العبّاس عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

العبّاس عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


المترجم: الشيخ محمّد الحسّون
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 964-95037-0-6
الصفحات: ٣٩١

الحقيق أذن لهم ، وأمرهم بعدم التعرّض للنساء والصبيان وهُم مشركون (١).

وعلى سيرته مشى المسلمون ، وإنّ سيّدهم أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا أنزل عائشة في الدار ، قال له رجل من الأزد : واللّه ، لا تفلتنا هذه المرأة. فغضب أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال : «صهْ ، لا تهتُكْنَ سِتْراً ، ولا تَدخلْنَ دارَاً ، ولا تُهيّجنَ امرأةً بِأَذًى وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ ، وسفهنَ أُمَرَاءَكُمْ وصلحاءَكُمْ ؛ فَإِنَّهُنَّ ضعافٌ ، ولقد كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيُكافِئ المرْأةَ بالضَّربِ فَيُعَيَّرُ بِهَا عَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ ، فلا يَبلُغنِّي عنْ أحدٍ تعرَّضَ لامرأةٍ فأنكلُ بِهِ» (٢).

من هذا عرف النّاس ضلال يزيد وتيهه في الباطل ؛ فاكثروا اللائمة عليه حتّى مَن لم ينتحل دينَ الإسلام.

وحديثُ رسول ملك الروم مع يزيد في مجلسه أحدث هزّةً في المجلس ، وعرف يزيد الإنكار منهم ، وأنّه لم تُجدِ فيهم تلك التمويهات ؛ وكيف تٌجدي وقد سمع مَن حضرَ المجلس صوتاً عالياً من الرأس المُقدّس لمّا أمر يزيد بقتل ذلك الرسول : «لا حَولَ ولا قوةَ إلاّ باللّهِ» (٣).

وأيّ أحد رأى أو سمع قبل يوم الحسين عليه‌السلام رأساً مقطوعاً ينطق بالكلام الفصيح؟ وهل يقدر ابنُ ميسون أنْ يقاوم أسرار اللّه ، أو يُطفئ نوره تعالى شأنه؟! كلاّ.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ١٨٤ ، البداية والنّهاية لابن كثير ٤ / ١٥٧ ، السّيرة النّبويّة لابن هشام ٣ / ٧٤٧.

(٢) تاريخ الطبري ٣ / ٥٤٤ ، الكامل في التاريخ ٣ / ٢٥٧ ، وقسم منه في نهج البلاغة بشرح محمّد عبده ٣ / ٥١٥ ، الكافي للكليني ٥ / ٣٩.

(٣) العوالم / ٤٤٣.

٢٨١

ولقد أنكرت عليه زوجته هند بنت عمرو بن سهيل ، وكانت عند عبد اللّه بن عامر بن كريز ، وهو ابن خال عثمان بن عفان ، فإنّ عامراً وأروى اُمَّ عثمان اُمُّهم اُمّ حكيم البيضاء بنت عبد المُطّلب بن هاشم بن عبد مناف ، فأجبره معاوية على طلاقها لرغبة يزيد بها (١).

فإنّها لمّا أبصرت الرأس الزاهي مصلوباً على باب دارها ، ورأت الأنوار النّبويّة تتصاعد إلى عنان السّماء ، وشاهدت الدَّمَ يقطر منه طرياً ، أدهشها الحالُ ، وعظم مصابه في قلبها ، فلم تتمالك دون أنْ دخلت على يزيد في مجلسه ، مهتوكة الحجاب ، وهي تصيح : رأسُ ابن بنت رسول اللّه على دارنا! فقام إليها وغطّاها ، وقال لها : أعولي وابكي على الحسين ؛ فإنّه صريخة بني هاشم ، عجّل عليه ابن زياد (٢).

ورأت في منامها كأنّ رجالاً نزلوا من السّماء وطافوا برأس الحسين عليه‌السلام يُسلّمون عليه ، ولمّا انتبهت جاءت إلى الرأس فأبصرت نوراً حوله ، فطلبت يزيد لتقصّ عليه الرؤيا ، فإذا هو في بعض الغرف يبكي ويقول : مالي ولحسين! وقد رأى مثل ما رأت (٣) ، فأصبح يزيد ومِلء اُذنه حديث الأندية عن القسوة التي استعملها والجور الشديد ، فلم يرَ مناصاً من إلقاء التبعة على عاتق ابن زياد وتبعيداً للسُّبّة عنه ، ولكنّ الثابت لا يزال ، وهذا هو السّرُّ في إنشاء كتاب صغير وصفه المؤرّخون بأنّه مثل (اُذن الفأرة) ، أرفقه بكتابه الكبير

__________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٨١ ، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٦٢ / ٨٥ ، تاريخ الطبري ٤ / ٤٥٦ ، الكامل في التاريخ ٤ / ٨٤ ، وفي هذه المصادر وغيرها اسمها هند بنت عبد اللّه بن عامر بن كريز ، وليس عبد اللّه بن عامر زوجها بل أبوها.

(٢) المصادر المُتقدّمة باختلاف في بعض الألفاظ.

(٣) بحار الأنوار ٤٠ / ٨٠.

٢٨٢

إلى الوالي بأخذ البيعة من المدينة عامّة ، وفي الكتاب الصغير إلزام الحسين عليه‌السلام بالبيعة وإنْ أبى تضرب عنقه (١).

