السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم
المترجم: الشيخ محمّد الحسّون
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 964-95037-0-6
الصفحات: ٣٩١
موقفُهُ قبل الطَّفِّ
يسترسل بعض الكتّاب عن موقفه قبل الطَّفِّ ، فيُثبت له منازلة الأقران والضرب والطعن ، وبالغوا في ذلك حتّى حُكي عن (المنتخب) أنّه يقول : كان كالجبلِ العظيمِ ، وقلبُهُ كالطّود الجسيم ; لأنّه كان فارساً هُماماً ، وجسوراً على الضرب والطعن في ميدان الكفّار.
ويُحدّث صاحب الكبريت الأحمر ج ٣ ص ٢٤ عن بعض الكتب المعتبرة لتتبّع صاحبها : أنّه عليهالسلام كان عضداً لأخيه الحسين عليهالسلام يوم حمل على الفرات ، وأزاح عنه جيش معاوية ومَلَك الماء.
قال : وممّا يُروى : أنّه في بعض أيّام صفّين خرج من جيش أمير المؤمنين عليهالسلام شابٌّ على وجهه نقاب ، تعلوه الهيبة ، وتظهر عليه الشجاعة ، يُقدّر عمره بالسّبع عشرة سنة ، يطلب المبارزة ، فهابه النّاس ، وندب معاوية إليه أبا الشعثاء ، فقال : إنّ أهل الشام يعدّونني بألف فارس ، ولكن أرسل إليه أحد أولادي ـ وكانوا سبعة ـ وكُلّما خرج أحد منهم قتله حتّى أتى عليهم ، فساء ذلك أبا الشعثاء وأغضبه ، ولمّا برز إليه ألحقه بهم ، فهابه الجمع ولم يجرأ أحد على مبارزته ، وتعجّب أصحاب أمير المؤمنين عليهالسلام من هذه البسالة التي لا تعدو الهاشميِّين ، ولم يعرفوه لمكان نقابه ، ولمّا رجع إلى مقرّه دعاه أبوه أمير المؤمنين عليهالسلام وأزال النّقاب عنه ، فإذا هو (قمر بني هاشم)
ولده العبّاس عليهالسلام.
قال صاحب الكبريت بعد هذه الحكاية : وليس ببعيد صحة الخبر ؛ لأنّ عمره يقدر بالسّبع عشرة سنة ، وقد قال الخوارزمي : كان تامّاً كاملاً.
وهذا نصّ الخوارزمي في المناقب ص ١٤٧ : خرج من عسكر معاوية رجل يُقال له : كُريب ، كان شجاعاً قويّاً يأخذ الدرهم فيغمزه بإبهامه فتذهب كتابته ، فنادى : ليخرج إليّ عليٌّ. فبرز إليه مرتفع بن وضّاح الزبيدي فقتله ، ثُمّ برز إليه شرحبيل بن بكر فقتله ، ثُمّ برز إليه الحرث بن الحلاّج الشيباني فقتله ، فساء أمير المؤمنين عليهالسلام ذلك ، فدعا ولده العبّاس عليهالسلام ، وكان تامّاً كاملاً من الرجال ، وأمره أنْ ينزل عن فرسه وينزع ثيابه ، فلبس عليٌّ عليهالسلام ثياب ولده العبّاس وركب فرسه ، وألبس ابنه العبّاس ثيابه وأركبه فرسه ؛ لئلا يجبن كُريب عن مبارزته إذا عرفه ، فلمّا برز إليه أمير المؤمنين عليهالسلام ذكّره الآخرة ، وحذّره بأس اللّه وسخطه.
فقال كُريب : لقد قتلتُ بسيفي هذا كثيراً من أمثالك ، ثُمّ حمل على أمير المؤمنين عليهالسلام ، فاتّقاه بالدرقة وضربه عليٌّ عليهالسلام على رأسه فشقّه نصفين ، ورجع أمير المؤمنين عليهالسلام وقال لولده محمّد بن الحنفيّة : «قفْ عندَ مصرعِ كُريب ؛ فإنّ طالبَ وترِهِ يأتيك». فامتثل محمّدٌ أمر أبيه عليهالسلام ، فأتاه أحد بني عمّه وسأله عن قاتل كُريب ، قال محمّد : أنا مكانه. فتجاولا ثُمّ قتله محمّدٌ ، وخرج إليه آخر فقتله محمّد حتّى أتى على سبعة منهم (١).
