السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم
المترجم: الشيخ محمّد الحسّون
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 964-95037-0-6
الصفحات: ٣٩١
أولاده: هذا آخر نسب بني العبّاس الشهيد السّقا ، ابن علي بن أبي طالب عليهماالسلام (١).
وفي سرّ السّلسلة لأبي نصر البخاري : والشهيد أبو الفضل العبّاس بن علي ، اُمّه اُمّ البنين (٢).
ثُمّ روى عن معاوية بن عمّار الزيدي ، قال : قُلتُ للصادق عليهالسلام : كيف قسّمتم نِحلةَ فدكٍ بعد ما رجعت عليكم؟ قال : «أعْطينا وُلدَ عُبيدِ اللّهِ بنِ العبّاس الشَّهيدِ الرُّبعَ ، والباقي لِوُلدِ فاطمةَ ، فأصابَ بني العبّاسِ بن عليٍّ أربعةُ أسهمٍ ، الحصّةُ أربعة نفر ، ورثوا عليّاً عليهالسلام» (٣).
وكان الحريُّ بأرباب المقاتل والنّسب أنْ يُدوّنوا له هذا اللّقب المُعرب عن أسمى منزلة له ، وهو (العبدُ الصالح) ، كما خاطبه الإمام الصادق عليهالسلام في الزيارة المخصوصة به التي رواها أبو حمزة الثّمالي ، حيث يقول عليهالسلام : «السّلامُ عليكَ أيُّها العبدُ الصَّالحُ» (٤).
فإنّك جدّ عليمٍ بأنّ هذه الصفة أرقى مراتب الإنسان الكامل ; لأنّها حلقة الوصل بين المولّى والعبد ، وأفضل حالات أيّ فاضل ، حيث يجد نفسه الطرف الرابط لموجد كيانه جلّ وعلا ، وإنّ منْ أكمل مراتب الوجود فيما إذا التأمَ المُنتهى مع المبدأ بنحو الصّلة ،
__________________
(١) المُجدي في أنساب الطالبيين / ٢٤٣.
(٢) سرّ السّلسلة العلويّة / ٨٨.
(٣) سرّ السّلسلة العلويّة / ٨٩.
(٤) كامل الزيارات / ٤٤٠.
ولم يُلقّبوه بذلك ; لأنّ هذا المعنى صفةٌ وليست اسماً ليُجعل لقباً لشخصٍ ، وأهلُ السّيرِ غرضُهم مِن ذكر الألقاب التمييز ، لا إطلاق الأوصاف ، فتدبّر.
وهذا لا يكون إلاّ إذا بلغ العبدُ أرقى مراتب الإنسانيّة التي تلحقه بعالم البساطة ، وتنتهي به إلى صقع التجرّد ، فتؤهّله لأنْ يتّصل بالمبدأ الأعلى ، فلو فقد الإنسانُ تلك المُلاءمة ، دَحرَهُ عن حضيرةِ القداسةِ انقطاعُ النّسبةِ ، وبُعدُ المرمى ، وشسوعُ المسافة.
ولا نعني بهذه المرتبة أنْ يكون العبدُ مُواظباً على العبادات البسيطة المُسقطة للخطاب ، والرافعة للتعزير فحسب ، وإنّما نقصدُ منه ما إذا عبدَ اللّهَ سبحانه حقَّ عبادته النّاشئة عن فقهٍ وبصيرةٍ ، ومعرفةٍ بالمعبود الذي يجبُ أنْ يُعبد ، من دون لحاظ مثوبةٍ أو عقوبةٍ حتّى يكون المولى هو الذي يُسمّيهِ عبداً له ، ويصافقه على تصديق دعواه بالعبوديّة له.
وما أسعد العبد حيث يُبصر ما بيده من سلك الطاعة ، ويعرف أنّ مولاه قابضٌ على طرفه الآخر ، تُزلِّفه إليه جاذبة الصلة ، وأشعة القرب.
وعلى ما قلناه كانت هذه المرتبة عند الأنبياء عليهمالسلام أرقى مراتبهم ، وأرفع منصّاتهم ; لأنّ طرف عبوديَّتهم أمنع وأشرف من طرف رسالتهم ، فالطرف الأعلى في العبوديّة (مبدأ الحقّ سُبحانه وتعالى) ، والطرف الأسفل منَّتُه إلى شخص النّبيِّ صلىاللهعليهوآله ، وأمّا النّبوّة فمبدؤها الرسول ومنتهاها الاُمّة (١).
ولولا أنّ هذه الصفة أسمى الصفات التي يتّصف بها العبدُ لما
__________________
(١) لكن حقيقة الرّسالة راجعة إلى العبوديّة وداخلة في ضمنها ، فهي منها وبها وإليها.
نعم ، مانعيّةُ الرسالة من جهة اشتغال الرسول بتبليغ الرسالة ، والدخول في عالم الكثرة ، وهذا فيه نوعُ حُجبٍ على النّور الصافي فيما لو انقطع مع اللّه ، ولكنّه بالتالي عبادة أقلّ من غيره ، فتدبّر.
خصّ اللّه تعالى أنبياءه بها ، فقال سبحانه : (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة مِّن مِّثْلِهِ) (١).
وقال تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) (٢).
وقال عزّ شأنه : (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) (٣).
وقال جلّ وعلا : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤).
وقال تعالت أسماؤه : (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٥).
وقال عزّ سبحانه : (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ اُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ) (٦).
وقال عظم ذكره : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْب وَعَذَاب) (٧).
