العبّاس عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

العبّاس عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


المترجم: الشيخ محمّد الحسّون
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 964-95037-0-6
الصفحات: ٣٩١

ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد لهذه الذات الطاهرة التي حلّقت بصاحبها إلى ذروة اليقين ، التحلّي بأفضل صفات الكمال ، وهو التسليم لأمير المؤمنين عليه‌السلام بالولاية العامّة ، ولأبنائه المعصومين عليهم‌السلام بالخلافة عن جدّهم الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وهناك مرتبة اُخرى لا يبلغ مداها أحد ، وهي اعتراف حمزة وشهادته بأنّه سيّد الشهداء ، وأنّه أسد اللّه وأسد رسوله ، وأنّ ابن أخيه الطيّار مع الملائكة في الجنّة ، وهذه خاصّة لم يكلّف بها العباد فوق ما عرفوه من منازل أهل البيت المعصومين عليهم‌السلام ، وإنمّا هي من مراتب السّلوك والكشف واليقين.

وإذا نظرنا الى إكبار الأئمّة عليهم‌السلام لمقامه ـ وهم أعرف بنفسيّات الرجال ، حتّى أنّهم احتجّوا على خصومهم بعمومته وشهادته دون الدِّين ، كما احتجّوا بنسبتهم إلى الرسول الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنّ هناك رجالاً بذلوا أنفسهم دون مرضاة اللّه تعالى ـ استفدنا درجة عالية تُقرّب من درجاتهم عليهم‌السلام. فهذا أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : «إنّ قوماً استشهدوا في سبيل اللّه من المهاجرين ، ولكلٍّ فضلٌ ، حتّى إذا استشهد شهيدُنا ، قيل : سيّد الشهداء. وخصّه رسول اللّه بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه» (١).

وفي يوم الشورى احتجّ عليهم به ، فقال : «أنشدكم اللّه ، هل فيكم أحدٌ له مثل عمّي حمزة أسد اللّه وأسد رسوله؟» (٢).

__________________

(١) الاحتجاج ٣ / ٢٥٩ ، بحار الأنوار ٢٢ / ٢٧٢ و ٢٣ / ٥٨ و ٧٨ / ٣٤٨ ، نهج السّعادة للمحمودي ٤ / ١٩٢ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ١٨١ ، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب / ٣٧٢ ، ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي ٣ / ٤٤٦.

(٢) الخصال للشيخ الصدوق / ٥٥٥ ، الأمالي للشيخ الطوسي / ٥٥٤ ، بحار

٦١

وقال الإمام المجتبى عليه‌السلام في بعض خطبه : «وكان ممّن استجاب لرسول اللّه عمّه حمزة ، وابن عمّه جعفر ، فقُتلا شهيدين في قتلى كثيرة معهما من أصحاب رسول اللّه ، فجعل حمزة سيّد الشهداء» (١).

وقال سيّد الشهداء أبو عبد اللّه عليه‌السلام يوم الطَّفِّ : «أوليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟!» (٢).

إلى غير ذلك ممّا جاء عنهم في الإشادة بذكره ، حتّى إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يزل يُكرّر الهتاف بفضله ، ويُعرّف المهاجرين والأنصار بما امتاز به أسدُ اللّه وأسدُ رسوله من بينهم ؛ كي لا يقول قائل ، ولا يتردّد مُسلمٌ عن الإذعان بما حبا اللّه تعالى سيّد الشهداء من الكرامة ، فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«يا معشر الأنصار ، يا معشر بني هاشم ، يا معشر بني عبد المُطّلب ، أنا محمّد رسول اللّه ، ألا إنّي خُلقتُ مِن طينةٍ مرحومةٍ في أربعة من أهل بيتي : أنا وعلي ، وحمزة وجعفر» (٣).

__________________

الأنوار ٢٢ / ٢٨٠ ، المناقب للخوارزمي / ٣١٤ ، الدّر النّظيم / ٣٣ ، كتاب الولاية لابن عقدة / ١٦٣ ، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لابن طاووس / ٤١٢ ، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٤٢ / ٤٣٤ ، ميزان الاعتدال للذهبي ١ / ٤٤٢ ، لسان الميزان لابن حجر ٢ / ١٥٧ ، وغيرها من المصادر.

(١) الأمالي للشيخ الطوسي / ٥٦٣ ، حلية الأبرار للبحراني ٢ / ٧٤ ، بحار الأنوار ١٠ / ١٤١ و ٢٢ / ٢٨٣ ، كتاب الولاية لابن عقدة / ١٨٥.

(٢) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ٩٧ ، مثير الأحزان للحلّي / ٣٧ ، تاريخ الطبري ٤ / ٣٢٢ ، الكامل في التاريخ لابن الأثير ٤ / ٦٢ ، الدّر النّظيم / ٥٥٢.

(٣) الأمالي للشيخ الصدوق / ٢٧٥ ، التوحيد للشيخ الصدوق / ٢٠٤ ، الأمالي للشيخ الطوسي / ٤١٠ ، بحار الأنوار ١١ / ٣٨٠ و ٢٢ / ٣٧٤ ، غاية المرام للبحراني ٥ / ١١٧.

٦٢

والغرض من هذا ليس إلاّ التعريف بخصوص فضل عمّه وابن عمّه ؛ فلذلك لم يتعرّض لخلق الأئمّة عليهم‌السلام ، بل ولا شيعتهم المخلوقين من فاضل طينتهم ـ كما في صحيح الآثار ـ ، وإنّما ذكر نفسه ووصيّه لكونهما من اُصول الإسلام والإيمان.

