العبّاس عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

العبّاس عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


المترجم: الشيخ محمّد الحسّون
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 964-95037-0-6
الصفحات: ٣٩١

ولمّا نزل في بدر بأقرب ماء هناك ، قال له الحباب بن المنذر : أرأيت يا رسول اللّه هذا المنزل؟ منزلاً أنزلك اللّه به أمْ هو الرأي والمكيدة والحرب؟

فقال : «هو الرأي والحرب».

فأشار عليه بأنْ ينهض ويأتي أدنى منزل من القوم فينزل على الماء ، ثُمّ يعمل حوضاً يملأه ماءً يشرب منه المسلمون ، ولا يشرب منه أعداؤهم. فأخذ برأيه وارتحل حتّى أتى الماء ونزل عليه (١).

ولمّا قصده الأحزاب أراد أنْ يُصالح عيينة بن حصين ، والحارث بن عوف على ثلث أثمار المدينة ؛ ليرجعا بمَنْ معهما من غطفان ، فشاور في ذلك سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، وسعد بن فزارة ، فأشاروا عليه ألاّ يُعطيهم شيئاً ، فعمل بمشورتهم ، وكان الفتح له (٢). كُلّ ذلك إيذاناً وتنبيهاً بما هو اللازم من التريّث والأخذ بحقائق الاُمور.

وسار الأئمّة من آله على هذا النّهج ، فكان الإمام الرضا عليه‌السلام يذكر أباه موسى بن جعفر عليه‌السلام ويقول : «كان عقلُهُ لا يُوازَن به العقول ، وربما شاورَ بعضَ عبيدِهِ فيُشير عليه من الضَّيعةِ والبُستانِ فيعمل به ، فقيل له : أتشاورُ مثل هذا؟! فقال عليه‌السلام : رُبما فُتح على لسانِهِ» (٣).

ولمّا كتب إليه عليُّ بنُ يقطين بما عزم عليه موسى الهادي من

__________________

٥٢ ، والوارد في آخر الرواية : «فقال له رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خيراً ، ودعا له ...».

(١) اُسد الغابة ١ / ٣٦٥ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٤٤ ، تاريخ الإسلام للذهبي ٢ / ٥٣ ، الثقات لابن حبّان ١ / ١٦٢ ، إمتاع الأسماع للمقريزي ٩ / ٢٤٣.

(٢) تاريخ الإسلام ٣ / ٣٤٨ ، إمتاع الأسماع للمقريزي ١ / ٢٣٩.

(٣) المحاسن للبرقي ٢ / ٦٠٢ بلفظ : «وربما شاور الأسودَ مِنْ سُودانِهِ».

٢١

الفتك به ، وأنّه سمعه يقول : قتلني اللّه إنْ لم أقتل موسى بن جعفر. فلمّا ورد الكتاب عليه ، شاور أهل بيته وشيعته وأطلعهم على الكتاب ، وقال لهم : «ما تُشيرون عليَّ؟».

قالوا : نشير عليك ـ أصلحك اللّه ـ أنْ تُباعد شخصك من هذا الجبّار. فلم يتباعد عن مشورتهم ، ولكنّه أوقفهم على غامض أسرار اللّه من هلاك الطاغي ، فكان كما قال (١).

وكان الأئمّة عليهم‌السلام ـ وهم العالمون بما كان وما يكون ـ يتّخذون الوسائل العادية لدفع الأضرار عنهم إذا علموا تأخّر القضاء ؛ من مراجعة الطبيب ، أو الشخوص نحو المُهيمن جلّ شأنُه ، أو الشكوى إلى جدّهم النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولما سُقي الإمام الحسن عليه‌السلام العسلَ المسمومَ وأعتلّ ، تداوى بالحليب فعُوفي ، وحين عادت إليه العلّةُ أخذ يسيراً من تُربة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومزجها بالماء فشربه وعوفي (٢).

وقال الإمام الهادي عليه‌السلام لأبي هاشم الجعفري حين مرض بسامراء : «ابعثوا رجلاً إلى (الحائر) يدعو اللّه لي بالشّفاء من العلّة».

فقال علي بن بلال : ما يصنع بالحير ، أليس هو الحير؟! فلم يدرِ أبو هاشم ما يُجيبه حتّى دخل على الهادي عليه‌السلام وحكى له قوله. فقال عليه‌السلام : «ألا قُلتَ له : إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يطوفُ بالبيت ويُقبّل الحَجَر ، وحرمةُ النّبيِّ والمؤمنِ أعظمُ من حُرمة البيتِ. وأمرَه

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٨ / ١٥١.

(٢) الكامل للبهائي / ٤٥٣.

٢٢

اللّه تعالى أنْ يقف بعرفات ، وإنّما هي مواطن يُحبّ اللّه أنْ يُذكر فيها ، وأنا اُحبّ أنْ يُدعَى لي حيثُ يُحبُّ اللّهُ أنْ يُدعَى فيها» (١).

والغرض من هذا كلِّه ، التعريف بأنّه لم يجب في التكوينات إلاّ جري الاُمور على مجاريها العاديّة وأسبابها الطبيعيّة ، وأنّه لا غناء عنها لأيّ أحد ، وأنّ الأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام وإنْ أمكنهم إعمال ما أقدرهم عليه اللّه سبحانه من التصرّفات حسبما يُريدون ، لكنّهم في جميع أدوارهم مُقتدى الاُمّةِ ، ومُسيّروهم إلى ما يُراد منهم من أمر الدِّين والدُّنيا ، فعلى نهجهم يسير النّاس ، وبأفعالهم يتأسّى البشر ، وبإرشادهم تُرفع حُجبُ الأوهام.