وليس الغرض من إنشاء الكتاب الصغير إلا أنّ يزيد لمّا كان عالماً بأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يجعله خليفة ، ولا كانت بيعته ممّا اتَّفق عليها صلحاءُ الوقت وأشرافُ الاُمّة ، وما صدر من الموافقة منهم ، يوم أرادها أبوه معاوية ، إنّما هو للوعيد والتهديد ، فأراد يزيد أنْ يُخلِّي رسمياتهِ عن الأمر بقتل الحسين عليه‌السلام ، بحيث لو صدر ذلك من عامله ولامه النّاس وخطّؤوه ، تدرّع بالعذر بخلوِّ كتابه للعامل بهذا الفعل ، وإنّما هو شي جاء به من قِبَلِ نفسه ، وكان له المجال حينئذ في إلقاء التبعة على العامل.

ولكن هلمّ واقرأ العجيب الغريب في إحياء العلوم ج ٣ ص ١٠٦ ، في الآفة الثامنة من آفات اللسان ، فهناك ترى الغزالي تائهاً في الغلواء لمّا وشجت عليه عروق النّصب والتحيّز إلى الاُمويِّين ، فأبى أنْ يلعن قاتل الحسين عليه‌السلام حتّى على الإجمال ، فيُقال : (لعنة اللّه على قاتل الحسين) ، مُعلّلاً باحتمال موته بعد التوبة! وقد فاته أنّ التائب إنْ قُبلت توبته لا يشمله اللعن ، فإذاً أيّ بأس إذا قيل : لعنة اللّه على قاتل الحسين عليه‌السلام ، لولا ذلك العداء المحتدم بين الحوائج والبغض لأهل هذا البيت الطاهر عليهم‌السلام؟!

وأغرب من ذلك قياسه يزيد بوحشي قاتل حمزة أسد اللّه وأسد رسوله ، فقال فيه : إنّ وحشي تاب عن الكفر والقتل جميعاً ، ولا يجوز أنْ يُلعن مع أنّ [القتلة] كبيرة ، فإذا لم يُقيّده بالتوبة وأطلق

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٢٥٠ ، الكامل في التاريخ ٤ / ١٤ ، البداية والنّهاية ٨ / ١٥٧.

٢٨٣

كان فيه خطر ... إلى آخره (١).

لا قياس بين يزيد ووحشي ؛ فإنّ وحشيَّاً قتل حمزة وهو كافر ، فلمَّا أسلم سقطت عنه كُلُّ تبعة كانت عليه ؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله ، بخلاف يزيد ؛ فإنّه قتل الحسين عليه‌السلام وهو يظهر الإسلام ، وقد ارتدّ بقتله ؛ إمّا لأنّ الحسين عليه‌السلام إمامٌ معصومٌ ، أو لتشفّيه بذلك من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بما صنعه مع خاله وجدّه يوم بدر.

على أنّ من المقطوع به أنّ مَن باء بذلك الإثم العظيم ، وهو قتلُ الحسين عليه‌السلام ، لا يتوفّق للتوبة نهائياً ؛ فإنّه من الذنوب التي لا تدع صاحبها أنْ يتحيّز إلى خير أبداً.

كما أنّ من المقطوع به أنّ وحشياً وإنْ أظهر الإسلام أمام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

وسكت عنه النّبيُّ ، وقال : «غيّبْ وجهَكَ عنِّي» (٢). فلا يختم له بالصّلاح والسّعادة أبداً ، ولا يأتي يوم القيامة وعليه شارة الهدى ، وقد قتل سيّد الشُّهداء حمزة بن عبد المُطّلب الشاهد للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة.

__________________

(١) إحياء علوم الدِّين للغزالي ٣ / ١٨٦ ، الآفة الثامنة في اللعن.

(٢) فتح الباري ٧ / ٢٨٤ ، المُعجم الأوسط للطبراني ٢ / ٢٢٢ ، الاستيعاب لابن عبد البر ٤ / ٦٥ ، اُسد الغابة لابن الأثير ٥ / ٨٤ ، تهذيب التهذيب لابن حجر ١١ / ١٠٠ ، الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ / ٢٥١ ، الوافي بالوفيات للصفدي ٢٧ / ٢٥٣ ، وذكر ابن الأثير في اُسد الغابة ٥ / ٨٤ : قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب : مات وحشيٌّ في الخمر. أخرجه الثلاثة ، وفي شرح مسند أبي حنيفة لملاّ علي القاري / ٥٢٨ ، وابن كثير في البداية والنّهاية ٤ / ٢٢ ، السّيرة النّبويّة لابن هشام ٣ / ٥٩٢ ، السّيرة الحلبيّة للحلبي ٢ / ٥٣٨ ، واللفظ للأوّل ، وقال ابن الهمام : بلغني أنّ وحشيّاً لم يزل يُحدُّ في الخمر حتّى خُلع من الديوان ، فكان ابن عمر يقول : لقد علمت أنّ اللّه تعالى لم يكنْ ليدع قاتل حمزة رضي‌الله‌عنه هذا ...

٢٨٤

كيف لا يُلعن يزيد وقد جوّز العلماء المُنقّبون لعنه ، وصرّحوا بخروجه عن طريقة الإسلام ، كما أفصح عن ذلك شعره ؛ فإنّه لمّا وردت عليه سبايا آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأشرفوا على ثنيّة جيرون ، ونعب الغراب ، قال (١) :

لمّا بَدَتْ تلكَ الحُمولُ وأشرَقَتْ

تلكَ الشُّموسُ على رُبَى جَيرونِ

نعبَ الغُرابُ فقلتُ قُلْ أو لا تَقُلْ

فقدْ اقتضيتُ مِنَ الرَّسولِ دُيونِي

فمن اُولئك العلماء القاضي أبو يعلى ، وأحمد بن حنبل ، وابن الجوزي (٢) ، والكيا الهراسي (٣) ، والشيخ محمّد البكري ، وسعد

__________________

(١) روح المعاني للآلوسي ٢٦ / ٧٢ ، في تفسير قوله تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ).