كما أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم فتح البصرة ، لمّا صرّح بفضل سبعة من ولد عبد المُطّلب ، قال : «لا ينكرُ فضلَهم إلاّ كافرٌ ، ولا يجحدُهُ إلاّ جاحدٌ ، وهم : النّبي محمّد ووصيّه ، والسّبطان ، والمهدي ، وسيّد الشهداء حمزة ، والطيّار في الجنان جعفر» (١). لم يقصد بذلك إلاّ التنويه بفضل عمّه وأخيه ، فقرن شهادتهما بمَن نهض في سبيل

__________________

(١) الكافي ١ / ٤٥٠ ، ح ٣٤ ، عنه بحار الأنوار ٢٢ / ٢٨٢ ، ح ٤١.

والمؤلّف نقل مضمون الرواية ونصّ الرواية كالتالي : عن أصبغ بن نباتة الحنظلي ، قال : رأيت أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم افتتح البصرة ، وركب بغلة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثُمّ قال : «أيّها النّاس ، ألا اُخبركم بخيرِ الخلقِ يوم يجمعُهُم اللّه؟». فقام إليه أبو أيوب الأنصاري ، فقال : بلى يا أمير المؤمنين حدّثنا ؛ فإنّك كنت تشهد ونغيب.

فقال : «إنّ خير الخلق يوم يجمعُهُم اللّهُ تعالى سبعةٌ من ولد عبد المُطّلب ، لا ينكرُ فضلَهُم إلاّ كافرٌ ، ولا يجحدُ به إلاّ جاحدٌ».

فقام عمّار بن ياسر رحمه‌الله ، فقال : يا أمير المؤمنين ، سمّهم لنا لنعرفهم.

فقال : «خيرُ الخلق يوم يجمعُهُم اللّه الرُّسل ، وإنّ أفضلَ الرُّسل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ أفضلَ كُلِّ اُمّة بعد نبيِّها وصيُّ نبيِّها حتّى يُدركه نبيٌّ ، ألا وإنّ أفضلَ الأولياء وصيُّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ألا وإنّ أفضلَ الخلق بعد الرُّسلِ الشهداء ، ألا وإنّ أفضلَ الشهداء حمزة بن عبد المُطّلب وجعفر بن أبي طالب ، له جناحان يطير بهما في الجنّة ، لم يُنحل أحدٌ من هذه الاُمّة جناحان غيره ؛ شيءٌ أكرم اللّه به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وشرّفه ، والسّبطان الحسن والحسين ، والمهدي عليهم‌السلام ، يجعله اللّه مَن شاء منّا أهل البيت». ثُمّ تلا هذه الآية : (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَاُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اُولَـئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً). سورة النّساء / ٦٩.

٦٣

الدّعوة الإلهيّة وهم أركان الإسلام والإيمان.

ولو لم تكن لسيّد الشهداء حمزة وابن أخيه الطيّار كلُّ فضيلة سوى شهادتهما للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة ؛ لكفى أنْ لا يتطّلب الإنسان غيرهما.

قال أبو عبد اللّه الصادق عليه‌السلام : «إذا كان يوم القيامة وجمع اللّهُ تبارك وتعالى الخلائق ، كان نوح (صلّى اللّه عليه) أوّل مَن يُدعى به ، فيُقال له : هل بلّغتْ؟

فيقول : نعم.

فيُقال له : مَن يشهد لك؟

فيقول : محمّد بن عبد اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال : فيخرج نوح (صلّى اللّه عليه) ويتخطّى النّاس حتّى يأتي إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو على كثيب المسك ، ومعه عليٌّ عليه‌السلام ، وهو قول اللّه عزّ وجل : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١). فيقول نوح لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا محمّد ، إنّ اللّه تبارك وتعالى سألني : هل بلّغت؟ فقلتُ : نعم. فقال : مَن يشهد لك؟ قلتُ : محمّد. فيقول : يا جعفر ، يا حمزة ، اذهبا واشهدا أنّه قد بلّغ».

فقال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : «فحمزةُ وجعفرٌ هما الشَّاهدان للأنبياء عليهم‌السلام بما بلّغوا».

فقال الراوي : جُعلت فداك! فعليٌّ عليه‌السلام أين هو؟

فقال : «هو أعظمُ منزلة مِن ذلك» (٢).

وهذه الشهادة لا بدّ أنْ تكون حقيقية ، بمعنى أنّها تكون عن

__________________

(١) سورة الملك / ٢٧.

(٢) الكافي للكليني ٨ / ٢٦٧ ، ح ٣٩٢ ، وعنه بحار الأنوار للمجلسي ٧ / ٢٨٣ ، ح ٤.

٦٤

وقوفٍ بمعالم دين نوح عليه‌السلام ، وأديان الأنبياء الّذين هما الشاهدان لهم بنصّ الحديث ، وإحاطة شهوديّة بها وبمعارفها ، وبمواقعها وبوضعها في الموضع المقرّر له ، وإلاّ لما صحّت الشهادة. وهذا المعنى هو المتبادر إلى الذهن من الشهادة عند إطلاقها ، فهي ليست شهادة علميّة ، بمعنى حصول العلم لهما من عصمة الأنبياء بأنّهم وضعوا ودائع نبوّاتهم في مواضعها ، ولو كان ذلك كافياً لما طُولبوا بمَن يشهد لهم ؛ فإنّ جاعل العصمة فيهم ـ جلّ شأنه ـ أعرف بأمانتهم ، لكنّه لضرب من الحكمة أراد سبحانه وتعالى أنْ يجري الأمر على اُصول الحكم يوم فصل القضاء.

ثُمّ إنّ هذه الشهادة ليست فرعيّة ، بمعنى أنّهما يشهدان عن شهادة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ المطلوب في المحاكم هي الشهادة الوجدانيّة فحسب.

