العبّاس عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

العبّاس عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


المترجم: الشيخ محمّد الحسّون
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 964-95037-0-6
الصفحات: ٣٩١

قد اغترّ بعلمه ، وبلغ من غلوائه في ذلك أنّه كان في مُنتدى من أصحابه وجرى ذكر أبي الفضل عليه‌السلام ، وما حمله من المعارف الإلهيّة التي امتاز بها على سائر الشُّهداء ، فصارح الرجل بأفضليته على العبّاس ، واستغربَ مَن حضر هذه الجرأة ، وانكروا عليه ، ولاموه على هذه البادرة ، فطفق الرجل يُبرهن على تهيئته بتعداد مآثره وعلومه ، وما ينوء به من تهجّد وتنفّل وزهادة ، وقال : إنْ كان أبو الفضل العبّاس يفضل بأمثال هذه فعنده مثلها ، والشهادة يوم الطَّفِّ لا تُقابل ما تحمله من العلوم الدينيّة واُصولها ونواميسها.

فقام الجماعة من المجلس ، والرجل على ذلك الغرور والغلواء ، غير نادمٍ ولا مُتهيّب.

ولمّا أصبحوا لم يكُنْ لهم هَمٌّ إلاّ معرفة خبر الرجل ، وأنّه هل بقي على غيّه أو أنّ الهداية الإلهيّة شملته؟ فقصدوا داره وطرقوا الباب ، فقيل لهم : إنّ الرجل في حرم العبّاس عليه‌السلام ، فتوجّهوا إليه ليستبروا خبره ، فإذا الرجل قد ربط نفسه في الضريح الأقدس بحبلٍ شدّ طرفه بعنقه ، والآخر بالضريح ، وهو تائب نادم ممّا فرَّط.

فسألوه عن شأنه وخبره ، فقال : لمّا نمتُ البارحة ، وأنا على الحال الذي فارقتكم عليه ، رأيت نفسي في مجتمع من أهل الفضل ، وإذا رجل دخل النّادي وهو يقول : إنّ أبا الفضل قادمٌ عليكم. فأخذ ذكره من القلوب مأخذاً حتّى دخل عليه‌السلام والنّور الإلهي يسطع من أسارير جبهته ، والجمال العلوي يزهو في مُحيّاه ، فاستقرّ على كرسي في صدر النّادي ، والحضور كُلّهم خاضعون لجلالته ، وخصَّتني من بينهم رهبةٌ عظيمة ، وفَرقٌ مُقلق ؛ لما أتذكّره من تفريطي في جنب ولي اللّه ، فطفق عليه‌السلام يُحيّي أهل النّادي واحداً

١٦١

واحداً حتّى وصلت النّوبة إليَّ.

ثُمّ قال لي : ماذا تقول أنت؟ فكاد أن يرتجّ عليّ القول ، ثُمّ راجعت نفسي ، وقلتُ : في المصارحة منتدحاً عن الارتباك وفوزاً بالحقيقة ، فأنهيت إليه ما ذكرتُه لكم بالأمس من البرهنة.

فقال عليه‌السلام : أمّا أنا فقد درستُ عند أبي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأخوي الإمامين الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وأنا على يقين من ديني بما تلقّيته من مشيختي من الحقائق ونواميس الإسلام ، وأنت شاكٌّ في دينك ، شاكٌّ في إمامك ، أليس الأمر هكذا؟ فلم يسعني إنكار ما يقوله.

ثُمّ قال عليه‌السلام : وأمّا شيخك الذي قرأت عليه ، وأخذت منه فهو أتعس منك حالاً ، وما عسى أنْ يكون عندك من اُصول وقواعد مضروبة للجاهل بالأحكام ، يعمل بها إذا أعوزه الوصول إلى الواقع ، وإنّي غيرُ محتاج إليها ؛ لمعرفتي بواقع الأحكام من مصدر الوحي الإلهي.

ثُمّ قال عليه‌السلام : وفيّ نفسيّاتٌ كريمةٌ ، وأخذ يُعدّدها : من كرم وصبر ، ومواساة وجهاد ، إلى غيرها ، ولو قُسّمت على جميعكم لما أمكنك حمل شيء منها.

على أنّ فيك ملكاتٌ رذيلة ؛ من حسد ومراء ورياء. ثُمّ ضرب بيده الشريفة على فم الرجل ، فانتبه فزعاً نادماً ، مُعترفاً بالتقصير ، ولم يجد منتدحاً إلاّ بالتوسل بهِ والإنابة إليه ، صلوات اللّه عليه وعلى آبائه.

١٦٢

اليقين

لقد كان أبو الفضل عليه‌السلام أحدَ الأفذاذ العلويّين الذين لم تكن المفاخر مزايا زائدة على ذاتّياتهم وإنْ مُدحوا بآثارها لأنّهم زبدُ المخض ، حازوا شرف النّبوَّة وفضيلة الخلافة ، تتنضّد بهم جُملُ العلم ، وتعتدل موازينُ العمل ، وتترنّح بهم صهوات المنابر.