وقد كان في وسع المولى تعالت أسماؤه أنْ يقول في خطاب نبيّه الكريم صلىاللهعليهوآله : (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى رسولنا ، ونحوه ممّا يدل على النبوّة والرسالة ، ولكن حيث كان حبيبُ اللّه وصفيّه
__________________
(١) سورة البقرة / ٢٣.
(٢) سورة الأسراء / ١
(٣) سورة الأنفال / ٤١.
(٤) سورة ص / ١٧.
(٥) سورة ص / ٣٠.
(٦) سورة ص / ٤٥.
(٧) سورة ص / ٤١.
مُتجرّداً عمّا يحجبه عن مُشاهدة المهيمن سبحانه ، فانياً في سبيل خدمة المولى ، لا يرى في الوجود غير منشئ الأكوان ; استحقّ أنْ يهبه البارئ تعالى أرقى صفة تليق بهذا المقام.
ومن هنا نرى الرسول المسيح قدّم عبوديته على رسالته ، فقال : (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً) (١).
وأنت لا تفتأ في جميع الفرائض والنّوافل في اليوم والليل تشهد بأنّ محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ ، ولم تقلْ : خاتم الأنبياء ، أو علّة الكائنات ، أو سرّ الموجدات ، أو حبيب اللّه وصفيّه ، مع أنّها صفات لا تليق إلاّ بذاتٍ اشتُقّت من نور القُدس ، ولكنّك عرفت أنّ أسمى هذه الصفات ، وأجلَّ ما يليق بالعبد حال اتصاله بالمبدأ الأعلى ، هو وصفُهُ بالعبوديّة لمولاه.
ومن هنا ظهر لنا إنّ من أجلى الحقائق ، وأرقى مراتب الفضل الذي لا يُحلّق إليهِ طائرُ الفكر ، ولا يُدرك مداه أيُّ تصوّرٍ ، غير أنّ من الواجب التصديق به على الجملة ، هو وصفُ سيّدنا العبّاس عليهالسلام بهذه الصفة الكاملة (العبد الصالح) ، التي أضافها اللّه تعالى إلى أنبيائهِ ومُبلِّغي شريعته ، واُمنائه على وحيه ، ومنحَهُ بها الإمام الصادق عليهالسلام.
__________________
(١) سورة مريم / ٣٠.
السّقّا
الماء حياة العالم ، وليست حاجةُ أي جزء من أجزائه أمسّ من الآخر ، فلا جزء ولا جُزيء في الكون إلاّ وهو خاضع له في وجوده ، وفي نشوئه وبقائه ، وقد أعرب عنه سبحانه بقوله : (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيء حَيّ) (١).
وإليه استند ابن عباس في حَلِّ لغز ملك الروم ؛ فإنّه وجّه إلى معاوية قارورة يطلب منه أنْ يضع فيها من كُلِّ شيء ، فتحيّر معاوية واستعان بابن عباس في كشف الرمز ؛ لعلمه بأنّه يستقي من بحر أمير المؤمنين عليهالسلام المتموّج بالحكم والأسرار ، فقال ابن عباس : لتملأ له ماء ؛ فإنّ اللّه يقول : (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيء حَيّ). فاُدهش ملك الروم وتعجّب ، وقال : للّه أبوه ، ما أدهاه (٢)!
فلا يخالج اليقين بأهمّيته الكبرى في دور الحياة أي شكّ.
وإنّ مَن يكون معروفُهُ الذي تندى به أنامله ، وتسوقه إليه جبلته ، هذه المادّة الحيوية ، لعلى جانب ممنع من الفضل ، وقد عرقت فيه وشائج الرّقَّة ، وتحلّى بغريزة العطف ، ونبض فيه عرقُ الحنان ، ولا يكون إسداءُ مثله إلاّ عن لينٍ ورأفةٍ على الوجود ، وإنْ
__________________
(١) سورة الأنبياء / ٣٠.
(٢) الكامل للمبرد ١ / ٣٠٨ ، والعبارة فيها تقديم وتأخير.
تفاوتت المراتب بالنّسبة إلى الموجدات الشريفة وما دونه ، ولا يعدو الشرف والشهامة هذا المُتفضّل بسرّ الحياة ؛ فهو شريفٌ يُحبُّ الإبقاء على مثله ، أو عطوفٌ لا يجدُ على الإغاثة منَّةً ، ولا على قدرته في الإعانة لسائر الموجودات جُهداً ولا عطباً.
وإذا كانت الشريعة المُطهّرة حثّت على السّقاية ذلك الحثّ المتأكّد ، فإنّما تلت على النّاس أسطراً نوريّة ممّا جُبلوا عليه ، وعرَّفت الاُمّة بأنّ الدِّين يُطابق تلك النّفسيات البشريّة والغرائز الطبيعيّة ، وأرشدتهم إلى ما يكون من الثواب المُترتّب على سقي الماء في الدار الآخرة ؛ ليكونوا على يقينٍ مِن أنّ عملَهم هذا موافقٌ لرضوان اللّه وزُلفى للمولى سبحانه ، يستتبع الأجر الجزيل ، وليس هو طبيعيّاً محضْاً.
وهذا ما جاء عن النّبيٍّ صلىاللهعليهوآله وأهل بيته المعصومين عليهمالسلام ، من فضل بذل الماء في محلّ الحاجة إليه وعدمها ، [سواء] كان المُحتاجُ إليه حيواناً أو بشراً ، مؤمناً كان أو كافراً.