فإذا تقرّر ذلك ، فحسبُ حمزة وجعفر من العلم المتدفّق خبرتهما بنواميس الأديان كُلِّها ، والنّواميس الإلهيّة جمعاء ، أو وقوفهما بحقِّ اليقين ، أو بالمعاينة في عالم الأنوار ، أو المشاهدة في عالم الأظلّة والذكر لها في عالم الشهود والوجود. ومن المستحيل بعد تلك الإحاطة أنْ يكونا جاهلَين بشيء من نواميس الإسلام.

٦٥

طالب

إنّ الثابت عند المُحقّقين إسلام طالب بن أبي طالب من أوّل الدعوة ؛ فإنّ المتأمّل إذا نظر بعين البصيرة إلى أبي طالب ، وقد ضَمّ أولاده أجمع والنّبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله معهم ، لا يفارقونه في جميع الأحوال مع ما يشاهدونه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله من الآيات الباهرات ; لا يرتاب في صدق الدعوى ، وقد أفصح عنه شعره (١) :

إذا قِيلَ مَنْ خَيرُ هذا الوَرى

قَبيِلاً وأكرَمَهم اُسرَهْ

أنافَ بعَبِدِ مُنافٍ أبٌ

وفَضلّهُ هَاشِمُ الغُرّهْ

لقد حَلّ مَجدُ بَنِي هَاشمِ

مَكانَ النّعائِمِ والنّثرهْ

وخَيرُ بَنِي هَاشِمٍ أحمدٌ

رَسولُ الإلهِ عَلى فَترهْ

__________________

(١) إيمان أبي طالب للشيخ المفيد / ٣٥ ، بحار الأنوار ٣٥ / ١٦٥ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ٧٨.

٦٦

وإنّ في حديث جابر الأنصاري ما يُفيد منزلة أرقى من مجرّد الإسلام ؛ يقول قلت لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : أكثر النّاس يقولون : إنّ أبا طالب مات كافراً.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا جابر ، ربّك أعلم بالغيب ؛ إنّه لمّا كانت الليلة التي اُسرِيَ بِي فيها إلى السّماء انتهيت إلى العرش ، فرأيت أربعة أنوار ، فقلتُ : إلهي ، ما هذه الأنوار؟

فقال : يا مُحمّد ، هذا عبد المُطّلب ، وهذا أبو طالب ، وهذا أبوك عبد اللّه ، وهذا أخوك طالب.

فقلتُ : إلهي وسيّدي ، فِيم نالوا هذه الدرجة؟

قال : بكتمانِهم الإيمان ، والصبر على ذلك حتّى ماتوا» (١).

وروى الكليني في روضة الكافي عن الصادق عليه‌السلام : «كان طالب مسلماً قبل بدر ، وإنّما أخرَجَتْهُ قريشٌ كرهاًَ ، فنزل رجَّازوهم يرتجزونْ ، ونزل طالب يرتجز :

يا ربِّ إمّا يغزُوَنْ بطالبِ

في مَقنبٍ من هذه المقانبِ

في مَقنَبِ المُحاربِ المُغالبِ

يَجعلُهُ المَسلُوبَ غيرُ السّالبِ (٢)

__________________

(١) روضة الواعظين / ٨١ ، وعنه في بحار الأنوار ٣٥ / ١٦ ، ح ١٢ ، الدّر النّظيم للعاملي / ٢٣٤.

(٢) روضة الكافي للكليني ٨ / ٣٧٥ ، عمدة الطالب لابن عنبة / ٣٠ ، وعن

٦٧

وروى محمّد بن المُثنّى الحضرمي : أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لقي أبا رافع مولى العبّاس بن عبد المُطّلب يوم بدر فسأله عن قومه ، فأخبره أنّ قريشاً أخرجوهم مُكرَهين (١).

ويشهد له ما رواه ابن جرير : أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوم بدر : «إنّي لأعرفُ رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد اُخرجوا كرهاً ، لا حاجة لهم بقتالنا ، فمَن لقي منكم أحداً منهم فلا يقتله ، ومَن لقيَ العبّاس بن عبد المُطّلب فلا يقتله ؛ إنّما خرج مُستَكرهاً» (٢).

وقد اختلف في موت طالب ؛ فقيل : إنّه لمّا خرج إلى بدر فُقد

__________________

الكافي في بحار الأنوار ١٩ / ٢٩٤ ، ح ٣٨ ، المُجدي في أنساب الطالبيين للعلوي / ٣١٨ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٤٤ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٢١ ، الوافي بالوفيات ١٦ / ٢٢٢ ، البداية والنّهاية ٣ / ٣٢٥ ، السّيرة النبويّة لابن هشام الحميري ٢ / ٤٥١ ، السّيرة النبويّة لابن كثير ٢ / ٤٠٠.

(١) الاُصول السّتة عشر من الاُصول الأوّليّة / ٢٥٩ ، وفي مجمع الزوائد للهيثمي ٧ / ١٠ : عن ابن عباس ـ رضي‌الله‌عنهما ـ قال : كان ناسٌ من أهل مكّة قد أسلموا ، وكانوا مُستخفين بالإسلام ، فلمّا خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم مُكرهين.

قلت : أخرج البخاري بعضه ، رواه البزّار ، ورجاله رجال الصحيح غير محمّد بن شريك ، وهو ثقة.

أقول : وفي إخفاء الأسماء عادة قديمة عند القوم ، ولهم تضلّع كبير فيها يعرفها مَن سَبَر كلماتهم ، ولاحظ أقوالهم. وللّه مع ما يُسمَّون بـ (أهل السُّنَّة والحديث) شؤون لا تخفى.