فكان سلام اللّه عليه مُتربّعاً على منصّة المجد ، ومِلْءُ النّدي هيبة ، ومِلْءُ العيون بهجة ، ومِلْءُ المسامع ذكره الجميل ، ومِلْءُ القلوب محبّة ، وحشو أهابه علمٌ وعمل ، وحشو الردى سؤددٌ وشرف.

وإنّ الإحاطة بما حواه من اليقين الثابت والبصيرة النّافذة بأحد طريقين :

الأوّل : سبر أحواله ، ومواقع إقدامه وإحجامه ، ومواضع بطشه وأناته ، وموارد صفحه وانتقامه. ولا بدّ أنْ يكون المُنقّب عند ذلك مُميّزاً بين مدراج الرأي ومساقط الخطل ، بصيراً بمراقي الحلم ومهاوي البطش.

والثاني : إخبار مَن وقف على ذلك بمباشرة وافية وعلم مُتّسع ، تمّ شكلُهُ وظهر إنتاجُهُ ، أو تعليم إلهي ، أو أخذ عمّن له صلة بذلك التعليم.

١٦٣

وغير خفيٍّ أنّ قمر بني هاشم مُلتقى ذينك الطرفين ، في البصيرة واليقين ، في دينه وعقله ، في معارفه وأخلاقه ، في حلّه وارتحاله ، وكان ينظر إلى جملة الأحوال بين البصيرة التي تخرق الحُجب ، وتُبصر ما وراءها من أسرار وخبايا ، لا بناظر البصر الذي تحجبه الحواجز وتمنعه السّدول ، فيردّ عن الإدراك خاسئاً ، فلا يكون أمر تهالك دونه إلاّ بعلم ثابت ويقين راسخ ، وإيمان لا يشوبه شكٌّ ؛ فإنّه :

سِرُّ أبيهِ وهَو سرُّ البَاري

مَلِيكُ عَرْشٍ عَالِمُ الأسرارِ

وارِثُ مَن حَازَ مَواريِثَ الرُسلْ

أبَو العُقُولِ والنّفُوسِ والمُثُلْ

وكَيفَ لا وَذاتُهُ القُدْسيَّهْ

مَجمُوعةُ الفَضائِلِ النّفسيَّهْ

لقد كان أبو الفضل يعرف العراقيّين ونزعات أهل الكوفة ، منذ عهد أبيه وأخيه السّبط المجتبى عليهما‌السلام ، بالتجارب الصحيحة ، وإنّهم تجمعهم الأماني وتُفرّقهم الرضائخ ، ويُشاهد الاُمويِّين وقوّة سلطانهم ، وتوغّلهم في إراقة الدماء ، وبطشهم في النّاس ، وطيشهم في الاُمور ، ويرى ضعف جانب (أبيِّ الضيم عليه‌السلام وقلّة أنصاره ، وطبع الحال يحدو مثله إلى التحيّز إلى فئة اُخرى ، ولا أقلّ من التقاعد عن أيّ الفريقين ، وما كان مثله لو سالم الاُمويِّين يعدم ولاية أو قيادة لجيوشهم ، أو عيشة راضية يقضي بها أيّامه.

(لكنّ عباس اليقين) لم يكن له طمعٌ في شيء من حطام الدُّنيا ، فلم يرقه إلاّ الالتحاق بأخيه سيّد الشهداء عليه‌السلام ، موطِّناً نفسه الكريمة لأي كارثة أو شدّة مؤلمة.

هذا والتَّكهّن بمصير أمر الحسين عليه‌السلام في مسيره نصب عينه ، والمغّيبات المأثورة عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، والمسموعات من

١٦٤

أخويه الإمامين عليهما‌السلام مِلْءُ اُذنه ، فلم يبرح مع أخيه الشهيد عليه‌السلام يفترع ربوةً ويسفّ إلى وادٍ ، لا يرى في هاتيك الثنايا والعقبات إلاّ تصديقاً لما عرفه ، ويقيناً بمنتهى أمره وغايته حتّى بلغهم نبأُ فاجعة مسلم بن عقيل ، فعرف القوم انثيال الكوفيّين عن الحقِّ ورضوخهم إلى حكم الطاغية ، هنالك خارت العزائم وأخفقت الظنون ، وطفق أهل المطامع والشره يتفرّقون عن السّبط المُقدّس ، يميناً وشمالاً (١) ، إلاّ مَن حداهم إلى المسير حقُّ اليقين ، وفي الطليعة منهم سيّدنا العبّاس عليه‌السلام ؛ فإنّه لم يزدد إلاّ بصيرة في النّهضة الكريمة ، وسروراً باُزوف الغاية المتوخّاة.

فسار به وبهم (شهيد العظمة) ، وهو لا يشاهد ، كما أنّهم لا يرون كُلّما قربوا من الكوفة إلاّ تدبّر النّاس وتألبّهم عليهم ، وتتوارد عليهم الأنباء بما هو أشدّ ، لكن لم يثنِ ذلك من عزائمهم شيئاً ولا يكدي أملاً ، بل كانوا يخفّفون الخُطا ويُسرعون السّير ؛ لينتهوا إلى معانقة الرماح ومصافحة الصفاح ، أكثر ممّا يُسرع الصبُّ إلى الخود الرداح ، ومرشدُهم إلى ذلك بعد إمام الهدى عليه‌السلام (أبو الفضل).