ففي حديث النّبي صلىاللهعليهوآله : «أفضلُ الأعمالِ ـ عند اللّهِ ـ إبرادُ الكَبد الحَرَّى» (١). من بهيمة وغيرها ولو كان على الماء ؛ فإنّه يوجب تناثر الذنوب كما ينتثر الورق من الشجر (٢) ، وأعطاه اللّه بكُلِّ قطرة يبذلها قنطاراً في الجنّة ، وسقاه من الرحيق المختومِ ، وإنْ كان في فَلاة من الأرض ورد حياضَ القدس مع النّبيّين (٣).
وسأله رجل عن عمل يُقرّبه من الجنّة ، فقال صلىاللهعليهوآله : «اشترِ سقاءً جديداً
__________________
(١) بحار الأنوار ٧١ / ٣٦٩.
(٢) تذكرة الموضوعات للفتني / ١٤٧.
(٣) مستدرك الوسائل للنوري ٧ / ٢٥٣.
ثُمّ اسقِ فيه حتّى تخرقَها ؛ فإنّك لا تخرقُها حتّى تبلغَ به عملَ الجنّة» (١).
وقال الصادق عليهالسلام : «مَن سقى الماءَ في موضعٍ يُوجدُ فيه الماءُ كان كمَنْ أعتقَ رقبةً ، ومَنْ سقَى الماءَ في موضعٍ لا يُوجدُ فيه الماءُ كان كمَنْ أحيَى نفساً ، ومَنْ أحيَى نفساً فكأنّما أحيَى النّاسَ أجمعين» (٢).
وقد دلّت هذه الآثار على فائدة السّقي بما هو حياة العالم ونظام الوجود ؛ ومِنْ هنا كان النّاسُ فيه شرعاً سواء ، كالكلاء والنّار ، فلا يختصّ اللطفُ منه جلّ وعلا بطائفةٍ دون طائفة.
وقد كشف الإمام الصادق عليهالسلام السّرَّ في جواب مَن قال له : ما طعم الماء؟ فقال عليهالسلام : «طعمُ الحياة» (٣).
فالسّقاية أشرف شيء في الشريعة المُطهّرة ، تلك أهميتها عند الحقيقة ، ومكانتها من النّفوس ؛ ولهذه الأهمية ضُرب المثل بـ (كعب بن مامة الإيادي) (٤).
وأضحت السّقاية العامّة لا ينوء بعبئها إلاّ مَن حلّ وسطاً من السّؤدد والشرف ، وأعالي الاُمم لا ساقتها ؛ ولذا أذعنت قريش لقَصي بسقاية الحاجِّ ، فكان يطرح الزبيبَ في الماء ويسقيهم الماءَ المُحلَّى كما كان يسقيهم اللبن (٥).
__________________
(١) الأمالي للشيخ الطوسي / ٣١٠ ، الكافي للكُليني ٤ / ٥٧ ، ح ٣ ، مَن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ٢ / ٦٤.
(٢) المُعجم الكبير للطبراني ١٢ / ٨٢ ، مجمع الزوائد للهيثمي ٣ / ١٣٢.
(٣) الكافي ٦ / ٣٨١ ، ح ٧ ، مناقب آل أبي طالب ٢ / ٢٠٣.
(٤) الأعلام للزركلي ٥ / ٢٢٩ ، مُعجم البلدان للحموي ٣ / ٢٦٦.
(٥) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢١.
وكان ينقل الماء إلى مكّة من آبار خارجها ، ثُمّ حفَرَ بئراً اسمها (العجول) في الموضع الذي كانت دار اُمّ هاني فيها ، وهي أوّل سقاية حُفرت بمكّة ، وكانت العرب إذا استقوا منها ارتجزوا :
نَروي على العجولِ ثُمّ نَنطلقْ |
|
إنّ قَصياً قَدْ وفَى وقَدْ صَدقْ (١) |
ثُمّ حفر قَصيٌّ بئراً سمّاها (سِجلة) ، وقال فيها (٢) :
أنا قَصيٌّ وحَفرتُ سِجلهْ |
|
تروي الحجيجَ زغلةً فزغلهْ |
وكان هاشم أيّام الموسم يجعل حياضاً من أدم في موضع زمزم لسقاية الحاجِّ ، ويحمل الماء إلى مِنى لسقايتهم ، وهو يومئذ قليل (٣).
ثُمّ إنّه حفر بئراً سمّاها (البندر) (٤) ، وقال : إنّها بلاغ للناس ، فلا يُمنع منها أحداً (٥).
وأمّا عبد المطّلب ، فقد قام بما كان آباؤه يفعلونه من سقاية الحاجِّ ، وزاد على ذلك أنّه لمّا حفر زمزم وكثر ماؤها أباحها للنّاس ، فتركوا الآبار التي كانت خارج مكّة ؛ لمكانها من المسجد الحرام ، وفضلها على مَن سواها ؛ لأنّها بئر إسماعيل (٦) ، وبنى عليها حوضأً ، فكان هو وابنه الحرث ينزعان الماء ويملأن الحوض ، فحسدته
__________________
(١) مُعجم البلدان ٤ / ٨٨ ، فتوح البلدان للبلاذري ١ / ٥٦ ، سُبل الهدى والرشاد ١ / ٢٧٥.
(٢) مُعجم ما استعجم للأندلسي ٣ / ٧٢٤.
(٣) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢٢.
(٤) مُعجم البلدان ١ / ٣٦١ ، تاج العروس ٦ / ٦٨ ، وقال ، قالوا : هو من التبذير ، وهو التفريق ، فلعلَّ ماءها كان يخرج مُتفرِّقاً من غير مكان واحد.