(٢) بحار الأنوار ١٩ / ٣٠٤ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ١٨٣ ، تفسير القرطبي ٨ / ٤٩ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٣٤٠ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ٤ / ١٠ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٥١ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٢٨ ، تاريخ الإسلام ٢ / ٥٨ و ١٢٠ ، البداية والنّهاية ٣ / ٣٤٨ ، السّيرة النّبويّة لابن هشام الحميري ٢ / ٤٥٨ ، السّيرة النّبويّة لابن كثير ٢ / ٤٣٦ ، سُبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ٤ / ٤٩ ، السّيرة الحلبيّة للحلبي ٢ / ٤١٣.

٦٨

ولم يُعرف خبره. وقيل : أقحمه فرسُهُ في البحر فغرق. وليس من البعيد أنّ قريشاً قتلته حينما عرفت منه الإسلام ، وعرفت مصارحته بالتفاؤل بمغلوبيَّتهم ، وكان حاله كحال سعد بن عبادة لمّا رماه الجنّ (لو صدقت الأوهام) (١).

__________________

(١) لم يُعرف حال طالب بن أبي طالب بشيء ، غير ذكر له : مَن خرج مُكرَهاً من بني هاشم إلى معركة بدر. وأمّا حاله بعدها فهو مجهولٌ عند المُحدّثين والمؤرّخين.

قال ابن سعد في الطبقات الكبرى ١ / ١٢١ : كان اسم أبي طالب عبدَ مناف ، وكان له من الولد طالب بن أبي طالب ، وكان المُشركون أخرجوه وسائر بني هاشم إلى بدر كرهاً ... فلمّا انهزموا لم يُوجد في الأسرى ، ولا في القتلى ، ولا رجع إلى مكّة ، ولا يُدرى ما حلّ به ، وليس له عقب.

ومثله في تاريخ الطبري ٢ / ١٤٣ ، والكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ / ١٢١.

وقال ابن عبد البر في الاستيعاب ٢ / ٨١٧ : وذكروا أنّ ثلاثة نفر ذهبوا على وجوههم فهاموا ، ولم يُوجد ولم يُسمع لهم بأثر ؛ طالب بن أبي طالب.

ومثله في اُسد الغابة ٣ / ١١٢ ، وغيرها من المصادر الكثيرة التي اتّفقت على جهالة حال طالب بعد معركة بدر ، وهذا شيء غريب مُلفتٌ للنظر ؛ خصوصاً وأنّ المؤرّخين ركَّزوا على بني هاشم وذكرِ أخبارِهم وسيَرهم!

ثُمّ إنّ المؤلِّف شبّهه ـ على بُعد ـ بسعد بن عبادة الأنصاري المعروف في وقعة السّقيفة ، وموقفه من أبي بكر وعمر من معارضته وعدم مبايعته لهما ، وهذا الصحابي اختُلف في موته.

قال ابن عبد البر في الاستيعاب ٢ / ٥٩٩ : ولم يختلفوا أنّه وُجد ميّتاً في مغتسله ، وقد اخضرّ جسدُهُ ولم يشعروا بموته حتّى سمعوا قائلاً ـ ولا يرون أحداً ـ :

قَتلنَا سيّدَ الخَزْ رجِ سعدَ بنَ عبادَهْ

رميناهُ بسهمٍ فلَمْ يُخطِ فؤادَهْ

ويُقال : إنّ الجنّ قتلته.

قال السيّد الأمين في أعيان الشيعة ٧ / ٢٢٥ ، وقيل : إنّ الذي رماه المغيرةُ بنُ شعبة ، وقيل : شخصاً غيره رماه كلّ واحد بسهم ، واُشيع أنّ الجنّ رمته ، وقالت البيتين. ويُحكى عن بعض الأنصار ، أنّه قال :

وما ذنبُ سعدٍ أنّهُ بالَ قائماً

ألا رُبَّما حقَّقْتَ فعلَكَ بالغدرِ

يقولون سعدٌ شقّتْ الجنُّ بطَنَهُ

ولكنَّ سعداً لم يُبايع أبا بكرِ

وفي الاستيعاب : لم يختلفوا أنّه وُجد ميّتاً في مغتسله ، وقد اخضرّ جسده ولم يشعروا بموته حتّى سمعوا قائلاً يقول ـ ولا يرون أحد ـ : نحن قتلنا ... البيتين ، ويُقال : إنّ الجنّ قتلته.

وياليت شعري ، وما ذنبه إلى الجنِّ حتّى تقتله الجنّ؟!

ويُنقل عن محمّد بن جرير الطبري ـ وكأنّه الشيعي ـ ، وفي مؤلّفه عن أبي علقمة ، قلتُُ لابن عبادة ، وقد مال النّاس إلى بيعة أبي بكر : ألا تدخل فيما دخل فيه المُسلمون؟

٦٩

عقيل

كان عقيل بن أبي طالب أحد أغصان الشجرة الطيّبة ، وممّن رضي عنهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ النّظرة الصحيحة في التاريخ تفيدنا اعتناقه الإسلام أوّل الدعوة ، وكان هذا مجلبة للحبّ النّبوي ؛ حيث اجتمعت فيه شرائط الولاء من : رسوخ الإيمان في جوانحه ، وعمل الخيرات بجوارحه ، ولزوم الطاعة في أعماله ، واقتفاء الصدق في أقواله ، فقول النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله له : «إنّي اُحبّك حُبّين : حُبّاً لك ، وحبّاً لحبِّ أبي طالب لك» (١). إنّما هو لأجل هاتيك المآثر ، وليس من المعقول كون

__________________

قال : إليك عنّي ، فواللّه ، لقد سمعتُ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إذا أنا متُّ تضلّ الأهواء ، ويرجعُ النّاس على أعقابِهم ، فالحقُّ يومئذٍ مع عليٍّ ، وكتابُ اللّه بيده». لا نُبايع أحداً غيره.