رَكبٌ حِجَازيِّوُنَ بَينَ رِحَالِهم

تَسرِي المَنَايَا أنجَدُوا أو أتهَمُوا

يَحدُونَ فِي هَزجِ التِّلاوةِ عَيسَهمْ

والكُلُّ فِي تَسَبِيحِهِ يَترَنَّمُ

__________________

(١) اللهوف في قتلى الطفوف / ٤٥.

١٦٥

الأصحاب

هبط موكب العظمة عراص الغاضريّات ، وهو يضمّ الفتية من آل عبد المُطّلب ، والاُباة الصفوة من الأصحاب ، فكانوا فرحين بما أتاهم المولى من فضله ، واختصّهم به من المنحة الكبرى ، حيثُ جعل أثر ميتتهم حياة للدّين ومدحرة للأضاليل ، فكانوا رضوان اللّه عليهم بما أودع اللّه تعالى فيهم من النّيات الصادقة ، لا يهابون في سبيل السّير إليه تعالى عقبة كأداء أو نبأً مُوحشاً ; من تخاذل القوم ، وتدابر النّفوس ، وتضاءل القوى ؛ لما عرفوه من أنّها موهبة لا يحظى بها إلاّ الأمثل فالأمثل ، فقابلوا الأخطار بجأش طامن وجنان ثابت ، لا تزجره أيّ هائلة ، وكُلّما اشتدّ المأزق الحرج أعقب فيهم انشراحاً وانبساطاً ، بين ابتسامة ومداعبة ، ومن فرح إلى نشاط.

وَمُذ أخَذَتْ فِي نَينَوى مِنهُمُ النَّوَى

ولاَحَ بِهَا للغَدرِ بَعضُ الَعلاَئِمِ

غَدا ضَاحِكَاً هَذَا وذَا مُتبسِّماً

سُرُوراً ومَا ثَغرُ المَنُونِ بِبِاسِمِ (١)

هازل بريرُ بن خضير عبدَ الرحمن الأنصاري ، فقال له عبد

__________________

(١) من قصيدة للشيخ صالح الكوّاز الحلّي ، وقيل : للتميمي. راجع أعيان الشيعة ٧ / ٣٧١.

١٦٦

الرحمن : ما هذه ساعة باطل! فقال برير : واللّه ، لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شابّاً ولا كهلاً ، ولكنّي لَمُستبشر بما نحن لاقون. واللّه ، ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم ، ولوددت أنّهم مالوا علينا السّاعة (١).

وخرج حبيب بن مظاهر يضحك ، فقال له يزيد بن الحُصين : ما هذه ساعة ضحك! قال حبيب : وأيّ موضع أحقّ بالسّرور من هذا؟! ما هو إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور (٢).

وناهيك بعابس بن أبي شبيب الشاكري حينما برز إلى الحرب ، وقد أحجم القوم عنه ; لأنّهم عرفوه بالإقدام والبسالة ، فلمّا رأى أنّه لم يبارزه أحدٌ ألقى ما عليه من درع ولامة ، فاغتنمها القوم فرصة ، ومع ذلك لم يبرز إليه أحد ، لكنّهم رموه بالسّهام والحجارة ، وأنّه ليطرد أكثر من مئتين فَرِحاً مبتهجاً بما يلاقيه من حبور ونعيم.

وإنّي لأعجب من الرواة حملة التاريخ إذا توسّعوا في النّقل ، وقذفوا اُولئك الاُباة الصفوة ، والغُلب المصاليت ، بما تندى منه وجه الإنسانيّة ، ويأباه الوجدان الصادق ، فقيل : كان القوم بحالة ترتعد فرائصهم وتتغيّر ألوانهم كُلِّما اشتدّ الحال وضاق المجال ، إلاّ الحسين ؛ فإنّ أسرّة وجهه تشرق كالبدر المنير (٣).

وذلك بعد أنْ أعوزتهم الوقعة في شهيد الإباء ، فلم يجدوا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٢١ ، الكامل في التاريخ ٤ / ٦٠ ، مثير الأحزان لابن نما / ٣٩.

(٢) رجال الكشّي ١ / ٢٩٣ ، تفسير جوامع الجامع ١ / ١٣٠.

(٣) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٠.

١٦٧

للغمز فيه نصيباً ، فمالوا على أصحابه وأهل بيته عليهم‌السلام الذين قال فيهم الإمام عليه‌السلام : «إنّي لا أعلمُ أصحاباً خيراً مِنْ أصحابي ، ولا أهلَ بيتٍ أبرَّ وأوفى من أهل بيتي» (١). «وقَدْ استلمتهم فما وجدتُ فيهمْ إلاّ الأشوسَ الأقعسَ ، يستأنسونَ بالمنيّة دوني ، استيناسَ الطّفلِ إلى محالبِ اُمّه» (٢).

وليس ذلك إلاّ من الدَّاء الدفين بين أضالع قوم دافوا السُّمَّ في الدّسم إلى سُذَّجٍ آخرين حسبوه حقيقة راهنة ؛ فشوّهوا وجه التاريخ ، غير أنّ البصير النّاقد لا تخفى عليه نفسيّةُ القوم ، ولا ما جاؤوا به.