(٥) في مُعجم البلدان ١ / ٣٦١ ، ومُعجم ما استعجم ١ / ٢٣٥ ، وقال حين حفره : أنبطتُ بذراً بماءِ قلاسِ * جعلتُ ماءَها بلاغاً للنّاسِ!
(٦) تاريخ الطبري ٢ / ١٢ ، تاريخ ابن الأثير ٢ / ١٢ ، سيرة ابن إسحاق / ٥ ، السّيرة الحلبيّة ١ / ٥١.
قريش على ذلك ، وعمدوا إلى الحوض بالليل فكسروه ، فكان عبد المطّلب يُصلحه بالنّهار وهم يكسرونه بالليل ، فلمّا أكثروا عليه إفساده دعا عبد المطّلب ربّه سبحانه وتعالى ، فرأى في المنام قائلاً يقول : «قُلْ لقريشٍ إنّي لا أحلُّها لمُغتسلٍ ، وهي لشاربٍ حلٌّ وبلٌّ». فنادى في المسجد بما رأى ، فلم يفسد أحد من قريش حوضه إلاّ رُمي بداء بجسده حتّى تركوا حوضه وسقايته (١) ، وفي ذلك يقول خويلد بن أسد (٢) :
أقولُ ومَا قَولِي عَليهمْ بسُبَّةٍ |
|
إليكَ ابنُ سَلمَى أنتَ حَافِرُ زَمزَمِ |
حَفيرةُ إبراهِيمَ يَومَ ابنِ هَاجَرٍ |
|
وَركضَةَ جِبريِلٍ عَلى عَهدِ آدَمِ |
ولمّا وافق قريشاً على المحاكمة عند كاهنة بني سعد بن هذيم ، وكان بمشارف الشام ، وسار عبد المطّلب بمَن معه من قومه ، حيث إذا كانوا بمفازة لا ماء فيها ونفد ماؤهم استسقوا ممّن كان معهم من قريش ، فأبوا أنْ يسقوهم ؛ حفظاً على الماء ، فأمر عبد المطّلب أصحابَهُ أنْ يحفروا قبوراً لهم ، ويُدفن مَن يموت منهم عطشاً في حفرته ويبقى واحد ؛ فضيعة واحد أيسر من ضيعة جماعة ، وبعد أنْ فرغوا من الحفر ، قال عبد المطّلب : إنّ هذا منّا لعجزٌ ، لنضربنّ في الأرض عسى اللّه أنْ يرزقنا ماءً. فركب راحلته ، فلمّا انبعث نبع من تحت خفها ماءٌ عذبٌ ، فكبّر عبد المطّلب ، وشرب أصحابه وملؤوا أسقيتهم ، ودعا قريشاً أنْ يستقوا من الماء ، فأكثروا منه ، ثُمّ قالوا :
__________________
(١) المُصنّف للصنعاني ٥ / ١١٤ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٤٧ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٣٣٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ٢١٦ ، السّيرة النّبويّة لابن كثير ١ / ١٧٣ ، السّيرة الحلبيّة ١ / ٥٧.
(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ٢١٧ ، مُعجم البلدان للحموي ٣ / ١٤٩ ، سُبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ١ / ١٩١.
إنّ اللّه قد قضى لك علينا ، ولا نُخاصمك في زمزم ، إنّ الذي سقاك في هذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم ، فارجع راشداً.
وزاد عبد المطّلب في سقاية الحاجِّ بالماء أنْ طرح الزَّبيب فيه ، وكان يحلب الإبل ، فيضع اللبن مع العسل في حوض من أدم عند زمزم ، لسقاية الحاجّ (١).
ثُمّ قام أبو طالب مقامه بسقي الحاجّ (٢) ، وكان يجعل عند رأس كُلِّ جادّة حوضاً فيه الماء ليستقي منه الحاجّ ، وأكثر من حمل الماء أيّام الموسم ، ووفّره في المشاعر : فقيل له : (ساقي الحجيج).
أمّا أمير المؤمنين عليهالسلام ، فقد حوى أكثر ممّا حواه والده الكريم من هذه المكرُمة ، وكم له من موارد للسقاية لا يستطيع أحد على مثلها ، وذلك يوم بدر وقد أجهد المسلمين العطشُ ، وأحجموا عن امتثال أمر الرسول صلىاللهعليهوآله في طلب الماء ؛ فرقاً من قريش ، لكن نهضت بأبي الريحانتين غيرتُه الشمّاء ، وثار به كرمُهُ المُتدفق ، فلبّى دعاءَ الرسول صلىاللهعليهوآله ، وانحدر نحو القليب ، وجاء بالماء حتّى أروى المسلمين (٣).
ولا يُنسى يوم صفِّين وقد شاهد من عدوه ما تندى منه جبهة كُلِّ غيور ؛ فإنّ معاوية لمّا نزل بجيشه على الفرات ، منع أهل العراق من الماء حتّى كضَّهم الظمأ ، فأنفذ إليه أمير المؤمنين (ع) صعصعة بن صوحان وشبث بن ربعي ، يسألانه أنْ لا يمنع الماء الذي أباحه اللّه
__________________
(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٥٥ ، السّيرة النّبويّة لابن هشام ١ / ٩٤ ، السّيرة النّبويّة لابن كثير ١ / ١٦٩ ، سُبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ١ / ١٨٩ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٣ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ٢٢٩.
(٢) السّيرة الحلبيّة ٣ / ٥٢.
(٣) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ٢ / ٨٠.