(٢) قال سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواصّ ٢ / ٢٦٦ : وذكر جدّي أبو الفرج في كتاب الردّ على المُتعصِّب العنيد المانع من ذمّ يزيد ، وقال : سألني سائل ، فقال : ما تقول في يزيد بن معاوية؟

فقلت له : يكفيه ما به.

فقال : أتجوّز لعنته؟

فقلتُ : قد أجازها العلماء الورعون ، منهم أحمد بن حنبل ؛ فإنّه ذكر في حقِّ يزيد ما يزيد على اللعنة.

قال جدِّي : وأخبرنا أبو بكر محمّد بن عبد الباقي البزّار ، أنبأنا أبو إسحاق البرمكي ، أنبأنا أبو بكر بن عبد العزيز بن جعفر ، أنبأنا أحمد بن محمّد الخلاّل ، حدّثنا محمّد بن علي عن مهنّا بن يحيى ، قال : سألت أحمد بن حنبل عن يزيد بن معاوية؟

فقال : هو الذي فعل ما فعل!

قلتُ : وما فعل؟

قال : نهب المدينة!

قلتُ : فتذكرْ عنه الحديثَ؟

٢٨٥

__________________

قال : لا ، ولا كرامة ، لا ينبغي لأحد أنْ يكتب عنه الحديث.

وحكى جدّي أبو الفرج عن القاضي أبي يعلى الفرّاء في كتابه (المعتمد في الاُصول) بإسناده إلى صالح بن أحمد بن حنبل ، قال : قلتُ لأبي : إنّ قوماً ينسبوننا إلى توالي يزيد؟

فقلتُ : فلم لا تلعنه؟

فقال : فمتَى رأيتني لعنتُ شيئاً؟! يا بُنيَّ ، لِمَ لا يُلعن مَن لعنهُ اللّه في كتابه؟

فقلتُ : وأين لعنَ اللّهُ يزيدَ في كتابه؟

فقال : في قوله تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * اُولئك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) سورة محمّد / ٢٢ ـ ٢٣. فهل يكون فسادٌ أعظم من القتل؟

وفي رواية : لمَّا سأله صالح ، فقال : يا بُنيَّ ، ما أقول في رجل لعنه اللّه في كتابه؟! وذكره.

قال جدّي : وصنّف القاضي أبو يعلى الفرّاء كتاباً ذكر فيه بيان مَن يستحقّ اللّعن ، وذكر منهم يزيد ، وقال في الكتاب المذكور : الممتنع من جواز لعن يزيد ؛ إمّا أنْ يكون غيرَ عالم بذلك ، أو منافقاً يُريد أنْ يُوهم بذلك ، وربّما استفزّ الجهّال بقوله عليه‌السلام : «المؤمنُ لا يكونُ لعّاناً».

قال القاضي أبو الحسن : وهذا محمول على مَن لا يستحقّ اللّعنَ.

فإنْ قيل : فقوله تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) نزلت في منافقي اليهود؟

قلتُ : فقد أجاب جدّي عن هذا في كتابه (الردّ على المُتعصِّب العنيد) وقال في الجواب : إنّ الذي نقل هذا مقاتل بن سليمان ، ذكره في تفسيره ، وقد أجمع عامّة المُحدّثين على كذبه ؛ كالبخاري ، ووكيع ، والسّاجي ، والسّعدي ، والرازي ، والنّسائي ، وغيرهم.

وقال : فسرّها أحمد بأنّها في المسلمين ، فكيف يقبل قول أحدٍ إنّها نزلت في المنافقين؟!

فإنْ قيل : فقد قال النّبيُّ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم : «أوّل جيشٍ يغزو القسطنطينية مغفورٌ له». ويزيد أوّل مَن غزاها؟

قلنا : فقد قال النّبيُّ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم : «لعنَ اللّهُ مَنْ أخافَ مَدينتي». والآخر ينسخ الأوّل.

٢٨٦

__________________

وأمّا قوله صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم : «أوّل جيشٍ يغزو القسطنطينية ...». فإنّما يعني أبا أيّوب الأنصاري ؛ لإنّه كان فيهم.

ولا خلاف أنّ يزيد أخاف أهل المدينة وسبى أهلها ، ونهبها وأباحها ، وتُسمى وقعة الحرّة ...

وقال جدّي في كتاب (الردّ على المُتعصِّب العنيد) : ليس العجب من قتال ابن زياد الحسين ، وتسليطه عمر بن سعد على قتله والشّمر ، وحمل الرؤوس إليه ، وإنّما العجب من خذلان يزيد ، وضربه بالقضيب ثناياه ، وحمل آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم سبايا على أقتاب الجمال ، وعزمه على أنْ يدفع فاطمة بنت الحسين إلى الرجل الذي طلبها ، وإنشاد أبيات ابن الزَّبعري : ليت أشياخي ببدر شهدوا ...

وردّه الرأس إلى المدينة وقد تغيّر ريحه ، وما كان مقصوده إلاّ الفضيحة وإظهار رائحته للنّاس ، أفيجوز أنْ يفعل هذا بالخوارج؟! أليس إجماع المسلمين أنّ الخوارج والبغاة يُكفَّنون ويُصلّى عليهم ويُدفنون؟!

وكذا قول يزيد : لي أنْ أسبيكم ـ لمّا طلب الرجل فاطمة بنت الحسين ـ ، قول لا يقنع لقائله وفاعله اللّعنة!

ولو لمْ يكُنْ في قلبه أحقادٌ جاهليّة ، وأضغان بدريّة لاحترم الرأس لمّا وصل إليه ، ولم يضربه بالقضيب ، وكفّنه ودفنه ، وأحسنَ إلى آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم.