وأعجب من ذلك ، قول محفر ليزيد : إنّا أحطنا بهم ، وهم يلوذون عنّا بالآكام والحفر ، لواذَ الحمام من الصقر (٣).

بفيك الكثك أيّها القائل! كأنّك لم تشاهد ذلك الموقف الرهيب ، فترى ما للقوم من بسالة وإقدام ، ومفادات دون الدِّين الحنيف ، حتّى أغفل يومهم مع ابن المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله أيّام صفّين ، وما شاكلها من حروبٍ داميةٍ ووقائعٍ هائلة ، وحتّى أخذت أندية الكوفة لا تتحدّث إلاّ عن شجاعتهم.

أجل ، إنّ تلك الأهوال أدهشتك فلم تدرِ ما تقول ، أو إنّ الشقّة بعدت عليك فنسيت ما كان ، ولكن هل غاب عن سمعك صراخ الأيامى ، وعويل الأيتام في دور الكوفة ، حتّى طبق أرجاءها

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٧.

(٢) الدمعة السّاكبة / ٣٢٥.

(٣) تاريخ الطبري ٤ / ٣٥١ ، تاريخ مدينة دمشق ١٨ / ٤٤٥ ، الكامل في التاريخ ٤ / ٨٣ ، الوافي بالوفيات ١٤ / ١٢٧ ، البداية والنّهاية ٨ / ٢٠٨ الفتوح لابن أعثم ٥ / ١٢٧.

١٦٨

من جرّاء ما أوقعه اُولئك الصفوة بأعداء اللّه ورسوله ، بسيوفهم الماضيّة؟! والعذر لك ، أنّك أدركت ساعة العافية ، فطفقت تشوّه مقامهم المشكور ، طلباً لمرضاة (يزيد الخمور).

ولقد صرّح عن صدق نيّاتهم وإخلاصهم في التضحية عدوُّهم الألدّ عمرو بن الحجّاج مُحرّضاً قومه : أتدرون مَن تُقاتلون؟! تُقاتلون فرسانَ المصر وأهلَ البصائر ، تُقاتلون قوماً مُستميتين ، لا يبرز إليهم أحد منكم إلاّ قتلوه ، على قلَّتهم! واللّه ، لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم. فقال عمر بن سعد : قد صدقت ، الرأي ما رأيت. أرسل في النّاس مَن يعزم عليهم أنْ لا يُبارزهم رجلٌ منهم (١) ، ولو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم (٢).

وقيل لرجل شهد يوم الطَّفِّ مع عمر بن سعد : ويحك! أقتلتم ذرِّيَّة رسول اللّه؟

فقال : عضضتَ بالجندل! إنّك لو شهدت ما شهدنا ، لفعلت ما فعلنا ؛ ثارت علينا عصابةٌ أيديها في مقابض سيوفها ، كالاُسود الضارية ، تُحطّم الفرسان يميناً وشمالاً ، وتلقي أنفسها على الموت ، لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال ، ولا يحول حائلٌ بينها وبين حياض المنيّة ، أو الاستيلاء على المُلك ، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها ، فما كُنّا فاعلين ، لا اُمّ لك (٣)؟!

وأيّ فرد منهم أقلقه الحال حتّى ارتعدت فرائصه؟! أهو زهير بن القَين الذي وضع يده على منكب الحسين عليه‌السلام ، وقال مُستأذناً :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣١ ، الكامل في التاريخ ٤ / ٦٧.

(٢) بحار الأنوار ٤٥ / ١٩.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ / ٣٦٣.

١٦٩

أقدِمْ هُدِيتَ هَادِياً مَهديَّا

فَاليَومَ أَلقى جَدّكَ النّبيَّا؟!

أمْ ابن عوسجة الذي يوصي حبيب بن مظاهر بنصرة الحسين عليه‌السلام وهو في آخر رمق من الحياة ، فكأنّه لم يقنعه عن المفادات كُلَّ ما لاقاه من جهد وبلاء؟!

أمْ أبو ثمامة الصائدي الذي لم يهمّه في سبيل السّير إلى ربِّه سبحانه ، كُلّ ما هناك من فوادح وآلام إلاّ الصلاة التي دنا وقتها ، فقال للحسين عليه‌السلام : نفسي لك الفداء! إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا واللّه ، لا تُقتل حتّى اُقتل دونك ، واُحبُّ أنْ ألقى اللّه وقد صلّيتُ هذه الصلاة التي دنا وقتها. فقال الحسين عليه‌السلام : «ذكرتَ الصَّلاةَ ، جعلكَ اللّهُ مِنَ المُصلِّينَ الذَّاكرين» (١)؟!

أمْ سعيد الحنفي الذي تقدّم أمامَ الحسين عليه‌السلام وقت الصلاة واستهدف لهم ، فأخذوا يرمونه بالنّبل يميناً وشمالاً حتّى سقط ؛ لكثرة نزف الدَّم (٢) ، فقال للحسين عليه‌السلام : أوفيت يابن رسول اللّه؟ قال : «نعم ، أنتَ أمامي في الجنّة»؟!