فقلتُ له : هل سمع هذا الخبر أحدٌ غيرك من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال : اُناسٌ في قلوبهم أحقادٌ وضغائنٌ.

قلتُ : بل نازعتك نفسك أنْ يكون هذا الأمر لك دون النّاس.

فحلف أنّه لم يهمّ بها ولم يُردها ، وأنّهم لو بايعوا عليّاً لكان أوّلَ مَن بايعه.

(١) ورد هذا الحديث بألفاظه المختلفة في المصادر التالية : بحار الأنوار ٣٥ / ١٥٧ و ٤٢ / ١١٥ ، المُستدرك للحاكم ٣ / ٥٧٦ ، مجمع الزوائد ٩ / ٢٧٣ ، المعجم الكبير للطبراني ١٧ / ١٩١ ، الاستيعاب ٣ / ١٠٧٨ ، الطبقات الكبرى ٤ / ٤٤ ، معرفة الثقات للعجلي ١ / ٣٨٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٢٠ / ٥٥ و ٤١ / ١٨ ، اُسد الغابة ٣ / ٤٢٢ ، سير أعلام النّبلاء ١ / ٢١٩ ، تاريخ الإسلام للذهبي ٤ / ٨٤ ، الوافي بالوفيات ٢٠ / ٦٣ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ / ٢٥ و ١٤ / ٧٠ ، السّيرة الحلبيّة ١ / ٤٣٢.

٧٠

حُبّه لغاية شهويّة ، أو لشيء من عرض الدنيا.

إذاً فحسب عقيل من العظمة هذه المكانة الشامخة ؛ وقد حدته قوةُ الإيمان إلى أنْ يسلق أعداء أخيه أمير المؤمنين عليه‌السلام بلسان حديد ، خلّده عاراً عليهم مدى الحقب والأعوام (١).

على أنّ حُبَّ أبي طالب له لم يكن لمحض النّبوّة ؛ فإنّه لم يكن ولده البكر ، ولا كان أشجع ولده ، ولا أوفاهم ذمّة ، ولا ولده الوحيد ، وقد كان في ولده مثل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأبي المساكين جعفر الطيّار ، وهو أكبرهم سنّاً ، وإنّما كان (شيخ الأبطح) يُظهر مرتبة من الحُبِّ له مع وجود ولده (الإمام) وأخيه الطيّار ؛ لجمعه الفضائل

__________________

قال المؤلِّف : ولكنّه في المجالس ـ مجلس ٢٧ ـ روى عن ابن عباس : أنّ عليّاً عليه‌السلام قال لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أتحب عقيلاً؟».

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أي واللّه ، إنّي لأحبُّه حُبّين : حُبّاً لرسول اللّه ، وحُبّاً لحبّ أبي طالب له ، وإنّ ولدَهُ لمقتولٌ في محبّة ولدك ، فتدمع عليه عيونُ المؤمنين ، وتُصلّي عليه الملائكة المُقرّبون». ثُمّ بكى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى جرت دموعه على صدره ، وقال : «إلى اللّه أشكو ما تلقَى عترتي بعدي».

وهو في الأمالي للشيخ الصدوق / ١٩١ ح ٢٠١ / ٣ ، وعنه بحار الأنوار ٢٢ / ٢٨٨ ، ح ٥٨.

(١) قال العلاّمة الأميني في الغدير ١٠ / ٢٦١ : قال معاوية لعقيل بن أبي طالب : إنّ عليّاً قد قطعك وأنا وصلتُك ، ولا يرضيني منك إلاّ أنْ تلعنه على المنبر.

قال : أفعل. فصعد المنبر ، ثُمّ قال ـ بعد أنْ حمدَ اللّهَ وأثنى عليه ، وصلّى على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : أيّها النّاس ، إنّ معاوية بن أبي سفيان قد أمرني أنْ ألعن عليَّ بن أبي طالب فالعنوه ، فعليه لعنةُ اللّه والملائكة والنّاس أجمعين.

ثُمّ نزل ، فقال له معاوية : إنّك لمْ تُبيّن مَن لعنت منهما ، بيّنه. فقال : واللّه ، لا زدتُ حرفاً ولا نقصت حرفاً ، والكلام إلى نيّة المُتكلّم.

العقد الفريد ٢ / ١٤٤ ، المستطرف ١ / ٥٤.

والكلام فيه تورية لطيفة ، ولعنٌ لمعاوية من قِبل عقيل.

٧١

والفواضل ، موروثة ومكتسبة.

وبعد أنْ فرضنا أنّ أبا طالب حجّة وقته ، وأنّه وصيٌّ من الأوصياء ، لم يكن يحابي أحداً بالمحبّة وإنْ كان أعزّ ولده ، إلاّ أنْ يجده ذلك الإنسان الكامل الذي يجب في شريعة الحقِّ ولاؤه.

ولا شكّ أنّ عقيلاً لم يكن على غير الطريقة التي عليها أهل بيته أجمع من الإيمان والوحدانية للّه تعالى ، وكيف يشذّ عن خاصّته وأهله وهو وإيّاهم في بيت واحد ، وأبو طالب هو المُتكفّل تربيته وإعاشته ، فلا هو بطارده عن حوزته ، ولا بمبعده عن حومته ، ولا بمتضجّر منه على الأقل.