قلتُ : والدليل على صحة هذا ؛ إنّه استدعى ابن زياد إليه وأعطاه أموالاً عظيمة وتحفاً كثيرة ، وقرّب مجلسه ورفع منزلته ، وأدخله على نسائه وجعله نديمه ، وسكر ليلة فقال للمُغنّي : غنِّ. ثُمّ قال يزيد بديهاً :

اسقنِي شربةً تُروِّي فُؤادِي

ثُمّ مِلْ فاسقِ مثلَها ابنَ زيادِ

صاحبَ السّرِّ والأمانةِ عنْدي

ولتسديدِ مَغنمِي وجهادِي

قاتلَ الخارجيِّ أعنِي حُسيناً

ومُبيدَ الأعداءِ والْحُسّادِ

وقال ابن عقيل : وممّا يدلّ على كفره وزندقته ـ فضلاً عن جواز سبّه ولعنته ـ أشعارهُ التي أفصح فيها بالإلحاد ، وأبان عن خبث الضّمير وسوء الاعتقاد ، فمنها قوله في قصيدته التي أوّلها :

عُليّةُ هاتِي واعلنِي وترنَّمِي

بذلكَ إنّي لا اُحبُّ التناجيَا

حديثُ أبي سُفيانَ قِدماً سَمَا بهَا

إلى اُحدٍ حتَّى أقامَ البواكيَا

٢٨٧

التفتازاني (٤) ، وسبط ابن الجوزي (٥).

وقال الجاحظ : إنّ المنكرات التي اقترفها يزيد ؛ من قتل الحسين عليه‌السلام ، وإخافته أهل المدينة ، وهدم الكعبة ، وحمل بنات رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سبايا ، وقرعه ثنايا الحسين عليه‌السلام بالعود ، هل تدلّ هذه القسوة والعلظة على نصب وسوء رأيّ ، وحقد وبغضاء ، ونفاق ويقين مدخول؟

__________________

ألا هاتِي فاسقِينِي على ذاك قهوةً

تَخيَّرهَا العنْسيُّ كَرْماً شآميَا

إذا مَا نَظرْنا في اُمورٍ قديمةٍ

وجدنَا حَلالاً شُربَها مُتواليَا

وإنْ مِتُّ يا اُمَّ الاُحيمرِ فانكَحِي

ولا تأمَلِي بعدَ الفراقِ تلاقيَا

فإنَّ الّذي حُدّثتِ عنْ يوم بعثِنا

أحاديثُ طسمٍ تجعلُ القلبَ ساهيَا

إلى غير ذلك ممّا نقلتُه من ديوانه ، ولهذا تطّرق إلى هذه الاُمّة العار بولايته عليها ، حتّى قال أبو العلاء المعرّي يُشير بالشّنار إليها :

أَرَى الأَيّامَ تَفعَلُ كُلَّ نُكرٍ

فَما أَنا في العَجائِبِ مُستَزيدُ

أَلَيسَ قُرَيشُكُمْ قَتَلَتْ حُسَيناً

وكانَ عَلى خِلافَتِكُم يَزيدُ

قلتُ : ولمّا لعنه جدّي أبو الفرج على المنبر ببغداد بحضرة الإمام النّاصر وأكابر العلماء ، قام جماعة من الجفاة من مجلسه فذهبوا ، فقال جدّي : (أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) سورة هود / ٩٥.

وحكى لي بعضُ أشياخنا عن ذلك اليوم : أنّ جماعة سألوا جدّي عن يزيد؟

فقال : ما تقولون في رجل ولي ثلاث سنين ؛ في السّنة الاُولى قتل الحسين ، وفي السّنة الثانية أخاف المدينة وأباحها ، وفي السّنة الثالثة رمى الكعبة بالمجانيق وهدّمها وحرّمها؟

فقالوا : يُلعن.

فقال : فالعنوه. تذكرة الخواصّ / ٢ ـ ٢٦٥ ـ ٢٨٠ ، وارجع لكلام ابن الجوزي ـ الجدّ ـ في كتاب الردّ على المُتعصِّب العنيد / ١٣ ـ ١٧.

(٣) وفيات الأعيان ٣ / ٢٨٧ ، فوات الوفيات ٢ / ٦٤١ ، جواهر المطالب في مناقب الإمام عليٍّ عليه‌السلام / ٣٠٢ ، السّيرة الحلبيّة ١ / ٣٦٧.

(٤) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢٦٧.

(٥) تذكرة الخواصّ ٢ / ٢٦٥ ـ ٢٨٠.

٢٨٨

أمْ تدلّ على الإخلاص ، وحبِّ النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والحفظ له ، وصحّة السّيرة؟!

وعلى هذا فلا يعدو الفسقَ والضلال ، وذلك أدنى مناله. فالفاسق ملعونٌ ، ومَن نهى عن شتمِ الملعونِ فملعون (١).

وقال العلاّمة الآلوسي : لا توقّف في لعن يزيد ؛ لكثرة أوصافه الخبيثة ، وارتكابه الكبائر في جميع أيّام تكاليفه ، ويكفي ما فعله أيام استيلائه بأهل المدينة ومكّة ، والطامّة الكبرى ما فعله بأهل البيت عليهم‌السلام ، ورضاه بقتل الحسين على جدّه وعليه أفضل الصلاة والسّلام ، واستبشاره بذلك وإهانته بأهل بيته ممّا تواتر معناه.

والذي يغلب على ظنّي أنّ الخبيث لمْ يكُنْ مُصدّقاً بالرسالة ، وأنّ مجموع ما فعله مع أهل حرم اللّه وأهل نبيّه وعترته الطيّبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات ، وما ورد منه من المخازي ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقائه ورقة من المصحف الشريف في قذر ، ولا أظنّ أمره خافياً على أجلّة المسلمين إذ ذاك ، ولكن كانوا مغلوبين مقهورين لم يسعهم إلاّ الصبر ، ليقضِ اللّهُ أمراً كان مفعولا.