أمْ ابن شبيب الشاكري الذي ألقى جميعَ لامته لتقرب منه الرجال ، فيموت ، في حين نرى الكُماة الأبطال ، المعروفين بالشجاعة والإقدام ، يتدرَّعون للحرب كي لا يخلص إليهم ما يزهق نفوسهم؟!

أمْ الغفّاريّان اللّذان استأذنا الحسين عليه‌السلام في الحملة وهما يبكيان ، فقال عليه‌السلام لهما : «ما يُبكيكُما؟! فواللّه ، إنّي لأرجو أنْ تكونا بعدَ ساعةٍ قريرَي العين».

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٤ ، الكامل في التاريخ ٤ / ٧٠.

(٢) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٦ ، الكامل في التاريخ ٤ / ٧١ ، إلى قوله : حتّى سقط.

١٧٠

فقالا : ما على أنفسنا نبكي ، ولكن نبكي عليك أبا عبد اللّه ؛ نراك قد اُحيط بك ، ولا نقدر على الدفع عنك والذبِّ عن حرمك (١). فجزاهما الحسين عليه‌السلام خيراً؟!

وإذا تأمّلنا قول الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «إنّ أصحابَ جدّي الحسينِ لمْ يجدوا ألمَ مسِّ الحديد» (٢). وضحَ لنا ما عليه اُولئك الأطائب من الثبات ، وأنّهم غير مكترثين بما لاقوه من ألم الجراح ؛ ولعاً منهم بالغاية ، وشوقاً إلى جوار المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولا يستغربُ هذا مَن يعرف حالة العاشق ، وأنّه عند توجّه مشاعره نحو المحبوب لا يشعر بكُلِّ ما يلاقيه من عناء ونكد. حكى المؤرّخون : أنّ عزّة دخلت على كثير الشاعر وهو في خبائه يبري سهاماً له ، ولمّا نظر إليها أدهشه الحال وأبهره الجمال ، فأخذ يبري أصابعه ، وسالت الدّماءُ وهو لا يحسّ بالألم (٣).

وأكبر مثال على ذلك ، حكاية الكتاب المجيد حالة النّسوة حينما شاهدنَ جمال الصدّيق يوسف عليه‌السلام ، فقال تعالى : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٤).

وإذا كانت النّسوة لمْ يشعرن بألم قطع المُدية أيديهنّ لمحض جمال الصّدِّيق ، فليس من الغريب ألاّ يجد أصحابُ الحسين عليه‌السلام ـ وهُم زبدُ العالَمِ كُلِّه ـ ألمَ مسِّ الحديد عند نهاية عشقِهم لمظاهر

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٧ ، الكامل في التاريخ ٤ / ٧٢.

(٢) الخرائج والجرائح للراوندي ٢ / ٨٤٨ ، والعبارة بمعناها.

(٣) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ٩ / ٢٢.

(٤) سورة يوسف / ٣١.

١٧١

الجمال الإلهي ، ونزوع أنفسهم إلى الغاية القصوى من القداسة بعد التّكهرب بولاء سيّد الشهداء عليه‌السلام.

هذا ما عليه الأصحاب من سرّ المفادات ، وقد كان مُرشدهم إلى ذلك ، والمُقدّم فيهم (حامل اللواء) ؛ إذ لم يكن هيّاباً بما شاهده من لَغطٍ وصَخَبٍ ، وضوضاءٍ وصهيلٍ ، وجحفلٍ مُجرٍّ يتبعه جيشٌ لجب ، وقد أخذ ابنُ ميسونَ عليهم أقطار الأرض وآفاق السّماء.

بِجَحافِلٍ بالطّفِّ أوَّلُهَا

وأخيرُهَا بالشّامِ مُتَّصِلُ

فلا يرى إلاّ وجوهاً عابسة ، كُلّ يتحرّى استئصال شأفة الإمامة ، وإزهاق مَن يجنح إليها ، و (قمر الهاشميّين) أسرّة وجهه تشرق كالبدر المنير ; لأنّه عليه‌السلام يجدُ ببصيرته الهادية له إلى المفادات قربَ الأجل المضروب ، وحصول الضَّالة المنشودة ، وهذا كُلّه بعد العلم بأنّه إذا فارق أخاه في ذلك الموقف يكون في سعةٍ من الخطر.

وأنّى لكبر موقفه وثباته ، حينما قال لهم أبو عبد اللّه عليه‌السلام : «هذا اللَّيلُ قدْ غَشيَكُمْ فاتَّخذوهُ جَمَلاً ، فأنتم في إذنٍ منّي ؛ فإنّ القومَ لَمْ يطلبُوا غَيري ، ولو ظفروا بِي لَذَهَلوا عَنْ طلبِ غيري ، وليأخذ كُلُّ رَجُلٍ منكم بيدِ رجلٍ مِنْ أهلِ بيتِي ، وتَفَرَّقوا في سوادِكُمْ هذا» (١).