وفي ص ١٠٥ من المناقب ذكر حديث العبّاس بن الحارث بن
__________________
(١) المناقب للخوارزمي / ٢٢٨ ، والنّقل بالمعنى.
عبد المُطّلب : وقد برز إليه عثمان بن وائل الحميري فقتله العبّاس ، فبرز إليه أخوه حمزة ـ وكان شجاعاً قوياً ـ فنهاه أمير المؤمنين عليهالسلام عن مبارزته ، وقال له : «انزعْ ثيابَكَ وناولنِي سلاحَكَ وقفْ مكانَكَ ، وأنا أخرجُ إليهِ». فتنكّر أمير المؤمنين عليهالسلام وبرز إليه وضربه على رأسه ، فقطع نصف رأسه ووجهه وإبطه وكتفه ، فتعجّب اليمانيُّون من هذه الضربة وهابوا العبّاس بن الحارث (١).
هذا ما حدّث به في المناقب ، ومنه نعرف أنّ هناك واقعتين جرتا لأمير المؤمنين عليهالسلام مع ولده العبّاس ومع العبّاس بن الحارث.
فإنكار شيخنا الجليل المُحدّث النّوري في حضور العبّاس في صفّين ، مُدّعياً اشتباه الأمر على بعض الرواة بالعبّاس بن الحارث ، في غير محلّه ؛ فإنّ الحجّة على تفنيد الخبر غير تامّة ; لأنّ آحاد هذا البيت ورجالاتهم قد فاقوا الكُلَّ في الفضائل جميعها ، وجاؤوا بالخوارق في جميع المراتب ، فليس من البِدع إذا صدر من أحدهم ما يمتنع مثله عن الشجعان وإنْ لم يبلغوا مبالغ الرجال.
فهذا القاسم بن الحسن السّبط عليهالسلام لم يبلغ الحلم يوم الطَّفِّ ، وقد ملأ ذلك المشهد الرهيب هيبةً ، وأهدى إلى قلوب المقارعين فَرَقاً ، وإلى الفرائص ارتعاداً ، وإلى النّفوس خَوراً ، غير مبالٍ بالجحفل الجرّار ، ولا بمكترثٍ بمزدحم الرجال حتّى قتل خمسة وثلاثين فارساً (٢) ، وبطبع الحال فيهم مَن هو أقوى منه ، لكنّ البسالةَ وراثةٌ بين أشبال (علي عليهالسلام على حدٍّ سواء ، فهم فيها كأسنان المشط ، صغيرهم
__________________
(١) المناقب للخوارزمي / ٢٣١ ، والنّقل بالمعنى.
(٢) لواعج الأشجان للأمين / ١٧٤ ، بحار الأنوار ٤٥ / ٣٤ ، وفيه : فقَتلَ على صغر سنّه خمسة وثلاثين رجلاً. بدلَ فارسٍ.
وكبيرهم ، كما أنّهم في الأنفة عن الدنية سيان ، فلم يغتالوا الشبل الباسل حتّى وقف يشدُّ شسع نعله ، وهو لا يزن الحرب إلاّ بمثله ، وقد أنف (شبل الوصيِّ) أنْ يحتفي في الميدان.