ولو سُلّم أنّ الخبيث كان مسلماً ، فهو مُسلمٌ جَمعَ من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان ، وأنا اذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين ، ولو لم يُتصوّر أنْ يكون له مَثلٌ من الفاسقين ، والظاهر أنّه لم يتُبْ ، واحتمال توبته أضعف من إيمانهِ.

ويُلحق به ابن زياد وابن سعد وجماعة ، فلعنة اللّه عليهم أجمعين ، وعلى أنصارهم وشيعتهم ومَن مال ميلهم إلى يوم الدِّين ، ما دمعت عينٌ على أبي عبد اللّه الحسين عليه‌السلام. ويُعجبني قول شاعر

__________________

(١) رسائل الجاحظ / ٢٩٨ ، الحادية عشر في بني اُمّية.

٢٨٩

العصر عبد الباقي أفندي العُمري :

يزيدُ على لعنِي عريضُ جنابِهِ

فأغدُو بهِ طولَ المَدَى ألعنُ اللَّعنَا

ومَن يخشى القيل والقال بلعن ذلك الضليل ، فليقل : لعنَ اللّهُ مَن رضي بقتل الحسين عليه‌السلام ، ومَن آذى عترة النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بغير حقٍّ ، ومَن غصبهم حقّهم. فإنّه يكون لاعناً له ؛ لدخوله تحت العموم دخولاً أوَّلياً في نفس الأمر.

ولا يخالف أحد في جواز اللعن بهذه الألفاظ سوى ابن العربي المالكي وموافقيه ؛ فإنّهم على ظاهر ما نُقل عنهم لا يُجوّزون لعن مَن رضي بقتل الحسين عليه‌السلام ، وذلك لَعمري ، هو الضلال البعيد الذي كاد يزيد على ضلال يزيد ... إلى آخره (١).

وبعد هذا فهل يتوقّف أحد من لعنِ يزيد والبراءة منه؟! وإنْ كان فليس [هذا] إلاّ الضَّلال والعناد ، أعاذ الله أولياءه من شرّ الحقد.

لمّا كثرت اللائمة على يزيد خشي الفتنة وانقلاب الأمر ، فتداركه بإرجاع السّجاد عليه‌السلام والعيال إلى وطنهم ، ومكّنهم ممّا يريدون برأس الحسين عليه‌السلام إلى كربلاء ودفنه مع الجسد ، ولم يختلف في ذلك اثنان من علماء الإماميّة المعروفين بالبحث والتنقيب ؛ ومن هنا نسبه المجلسي في البحار إلى المشهور بين العلماء (٢).

وفي روضة الواعظين صفحة ١٦٥ (٣) قال : ردّ الرأس إلى الجسد.

__________________

(١) روح المعاني للآلوسي ٢٦ / ٧٤ ، في تفسير قوله تعالى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) الآية.

(٢) بحار الأنوار ٤٥ / ١٤٤.

(٣) روضة الواعظين / ١٩٢.

٢٩٠

وقال ابن نما في مُثير الأحزان صفحة ٥٨ : إنّه المُعوّل عليه (١).

وفي اللهوف لابن طاووس صفحة ١١٢ (٢) : عليه عملُ الإماميّة.

وقال ابن شهر آشوب في المناقب ٢ / ٢٠٠ : ذكر المرتضى في بعض رسائله أنّ رأس الحسين عليه‌السلام اُعيد إلى بدنه في كربلاء (٣).

وقال الطوسي : ومنه زيارة الأربعين (٤).

وفي مقتل العوالم صفحة ١٥٤ : إنّه المشهور بين علمائنا (٥).

وهو ظاهر الطبرسي في إعلام الورى صفحة ١٥١ (٦) ، والسيّد في رياض المصائب.

وأمّا باقي الرؤوس فلم يتعرّض لها أرباب المقاتل ، ولكنْ في نفَس المهموم صفحة ٢٥٣ ، ورياض الأحزان صفحة ١٥٥ ، عن حبيب السّير : إنّ يزيد سلّم جميع الرؤوس إلى علي بن الحسين عليه‌السلام ، فألحقها بالأبدان الطاهرة في العشرين من صفر ، ثُمّ توجّه إلى المدينة (٧).

ولعلّ الاعتبار يُساعده ؛ فإنّ يزيد لمّا نقم عليه النّاس وكثر الاضطراب ، لم يرَ بُدّاً من موافقة الإمام السّجاد عليه‌السلام على كُلّ ما يُريد ، وإخراجهم من الشّام عاجلاً.

نعم ، ذكر العلاّمة السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة ٤ / ٢٩٠ القسم الأوّل : أنّه رأى في سنة ١٣٢١ هـ في المقبرة

__________________

(١) مُثير الأحزان / ٨٥.

(٢) اللهوف في قتلى الطفوف / ١١٤.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٣١.

(٤) تهذيب الأحكام ٦ / ١١٤.

(٥) العوالم / ٣٢٧ ، والعبارة : وذكر المرتضى في بعض مسائله : أنّ رأس الحسين عليه‌السلام ردّ إلى بدنه عليه‌السلام بكربلاء من الشام ، وضُمَّ إليه.

(٦) إعلام الورى ١ / ٤٧٦.

(٧) معالي السّبطين ٢ / ١٩١.

٢٩١

المعروفة بمقبرة باب الصغير بدمشق مشهداً وضع على بابه صخرة مكتوب عليها : هذا مدفن رأس العبّاس بن عليٍّ ، ورأس عليِّ الأكبر بن الحسين عليه‌السلام ، ورأس حبيب بن مظاهر.