وعلى هذا الأساس مشى أمير المؤمنين عليه‌السلام في اختيار الزوجة الصالحة.

__________________

(١) الكافي ٤ / ٥٦٧ ، ٥٦٨ ، ح ٣ ، كامل الزيارات / ٤٥٩ ، ح [٦٩٧] ١ ، وسائل الشيعة ١٤ / ٥٣٨ ح (١٩٧٧٥) ٣ ، ونصُّ الرواية كالتالي : «عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن أبي هاشم الجعفري قال : بعث إليّ أبو الحسن عليه‌السلام في مرضه ، وإلى محمّد بن حمزة ، فسبقني إليه محمّد بن حمزة وأخبرني محمّد : مازال يقول : «ابعثوا إلى الحير ، ابعثوا إلى الحير».

فقلتُ لمحمّد : ألا قلت له أنا أذهب إلى الحير. ثمّ دخلت عليه ، وقلت له : جُعلت فداك! أنا أذهب إلى الحير؟ فقال : «انظروا في ذاك». ثمّ قال لي : «إنّ محمّداً ليس له سرٌّ من زيد بن علي ، وأنا أكره أنْ يسمع ذلك».

قال : فذكرت ذلك لعليِّ بن بلال ، فقال : ما كان يصنع [بـ] الحير وهو الحير.

فقدمت العسكر ، فدخلت عليه ، فقال لي : «اجلس». حين أردت القيام ، فلمّا رأيتُه أنِس بي ، ذكرتُ له قول علي بن بلال.

فقال لي : «ألا قلتَ له : إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يطوف بالبيت ويُقبّل الحَجَر ، وحرمةُ النّبيِّ والمؤمن أعظم من حرمة البيت. وأمَرَه اللّه عزّ وجل أنْ يقف بعَرَفة ، وإنّما هي مواطن يُحبّ اللّه أنْ يُذكر فيها ، فأنا اُحبُّ أنْ يُدعى [اللّه] لي حيث يُحب اللّه أنْ يُدعى فيها ...».

٢٣

على أنّ التأمّل في كلامه يُفيدنا عدم الاستشارة من أخيه ؛ فإنّه قال لعقيل : «انظُرْ لي امرأةً قد ولدتها الفحُولةُ من العرب». فهو عليه‌السلام في مقام الطلب من أخيه أنْ يخطب امرأةً تصلح له ، لا أنّه في مقام الاستشارة والاستطلاع منه ؛ لكونه عالماً بأنساب العرب ، وعارفاً ببيوتات الشرف والمنعة والفروسيّة.

٢٤

سلسلة الآباء

هو العبّاس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام بن عبد المُطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خُزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نِزار بن معد بن عدنان.

إلى هنا يقف الباحث عن الإتيان بباقي الآباء الأكارم إلى آدم عليه‌السلام ، بعد ما يقرأ قول النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا بَلغ نَسبي إلى عدنانَ فامسكُوا» (١).

وكأنّه نظر إلى غرابة تلكم الأسماء وتعاصيها على نطق العامّة ، فكان التصحيف إليها أسرع شيء ، فيعود وهناً في ساحة جلالتهم ، وخفّةً في مقدارهم ، وقد ولدوا الرّسول الأعظم والوصيَّ المُقدّم صلّى اللّه عليهم أجمعين.

وكيف كان فالمُهمّ الذي يجب الهتاف به هو كون كُلّ واحد من هؤلاء الأنجاب غير مُدنّس بشيء من رجس الجاهليّة ، ولا موصوماً بعبادة وثنٍ ، وهو الذي يرتضيه علماء الحقّ ؛ لكونهم صدّيقين بين أنبياء وأوصياء.

وقد نزّههم اللّه تعالى في خطابه لنبيّه الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَتَقَلُّبَكَ فِي

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ / ١٣٤ ، كشف الغُمّة ١ / ١٥.

٢٥

السّاجِدِينَ) (١). فإنّه أثبت لهم جميعاً ـ بلفظ الجمع المُحلّى باللام ـ السّجودَ الحقَّ الذي يرتضيه لهم.

وإنّ ما يؤثر عنهم من أشياء مستغربة لابدّ أنْ يكون من الشريعة المشروعة لهم ، أو يكون له معنىً تُظهره الدراية والتنقيب.

وليس آزر ـ الذي كان ينحت الأصنام وكاهن نمرود ـ أبا إبراهيم الخليل عليه‌السلام (٢) ، الذي نزل من ظهره ؛ لأنّ أباه اسمه تارخ ، وآزر :

__________________

(١) سورة الشعراء / ٢١٩.

(٢) اختلفوا في أنّ الذي قيل له : (عرق الثرى) إبراهيم أمْ إسماعيل ، فالذي عليه السّهيلي في الروض الاُنف ١ / ٨ ، إنّه إبراهيم ، وعلّله : بأنّ الثرى لا تأكله النّار ، وإبراهيم لا تأكله النّار.

ويظهر من الإمام الصادق عليه‌السلام ، لمّا تخطّى النّار ، وقال : «أنا ابنُ أعراق الثَّرى ، أنا ابنُ إبراهيم خليل الرّحمن» ، الإشارة إليه. الكافي ١ / ٤٧٣ ، نوادر المعجزات لابن جرير / ١٥٤.