هنا كان لعبّاس الشرف والحفاظ موقفُهُ المشهود الذي أظهر فيه مِن قوّة الإيمان ، وغزارة العلم ، وعوامل الشَّهامة ، ما أوقف جوَّالة الفكر وحَيّر نفَّاذة الحلم ؛ حيث ابتدر الجماعة بقوله : ولِمَ نفعل ذلك؟! لا أبقانا اللّه بعدك. وتابعه الهاشميّون الصفوة والصحب

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٧ ، الكامل في التاريخ ٤ / ٥٧ ، البداية والنّهاية لابن كثير ٨ / ١٩١.

١٧٢

الأكارم ، مُتَّخذين قوله حقيقةً راهنةً ، مِن مُعلِّمٍ هذّبته المعرفة وبصَّرته التجارب ، وإنّه لَمْ يَرد بقوله إلاّ التَّضحية الخالصة والسّعادة الخالدة ، فأجابوا بما انحنت عليه الأضالع من إيثار موتة العزِّ دون سبط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على حياةٍ مُخدجة بعده ، وإنْ كانت محفوفةً بنعومةٍ من العيش.

فقال آلُ عقيل : قبّح اللّه العيش بعدك ، نُفديك بأنفسنا وأهالينا.

قال ابن عوسجة : لو لم يكنْ معي سلاحٌ لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت دونك.

وقال سعيد الحنفي : أنحن نُخلّي عنك؟! لا واللّه ، حتّى يعلمَ اللّهُ أنّا قد حفظنا وصيّة رسول اللّه فيك. ولو علمتُ أنّي اُقتل ثُمّ اُحيى ، ثُمّ اُقتل ، ثُمّ اُحرق حيّاً ، ثُمّ اُذرَّى ، يُفعل بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونك. وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثُمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً!

وتكلّم الجماعة بما يُشبه ذلك (١).

فأجَادُوا الجَوابَ واختَرَطُوا البيْضَ

اهتَياجَاً إلى جِلادِ الأعَادِي

وانْثَنَوا للوغَى غِضَابَ اُسودٍ

عَصفتْ فِي العِدى بصَرْصرِ عَادِ

حَرسُوهُ حتّى احتَسَوا جُرعَ المَوْتِ

ببيضِ الظُّبَا وسُمرِ الصّعَادِ

سَمحَوُا بالنّفُوسِ فِي نُصرةِ الدْ

دِينِ وأدّوا فِي اللّهِ حَقَّ الجِهَاد

وبعد أنْ عرف الحسين عليه‌السلام منهم صدق النّيّة والإخلاص في المفادات ، أوقفهم على غامض القضاء ، وقال : «إنّي اُقتلُ وكلُّكُمْ

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٧ ـ ٣١٨ ، الكامل في التاريخ ٤ / ٥٨ ، البداية والنّهاية لابن كثير ٨ / ١٩١.

١٧٣

تُقتلونَ حتّى القاسمُ وعبدُ اللّه الرَّضيع ، إلاّ السَّجّادَ ؛ فإنّهُ أبو الأئمَّة». ثُمّ كشف عن أبصارهم ، فرأوا ما حباهم اللّه من نعيم الجنان ، وعرّفهم منازلهم فيها (١).

وليس ذلك في القدرة الإلهيّة بعزيز ، ولا في تصرّفات الإمام بغريب ، ولقد حكى المؤرّخون وقوع نظير هذا لسَحَرة فرعون لمّا آمنوا بموسى عليه‌السلام وأراد فرعون قتلهم ؛ فإنّهم شاهدوا منازلهم في الجنّة (٢).

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ / ٢٥٥ ، بحار الأنوار ٤٥ / ٨٩ ، علل الشرائع ١ / ٢٢٩ ، والنّص منقول بالمعنى.

(٢) تفسير ابن أبي حاتم ٥ / ١٥٣٦ ، تفسير ابن كثير ٣ / ١٦٦ ، الدّر المنثور للسيوطي ٣ / ١٠٧ ، تفسير الألوسي ٩ / ٢٨ ، البداية والنّهاية لابن كثير ١ / ٢٩٦.

١٧٤

الأمان

لمْ تزل هذه الفضيلة نفسيّة أبي الفضل في جميع مواقفه عند ذلك المشهد الرهيب ، لاسيّما حين بلغه كتاب عبيد اللّه بن زياد بالأمان له ولإخوته الذي أخذه عبد اللّه بن أبي المحل بن حزام ، وكانت اُمّ البنين عمّته ، وبعثه مع مولاه كزمان ، فلمّا قدم كربلاء قال للعبّاس وإخوته : هذا أمانٌ من ابن زياد ، بعثه إليكم خالكم عبد اللّه. فقالوا له : أبلغ خالنا السّلام ، وقل له : لا حاجة لنا في أمانكم ؛ أمانُ اللّه خيرٌ من أمان ابن سُميّة (١).

كيف يتنازل أبو الفضل للدنيّة وهو ينظر بعين غير أعين النّاس ، ويسمع باُذنه الواعية غير ما يسمعونه ؛ يُشاهد نصب عينه الرضوانَ الأكبر مع (خلف النّبيِّ المُرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ويسمع هتاف الملكوت من شتّى جوانبه بالبشرى له بذلك كُلِّه عند استمراره مع أخيه الإمام عليه‌السلام.