وكيف يتظاهر بحُبِّه ويدنيه منه ـ كما يعلمنا النّص النّبوي السّابق ـ لو لمْ يتوثّق من إيمانه ويتيقّن من إسلامه ، غير أنّه كان مُبطناً له كما كان أبوه من قبل وأخوه طالب ؛ وإنْ كُنّا لا نشكّ في تفاوت الإيمان فيه وفي أخويه الطيّار وأمير المؤمنين عليهما‌السلام.

وحينئذ لم يكن عقيل بدعاً من هذا البيت الطاهر الّذي بُني الإسلام على علاليه ، فهو مؤمن بما صدع به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ هتف داعية الهدى.

كما لبّت هذا الهتاف اُختهم اُمّ هاني ، فكانت من السّابقات إلى الإيمان ، كما عليه صحيح الأثر ، وفي بيتها نزل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن معراجه ، وهو في السّنة الثالثة من البعثة ، وحدّثها بأمره قبل أنْ يخرج إلى النّاس ، وكانت مُصدّقة له ، غير أنّها خشيت تكذيب قريش إيّاه ، وعليه فلا يُعبأ بما زعم من تأخّر إسلامها إلى عام الفتح سنة ثمان من

٧٢

الهجرة (١).

وما عسى أنْ يقول القائل في اُمّهم ـ زوج شيخ الأبطح ـ بعد شهادة الرسول الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّها من الطاهرات الطيّبات المؤمنات في جميع أدوار حياتها.

والعجب ممّن اغتر بتمويه المُبطلين ؛ فدوّن تلك الفرية زعماً منه أنّها من فضائل سيّد الأوصياء ، وهي : إنّ فاطمة بنت أسد دخلت البيت الحرام وهي حاملة بعليٍّ عليه‌السلام ، فأرادت أنْ تسجد لهُبل فمنعها عليٌّ عليه‌السلام وهو في بطنها! (٢).

وقد فات المسكين أنّ في هذه الكرامة طعناً بتلك الذات المُبرّأة من رجس الجاهليّة ودنس الشرك.

وكيف يكون أشرف المخلوقات بعد خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله المتكوّن من النّور الإلهي مُودَعاً في وعاء الكفر والجحود؟!

__________________

(١) في مناقب ابن شهر آشوب ١ / ١١٠ ، إنّها ماتت في أيام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن ابن حجر في تقريب التهذيب ٢ / ٦٧٣ ، ٨٨٢١ نصّ على وفاتها في خلافة معاوية ، وعليه فليست هي المعنيّة بما في كامل الزيارات / ١٩٥ : وأقبلت إليه بعضُ عمّاته تقول : أشهد يا حسين ، لقد سمعت قائلاً يقول :

وإنّ قَتيلَ الطّفِّ من آلِ هَاشمٍ

أذلَّ رِقَاباً مِنَ قُريشٍ فَذلّتِ

انتهى كلام المؤلِّف.

أقول : مضافاً إلى ذلك ، فإنّ المُحدّثين ذكروا أنّ قائل هذه الأبيات سليمان بن قتّة الخُزاعي. وارجع إلى : مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٦٣ ، مثير الأحزان لابن نما الحلّي / ٨٩ ، الاستيعاب لابن عبد البر ١ / ٣٩٤ ، نظم درر السّمطين / ٢٢٦ ، تاريخ مدينة دمشق ١٤ / ٢٥٩ ، اُسد الغابة ٢ / ٢٢ ، تهذيب الكمال ٦ / ٤٤٧ ، سير أعلام النّبلاء ٣ / ٣١٨ ، تاريخ الإسلام ٥ / ١٠٨ ، البداية والنّهاية ٨ / ٢٣٠.

(٢) السّيرة الحلبيّة للحلبي ١ / ٤٢٢ ، شرح إحقاق الحقّ للمرعشي ٨ / ٧٠.

٧٣

كما أنّهم أبعدوها كثيراً عن مستوى التعاليم الإلهيّة ، ودروس خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله المُلقاة عليها كُلَّ صباح ومساء ، وفيها ما فرضه المهيمن ـ جلّ شأنه ـ على الاُمّة جمعاء من الإيمان بما حبى ولدها الوصيَّ عليه‌السلام بالولاية على المؤمنين حتّى اُختصّ بها دون الأئمّة من أبنائه عليهم‌السلام ؛ وإنْ كانوا نوراً واحداً ، وطينة واحدة. ولقد غضب الإمام الصادق عليه‌السلام على مَن سمّاه أمير المؤمنين ، وقال : «مه ، لا يصلح هذا الاسم إلاّ لجدّي أمير المؤمنين».

فرووا أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقف على قبرها وصاح : «ابنك عليٌّ لا جعفر ولا عقيل». ولما سُئل عنه ، أجاب : «إنّ المَلكَ سألَها عمّن تُدين بولايته بعد الرسول ، فخجلت أنْ تقول ولدي» (١).

أمن المعقول أنْ تكون تلك الذات الطاهرة ، الحاملة لأشرف الخلق بعد النّبوّة بعيدة عن تلك التعاليم المُقدّسة؟! وهل في الدِّين حياء؟!

نعم ، أرادوا أنْ يزحزحوها عن الصراط السّوي ، ولكن فاتهم الغرض وأخطؤوا الرمية ؛ فإنّ الصحيح من الآثار ينصّ على أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أنزلها في لحدها ، ناداها بصوت رفيع : «يا فاطمة ، أنا محمّدٌ سيّدُ وُلدِ آدمَ ولا فخر ، فإذا أتاك منكرٌ ونكيرٌ فسألاك : مَن ربّك؟ فقولي : اللّهُ ربّي ، ومحمّدٌ نبيِّي ، والإسلامُ ديني ، والقرآنُ كتابي ، وابني إمامي ووليّي». ثمّ خرج من القبر ، وأهال عليها التُّراب (٢).