ونصّ عليه في البحار ٣٥ / ٤١ في باب نسب أبي طالب ، قال : وإبراهيم (عرق الثرى).

وفي ٤٤ / ١٠٤ عند قول الإمام الحسن عليه‌السلام : «أنا وهو ، أين ابنُ أعراق الثّرى ...».

قال : رأيت في بعض الكتب أنّ عرق الثرى إبراهيم ؛ لكثرة ولده في البادية.

ولعلّ عبد اللّه بن أيوب الخريبي الشاعر في مرثية الإمام الرضا عليه‌السلام يُشير إليه ، كما في البحار ٤٩ / ٣٢٥ في باب مراثيه :

يابنَ الذَبيِحِ ويَابنَ أعراقِ الثّرى

طَابَتْ أروُمَتُهُ وطَابَ عُرُوقُها

ولكن في نصّ الطبري ٢ / ٢٨ ، والبداية والنّهاية ٢ / ٢٤٥ ، والبحار ١٥ / ١٠٥ ، عن اُمّ سلمة : إنّ عرق الثرى إسماعيل.

وقد جاء ذكر الثرى في شعر امرئ القيس والفرزدق ، ولم يُعلم منه المراد. قال امرؤ القيس على ما في أمالي المرتضى ١ / ١١٩ :

فَبَعضَ اللّومِ عاذِلَتي فَإِنّي

سَتَكفيني التَّجارِبُ وَاِنتِسابي

إِلى عِرقِ الثَّرى وَشَجَت عُروقي وَهَذا

المَوتُ يَسلِبُني شَبابي

٢٦

إمّا أنْ يكون عمّه ، كما يرتئيه جماعة من المؤرّخين ، وإطلاق الأب على العمّ شائع على المجاز ، وجاء به الكتاب المجيد : (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ) (١). فأطلق على إسماعيل لفظ الأب ، ولم يكن أبا يعقوب وإنَّما هو عمُّه ، كما اُطلق على إبراهيم لفظ الأب وهو جدّه.

وإمّا أنْ يكون آزر جدَّ إبراهيم لاُمّه كما يراه المنقّبون ، والجدُّ للاُمّ أبٌ في الحقيقة ، ويؤيّد أنّه غير أبيه قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ) (٢).

فميّزه باسمه ، ولو أراد أباه الذي نزل من ظهره لاستغنى بإضافة الاُبوّة عن التسمية بآزر.

وصرّح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بطهارة آبائه عن رجس الجاهليّة وسفاح الكفر ، فقال : «لمّا أراد اللّه أنْ يخلقنا ، صوّرنا عمودَ نورٍ في صُلب آدم ، فكان ذلك النّور يلمع في جبينه ، ثمّ انتقل إلى وصيّه شيث. وفيما أوصاه به : ألاّ يضع هذا النّور إلاّ في أرحام المُطهّرات من النّساء ، ولم تزلْ هذه الوصيّةُ معمولاً بها يتناقلها كابرٌ عن كابر ، فولَدَنا الأخيارُ من الرجال والخيِّراتُ المُطهّرات المُهذّبات من النّساء حتّى

__________________

وقال الفرزدق كما في كامل ابن الأثير ٣ / ٤٦٩.

أَنا اِبنُ الجِبالِ الشُّمِّ في عَدَدِ الحَصى وَعِرقُ الثَّرى عِرقي فَمَنْ ذا يُحاسِبُهْ وفي أخبار الزمان / ٨٠ ، عدنان ابن عرق الثرى.

وأيضاً تجده في : اُسد الغابة لابن الأثير ١ / ٣٧٩ ، حياة الإمام الحسن للقرشي / ١٣٠.

(١) سورة البقرة / ١٣٣.

(٢) سورة الأنعام / ٧٤.

٢٧

انتهينا إلى صُلب عبد المُطّلب ، فجعله نصفين ؛ نصفاً في عبد اللّه فصار إلى آمنة ، ونصفاً في أبي طالب فصار إلى فاطمةَ بنتِ أسد».

أمّا (عدنان) فقد أوضح في خطبه عن ظهور النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه من ذُرّيّته وأوصى باتّباعه.

وكان ابنه (معد) صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل ممّن حاد عن التوحيد ، ولم يُحارب أحداً إلاّ رجح عليه بالنّصر والظفر ، ولكونه على دين التوحيد ودين إبراهيم الخليل ، أمر اللّه أرميا أنْ يحمله معه على البراق كيلا تُصيبه نقمة بختنصّر ، وقال سبحانه لأرميا : «إنّي سأخرجُ مِنْ صُلبِهِ نبيّاً كريماً أختمُ به الرُّسلَ». فحمله إلى أرض الشام إلى أنْ هدأت الفتن بموت بختنصّر (١).

وكان السّبب في التسمية بـ (نزار) : إنّ أباه لمّا نظر إلى نور النّبوّة يشعُّ من جبهته سرّه ذلك ، فأطعم النّاس لأجله ، وقال : إنّه نزرٌ في حقّه (٢).

وورد النّهي عن سبّ ربيعة ومضر ; لأنّهما مؤمنان. ومن كلام مضر : مَن يزرع شرّاً يحصد ندامةً.

