(١) الكافي للكليني ٥ / ٣٩ ، ونحوه في نهج البلاغة ٢ / ٣ ، تاريخ الطبري ٤ / ١١.

(٢) السّيرة الحلبيّة ٣ / ١١٩ ، إمتاع الأسماع للمقريزي ٩ / ٢٦٤ ، وكذلك يظهر من تاريخ الطبري ٢ / ٣٧٣.

٢٣٦

حرباً ولا نازل قرناً ، فعمل في ذلك الجمع من النّكاية والقتل الذريع ما لم يُشاهَد مثله ، مع أنّ أكثر الجمع قد مارس الحرب وقاسى الأهوال ، وخاض الغمرات وبارز الشجعان.

وأمّا يوم اُحد ، فكان اللّواء مع مصعب بن عمير من بني عبد الدار ، وإنّما أعطاه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جبراً لقلوب مَن آمن به من بني عبد الدار ، خصوصاً لمّا كان لواء المشركين مع قومهم من بني عبد الدار ، وبعد أنْ فعل مصعب ذلك اليوم ما يبهر العقول ، وأدّى حقّ اللّواء حتّى قُطعت يده اليمنى ثُمّ اليسرى ، وإذ قُطعت ضمّ اللّواء إلى صدره حتّى طُعن بالرمح في ظهره فسقط إلى الأرض قتيلاً ، دفع النّبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اللّواء إلى صاحبه (أبي الريحانتين عليه‌السلام ، فكان لأمير المؤمنين عليه‌السلام من البلاء العظيم والمقامات المحمودة ما لم يكن لأحد قط ، حتّى عجبت من ثباته وحملاته الملائكةُ بقتله أصحاب الألوية.

ولمّا كانت الدبرة على المسلمين كان له الموقف المشهود ، [حيث] أبصر النّبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جماعةً ، فقال لعليٍّ عليه‌السلام : «فرّقهُمْ». ففرّقهم ، وقتل عمرو بن عبد اللّه الجمحي ، ثُمّ أبصر جماعة اُخرى ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله له : «فرّقهُمْ». فحمل عليهم ، وقتل شيبة بن مالك ، فقال جبرائيل عليه‌السلام : هذه المواساة!

قال النّبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وما يمنعُهُ ؛ إنّهُ منِّي وأنا منهُ».

فقال جبرائيل عليه‌السلام : وأنا منكما.

وسمعوا صوتاً :

لا سَيْفَ إلاّ ذو الفِقارِ

ولا فَتىً إلاّ عليْ (١)

وفي يوم خيبر ، لمّا شاهد النّبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خَور المسلمين وضعفهم

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٤٢ / ٧٦ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٩٧ ، شرح إحقاق الحقّ للمرعشي ٦ / ١٥٧ ، وقد نقل المصادر التي ذكرت ذلك.

٢٣٧

وانتصار اليهود ؛ لانكسار (الرَّجُلين) في اليوم الأوّل والثاني ، ساءه ذلك ، فقال : «لأعطينّ الرَّايةَ غداً رجلاً يُحبُّ اللّهَ ورسولَهُ ، ويُحبُّهُ اللّهُ ورسولُهُ». فاستطالت لها أعناق الرجال رجاءً أنْ يُدعَوا لها ، فيحظَون بالفتح والسّعادة الخالدة.

فأتاهُ الوصيُّ أرمدَ عينٍ

فسقاهَا مِنْ ريقِهِ فشفاهَا

ومضَى يطلبُ الصُّفوفَ فولَّتْ

عنهُ عِلماً بأنّه أمضاهَا

وبرَى مَرحباً بكفِّ اقتدارٍ

أقوياءُ الأقدارِ مِنْ ضُعفاهَا

ودَحَى بابَها بقوّةِ بأسٍ

لو حمتهَا الأفلاكُ منه دحاهَا

وأمّا يوم حنين ، فلم يلقَ المسلمون أشدّ منها ، فلقد ضاقتْ عليهم الأرض بما رحبت ، وبلغت القلوب الحناجر ، وعاتبهم اللّه على فرارهم عن حبيبه وخاتم رسله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن ظهرت في هذا اليوم عظمة (صاحب الراية) ، ومكانته من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وموقفه من الدِّين ، ومبلغه من الدفاع ، وثباته في وجه الخطوب حتّى تراجع المسلمون.

ثُمّ لُفّت هذه الراية خمساً وعشرين سنة ، ونشرها أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم (الجمل) ، وأعطاها لولده محمّد بن الحنفيّة ، وقال له : «هذه رايةُ رسولِ اللّه لا تُردّ قط». فزحف بها ابن حيدرة والجيش خلفه ، وقيس بن سعد بن عبادة يقول (١) :

هذا اللواءُ الذي كُنّا نحفُّ بهِ

مَعَ النَّبيِّ وجبريلٌ لنا مَددُ

ما ضرَّ مَن كانتْ الأنصارُ عيبَتَهُ

أنْ لا يكونَ لهُ من غيرِها أحدُ

قومٌ إذا حارَبُوا طالتْ أكفُّهُمُ

بالمشرفيّةِ حتّى يُفتحَ البلدُ

__________________

(١) كتاب الجمل للشيخ المفيد / ١٦٥ ، ويظهر من مناقب الخوارزمي / ١٩٥ ، وقد أشار إلى هذه الأبيات وأنها قيلت في صفّين كلٌّ من : اُسد الغابة ٤ / ٢١٦ ، الوافي بالوفيات ٢٤ / ٢١٣ ، كتاب الفتوح لابن أعثم ٣ / ١٦١.