تعالى لجميع المخلوقات ، وكُلّهم فيه شرعٌ سواء ، فأبى معاوية إلاّ التردِّي في الغواية والجهل ، فعندها قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «اروُوا السّيوفَ مِنَ الدِّماءِ تَروَوا مِنَ الماءِ» (١). ثُمّ أمر أصحابه أنْ يحملوا على أهل الشام حملة واحدة ، فحمل الأشترُ والأشعثُ في سبعة عشر ألفاً ، والأشترُ يقول :
مِيعَادُنَا اليَومَ بَياضُ الصُبْحِ |
|
هَل يَصلُحُ الزَادُ بغَيرِ مِلحِ؟ |
والأشعث يقول :
لأورِدنَّ خَيلِيَ الفرَاتا |
|
شِعثَ النّواصِي أو يُقَالَ مَاتَا |
فلمّا أجلوهم أهلُ العراق عن الفرات ونزلوا عليه وملكوه ، أبى صاحب النّفسيّة المُقدّسة التي لا تعدوها أي مأثرة ، أنْ يسير على نهج عدوِّه حتّى أباح الماء لأعدائه ، ونادى بذلك في أصحابه (٢) ، ولم يدعه كرم النّفس أنْ يرتكب ما هو من سياسة الحرب من التضييق على العدوِّ بأيّ صورة.
هذه جملة من موارد السّقاية الصادرة من شرفاء سادةٍ ، مُتبوّئين على منصّات المجد والخطر ، مُتَّكئين على أرائك العزِّ والمنعة ، وما كانت تدعهم دماثةُ أخلاقهم وطهارةُ أعراقهم أنْ يكونوا خُلوّاً من هذه المكرُمة ؛ وقد افتخر بذلك عبدُ مناف على غيرهم.
وأنت إذا استشففت الخصوصيّات المكتنفة بكُلٍّ منها ، فإنّ الصراحة لا تدعك إلاّ أنْ تقول بتفاوت المراتب فيها من ناحية الفضيلة.
كما لا تجد منتدحاً عن تفضيل الحسين عليهالسلام على غيره يوم سقى
__________________
(١) مناقب آل أبي طالب ٢ / ٣٥١.
(٢) المعيار والموازنة للاسكافي / ١٤٦ ، الفتوح لابن أعثم الكوفي ٣ / ٥.
الحُرَّ وأصحابه في (شراف) (١) ، وهو عالمٌ بحراجة الموقف ، ونفاذ الماء بسقي كتيبة فيها ألفُ رجل مع خيولهم ، ووخامة المستقبل ، وإنّ الماء غداً دونه تسيل النّفوس وتشق المرائر ، لكن العنصر النّبوي والآصرة العلويّة لم يتركا صاحبهما إلاّ أنْ يحوز الفضل.
وإنّي أحسب أنّ ما ناء به أبو الفضل عليهالسلام في أمر السّقاية لا يوازنه شيءٌ من ذلك ، يوم ناطح جبالاً من الحديد ببأسه الشديد حتّى اخترق الصفوف ، وزعزع هاتيك الاُلوف ، وليس له هَمّ في ذلك المأزق الحرج ، إلاّ إغاثة شخصيّة الرّسالة المُنتشرة في تلك الأمثال القُدسيّة من الذُّرِّيَّة الطيّبة ، ولم تقثعه هذه الفضيلة حتّى أبت نفسيَّته الكريمة أنْ يلتذّ بشيءٍ من الماء قبل أنْ يلتذّ به أخوه الإمام عليهالسلام وصبيته الأزكياء.
هنالك حداه إيمانه المشفوع باليقين ، وحنانه المرتبط بالكرم إلى أنْ ينكفىء إلى المُخيّم ، ولا يحمل إلاّ مزادة من ماء يدافع عنها بصارمه الذَّكر ، ويزنيهِ المُثقّفِ ، ولواءُ الحمد يرفّ على رأسه ، غير أنّ ما يحمله هو أنفس عنده من نفسه الكريمة ، بلحاظ ما يُريده من المحافظة على تلك المزادة الملأى.
وراقه أنْ تكون هي الذخيرة الثمينة ، مشفوعة بما هو أعظم عند اللّه تعالى ، فسمح بيمينه وشماله ـ وكلتاهما يمنٌ ـ أنْ تُقطعا بعين اللّه في كلاءة ما يتهالك دونه ؛ لينال الاُمنية قبل المنيّة ، وما خارت عزيمة العبّاس عليهالسلام إلاّ حين أحبّ أنْ لو كانت المراقة نفسه لا
__________________
(١) موضع ، وقيل : ماءٌ لبني أسد. راجع لسان العرب ٩ / ١٧٤ ، ويذكر المؤرّخون ـ كالطبري ٤ / ٣٠٢ ، وابن الأثير في الكامل ٤ / ٤٦ وغيرهما ـ إنّه التقى مع جيش الحُرِّ بعد الخروج من (شراف).
القربة. فيا أبعد اللّه سهماً أسال ماءها! ولم يكن (سعد العشيرة) طالباً للحياة بعده لو لم يأته العمود الطائش ، ألا لعنة اللّه على الظالمين.
ومن أجل مجيئه بالماء إلى عيال أخيه وصحبه عليهمالسلام في الأيّام العشرة ؛ سُمّي (السّقّا). نصّ عليه أبو الحسن في المُجدي ، والداودي في عمدة الطالب ، وابن إدريس في مزار السّرائر ، وأبو الحسن الديار البكري في تاريخ الخميس ج ٢ ص ٣١٧ ، والنّويري في نهاية الأرب ج ٢ ص ٣٤١ ، والشبلنجي في نور الأبصار ص ٩٣ ، والعلاّمة الحُجّة محمّد باقر القايني في الكبريت الأحمر ج ٢ ص ٣٤ (١).