و (إلياس بن مضر) كبيرُ قومه وسيّدُ عشيرته ، وكان لا يُقضى أمرٌ دونه ، وهو أوّل مَن هدى البُدنَ إلى البيت الحرام ، وأوّل مَن ظفر بمقام إبراهيم لمّا غرق البيت في زمن نوح ، وكان مؤمناً موحّداً وردّ النّهي عن سبّه (٣).

وقد أدرك مدركة بن إلياس كلَّ عزٍّ وفخر كان لآبائه ، وكان فيه

__________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢٠.

(٢) الروض الاُنف ١ / ٨.

(٣) الروض الاُنف ١ / ٨.

٢٨

نور النّبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

و (كنانة) شيخٌ عظيمُ القدر ، حَسَن المنظر ، كانت العرب تحجّ إليه لعلمه وفضله ، وكان يقول : قد آن خروج نبيٍّ من مكّة يُدعى أحمد ، يدعو إلى اللّه ، وإلى البرّ والإحسان ومكارم الأخلاق ، فاتّبعوه تزدادوا شرفاً وعزّاً إلى عزّكم ، ولا تُكذِّبوا ما جاء به فهو الحقّ. وممّا يؤثر عنه : رُبّ صورةٍ تخالف المُخبرة قد غرّت بجمالها ، واختُبر قبحُ فعالها ، فاحذر الصور واطلب الخبر. وكان يأنف أنْ يأكل وحده.

وولده (النّضر) (قريش عند الفقهاء) فلا يُقال لأولاد مَن فوقه : قَرشي ؛ وإنّما أولاده مثل مالك وفهر ، فمَن وَلَده النّضر فهو قرشي ، ومَن لمْ يلده فليس بقرشي (١).

وأمّا (فهر) ، فقد حارب حسّان بن عبد كلال حين جاء من اليمن في حمير ؛ لأخذ أحجار الكعبة ليبني بها بيتاً باليمن يزوره النّاس ، فانتصر فهرٌ واُسّر حسّان وانهزمت حمير ، وبقي حسّان في الأسر ثلاث سنين ، ثمّ فدى نفسه بمال كثير وخرج ، فمات بين مكّة واليمن ، فهابت العرب فهراً وأعظموه وعلا أمره ، خصوصاً مع ما يشاهدون في جبهته من نور النّبوّة.

ويؤثر عنه قوله لولده غالب : قليلُ ما في يدك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإنْ صار إليك. وكان مُوحّداً (٢).

ولم يزل كعب بن لؤي يذكر النّبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويُعلِمْ قريشاً أنّه من وُلده ، ويأمرهم باتّباعه ويقول : اسمَعوا وعُوا ، وتعلَّموا تَعلَموا ، وتفهّموا

__________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٦١.

(٢) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢٦.

٢٩

تَفهَموا. ليلٌ داجٍ ونهارٌ ساجٍ ، والأرضُ مهادٌ والجبالُ أوتادٌ ، والأوّلون كالآخرين ، كلُّ ذلك إلى بلاء ، فصلوا أرحامكم ، وأصلحوا أحوالكم ، فهل رأيتم مَن هلك رجع ، أو ميّتاً نُشر؟ الدّار أمامكم ، والظنّ خلاف ما تقولون. زيّنوا حرمكم وعظّموه ، وتمسّكوا به ولا تفارقوه ، فسيأتي له نبأٌ عظيم ، وسيخرج منه نبيٌّ كريم. ثمّ قال :

نهارٌ وليلٌ واختلافُ حوادثٍ

سواءٌ عَلينا حلوُها ومريرُها

يؤوبانِ بالأَحداثِ حتّى تأوّبا

وبالنِّعمِ الضافي علينا ستُورُها

على غفلةٍ يأتِي النّبيُّ محمّدٌ

فيُخبرُ أخباراً صَدُوقاً خبيرُها

ثمّ قال :

يَاليتني شاهِدٌ فَحْواءَ دعوتهِ

حينَ العشيرةُ تبغي الحقَّ خُذلانا (١)

ولجلالته وشرفه في قومه ؛ أرّخوا بموته ، ثمّ أرّخوا بعام الفيل ، ثمّ بموت عبد المُطّلب. وهو أوّل مَن سمّى : يوم الجمعة ; لاجتماع قريش فيه ، وكان اسمه في الجاهليّة العَروبة. ولمّا جاء الإسلام أمضاه (٢).

و (كلاب بن مرّة) الجدُّ الثالث لآمنة اُمّ النّبيِّ ، والرابع لأبيه عبد اللّه ، كان معروفاً بالشجاعة ، ونور النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لائح في جبهته.

ولا تسل عن سيّد الحرم (قَصي) ، فلقد جمع قومه من منازلهم وأسكنهم أرض مكّة ، وأمرهم بالبناء حول البيت لتهابهم العرب ، فبنَوا حول جوانبه الأربعة ، وجعلوا لهم أبواباً تخصُّهم ؛ فباب لبني شيبة ، وباب لبني جَمح ، وباب لبني مخزوم ، وباب لبني سهم

__________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢٥ ، السّيرة النّبويّة لابن كثير ١ / ١٦٧.

(٢) السّيرة الحلبيّة ٣ / ١٦٩.

٣٠

وتركوا قدر الطّواف بالبيت. وبنى قصيٌّ دار النّدوة للمشاورة والتَّفاهم فيما يعرض عليهم من المُهمّات ، وتيمّنت قريش برأيه ؛ وسُمّي مجمعاً.