__________________

(١) الفضائل لابن شاذان / ١٠٣ ، مستدرك الوسائل ٢ / ٣٤٢.

(٢) روضة الواعظين للنيسابوري / ١٤٢ ، بحار الأنوار ٧٨ / ٣٥١ ، ح ٢٢ عن مجالس الصدوق ، بشارة المصطفى للطبري / ٣٧٢.

٧٤

ولعلّ هذا خاصّ بها ومَن جرى مجراها من الزّاكين الطيّبين ، وإلاّ فلم يعهد في زمن الرسالة تلقين الأموات بمعرفة الولي بعده ؛ فإنّه كتخصيصها بالتكبير أربعين مع أنّ التكبير على الأموات خمس.

وبالرغم من هاتيك السّفاسف التي أرادوا بها الحطّ من مقام والدة الإمام عليه‌السلام ، أظهر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أمام الاُمّة ما أعرب عن مكانتها من الدِّين ، وأنّها بعين فاطر السّماء حين كفّنها بقميصه الذي لا يبلى ؛ لتكن مستورة يوم يعرى الخلق ، وكان الاضطجاع في قبرها إجابة لرغبتها فيه عند ما حدّثها عن أهوال القبر ، وما يكون فيه من ضغطة ابن آدم.

فتحصّل : إنّ هذا البيت الطاهر (بيت أبي طالب) بيتُ توحيدٍ وإيمانٍ ، وهدى ورشاد ، وإنّ مَن حواه البيت رجالاً ونساءً كُلّهم على دين واحد منذ هتف داعية الهُدى وصَدعَ بأمر الرسالة ، غير أنّهم بين مَن جاهر باتّباع الدعوة ، وبين مَن كتم الإيمان لضرب من المصلحة.

٧٥

السّفر إلى الشام

لقد كانت الروايات في سفر عقيل إلى الشام ، في أنّه على عهد أخيه الإمام أو بعده ، متضاربة ، واستظهر ابن أبي الحديد في شرح النّهج ٣ / ٨٢ أنّه بعد شهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وجزم به العلاّمة الجليل السيّد علي خان في الدرجات الرفيعة ، وهو الذي يقوى في النّظر بعد ملاحظة مجموع ما يُؤثر في هذا الباب ؛ وعليه تكون وفادته كوفود غيره من الرجال المرضيِّين عند أهل البيت عليهم‌السلام إلى معاوية في تلك الظروف القاسية ، بعد أنْ اضطرّتهم إليه الحاجة ، وساقهم وجه الحيلة في الإبقاء على النّفس ، والكفّ من بوادر الرَّجل ، فلا هُم بملومين بشيء من ذلك ، ولا يحطّ من كرامتهم عند الملأ الديني ؛ فإنّ للتقيّة أحكاماً لا تُنقض ، ولا يُلام المُضطرّ على أمر اضطرّ إليه.

على أنّ عقيلاً لم يُؤثر عنه يوم وفادته على معاوية إقرار له بإمامةٍ ، ولا خضوع له عند كرامة ، وإنّما المأثور عنه الوقيعة فيه ، والطعن في حسبه ونسبه ، والحطّ من كرامته ، والإصحار بمطاعنه ، مشفوعة بالإشارة إلى فضل أخيه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

من ذلك أنّ معاوية قال له : يا أبا يزيد ، أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك؟

فقال عقيل : مررت والله ، بعسكر أخي ، فإذا ليلٌ كليل

٧٦

رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونهارٌ كنهار رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلاّ أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس في القوم ؛ ما رأيت إلاّ مُصلّياً ، ولا سمعت إلاّ قارئاً ، ومررت بعسكرك ، فاستقبلني قوم من المُنافقين ممّن نفر برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة العقبة (١).

وقال له معاوية : إنّ عليّاً قطع قرابتك وما وصلك.؟

فقال له عقيل : واللّه ، لقد أجزلَ العطيّة وأعظَمها ، ووصل القرابة وحفظها ، وحسنَ ظنّه باللّه إذ ساء به مثلك ، وحفظ أمانته ، وأصلح رعيته إذ خنتُم وأفسدتم وجرتم ، فاكفف لا أباً لك ; فإنّه عمّا تقول بمعزل (٢).

ثُمّ صاح : يا أهل الشام ، عنّي فاسمعوا لا عن معاوية ، إنّي أتيت أخي عليّاً عليه‌السلام فوجدته رجلاً قد جعل دنياه دون دينه ، وخشي اللّه على نفسه ، ولم تأخذه في اللّه لومة لائم ... وإنّي أتيت معاوية فوجدته قد جعل دينه دون دنياه ، وركب الضلالة واتّبع هواه ، فأعطاني ما لمْ يعرق فيه جبينُه ، ولم تكدح فيه يمينُه ؛ رزقاً أجراه اللّه على يديه ، وهو المُحاسَب عليه دوني ، لا محمود ولا مشكور.

ثُمّ التفت إلى معاوية ، فقال : أما واللّه يابن هند ، ما تزال منك سوالف يمرّها منك قول وفعل ؛ فكأنّي بك وقد أحاط بك ما الذي منه تحاذر.

فأطرق معاوية ساعة ، ثُمّ قال : مَن يعذرني من بني هاشم. ثُمّ أنشد يقول :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ١٢٥.

(٢) الدرجات الرفيعة / ١٦١.