ولصاحب هذا اللّقب فيوضاتٌ على الاُمّة لا تُحدُّ ، وبركاتٌ لا تُحصَر.
هو البَحرُ مِن أيِّ النّواحِي أتَيتَهُ |
|
فِلجَّتُهُ المَعرُوفِ والجُودِ سَاحِلهْ |
ومن ذلك ما ذكره العلاّمة السّند السيّد محمّد ابن آية اللّه السيّد مهدي القزويني قدسسره في كتاب (طروس الإنشاء) ، قال :
في سنة ١٣٠٦ هـ انقطع نهر الحُسينيّة ، وعاد أهل كربلاء يقاسون شحّة الماء وكضّة الظمأ ، فأمرت الحكومة العثمانيّة بحفر نهر في أراضي السيّد النّقيب السيّد سلمان ، فمنع النّقيب ذلك ، واتّفق أنْ زرتُ كربلاء ، فطلب أهلُها أنْ أكتُبَ إلى النّقيب ، فكتبتُ إليه ما يُشجيه ، وعلى حالهم يُبكيه :
__________________
(١) عمدة الطالب لابن عنبة / ٣٥٦ ، مقاتل الطالبيين / ٥٥ ، الأنوار العلويّة للنقدي / ٤٤١ ، السّرائر ١ / ٦٥٦.
في كَربلا ْ لَكَ عُصبةٌ تَشكُوا |
|
الظَّمَأ مِنْ فَيضِ كَفِّكَ تستمِدُ رَوُاءَهَا |
وأراكَ يَا سَاقِي عِطَاشَى كَربَلا |
|
وأبوُكَ سَاقِي الحَوضَ تَمنعُ مَاءَهَا (١) |
فأجاز النّقيب حفر النّهر ، وانتفع أهل كربلاء ببركة هذا اللقب الشريف (السّقّا).
__________________
(١) نقل جزء من القصّة السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة ١٠ / ٧٢.
نشأته
ممّا لا شكّ فيه أنّ لنفسيات الآباء ونزعاتهم ، وكمّياتهم من العلم والخطر ، أو الانحطاط والضّعة ، دخلاً تامّاً في نشأة الأولاد وتربيتهم ، إنْ لم نقل إنّ مقتضاهما هو العامل الوحيد في تكيّف نفسيّات النّاشئة بكيفيّاتٍ فاضلة أو رذيلة ، فلا يكاد يرتأي صاحب أيِّ خطّة إلاّ أنْ يكون خَلَفُهُ على خطَّته ، ولا أنّ الخلفَ يتحرّى غير ما وجد عليه سلفه ؛ ولذلك تجد في الغالب مشاكلة بين الجيل الأوّل والثاني في العادات والأهواء ، والمعارف والعلوم ، اللهمّ إلاّ أنْ يسود هناك تطوّرٌ يكبح ذلك الاقتضاء.
وعلى هذا النّاموس يسعنا أنْ نعرف مقدار ما عليه أبو الفضل عليهالسلام من العلم والمعرفة وحُسن التربية ، بنشوئه في البيت العلوي مُنبَثق أنوار العلم ، ومحطّ أسرار اللاهوت ، ومختبأ نواميس الغيب ، فهو بيتُ العلم والعمل ، بيتُ الجهاد والورع ، بيتُ المعرفة والإيمان :
بَيتٌ عَلاَ سَمكَ الضّراحِ رِفعَةً |
|
فَكانَ أعَلاَ شَرفَاً وأمَنعَا |
أعزَّهُ اللّهُ فَما تَهبِطُ فِيْ |
|
كَعبَتهِ الأملاكُ إلاّ خَضعَا |
بَيتٌ مِن القُدسِ ونَاهيِك بِهِ |
|
مَحطُ أسرِارِ الهُدى ومَوضِعَا |
وكَان مأوى المُرتَجي والمُلتَجى |
|
فَما أعزَّ شَأنهُ وأرفَعَا (١) |
وبسيف صاحب هذا البيت المنيع انجلت غواشي الإلحاد ،
__________________
(١) من قصيدة للعلاّمة السيّد محمّد حسين الكيشوان رحمهالله.
وببيانه تقشّعت غيومُ الشُّبَهِ والأوهام.
إذن ، فطبع الحال يدلّنا على أنّ سيّد الأوصياء عليهالسلام لم يبغِ بابنه بدلاً في حُسن التربية الإلهيّة ، ولا أنّ شظية الخلافة يروقه غير اقتصاص أثر أبيه الأقدس ، فلك هاهنا أنْ تُحدّث عن بقيّة أمير المؤمنين عليهالسلام في أيّ ناحية من نواحي الفضيلة ، ولا حرج.
لم تكنْ كُلُّ البصائر في أبي الفضل عليهالسلام اكتسابيّة ، بل كان مُجتبلاً من طينة القداسة التي مزيجُها النّور الإلهي حتّى تكوَّنت في صُلب مَن هو مثال الحقِّ ، ذلك الذي لو كُشف عنه الغطاء ما ازداد يقيناً ، فلم يصل أبو الفضل عليهالسلام إلى عالم الوجود إلاّ وهو معدن الذكاء والفطنة ، واُذنٌ واعيةٌ للمعارف الإلهيّة ، ومادةٌ قابلة لصور الفضائل كُلّها ، فاحتضنه حِجرُ العلم والعمل ، حجرُ اليقين والإيمان ، وعادت أرومته الطيّبة هيكلاً للتوحيد ، يُغذّيه أبوه بالمعرفة ، فتشرق عليه أنوار الملكوت وأسرار اللاهوت ، وتهب عليه نَسماتُ الغيب ، فيستنشق منها الحقائق.