وعند مجيء الحاجِّ ، قال لقريش : هذا أوانُ الحجِّ ، وقد سَمعتْ العربُ بما صنعتم وهم لكم مُعظّمون ، ولا أعلمُ مَكرُمةً عند العرب أعظم من الطعام ، فليخرج كلُّ إنسانٍ منكم مِن ماله خرجاً. ففعلوا وجمع مالاً كثيراً ، ولمّا جاء الحاجُّ نحر لهم على كلِّ طريقٍ من طُرق مكّة جزوراً ، غير ما نحره بمكّة ، وأوقد النّار بالمزدلفة ليراها النّاس (١).

وصنع للناس طعاماً أيام منى ، وجرى عليه الحال حتّى جاء الإسلام ، فالطعام الذي يصنعه السّلطان أيام منى كلَّ عامٍ من آثار قَصي (٢).

ومن هنا خضعت خُزاعة لقصي ، وسلّمت له أمر الحرم وسدانة البيت الحرام بعد أنْ كانت عند حليلٍ ، وعند قصيٍّ ابنته ، وهي اُمّ أولاده.

تولّى قصيٌّ سدانة البيت ؛ إمّا بوصاية من حليل ـ عند الموت ـ إليه ، أو أنّها كانت عند ابنته زوج قصي بالوراثة ، فقام زوجها بتدبير شؤون البيت لعجز المرأة عن القيام بهذه الخدمة ، أو أنّ أبا غبشان الخُزاعي كان وصيَّ حليلٍ على هذه السّدانة ، فعاوضه عليها قصيٌّ بأثواب وأذواد من الإبل.

هذا هو الصحيح المأثور في ولاية قصي سدانة البيت ، ويتّفق

__________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢١.

(٢) تاريخ الطبري ٢ / ١٨٥.

٣١

مع العقل الحاكم بنزاهة جدّ الرسول الأقدس خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا تأباه شريعة إبراهيم الخليل عليه‌السلام من المعاوضة بالخمر المُحرّم في جميع الأديان.

أيجوز لجدّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ يجعل للخمر قيمة ـ وثمنها سحتٌ ـ وهو المانع عنها ، المُحذّر قومه منها؟! فإنّه قال لولده وقومه : اجتنبوا الخمر ؛ فإنّها لا تُصلحُ الأبدانَ ، وتُفسدُ الأذهان. فكيف يعاوض بها؟! بل لا يتحيّل إلى مطلوبه بالخمر ، وهو القائل : مَن استحسن قبيحاً نزل إلى قُبحهِ ، ومَن أكرم لئيماً أشركه في لؤمهِ ، ومَن لمْ تُصلحه الكرامةُ أصلحه الهوانُ ، ومَن طلب فوق قدرِهِ استحقّ الحرمانُ ، والحسودُ هو العدوّ الخفي (١).

وقد جمع أطراف المجد والشرف (عبد مناف) ابن قصي ؛ ولبهائه وجمال منظره قيل له : (قمرُ البطحاء). وكان سَمحاً جواداً لا يعدم أحداً من ماله حتّى في أيام أبيه ، فقيل له : (الفيّاض).

ويُسمّى منافاً ; لأنّه أناف على النّاس وعلا أمرُهُ حتّى ضربت له الركبان من أطراف الأرض (٢) ، وكان اسمه عبد ، ثمّ اُضيف إلى مناف ، فقيل له : عبد مناف. وهذا هو الصحيح المأثور.

وأمّا ما أثبته ابن دحلان في السّيرة النّبويّة مِن أنّ اُمّه أخدمته صنماً اسمه مناف ، بعيد عن الصواب ; إذ لا شكّ في نزاهة آباء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واُمّهاته في جميع أدوار حياتهم من الخضوع للأصنام ؛ كرامة لحبيبه وصفيّه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليس بصحيح ما يُقال : من أنّ في آباء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واُمّهاته مَن يعبد الصنم ، أو يخضع له ; لشهادة ما تقدّم من

__________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢١.

(٢) إثبات الوصية / ٧٥.

٣٢

الأحاديث عليه ، وإليه أشار البوصيري :

لمْ تَزَلْ في ضمائرِ الكونِ تُختَارُ

لك الأُمهاتُ والآباءُ (١)

على أنّه لم يكن من الأصنام اسمه (مناف) ، وإنّما الموجود (مناة) بالتاء المُثناة من فوق ؛ ومن هنا كان يقول ابن الكلبي في كتاب الأصنام / ٣٢ : لا أدري أين كان هذا الصنم؟ ولمَنْ كان؟ ومَن نصبه؟ (٢)

ومنه نعرف الغلط في قول البرقي والزبير : أنّ اُمّه أخدمته مناة (بالتاء المثناة من فوق) فسُمّي عبد مناة ، ولكن رأي قصي يوافق عبد مناة بن كنانة فحوّله عبد مناف.

وكان بيت عبد مناف أشرف بيوتات قريش (٣) ، ولسيادته كان عنده قوس إسماعيل ولواء نزار.

ومن وصيّته ما وُجد مكتوباً في بعض الأحجار : اُوصي قريشاً بتقوى اللّه جلّ جلاله وصلة الرحم (٤).