نعم ، وجد (عبّاسُ المعرفة) نفسَه المُكهْربة بعالم الغيب ، المجذوبة بجاذب مركز القداسة إلى التّضحية دون حجّة الوقت لا محالة ، فرفض ذلك الأمان الخائب إلى أمان الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وهنالك طمع الشمر فيه وفي إخوته أنْ يفصلهم عن مستوى

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٤ ، الكامل في التاريخ ٤ / ٥٦.

١٧٥

الفضيلة ، فناداهم : أين بنو اُختنا؟ أين العبّاس وإخوته؟ فاعرضوا عنه ، فقال الحسين عليه‌السلام : «أجيبوه ولو كان فاسقاً».

قالوا : ما شأنك ، وما تُريد؟

قال : يا بني اُختي ، أنتم آمنون ، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين ، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد.

فقال له العبّاس : لعنك اللّه ولعن أمانك ، تُؤمننا وابن رسول اللّه لا أمان له (١)! وتأمرنا أنْ ندخل في طاعة اللّعناء وأولاد اللعناء. فرجع الشمر مُغضباً (٢).

إنّ هذا الجلف الجافي قد أساء الظنّ بهؤلاء الفتية ، نجوم الأرض من آل عبد المُطّلب ، فحسب أنّهم ممّن يستهويهم الأمن والدّعة ، أو تروقهم الحياة مع أبناء البغايا ، هيهات! خاب الرّجس ففشل ، وأخفق ظنّه ، وأكدى أمله ، ولم يسمع في الجواب منهم إلاّ لعنك اللّه ، وتبّت يداك ، ولُعن ما جئت به.

وحيث إنّ ابن ذي الجوشن يفقد البصيرة التي وجدها أبو الفضل ، والنّفسيّة التي يحملها ، والسّؤدد المُتحلّي به ، والحفاظ اللائح على وجناته طمع أنْ يستهوي رجل الغيرة ويجرّه إلى الخسف والهوان ، والحياة مع الظالمين.

أيظنّ أنّ أبا الفضل ممّن يستبدل النّور بالظُّلمة ، ويستعيض عن الحقّ بالباطل ، ويدع علم النّبوَّة وينضوي إلى راية ابن مرجانة؟!

__________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ٨٩ ، بحار الأنوار ٤٤ / ٣٩١ ، تاريخ الطبري ٤ / ٣١٥ ، الكامل في التاريخ ٤ / ٥٦.

(٢) مثير الأحزان لابن نما الحلّي / ٤١ ، اللهوف في قتلى الطفوف / ٥٤ ، لواعج الأشجان / ١١٦.

١٧٦

كلاّ

ولمّا رجع العبّاس وإخوته إلى الحسين عليه‌السلام وأعلموه بما أراده الماجن منهم ، قام زهير بن القَين إلى العبّاس وحدّثه بحديث ، قال فيه :

إنّ أباك أمير المؤمنين عليه‌السلام طلب من أخيه عقيل ـ وكان عارفاً بأنساب العرب وأخبارها ـ أنْ يختار له امرأةً ولدتها الفحولة من العرب وذوو الشجاعة منهم ؛ ليتزوّجها فتلد غلاماً فارساً شجاعاً ، ينصر الحسين بطفّ كربلاء ، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم ، فلا تُقصّر عن نصرة أخيك وحماية إخوتك.

فغضب العبّاس ، وقال : يا زهير ، تُشجّعني هذا اليوم! فواللّه ، لأرينّك شيئاً ما رأيته (١).

فجدّل أبطالاً ، ونكّس رايات في حالة لم يكنْ همّه من القتال ولا منازلة الأبطال ، بل كان همّه إيصال الماء إلى أطفال أخيه ، ولكن لا مردّ للقضاء ، ولا دافع للأجل المحتوم.

ولا يَهمّهُ السّهامُ حَاشَا

مَنْ هَمُّهُ سِقايَةُ العِطَاشَى

فَجادَ باليَمِينِ والشِّمَالِ

لِنُصرةِ الدِّينِ وحِفظِ الآلِ

__________________

(١) الأنوار العلويّة للنقدي / ٤٤٤ ، أسرار الشهادة للدربندي ٢ / ٤٩٧.

١٧٧

المواساة

لا يسع الباحث في حديث مشهد الطَّفِّ المُقدّر فيه (قمر بني هاشم) حقّ قدره إلاّ البخوع له بتحقيق هذه الغريزة الكريمة ، أعني المواساة بأجلى مظاهرها ، وأنت إذا أعرت لما أفضنا القول في البصيرة اُذناً واعية ، عرفت كيف كان مقامه مع أخيه سيّد شباب أهل الجنّة ، وإيثاره التفاني معه على الحياة الرغيدة ، وتهالكه في المفادات منذ مغادرته الحجاز إلى هبوطه أرض كربلاء ، وحتّى لفظ نفسه الأخير تحت مشتبك النّصول ، فلا تجد مناصاً عن الإذعان بأنّه عليه‌السلام كان على أعلا ذروة من المواساة لأخيه الإمام عليه‌السلام ، يربوا على المواسين معه جميعاً ; لأنّ مواساته كانت عن بصيرة ، هي أنفذ البصائر يومئذ بشهادة الإمام الصادق عليه‌السلام : «كان عمُّنا العبّاسُ نافذَ البصيرةِ ، صلبَ الإيمان» (١).