قال : ثُمّ إنّه انهدم بعد ذلك بسنين هذا المشهد ، واُعيد بناؤه ، واُزيلت هذه الصخرة ، وبُني ضريح داخل المشهد ، ونقش عليه أسماء كثيرة لشهداء كربلاء ، ولكنَّ الحقيقة أنّه منسوب إلى الرؤوس الشريفة الثلاثة المُقدّم ذكرها بحسب ما كان موضوعاً على بابه كما مرّ ، وهذا المشهد الظنّ القوي بصحة نسبته ؛ لأنّ الرؤوس بعد حملها إلى دمشق والطواف بها ، وانتهاء غرض يزيد من إشهار الغلبة والتنكيل بأهلها والتَّشفّي ، لا بدّ أنّ تُدفن في إحدى المقابر ، فدُفنت هذه الرؤوس الثلاثة في مقبرة باب الصغير ، وحُفظ محلُّ دفنها ، والله أعلم ... إلى آخره (١).

هذا ما ذكره السيّد (أيّده الله) ، ولو اطّلع على حبيب السّير لاعتقد عدم صحة الدفن هناك ، على أنّ التغيير الذي ذكره يدلّنا على أنّ الحفظة لذلك المشهد لهم غرضٌ آخر ، وليس بالمستبعد أنّ ذلك المشهد محلّ صلب الرؤوس.

وحقيق أنْ يُقال في كُلّ منها :

هامةٌ في الحَياةِ طاوَلتِ الشُّهبَ

ومَا نالَها هُبوبُ الرِّياحِ

أنِفَتْ بعدَ موتٍها التُّربِ فاختارَتْ

لهَا مَسكناً رُؤوسَ الرِّماحِ

__________________

(١) أعيان الشيعة ١ / ٦٢٧.

٢٩٢

مشهدُ الكفَّين

لم يفتأ شيعة أهل البيت عليهم‌السلام ، كما أنّهم يقتصّون آثارهم في معارفهم وتعاليمهم ، يتبرّكون بتعيين كُلّ ما يتعلّق بهم ؛ من مشهد أو معبد أو مقام فيتّبعونها بالحفاوة والتبجيل ، ويرَون ذلك من متممّات الولاء ولوازم الاتّباع والمشايعة.

وهو كما يرَون ؛ لأنّه إمّا مشهد يُزار ، أو معبد يُقصد للعبادة ، أو محلُّ مسرّةٍ فيسرّهم ذلك ، أو موقفُ مأساةٍ فيستاؤون لهم ، وهذا هو التشيّع المحض ، والاقتداء الصحيح.

ومن ذلك ما نشاهده في كربلاء المُشرّفة من المقام (لكفَّي أبي الفضل) اللذين تناقلتهما الألسن ، وأخذ حديثهما الخلف عن السّلف ، والسّيرة المستمرّة بين الإماميّة كافية في القطع بثبوت (المقامين) ، ولولاها لانتقض الأمر في كثير من المشاهد والمعابد والمقامات.

يقع مقام (الكفّ اليُمنى) في جهة الشمال الشرقي على حدّ محلّة باب بغداد ، ومحلّة باب الخان ، قريباً من باب الصحن المُطهّر الواقعة في الجهة الشرقية ، وعلى جدار المقام شُبّاكٌ صغيرٌ ، وعلى جبهته بيتان بالفارسيّة لم يُكتب اسم ناظمهما ، ولا تاريخ البناء ، ولا وضع الشبّاك ، والبيتان :

٢٩٣

افتاد دست راست خدايا زِپيكرم

بَر دامَنِ حُسين بِرسان دَستِ ديگرم

دست چپم بجاست

اگر نيست دست راست

امّا هزار حيف كه

يك دست بى صداست

ويقع مقام (الكفّ اليسرى) في السّوق الصغير ، القريب من الباب الصغير للصحن الواقعة في الجنوب الشرقي ، ويُعرف بسوق باب العبّاس الصغير ، وعلى الجدار شُبّاكٌ ، وكُتب بالقاشاني عليه : هذا نظم الشيخ محمّد المعروف بالسّراج :

سَلْ إذا ما شئتَ واسْمَعْ واعلَمِ

ثُمّ خُذْ منِّي جوابَ المُفهمِ

إنَّ فِي هذا المُقامِ انقَطعَتْ

يَسْرةُ العبَّاسِ بحرِ الكَرمِ

هاهُنا يا صاحُ طاحَتْ بعدَما

طاحتْ اليُمنَى بجنبِ العلْقَمِ

اِجرِ دَمعَ العَينِ وابْكيهِ أساً

حُقَّ أنْ يُبكَى بدمعٍ مِنْ دَم

٢٩٤

الزيارة

ذكرنا فيما تقدّم أنّ الزيارة من المأثور عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، ولكمال فضله وعلمه الجمّ ، وورعه الموصوف وكراماته الخارجة عن حدّ الإحصاء ، كان في المثول حول مرقده الأقدس بداعي الزلفى إلى المولى تعالى مزيدٌ لرسوخ العقيدة بأمر الدِّين ، وتعريف للاُمّة بما وجب من حقّ اللّه تعالى على خلقه ، وإنّ العبد كيف يجب عليه بذل ذاته في مرضاة الله عزّ وجل.

ثُمّ إنّ الزيارة وإنْ كانت مجرّد الحضور عند المزور ، والسّلام عليه بأيِّ لفظ جاء به المسلّم ، كما يؤيّده حديث مسلم بن ظبيان عن الصادق عليه‌السلام : «إذا أتيتَ القبرَ ـ يعني قبر الحسين عليه‌السلام ـ فقُلْ : صلّى اللّه عليكَ يا أبا عبد اللّه ، فقد تمّتْ زيارتُكْ» (١).