أهوى يشدُّ حذاءَهُ |
|
والحربُ مُشرعةٌ لأجْلِهْ |
ليَسُومَها ما إنْ غلتْ |
|
هَيْجاؤهَا بِشراكِ نَعْلِهْ |
مُتقلِّداً صمْصامَه |
|
مُتفيِّئاً بظلالِ نصْلِهْ |
لا تَعْجَبنَّ لفعِلهِ |
|
فالفرعُ مُرتَهنٌ بأصلِهْ |
السّحُب يَخلفُها الحَيا |
|
والليّثُ مَنظورٌ بشبلِهْ |
يُردِي الطَّليعةَ مِنهُمُ |
|
ويُريهُمُ آياتَ فِعْلِهْ (١) |
وهذا عبد اللّه بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب ، بارز يوم الطَّفِّ الاُلوف مع صغر سنِّه حتّى قتل منهم ـ على رواية محمّد بن أبي طالب ـ ثلاثةً وتسعين رجلاً ، بثلاث حملات.
وهذا محمّد بن الحنفيّة ، فإنّ له مواقفاً محمودة في الجمل وصفِّين والنّهروان ، وكانت الراية معه ، فأبلى بلاءً حسناً سجَّله له التاريخ وشكره الإسلام ، وكان صغير السّنِّ على ما يظهر من السّبط في تذكرة الخواصّ ، وابن كثير في البداية ج ٩ ص ٣٨ (٢) ، فإنّهما نصّا على وفاته سنة ٨١ عن خمسٍ وستّين ، فتكون ولادته سنة ١٦ للهجرة ، وله يوم البصرة الواقع سنة ٣٦ هـ عشرون سنة.
وحينئذ فلا غرابة في التحدّث عن موقف أبي الفضل عليهالسلام وما أبداه من كرٍّ وإقدام ؛ خصوصاً بعد ما أوقَفَنا النّص النّبوي الآتي على ما حواه وُلدُ أبي طالب من بسالة وبطولة.
__________________
(١) للعلاّمة السيّد مير علي أبو طبيخ رحمهالله.
(٢) البداية والنّهاية لابن كثير ٩ / ٣٢ ، تذكرة الخواصّ ٢ / ٢٩٨.
وأمّا يوم شهادة أخيه الإمام المجتبى عليهالسلام فله أربع وعشرون سنة ، وقد ذكر صاحب كتاب (قمر بني هاشم) ص ٨٤ : أنّه لمّا رأى جنازة سيّد شباب أهل الجنّة عليهالسلام تُرمى بالسّهام ، عظمَ عليه الأمر ، ولم يطقْ صبراً دون أنْ جرَّد سيفه وأراد البطش بأصحاب (البغلة) لولا كراهيةُ السّبط الشهيد عليهالسلام الحرب ؛ عملاً بوصية أخيه عليهالسلام : «لا تُهرقْ في أمرِي مَحْجَمةً مِنْ دمٍ» (١). فصبر أبو الفضل عليهالسلام على أحرِّ من جمر الغضا ، ينتظرُ الفرصة ويترقَّبُ الوعدَ الإلهي ، فأجهد النّفس ، وبذل النّفس في مشهد (النّواويس) ، وحاز كلتا الحُسنيين.
__________________
(١) دلائل الإمامة / ١٦٢ ، الإرشاد للشيخ المفيد / ١٧ ، عمدة الطالب لابن عنبة / ٦٧ باختلاف الألفاظ.
موقفُهُ في الطَّفِّ
ربما يستعصي البيان عن الإفاضة في القول في هذا الفصل لشدّة وضوحه ، وربما أعقب الظهور خفاءً ؛ فإنّ منْ أبرز الصفات الحميدة في الهاشميِّين الشجاعة ، وقد جُبلوا عليها ، وبالأخص الطالبيِّين ، وقد أوقفنا على هذه الظاهرة الحديث النّبويّ : «لو ولدَ النّاسَ أبو طالبٍ كُلَّهمْ لكانوا شُجعاناً» (١).