دعاه أبوه عليهالسلام في عهد الصبا وأجلسه في حجره ، وقال له : «قُلْ واحد». فقال : واحد. فقال له : «قُلْ اثنين». قال : استحي أنْ أقولَ باللّسان الذي قُلتُ واحداً ، اثنان (١).
وإذا أمعنّا النّظر في هذه الكلمة ـ وهو على عهد نعومةٍ من أظفاره ، في حين أنّ نظراءه في السّنِّ لا يبلغون إلى ما هو دون ذلك الشأو البعيد ـ فلا نجد بُدّاً من البخوع بأنّها من أشعَّة تلك الإشراقات الإلهيّة ، فما ظنّك إذن حينما يلتقي مع المبادئ الفيّاضة من أبيه سيّد الوصيين عليهالسلام ، وأخويه الإمامين عليهماالسلام سيّدي شباب أهل الجنّة ، فلا يقتني من
__________________
(١) مُستدرك الوسائل ١٥ / ٢١٥ ، مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ١٧٩.
خزائن معارفهم إلاّ كُلَّ دُرٍّ ثمين ، ودُرّيٍّ لامع؟!
وغير خفيٍّ ما أراده سيّدنا العبّاس عليهالسلام ، فإنّه أشار إلى أنّ الوحدانيّة لا تليق إلاّ بفاطر السّماوات والأرضين ، ويجلّ مثله المتفرّع من دوح الإمامة أنْ يجري على لسانه النّاطق بالوحدانيّة لباري الأشياء صفة تنزَّه عنها سبحانه وتعالى ، وعنها ينطق كتابه المجيد : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا) (١).
وممّا زاد في سرور أبيه أمير المؤمنين عليهالسلام أنّ زينب العقيلة كانت حاضرة حينذاك ، وهي صغيرة ، فقالت لأبيها : أتحبّنا؟ قال : «بلى». فقالت : لا يجتمع حُبّان في قلب مؤمن : حبُّ اللّه ، وحبُّ الأولاد ، وإنْ كان ولا بُدّ فالحبّ للّه تعالى والشفقة للأولاد. فأعجبه كلامها وزاد في حُبّه وعطفه عليهما (٢).
أمّا العلم ، فهو رضيع لبانه ، وناهيك في حِجر أبيه مدرسة يتخرّج منها مثل أبي الفضل عليهالسلام! وما ظنّك بهذا التلميذ المُصاغ من جوهر الاستعداد ، وذلك الاُستاذ الذي هو عيبة العلم الإلهي ، وعلبة أسرار النّبوّة ، وهو المُقيّض لنشر المعارف الربوبيّة ، وتعلّم الأخلاق الفاضلة ، ونشر أحكام الإسلام ، ودحض الأوهام والوساوس.
وإذا كان الإمام عليهالسلام يُربّي البُعداء الأجانب بتلك التربية الصحيحة المأثورة حتّى استفادوا منه أسرار التكوين ، ووقفوا على غامض ما في النّشأتين ، وكان عندهم بواسطة تلك التربية علم المنايا والبلاي ، كحبيب بن مظاهر وميثمِ التمّار ، ورشيد الهجري وكميل بن زياد ، وأمثالهم ; فهل من المعقول أنْ يذر قرّة عينه ، وفلذة كبده خلوّاً مِن
__________________
(١) سورة الأنبياء / ٢٢.
(٢) مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ١٧٩ باختلاف الألفاظ ، وفي مستدرك الوسائل ١٥ / ٢١٥ قال ، وقيل : بل القائل الحُسسين عليهالسلام.
أي علم؟!
أو أنّ قابلية المحلِّ تربى باُولئك الأفراد دون سيّدنا العبّاس عليهالسلام؟
لا واللّه ، ما كان سيّد الأوصياء عليهالسلام يضنّ بشيء من علومه ، لا سيّما على قطعة فؤاده ، ولا أنّ غيره ممّن انضوى إلى أبيه علم الهداية يشقّ له غباراً في القابلية والاستعداد.
فهنالك التقى مبدأٌ فيّاض ، ومحلٌّ قابل للإفاضة ، وقد ارتفعت عامّة الموانع ؛ فذلك برهان على أنّ (عبّاس اليقين) من أوعية العلم ، ومن الراسخين فيه.
ثُمَّ هلمّ معي إلى جامعتين للعلوم الإلهيّة ، ملازمتين للجامعة الاُولى في نشر المعارف ، وتقيّضهما لإفاضة التعاليم الحقَّة لكُلِّ تلميذ ، والرُّقي به إلى أوج العظمة في العلم والعمل ، ألا وهما (كُلّيتا) السّبطين الحسن والحسين عليهماالسلام. وانظر إلى ملازمته لأخويه بعد أبيه سيّد الأوصياء عليهمالسلام ، ملازمة الظلِّ لذيه ، فهناك يتجلّى لكَ أنّ سماءَ عِلمِهما لم تهطل وبالاً إلاّ وعاد لؤلؤاً رَطباً في نفسه ، ولا أنفقا شيئاً من ذلك الكنز الخالد إلاّ واتّخذه ثروة علميّة لا تنفد.