ولكنّ الألفاظ الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام يلزم الاحتفاظ به ؛ لأنّها اشتملت على ما يناسب مقام المزور من الخواصِّ ، وما له من جهاد نافع في سبيل الدِّين ، مضافاً إلى ما فيها من التأدّب عند أداء السّلام عليه.

فالقول المأثور من أهل البيت عليهم‌السلام في السّلام عليهم ، أو على أحد أولادهم أو أصحابهم راجح ، ومن هنا أفتى صاحب الرسائل فيها ، وخاتمة المُحدّثين النّوري في المستدرك باستحباب زيارة

__________________

(١) كامل الزيارات / ٢٤٤ ، تهذيب الأحكام ٦ / ١١٥.

٢٩٥

الحسين عليه‌السلام بالزِّيارة المأثورة وآدابها ، ولا خصوصيّة له على غيره من أئمّة الهدى عليهم‌السلام ، وبذلك المناط يتسرّى إلى غيرهم.

ومَن يقرأ ما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام في زيارة أبي الفضل بتدبّر وإمعان ، يعرف رجحان الأخذ بقوله عليه‌السلام ، وإنّ الزائر مهما يبلغ من المعرفة والكمال لا يحيط خبراً بحقيقة أبي الفضل ، وما يليق بجليل قدره وعظيم منزلته.

ومن هنا كان الراجح للزائر عند زيارة العبّاس أنْ يقف مواجهاً له ، مستدبراً القبلة ، كما هو الشأن في زيارة المعصومين عليهم‌السلام ، وهو مقتضى التأدّب أمام قمر بني هاشم ؛ فإنّ زيارته ميِّتاً كزيارته حيَّاً (والشُّهداءُ أحياءٌ عندَ ربِّهم يُرزَقون). ولا شّك أنّه لو كان حيّاً ودخل عليه الزائر ، فلا يُسلّم عليه إلاّ مواجهاً له.

ويشهد لذلك ما في مزار البحار ص ١٦٥ عن المفيد وابن المشهدي والشهيد الأوّل ، أنّهم قالوا : إنّ الزائر للعبّاس يقف أوّلاً على باب السّقيفة ويستأذن للدخول فيقول : سلامُ الله وسلامُ ملائكته ... إلى آخره ، ثُمّ يدخل وينكبُّ على القبر ويقول : السّلامُ عليكَ أيها العبد الصالح ... إلى آخره ، ثُمّ ينحرف إلى عند الرأس فيُصلّي ويدعو ، ويعود إلى الضريح ويقف عند الرجلين ، ويقول : السّلام عليك يا أبا الفضل العبّاس ... إلى آخره (١).

وقد يُدّعى أنّ هذه العبارة ، وما رواه ابن قولويه عن أبي حمزة الثمالي ، يقتضي الوقوف على قبر العبّاس من دون تخصيص بجهة من الجهات ؛ فإنّ العبارة : ثُمّ ادخل وانكبّ على القبر ، وقل ... إلى

__________________

(١) المزار للشيخ المفيد / ١٢٠ ، المزار للمشهدي / ٣٨٩ ، وعنهما بحار الأنوار ٩٨ / ٢١٧.

٢٩٦

آخره (١). ولم يُبيّن كيفيّة الانكباب ؛ هل أنّه من جهة القبلة ، كما هو شأن زيارة الإمام المعصوم عليه‌السلام ، أو من جهة عكسها ، أو من جهة الرّجلين أو الرّأس؟

إلاّ أنّ المُنصرف من الإطلاق إرادة جهة القبلة ؛ خصوصاً لو كان الباب التي يدخل منها إلى الروضة المُطهَّرة في ذلك الزمان كما عليه اليوم ، وحينئذ تكون زيارة أبي الفضل على حدّ زيارة المعصوم عليه‌السلام ، مواجهاً له مستدبراً القبلة.

فالتوقّف عن رجحان مواجهته حال الزيارة في غير محلّه ، واستظهار المجلسي تخيير الوقوف في زيارته محلُّ المناقشة ؛ فإنّه لم يرد عن الأئمّة عليهم‌السلام خبرُ التفصيل بين المعصوم عليه‌السلام وغيره : باستحباب المواجهة له في الأوّل واستقبال القبلة في الثاني.

وغاية ما ورد في زيارة الحسين وأبيه عليهما‌السلام مواجهة القبر وجعل القبلة بين كتفيه ، وهناك أخبار مطلقة بالوقوف على قبريهما كإطلاقها على قبري الجوادين والعسكريِّين والرِّضا عليهم‌السلام ، فلا تخصيص للمعصوم على غيره.

وما ورد في صفة زيارة المؤمنين من استقبال القبلة ، ووضع اليد على القبر ، والتوقيع المروي في الإقبال عن صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه : «إذا أردتَ زيارةَ الشُّهداءِ فقف عند رجلَي الحسين عليه‌السلام ، فاستقبل القبلة بوجهك ؛ فإنّ هناك حومة الشُّهداء ، وقُمْ وأشر إلى عليِّ بن الحسين ، وقل : السّلام عليك يا أوّل قتيل من نسلِ خيرِ سليلٍ ...». إلى آخره (٢).

__________________

(١) كامل الزيارات / ٤٤٠.

(٢) المزار للمشهدي / ٤٨٦ ، إقبال الأعمال لابن طاووس ٣ / ٧٣ ، وعنه البحار

٢٩٧

أخصّ من المُدّعى ، على أنّ الاعتبار يشهد بأنّ السّلام والثناء على المزور يستدعي مواجهته لا استدباره.