إذاً فما ظنّك بطالبيٍّ أبوه أمير المؤمنين عليهالسلام قاتل عمر بن عبد ود ، ومزهق مرحب ، وقالع باب خيبر ، وقد عرق في ولده البسالة كُلّها والشهامة بأسرها ، وعلّمه قراع الكتائب ، فنشأ بين حروبٍ طاحنة وغارات شعواء ، وخؤولته العامريّون الذين شهد لهم عقيل بالفروسية؟! وللخؤولة كالعمومة عرق ضارب في الولد ، ومن هنا قالت العرب : (فلان مُعِمٌّ مُخْوِلٌ) إذا كان كريمهم ، وحوى المزايا الحميدة عنهما (٢) ، ولم يعقد أمير المؤمنين عليهالسلام على اُمِّ البنين إلاّ لتلد
__________________
(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٠ / ٧٨ ، كشف الغُمَّة ٢ / ٢٣٥ باختلاف ألفاظ الرواية بلفظ : «للّه درُّ أبي طالب! لو وَلد النّاسَ كلَّهم كانوا شُجعاناً». كما في كشف الغُمَّة للأربلي ، أو : «لو ولدَ أبو طالبٍ النّاسَ كُلَّهُمْ لكانُوا شُجعاناً». كما في شرح النّهج.
(٢) لسان العرب ١١ / ٢٢٤ ، تاج العروس ١٤ / ٢١٦. وقد نظم هذه الخاصّة أبو
له هذا الفارس المغوار والبطل المُجرّب ، فما أخطأت إرادته الغرض ، ولا عدى سهمه المرمى.
فكان أبو الفضل رمز البطولة ومثال الصولات ، يلوح البأس على أسارير جبهته ، فإذا يَمّم كميّاً قصده الموت معه ، أو التقى بمُقبل ولاّه دبره ، ولم يبرح هكذا تشكره الحرب والضرب ، وتشكوه الهامات والأعناق ، ما خاض ملحمة إلاّ وكان ليلها المعتكر ، ولم يلفَ في معركة إلاّ وقابل ببشره وجهها المُكفهر.
يُمثّلُ الكرّارَ في كرَّاتِه |
|
بلْ في المعانِي الغُرِّ مِنْ صفاتِهِ |
ليسَ يدُ اللّهِ سِوى أبيه |
|
وقُدرةُ اللّهِ تَجلَّتْ فيهِ |
__________________
بكر محمّد بن العبّاس الخوارزمي ، المُتوفّى سنة ٣٧٣ ، ففي مُعجم البلدان ١ / ٥٧ بمادة (آمل) إنّه قال :
بآملَ مولدِي وبنُو جريرِ |
|
فأخوالِي ويحكِي المرءُ خالَهْ |
فها أنا رافضيٌّ عنْ تُراثٍ |
|
وغيرِي رافضيٌّ عنْ كَلالَهْ |
عرّض بابن جرير صاحب التاريخ ؛ فإنّه أخو اُمّه ، وكان من أهل السُّنّة ، وإنّما نسبه إلى التشيّع الحنابلة لتصحيحه حديث الغدير ، فتشيّعه ادّعائي ، وهو المُعبّر عنه بـ (الكلالة) ؛ فإنّها في اللغة : ما لمْ يكن من النّسب لحاً. فقول الحموي في المُعجم : (كذب الخوارزمي ; لأنّ ابن جرير من أعلام السُّنّة) مبنيٌّ على عدم فهمه الغرض من البيت ، فالخوارزمي لمْ يعترف بتشيعهِ.
وقال الذهبي في تاريخه ٢٧ / ٦٨ ، وقال الحاكم في تاريخه : كان واحد عصره في حفظ اللغة والشعر ، وكان يُذاكرني بالأسماء والكنى حتّى يُحيّرني حفظه ...
فَهو يدُ اللّهِ وهذا ساعدُه |
|
تُغنِيكَ عَنْ إثباتِهِ مشاهدُهْ |
صَولتُهُ عندَ النّزالِ صولتُهْ |
|
لولا الغُلوُّ قُلتُ جلَّتْ قُدرتُه |
وهل في وسع الشاعر أنْ ينضد خياله ، أو يتسنّى للكاتب أنْ يسترسل في وصف تلك البسالة الحيدريّة ، وجوهر الحقيقة قائمٌ بنفسه ، ماثلٌ أمامَ الباحث بأجلى مِن كُلّ هاتيك المعرفات في مشهد يوم الطَّفِّ؟!