وجرى ابنه هاشم على سيرته حتّى فاق قريشاً وسائر العرب ، وأذعنوا له ، وكان يُطعم الحاجَّ كما كان يصنع أبوه. وأصابت قريشاً سنة مُجدِبة ، فخرج هاشم إلى الشام واشترى الدقيق والكعك ، فهشم الخبز ونحر الجزر ، وأطعم النّاس حتّى أشبعهم ، وكانت مائدته منصوبةً لا ترفع في السّراء والضرّاء ، وكان يحمل ابن السّبيل ، ويؤمن الخائف ، وإذا أهلّ هلالّ ذي الحجّة قام في صبيحته وأسند

__________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٧١.

(٢) معجم البلدان للحموي ٥ / ٢٠٣ والعبارة التي فيه : ولا أدري أين كان؟ ولا مَن كان نصبه؟

(٣) سُبل الهدى والرشاد ١ / ٢٧٢.

(٤) السّياسة الشرعيّة لابن تيمية ١ / ٥٧.

٣٣

ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها وخطب النّاس ، فقال :

يا معشر قريش ، إنّكم سادة العرب ؛ أحسنها وجوهاً ، وأعظمها أحلاماً ، وأوسطها نسباً ، وإنّكم جيران بيت اللّه ، أكرمكم اللّه بولايته ، وخصّكم بجواره دون بني إسماعيل ، وإنّه يأتيكم زوّارُ اللّه يُعظّمون بيته فهم أضيافه ، وحقّ مَنْ أكرم أضياف اللّه أنتم ، فأكرموا ضيفه وزوّاره ؛ فإنّهم يأتونه غبراً مِن كلِّ بلد على ضوامر كالقداح. فوربَّ هذه البَنيَّة ، لو كان لي مالٌ يحتمل ذلك لكفيتموه ، وأنا مُخرجٌ من طيب مالي وحلالي ما لم يُقطع فيه رحمٌ ، ولم يُؤخذ بظلمٍ ، ولم يدخل فيه حرام ، فمن شاء منكم أنْ يفعل مثل ذلك فعل. وأسألكم بحرمة هذا البيت ، أنْ لا يخرج رجل منكم من ماله ـ لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم ـ إلاّ طيّباً ؛ لم يقطع فيه رحم ، ولم يُؤخذ غصباً.

فكانوا يجتهدون في ذلك ، ويخرجون من أموالهم ويضعونه في دار النّدوة (١).

وكان هاشم يطعم الحاجّ بمكّة ومنى وعرفة وجُمع (٢).

وهو أوّل مَن سنّ لقريش الرحلتين ; رحلة إلى اليمن ورحلة إلى الشام ، وأخذ لهم من ملوك الروم وغسّان ما يعتصمون به (٣) ; وذلك إنّ تجّار قريش لمْ تعُد تجارتُهم نفس مكّة وضواحيها ، وإنّما تقدمُ عليهم الأعاجم بالسّلع فيشترونها حتّى رحل هاشم إلى الشام

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ٢١١ ، السّيرة الحلبيّة ١ / ٩ ، سُبل الهدى والرشاد ١ / ٢٧٠.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ٢١١ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٢.

(٣) تاريخ الطبري ٢ / ١٢ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٦.

٣٤

ونزل على قيصر ، فأعجبه حُسنُ خلقه وجمال هيئته وكرمه المنهمر ، فلم يحجبه ، وأذن له بالقدوم عليه بالتجارة ، وكتب أماناً بينهم ، فارتقت منزلة هاشم بين النّاس ، فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام. وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن والشام ، وجعل له معهم ربحاً ، وساق لهم إبلاً مع إبله ، وكفاهم مؤونة الأسفار على أنْ يكفوه مؤنة الأعداء في طريقه ومنصرفه ، فكان في ذلك صلاح عام للفريقين ، فكان المُقيم رابحاً ، والمُسافر محفوظاً ، فأخصبت قريش بذلك ، وأتاها الخير من البلاد العالية والسّافلة ببركة هاشم ، وهذا هو الإيلاف المذكور في القرآن المجيد (١).

وكان يقول في خطبته : أيُّها النّاس ، نحن آلُ إبراهيم وذُرّيّة إسماعيل ، وبنو النّضر بن كنانة ، وبنو قصي بن كلاب ، وأرباب مكّة وسُكّان الحرم ؛ لنا ذروة الحسب ومعدن المجد ، ولكُلٍّ في كلِّ حلفٍ يجب عليه نصرتُهُ وإجابةُ دعوتهِ ، إلاّ ما دعا إلى عقوق عشيرة وقطع رحم.

يا بني قَصي ، أنتم كغصنَي شجرة أيّهما كُسر أوحش صاحبَهُ ، والسّيف لا يُصان إلاّ بغمده ، ورامي العشيرة يُصيبه سهمُهُ ، ومَن أمحكه اللّجاجُ أخرجه إلى البغي.

أيّها النّاس ، الحلمُ شرفٌ ، والصبرُ ظفرٌ ، والمعروفُ كنزٌ ، والجُودُ سُؤددٌ ، والجهلُ سَفَهٌ ، والأيامُ دُولٌ ، والدَّهرُ غِيرٌ. والمرءُ منسوبٌ إلى فعله ومأخوذ بعمله ، فاصطنعوا المعروفَ تكسبوا الحمد ، ودعوا الفضولَ تُجانبكم السّفهاءُ ، وأكرموا الجليسَ يعمر

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ٢١٠.

٣٥

ناديكم ، وحاموا الخليط يُرغب في جواركم ، وأنصفوا من أنفسكم يُوثق بكم. وعليكم بمكارم الأخلاق فإنّها رفعة ، وإيّاكم والأخلاق الدنيّة فإنّها تضع الشرفَ وتهدم المجد ، وإنّ نهنهة الجاهل أهون من جريرته ، ورأس العشيرة يحمل أثقالها ، ومقام الحليم عضة لمَن انتفع به (١).