وقد شهد له بهذه المواساة إمامان معصومان واقفان على الضمائر ، ويعرفان مقادير الرجال ، فيقول الحجّة عجّل اللّه فرجه في زيارة النّاحية : «السّلام على أبي الفضلِ العبّاس ، المواسي أخاه بنفسِهِ ، الآخذ لغدهِ مِن أمسهِ ، الواقي لهُ ، السّاعي إليه بمائِهِ ، المقطوعة يداه. لعن اللّهُ قاتلَهُ يزيدَ بنَ الرّقادِ الجهني ، وحكيمَ بن

__________________

(١) سرّ السّلسلة العلويّة لأبي نصر البخاري / ٨٩.

١٧٨

الطّفيل السّنبسي الطائي».

ويقول الصادق عليه‌السلام في الزيارة المتلوة عند ضريحه الأقدس : «أشهدُ لقد نصحتَ للّه ولرسولِهِ ولأخيك ، فنعم الأخ المواسي!».

فجعل عليه‌السلام الشهادة له بالمواساة المُنعم بها نتيجة نصحه للّه الذي هو مقتضى دينه ويقينه ، ونصحه لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو تمام التوحيد ، والنّصح لأخيه الإمام الذي هو الجزء الأخير للعلّة ، وبه كمال الدِّين وتمام النّعمة : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (١). وبه قبول الأعمال.

«لو أنّ عبداً صام وصلّى وزكّى ، ولم يأتِ بالولاية ، ما قبل اللّه له عملاً أبداً» (٢). فرضى الربّ والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعتهما منوطان بطاعة وليِّ الأمر : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (٢).

فأراد الإمام الصادق عليه‌السلام بذلك الخطاب أنّ نُصح (عباس الهداية) لأخيه المظلوم على حدّ نصحه للّه ولرسوله ، مع حفظ المرتبة في كُلِّ منهما ، فالطاعة شرع سواء في الثلاثة تحت جامع واحد ، هو : وجوب الخضوع لهم والتسليم لأمرهم ، غاية الأمر تختلف المراتب ؛ فإنّه تجب الطاعة أولاً وبالذات بالنّسبة إليه سبحانه وتعالى ، وبما أنّ الرسول مبعوثٌ من قبله وجبت بالنّسبة إلى الرسول ، وبما أنّ الإمام خليفة لهذا المبعوث المُرسل لعدم بقائه إلى الأبد ، وعدم إهمال العباد كالبهائم ، وعدم وضوح الكتاب المجيد ؛ لوجود المُخصّص والمُقيّد ، والنّاسخ والمتشابه ، وعدم وفائه

__________________

(١) سورة المائدة / ٣.

(٢) سورة المائدة / ٥٥.

١٧٩

بالأحكام الشرعيّة بالبداهة وجب على الاُمّة إطاعة هذا الإمام ، فالمراد من المؤمنين في هذه الآية ، ومن اُولي الأمر في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (١). شيءٌ واحد ، وقد انحصر مصداقه في سيّد الوصيّين وأبنائه المعصومين الأحد عشر عليهم‌السلام بالتواتر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فالنّصح الذي أشار إليه الإمام عليه‌السلام في الزيارة هو لازم تلك الطاعة ومقتضى الولاية تحت جامع واحد ، وهو : لزوم مناصرة الدِّين والصادع به ، المُنبسط على ذات الباري تعالى والرسول والإمام كُلٍّ في مرتبته.

وقد أفادنا هذا الخطاب أنّ مفادات أبي الفضل ومواساته لم تكُنْ لمحض الرحم الماسّة والإخاء الواشج ، ولا لأنّ الحسين عليه‌السلام سيّدُ اُسرته وكبيرُ قومه ، وإنْ كان في كُلٍّ منها يُمدح عليه هذا النّاهض ، لكنّها جمعاء كانت مُندكّة في جنب ما أثاره (عباسُ البصيرة) من لزوم مواساة صاحب الدِّين ، والتهالك دون دعوته ، سواء كانت المفادات بعين المُشرّع سبحانه ، أو تحت راية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو إمام الوقت ، وكُلّ بعين اللّه وعن مرضاته جلّ شأنه ، وقد اجتمعت في مشهد الطَّفِّ تحت راية الحسين عليه‌السلام.

إنّ من الواجب إمعان النّظر في عمله النّاصع حين ملك الشريعة فاغترف غرفة من الماء ليشرب ، ولكن ألزمه حقُّ اليقين وقوّةُ الإيمان أنْ ينفض الماء من يده ، حيث لم يَرَ له مساغاً في التأخير عن سقاية حجّة الوقت الإمام المعصوم ، وحرم النّبوَّة ، ولو بمقدار التروِّي من الماء هُنيئة ، بل عرف أنّ الواجب عليه الإبقاء على مهجة

__________________

(١) سورة النّساء / ٥٩.

١٨٠