٢٣٨

وأدّى شبل علي عليه‌السلام حقّها حتّى كان الفتح ، كما أنّها كانت معه يوم النّهروان.

أمّا يوم صفّين ، فكانت راية الهمدانيِّين مع سفيان بن يزيد ، فلمّا قُتل أخذها أخوه عبيد ، ثُمّ أخوه كرب ، ثُمّ عمير بن بشير ، ثُمّ الحرث بن بشير ، ثُمّ وهب بن كرب ، وكُلّهم قُتلوا دونها (١).

وفي هذا اليوم الباهر كان لحمَلَة الرَّايات من أهل العراق المقام المشكور ، حتّى تضعضع من أقدامهم عرش معاوية لولا القضاء وإبرام المحتوم.

فكان ذوو الألويات يحرصون على رفعها ؛ لكونها معقد الجيش ، وبها يتمّ نظامهم وتتطامن نفوسُهم ، ولم ينكسر الجيش إلاّ بقتل صاحب الراية وسقوطها.

ومن هنا نعرف مكانة أبي الفضل من البسالة ، وموقفه من الشهامة ، ومحلّه من الشرف ، ومبوءه من الدِّين ، ومنزلته من الغيرة ، ومرتقاه من السّؤدد يوم عبّأ الحسين عليه‌السلام أصحابه ، فأعطى رايته أخاه (العبّاس) مع أنّ للعبّاس إخوة من اُمّه وأبيه ، وهناك من أولاد أبيه مَن لا يُسلّم اللّواء ، كما أنّ في الأصحاب مَن هو أكبر سنّاً منه ، مع صدق المفادات ، ولكن سيّد الشُّهداء عليه‌السلام وجد أخاه أبا الفضل أكفى ممّن معه لحملها ، وأحفظهم لذمامه وأرأفهم به ، وأدعاهم إلى مبدئه وأوصلهم لرحمه ، وأحماهم لجواره وأثبتهم للطعان ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ١٤ ، رجال الطوسي / ٦٧ ، خلاصة الأقوال للحلّي / ١٥٩ ، رجال ابن داود / ١٠٤ ، نقد الرجال للتفرشي ٢ / ٣٣٨ ، وقعة صفِّين للمنقري / ٢٥٢ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٥ / ٢٠١ ، واسم أبي سفيان لم يُحدّد بيزيد ، بل اختلف بين كونه زيد أو يزيد كما في المصادر المُتقدِّمة.

٢٣٩

وأربطهم جأشاً وأشدّهم مراساً.

فكان (صاحب الراية) عند معتقد أخيه الإمام عليه‌السلام ، ثابت الجأش في ذلك الموقف الرهيب ، ثبات الأسد الخادر ، وهذا بيان مُطَّرد تلهج به الألسن ، وإلاّ فما موقف الأسد منه! ومِن أين له طمأنينة هذا البطل المغوار الثابت فيما يفرُّ عنه الضّرغام؟!

وَلَولا اِحتِقارُ الاُسدِ شَبَّهتُها بِهِم

وَلَكِنَّها مَعدودَةٌ في البَهائِمِ

نعم ، أنسب تشبيه يليق بمقامه : أنّه كان يصول ومعه صولةُ أبيه المرتضى عليه‌السلام.

وللعبّاس مزيّة على مَن حمل اللّواء وبارز الأبطال وتقدّم للطعان ؛ فإنّه عليه‌السلام قد ألمّت به الكوارث والمحن من نواحي مُتعدّدة ؛ من جروح وعطش ، وفئة صرعى وحرائر ولهى ، وأطفال أمضّ بها الظمأ ، والواحدة منها كافية في أنْ تهدي إلى البطل ضعفاً ، وإلى الباسل فراراً ، لكن (صريخة بني هاشم) بالرغم من كُلِّ هاتيك الرزايا كان يزحف بالراية في جحفل من بأسه ، وصارم من عزمه ، وكان في حدِّ حسامه الأجلُ المُتاح ، وملكُ الموت طوع يمينه ، إذاً فليس من الغريب إذا ظهر في غصن الخلافة ما يبهر العقول!

قَسماً بِصارمِهِ الصَّقيلِ وإنَّني

في غَيرِ صاعقةِ السَّما لا اُقسمُ

لَولا القَضا لَمحى الوُجودَ بِسَيفِهِ

وَاللَهِ يَقضِي ما يَشاءُ وَيحكمُ

٢٤٠