أضف إلى ذلك ما كان يرويه عن عقيلة بيت الوحي ، زينب الكبرى ، وهي العالمة غير المُعلَّمة بنصّ الإمام زين العابدين (ع) (١).
وبعد هذا كُلِّه ، فقد حوى أبو الفضل من صفاء النّفس والجبلّة الطيّبة ، والعنصر الزاكي والإخلاص في العمل ، والدّؤوب على العبادة ما يفتح له أبواباً من العلم ، ويُوقفه على كنوز المعرفة ، فيتفرّع من كُلِّ أصلٍ فرعٌ ، وتنحلّ عنده المشكلات.
__________________
(١) الاحتجاج للطبرسي ٢ / ٣١.
وإذا كان الحديث ينصّ على أنّ مَن أخلص للّه أربعين صباحاً انفجرت ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه ؛ إذنْ فما ظَنّك بمَن أخلص للّه سبحانه طيلة عُمره ، وهو مُتخلٍّ عن كُلِّ رذيلة ، ومُتحلٍّ بكُلِّ فضيلة ، فهل يبقى إلاّ أنْ تكون ذاته المُقدّسة متجلّية بأنوار العلوم والفضائل ، وإلاّ أنْ يكون علمه تحقّقاً لا تعلّقاً؟!
وبعد ذلك فما أوشك أنْ يكون علمه وجدانيّاً وإنْ برع في البرهنة وتنسيق القياس ، ومن هنا جاء المأثور عن المعصومين عليهمالسلام : «إنّ العبّاس بن علي زُقَّ العِلمُ زقّاً» (١).
وهذا من أبدع التشبيه والاستعارة ؛ فإنّ الزقَّ يُستعمل في تغذية الطائر فرخه حين لم يقوَ على الغذاء بنفسه ، وحيث استعمل الإمام عليهالسلام ـ وهو العارف بأساليب الكلام ـ هذه اللفظة هنا ، نعرف أنّ أبا الفضل عليهالسلام كان محلَّ القابليّة لتلقِّي العلوم والمعارف مُنذ كان طفلاً ورضيعاً ، كما هو كذلك بلا ريب.
فلم يكن أبو الفضل بِدْعَاً من أهل هذا البيت الطّاهر الذي حوى العلم المُتدفّق مُنذ الصغر ، كما شهد بذلك أعداؤهم ، ففي الحديث عن الصادق عليهالسلام :
«إنّ رجلاً مرّ بعثمان بن عفان وهو قاعد على باب المسجد ، فسأله ، فأمر له بخمسة دراهم ، فقال له الرجل : أرشدني. قال عثمان : دونك الفتية الذين تراهم ، وأومأ بيده إلى ناحيةٍ من المسجد فيها الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر ، فمضى الرجل نحوهم وسألهم ، فقال له الحسنُ : يا هذا ، المسألةُ لا تحلُّ إلاّ في ثلاث : دمٍ مُفجع ، أو دَينٍ مُقرح ، أو فقرٍ مُدقع. أيّتُها تسأل؟ فقال : في واحدة
__________________
(١) أسرار الشهادة / ٣٢٤.
من هذه الثلاث. فأمر له الحسنُ بخمسين ديناراً ، والحسينُ بتسعة وأربعين ديناراً ، وعبدُ اللّه بن جعفر بثمانية وأربعين ، فانصرف الرجل ومرّ بعثمان ، فحكى له القصّة وما أعطوه ، فقال له : ومَن لك بمثل هؤلاء الفتية ، اُولئك فُطموا العلمَ فطماً ، وحازوا الخير والحكمة».
قال الصدوق بعد الخبر : معنى (فُطموا العلم) : أي قطعوه عن غيرهم وجمعوه لأنفسهم (١).
وجاء في الأثر ، أنّ يزيد بن معاوية قال في حقّ السّجاد عليهالسلام : إنّه منْ أهلِ بيتٍ زُقُّوا العلم زقّاً.
ومن أجل ذلك قال العلاّمة المُحقّق ، الفقيه المولى ، محمّد باقر ابن المولى محمّد حسن ابن المولى أسد اللّه ابن الحاج عبد اللّه ابن الحاج علي محمّد القائني ، نزيل برجند ، في كتاب الكبريت الأحمر ج ٣ ص ٤٥ : إنّ العبّاس من أكابر وأفاضل فقهاء أهل البيت ، بل إنّه عالمٌ غيرُ مُتعلِّم ، وليس في ذلك منافاة ، لتعليم أبيه عليهالسلام إيّاه.
وكان هذا الشيخ الجليل ثبتاً في النّقل ، مُنقّباً في الحديث ، يشهد بذلك كبريته ، تتلمذ رحمهالله في العراق على الفاضل الإيرواني ، وميرزا حبيب اللّه الرشتي ، والسيّد الشيرازي ، وفي خراسان على السيّد مرتضى القائني ، والعلاّمة محمّد تقي البجنردي ، وكان له أربعة وثلاثون مؤلَّفا.
ومن مُستطرف الأحاديث ، ما حدّثني به الشيخ العلاّمة ميرزا محمّد علي الاُردبادي ، عن حُجّة الإسلام السيّد ميرزا عبد الهادي آل سيّد الاُمّة الميرزا الشيرازي قدسسره ، عن العالم البارع السيّد ميرزا عبد الحميد البجنردي ، أنّه شاهد في كربلاء المُشرَّفة رجلاً من الأفاضل
__________________
(١) الخصال / ١٣٥ باختلاف في بعض الألفاظ.