ولنور النّبوّة الحالّ في جبهته ؛ كان وجهه يضيء في الليلة الظلماء ، ولم يمرُّ بحَجرٍ ولا شجر إلاّ ناداه : أبشر يا هاشم ، سيظهر مِن ذُرّيّتك أكرم خلق اللّه مُحمّد خاتم النّبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأوصاه أبوه عبدُ مناف بما أوصاه به أبوه قصي : أنْ لا يضع نور النّبوّة إلاّ في الأرحام الطاهرات من النّساء ، وأخذَ عليه العهد بذلك ، فقبل.

وقد تقدّم أنّها موروثة من آدم عليه‌السلام ؛ ومن هنا رغب الأشراف من الأكاسرة والقياصرة في مصاهرة هاشم وهو يأبى ، حتّى إذا رأى في المنام قائلاً يقول : عليك بسلمى بنت عمرو بن لبيد بن حداث بن زيد بن عامر بن غنم بن مازن من بني النّجّار ؛ فإنّها طاهرة مُطهّرة الأذيال ، ليس لها مشبه من النّساء ، فادفع المهر الجزيل ؛ فإنّك تُرزق منها ولداً يكون منه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. فمشى هاشم وأخوه المُطّلب وبنو عمِّه إلى المدينة ومعهم لواء نزار ، وعليهم أفخر الثّياب والدروع.

ولمّا اجتمع القوم خطب المُطّلب بن عبد مناف ، فقال : نحن وفدُ بيت اللّه الحرام ، والمشاعر العظام ، وإلينا سعت الأقدام ، وأنتم تعلمون شرفنا وسُؤددنا ، وما خصّنا به اللّه من النّور السّاطع والضياء

__________________

(١) جمهرة خطب العرب لأحمد زكي صفوت ١ / ٧٣ ، نقلاً عن آباء الأنبياء كلّهم مؤمنون ، مركز المصطفى.

٣٦

اللامع ، ونحن بنو لؤي بن غالب ، قد انتقل هذا النّور إلى عبد مناف ، ثُمّ إلى أخينا هاشم ، وهو معنا من آدم عليه‌السلام ، وقد ساقه اللّه إليكم ، وأقدمه عليكم ، فنحن لكريمتكم خاطبون ، وفيكم راغبون.

فأجابه عمرو ـ أبو سلمى ـ بالقبول والإنعام ، وساقوا المهر كما أرادوا.

ولمّا تزوّج منها هاشم ودخل بها ، وحملت بعبد المُطّلب انتقل إليها النّور ، وما زالت تسمع البشائر بولادة خير البشر فأفزعها ذلك ، إلاّ أنّ هاشماً عرّفها أمر النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

فلمّا ولدت عبد المُطّلب كان يُدعى (شيبة الحمد) لكثرة حمد النّاس له ؛ لكونه مفزع قريش في النّوائب ، وملجأهم في الاُمور ، فكان شريف قومه وسيّدهم كمالاً ورفعةً ، غيرَ مُدافعٍ عن ذلك ، وهو من حُلماء قريش وحُكمائها.

وقد سنّ أشياء أمضاها له الإسلام ؛ حرّم نساء الآباء على الأبناء ، ووجد كنزاً أخرج خمسه وتصدّق به ، وسنّ في القتل مئة من الإبل ، ولم يكن للطواف عدد عند قريش فسنّه سبعة أشواط ، وقطع يد السّارق ، وحرّم الخمر والزِّنا ، وأنْ لا يطوف بالبيت عريانُ ، ولا يُستقسم بالأزلام ، ولا يُؤكل ما ذُبح على النَّصَب (٢).

وممّا يؤثر عنه : الظلوم لنْ يخرج من الدُّنيا حتّى يُنتقم منه ، وإنّ وراء هذه الدارِ دارٌ يُجزى فيها المُحسنُ بإحسانه والمُسيء بإساءته ، وإذا لم تصب الظلومَ في الدُّنيا عقوبةٌ فهي مُعدّة له في

__________________

(١) بحار الأنوار ١٥ / ٤٠.

(٢) الخصال / ٣١٣ ، الدّر النّظيم / ٧٩٨.

٣٧

الآخرة (١).

وقيل له : الفيّاض ; لكثرة جوده ونائله ، حتّى إنّ مائدته يأكلُ منها الراكب ، ثُمّ تُرفع إلى جبل أبي قُبيس لتأكل منها الطير والوحوش (٢).

ولعزّه المنيع وشرفه الباذخ ؛ كان يُفرش له بإزاء الكعبة ولم يُفرش لأيّ أحد غيره ، ولا يُجالسه على بساط الاُبّهة إلاّ نبيُّ العظمة (٣) ، وإذا أراد أحدُ أعمامه أنْ يُنحِّيه صاح به عبد المُطّلب ، وقال : إنّ له لشأناً ومُلكاً عظيماً (٤).

ولا غرو في ذلك بعد أنْ كان وصيّاً من الأوصياء ، وقارئاً للكتب السّماويّة ، ولقد أخبر أبو طالب رسولَ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : كان أبي يقرأ الكتب جميعاً ، وقال : إنّ مِن صُلبي نبيّاً ، لوددت أنّي أدركتُ ذلك الزمان فآمنت به ، فمَن أدركه من وُلدي فليؤمن به (٥).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «واللّه ، ما عَبدَ أبي ولا جدّي عبدُ المُطّلب ، ولا عبدُ مناف ولا هاشم صنماً ، وإنّما كانوا يعبدون اللّه ، ويُصلّون إلى البيت على دين إبراهيم مُتمسّكين به» (٦).