وكيف يكون الحال ، فأبو الفضل ممتاز عن سائر المؤمنين بخواصٍّ لا يأتي البيان على حصرها ، كيف وقد بلغ من الدرجات الرفيعة ما يغبطه عليها جميع الشُّهداء والصدِّيقين ، وقد أعلمنا الإمام الصادق عليه‌السلام بالزيارة التي علّمها أبا حمزة الثمالي : بأنّ لأبي الفضل مكانة سامية ودرجات عالية لا ينالها إلا اُولوا العزم من الرُّسل.

فرجحان مواجهته عند السّلام عليه متعيّنٌ كما هو الحال في أئمّة الهدى عليهم‌السلام ، وبذلك أفتى شيخنا الحجّة الشيخ عبد الحسين مبارك قدس‌سره في بشارة الزائرين ، ثُمّ قال :

ولَعمر أبيه الطّاهر صلوات اللّه وسلامه عليهما إنّه بذلك لحقيق جدير ؛ فإنّه ابن سيّد الوصيّين عليه‌السلام ، والمواسي ريحانة خير الخلق أجمعين صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن هنا كان بعض العارفين من العلماء الأعلام يُقدّم زيارة العبّاس على زيارة الحسين عليهما‌السلام ؛ لأنّه بابه في الحوائج ـ وهو في محلّه ـ وعليه العمل منذ عهد قديم ، وفي هذا يقول الأديب السيّد مهدي الأعرجي رحمه‌الله :

قصدتُكَ قبلَ ابنِ النّبيِّ مُحمّدٍ

وأدمُعُ عينِي كالحَيا فِي انْسكابِهَا

لأنَّكَ فِي كُلِّ الحوائجِ بابُهُ

وهلْ يقصدونَ الدَّارَ مِنْ غيرِ بابِهَا

__________________

٤٥ / ٦٤.

٢٩٨

صلاةُ الزيارة

إنّ من الراجح المُؤكّد صلاة ركعتين بعد الفراغ من زيارة أبي الفضل عليه‌السلام ، ويشهد له ما في مزار البحار ص ١٦٥ عن مزار المفيد وابن المشهدي من الرواية عن الأئمّة عليهم‌السلام في كيفية زيارته وبعدها ، قال : ثُمّ انحرف إلى عند الرأس فصلِّ ركعتين ، ثُمّ صلِّ بعدهما ما بدا لك (١).

وذكر السيّد ابن طاووس في مصباح الزائر الصلاة ركعتين بعد الفراغ من الزيارة.

كما أنّ الشيخ المفيد وابن المشهدي وابن طاووس ذكروا في مزاراتهم عند زيارة العبّاس يوم عيد الفطر والأضحى ، وليلة عرفة ويومها ، الأمر بركعتي الزيارة بعد الفراغ منها (٢).

وجاء في زيارة الأربعين : إنّ جابر الأنصاري زار العبّاس بن أمير المؤمنين عليهما‌السلام ، ثُمّ صلّى ركعتين ، ومن البعيد جدّاً أنْ يكون الحكم ممنوعاً منه عند الأئمّة عليهم‌السلام ، ولا يعلمه مثل جابر المُتخرّج من مدرستهم

__________________

(١) المزار للشيخ المفيد / ١٢٣ ، المزار للمشهدي / ١٧٩ ، المزار للشهيد الأوّل / ٢٨٠ ، بحار الأنوار ٩٧ / ٤٢٨.

(٢) المصادر السّابقة.

٢٩٩

الكبرى ، أو أنّه كان يغضُّ الطرف عن هذا المنع ، بل ظاهر الفعل أنّهما ركعتي الزيارة ، وأنَّه لِما عَلِمَهُ من أئمّته عليهم‌السلام فسار على نهجهم.

وإنّ من المُستبعد جدّاً أنْ يُثبت هؤلاء الأعاظم ، وهم عمد المذهب المُنقّبون في الآثار ، مثل هذه الوظائف من دون تخريج عن أئمّتهم ؛ بحيث يتورّطون في التشريع المُحرَّم والبدعة التي لا تُقال عثرتها ، (كلا وحاشا) ، بل لم يودعوا في كتبهم ومزاراتهم إلاّ ما وقفوا عليه عن أئمّتهم ، وإنْ لمْ نُحط به خبراً ككثير ممّا وقفوا عليه.

وقد ذكر السيّد ابن طاووس في آخر مصباح الزائر ، أنّ ما وقع اختياره عليه في هذا الكتاب قد وصل على الوجه الذي استحسنه واعتمد عليه من جهة الرواية.

وذكر ابن المشهدي في أوّل مزاره ، أنّ ما أودعه في الكتاب ما حصل لديه من الروايات الواردة عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام (١).

إذاً ، فكيف يسعنا نسبة ما أودعوه في كتبهم إلى محضِ آرائهم من دون تخريج عن أهل البيت عليهم‌السلام؟!

ولقد أفادنا بصيرة في تأكيد هذا شيخُ المُحقّقين الشيخ أسد الله الكاظمي قدس‌سره في كشف القناع ص ٢٣٠ ، وحاصل ما ذكره :

إنّ من الجائز أنْ يحصل لبعض حَمَلة أسرار الأئمّة عليهم‌السلام العلم بقول الإمام الغائب عليه‌السلام عن الأبصار ؛ إمّا بنقل أحد سفرائه سرّاً على وجهٍ يُفيد اليقين ، وإمّا بتوقيعه ومكاتبته كذلك ، وإمّا بالسّماع منه عليه‌السلام مشافهة على وجه لا يُنافي الرؤية في زمن الغيبة ، فلا يسعه التصريح بما حصله من الحكم على هذه الوجوه ، ولمْ يجدْ في الأدلة ما يدلّ عليه ،

__________________

(١) المزار للمشهدي / ٢٧.

٣٠٠