٧٧

اُزيدُهُمُ الإكرامَ كَي يشعَبُوا العَصَا

فيأبَوا لدَى الإكرامِ أنْ لا يُكرَمُوا

وإذا عَطَفتني رقَّتانِ عَليهمُ

نَأوا حَسداً عنّي فكانوا هُمُ هُمُ

واُعطيهمُ صَفوَ الإخا فكأنَّنِي

معاً وعطايايَ المُباحةَ عَلقَمُ

واُغضِي عَنِ الذَّنبِ الّذي لا يُقيلُهُ

مِنَ القومِ إلاّ الهَزْبَريُّ المُقَمَّمُ

حُباً واصطباراً وانعطافاً ورقَّةً

وأكظمُ غيظَ القلبِ إذْ ليسَ يُكظَم

أما واللّه يابن أبي طالب ، لولا أنْ يُقال : عجل معاوية لخرقٍ ونكل عن جوابك ، لتركتُ هامتَكَ أخفَّ على أيدي الرِّجال من حَوي الحنظل.

فأجابه عقيل :

عذيرُكَ مِنهُمْ مَنْ يلومُ عليهمُ

ومَنْ هو مِنهُمْ في المقالةِ أظلَمُ

لَعمرُكَ ما أعطيتَهُمْ منكَ رأفة

ولكنْ لأسبابٍ وحولَكَ علقَمُ

أبَى لهُمُ أنْ ينزلَ الذلُّ دارَهمْ

بنو حُرَّةٍ زُهرٌ وعقلٌ مُسلّمُ

وإنَّهُمُ لمْ يقبَلوا الذّلَّ عنوةً

إذا ما طغَى الجبَّارُ كانوا هُمُ هُمُ

فدونَكَ ما أسْدَيتَ فاشدُدْ يداً بِه

وخيرُكُمُ المبْسوطُ والشرَّ فالزموا

ثُمّ رمى المئة ألف درهم ، ونفض ثوبه وقام ومضى ، فلم يلتفت إليه. فكتب إليه معاوية :

أمّا بعد ، يا بني عبد المُطّلب ، أنتم واللّه فروعُ قَصي ، ولبابُ

٧٨

عبد مناف ، وصفوةُ هاشم ، فأين أحلامكم الراسية وعقولكم الكاسية ، وحفظكم الأواصر وحبكم العشائر ، ولكم الصفح الجميل والعفو الجزيل ، مقرونان بشرف النّبوّة وعزّ الرسالة ، وقد والله ، ساءني ما كان جرى ، ولنْ أعود لمثله إلى أنْ اُغيّب في الثرى.

فكتب إليه عقيل :

صَدقتَ وقلتَ حقّاً غيرَ أنّي

أرَى ألا أراكَ ولا ترانِي

ولستُ أقولُ سُوءاً في صدِيقي

ولكنِّي أصدُّ إذا جفاني

فكتب إليه معاوية وناشده في الصفح ، وأجازه مئة ألف درهم حتّى رجع (١).

فقال له معاوية : لِمَ جفوتنا يا أبا يزيد؟

فأنشأ عقيل :

وإنّي امرُؤٌ منّي التَّكرُّمُ شيمةٌ

إذا صاحبِي يوماً على الهَونِ أضمَرَا

ثُمّ قال : أيم اللّه يا معاوية ، لئن كانت الدُّنيا أفرشتك مهادها ، وأظلّتك بسرادقها ، ومدّت عليك أطناب سلطانها ، ما ذاك بالذي يزيدك منّي رغبةً ولا تخشّعاً لرهبة.

فقال معاوية : لقد نعتها أبو يزيد نعتاً هشّ له قلبي. وأيم اللّه يا أبا يزيد ، لقد أصبحت كريماً وإلينا حبيباً ، وما أصبحتُ أضمر لك إساءة (٢).

__________________

(١) الدرجات الرفيعة / ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) الدرجات الرفيعة / ١٦٤.

٧٩

هذا حال عقيل مع معاوية ، وحينئذ فأيّ نقص يلمّ به والحالة هذه؟!

وعلى الوصف الذي أتينا به تعرف أنّه لا صحة لما رواه المتساهلون في النّقل من كونه مع معاوية بصفين ؛ فإنّه ممّا لم يُتأكد إسنادُهُ ولا عُرِفَ متنُه ، ويُضادُه جميعُ ما ذكرناه ، كما يبعده كتابه من مكّة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام حين أغار الضحّاك على الحيرة وما والاها ، وذلك بعد حادثة صفين ، وهذه صورة الكتاب :

لعبد اللّه أمير المؤمنين ، من عقيل بن أبي طالب :

سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد ، فإنّ اللّه حارسك من كُلّ سوء ، وعاصمك من كُلّ مكروه وعلى كُلّ حال ، فإنّي خرجت إلى مكّة معتمراً ، فلقيت عبد اللّه بن أبي سرح مُقبلاً من (قديد) في نحو من أربعين شابّاً من أبناء الطُّلقاء ، فعرفت المنكر في وجوههم ، فقلت : إلى أين يا أبناء الشانئين؟ أبمعاوية لاحقون ؛ عداوة للّه منكم غير مُستنكَرة ، تُريدون إطفاء نور اللّه وتبديل أمره؟

فأسمعني القوم وأسمعتهم ، فلمّا قدمت مكّة سمعت أهلها يتحدّثون أنّ الضحّاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء ، ثُمّ انكفأ راجعاً سالماً ، وإنّ الحياة في دهرٍ جرّأ عليك الضحّاك لذميمة ، وما الضحّاك إلاّ فقع بقرقر. وقد توهّمت حيث بلغني ذلك أنّ شيعتك وأنصارك خذلوك ، فاكتب إليّ يابن أبي برأيك ؛ فإنْ كنتَ الموت تُريد ، تحمّلتُ إليك ببَني أخيك وولد

٨٠