وكان أبو طالب سيّد البطحاء شبيهاً بأبيه شيبة الحمد ، عالماً بما جاء به الأنبياء عليهم‌السلام ، وأخبرت به اُممُهم من حوادث وملاحم ; لأنّه

__________________

(١) الغدير ٧ / ٣٥٣ ، عقيدة أبي طالب للرفاعي / ٧٢.

(٢) السّيرة الحلبيّة ١ / ٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٢.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) بحار الأنوار ٣٥ / ١٤٧.

(٦) كمال الدِّين وتمام النّعمة / ١٧٥ ، بحار الأنوار ١٥ / ١٤٤ وغيرهما من المصادر.

٣٨

وصيٌّ من الأوصياء ، وأمينٌ على وصايا الأنبياء حتّى سلّمها إلى النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

قال درست بن منصور : قلتُ لأبي الحسن الأوّل عليه‌السلام : أكان رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله محجوجاً بأبي طالب؟

قال : «لا ، ولكنْ كان مُستودَعَ الوصايا فدفعها إلى النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قلتُ : دفعها إليه على أنّه محجوج به؟

قال عليه‌السلام : «لو كانَ محجوجاً به ما دفعها إليه».

قلتُ : فما كان حال أبي طالب؟

قال : «أقرّ بالنّبيِّ وبما جاء به حتّى مات» (٢).

وقال المجلسي : أجمعت الشيعة على أنّ أبا طالب لم يعبد صنماً قطّ ، وأنّه كان من أوصياء إبراهيم الخليل عليه‌السلام (٣).

وحكى الطبرسي إجماع أهل البيت عليهم‌السلام على ذلك ، ووافقه ابن بطريق في كتاب المستدرك.

وقال الصدوق : كان عبد المُطّلب وأبو طالب من أعرف العلماء وأعلمهم بشأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانا يكتمان ذلك عن الجُهّال والكفرة (٤).

وممّا يشهد على أنّه كان على دين التوحيد وملّة إبراهيم ، أنّ قريشاً لمّا أبصرت العجائب ليلة ولادة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، خصوصاً لمّا أتوا بالآلهة إلى جبل أبي قُبيس ليسكن بهم ما شاهدوه ، ارتجّ الجبل

__________________

(١) بحار الأنوار ٣٥ / ٧٤.

(٢) الكافي ١ / ٤٤٥ ، ح ١٨.

(٣) بحار الأنوار ٣٥ / ١٣٨ ، والعبارة فيها تقديمٌ وتأخير.

(٤) كمال الدِّين وتمام النّعمة / ١٧١ ، الخرائج والجرائح ٣ / ١٠٧٤ ، وفي آخر الحديث : عن الجُهّال ، وأهل الكفر والضلال.

٣٩

وتساقطت الأصنام ، ففزعوا إلى أبي طالب ; لأنّه مفزع اللاجىء وعصمة المُستجير ، وسألوه عن ذلك ، فرفع يديه مبتهلاً إلى المولّى جلّ شأنه ، قائلاً : إلهي ، أسألك بالمحمّديّة المحمودة ، والعلويّة العالية ، والفاطميّة البيضاء إلاّ تفضّلت على تهامة بالرأفة والرحمة. فسكن ما حلّ بهم ، وعرفت قريش هذه الأسماء قبل ظهورها ؛ فكانت العرب تكتب هذه الأسماء وتدعو بها عند المُهمّات ، وهي لا تعرف حقيقتها (١).

ومن هنا اعتمد عليه عبد المُطّلب في كفالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وخصّه به دون بنيه ، وقال :

وصَّيتُ مَنْ كَنَّيتهُ بطالبِ

عبدَ منافٍ وهو ذو تجاربِ

بابنِ الحبيبِ أكرمِ الأقاربِ

بابن الّذي قَدْ غابَ غيرَ آيبِ

فقال أبو طالب :

لا تُوصني بلازم وواجبِ

إنّي سمعتُ أعجبَ العجائبِ

مِنْ كُلِّ حَبرٍ عالمٍ وكاتبِ

بانَ بحمدِ اللّهِ قولُ الرَّاهبِ (٢)

فقال عبد المُطّلب : انظر يا أبا طالب ، أنْ تكون حافظاً لهذا الوحيد الّذي لم يَشمّ رائحة أبيه ، ولم يذقْ شفقة اُمّه ، انظر أنْ يكون مِن جسدك بمنزلة كبدك ؛ فإنّي قد تركت بنيّ كُلَّهم وخصصتك به ؛ لأنّك من اُمّ أبيه. واعلم فإنّ استطعت أنْ تتبعه فافعل ، وانصره بلسانك ويدك ومالك ؛ فإنّه واللّه ، سيسودكم ويملك ما لا يملك أحد من آبائي ، هل قبلت وصيّتي؟

قال : نعم ، قد قبلتُ ، واللّه على ذلك شاهد.

__________________

(١) روضة الواعظين / ٧٨ ، مناقب آل أبي طالب ٢ / ٢٢ ، الدّر النّظيم / ٢٣١.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ / ٣٤ ، بحار الأنوار ٣٥ / ٨٥ ، الدّر النّظيم / ٢١١.

٤٠