ولَعمري ، إنّ حديث كربلاء لم يُبقِ لسابقٍ في الشجاعة سبقاً ، ولا للاحقٍ طريقاً إلاّ الالتحاق به ، فلقد استملينا أخبار الشجعان في الحروب والمغازي يوم شأوا الأقران في الفروسيّة ، فلم يعدهم في الغالب الاستظهار بالعدد ، وتوفّر العتاد ، وتهيء ممدّات الحياة من المطعم والمشرب ، وفي الغالب إنّ الكفاية بين الجيشين المتقابلين موجودة.
يسترسل المؤرّخون لذكر شجعان الجاهليّة والحالة كما وصفناها ، واهتزّوا طرباً لقصة ربيعة بن مكدم ، وهي : إنّ ربيعة بن مكدم بن عامر بن حرثان من بني مالك بن كنانة كان أحد فرسان مضر المعدودين ، خرج بالظعينة وفيها اُمّه اُمّ سنان من بني أشجع بن عامر بن ليث بن بكر بن كنانة ، واُخته اُمّ عزَّة ، وأخوه أبو القرعة ، ورأى الظعينة دُريد بن الصمّة ، فقال لرجل معه : صح بالرجل أنْ خَلِّ الظعينة وانجُ بنفسك. وهو لا يعرفه. فلمّا رأى ربيعة أنّ الرجل قد ألحّ عليه ، ألقى زمام النّاقة وحمل على الرجل فصرعه ، فبعث دريد آخر فصرعه ربيعة ، فبعث الثالث ليعلم خبر الأوَّلَين فقتله ربيعة وقد انكسر رمحه ، فلمّا وافاه دُريد ورأى الثلاثة صرعى ورمحه مكسوراً ، قال له : يا فتى ، مثلُكَ لا يُقتل ، وهؤلاء يثأرون ولا رمح لك ، ولكنْ
خُذ رمحي وانجُ بنفسك والظعينة. ثُمّ دفع إليه رمحه ورجع دريد إلى القوم ، وأعلمهم أنّ الرجل قتل الثلاثة وغلبه على رمحه ، وقد منع بالظعينة ، فلا طمع لكم فيه (١).
هذا الذي حفظته السّيرة مأثرة لربيعة بن مكدم بتهالكه دون الظعائن حتّى انكسر رمحه ، ولكنْ أين هو من (حامى الظعينة) يوم قاتل الاُلوف ، وزعزع الصفوف عن المشرعة حتّى ملك الماء وملأ القربة ، والكُلّ يرونه ويحذرونه؟!
وأنّى لربيعة من بواسل ذلك المشهد الرهيب فضلاً عن سيّدهم أبي الفضل عليهالسلام ، فلقد كان جامع رأيهم ، فلم يقدهم إلاّ إلى محلِّ الشرف ، مُنكباً بهم عن خطَّة الخسف والضّعة ، على حين أنّ الأبطال تتقاذف بهم سكرات الموت؟!
هذا وللسبط المُقدّس عليهالسلام طرف شاخص إلى صنوه البطل المُقدام كيف يرسب ويطفو بين بُهمِ الرجال ، ووجهُهُ مُتهلّلٌ لكرّاته ، ولحرائر بيت النّبوَّة أملٌ موطَّد لحاميةِ الظعائن.
وإليك مثالاً من بسالته الموصوفة في ذلك المشهد الدامي ، وهي لا تدعك إلاّ مُذعناً بما له من ثبات ممنع عند الهزاهز ، وطُمأنينة لدى الأهوال.
الأوّل : في اليوم السّابع من المُحرَّم حُوصر سيّد الشُّهداء عليهالسلام ومَن معه ، وسُدّ عنهم باب الورود ، ونفذ ما عندهم من الماء ، فعاد كُلٌّ منهم يعالج لهب الأوام (٢) ، وبطبع الحال كانوا بين أنّةٍ وحنّة
__________________
(١) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ١٦ / ٣١٢.
(٢) الأوام : العطش. راجع : لسانَ العرب ١٢ / ٣٨ ، القاموس المحيط ٤ / ٧٧ ، مجمع البحرين للطّريحي ١ / ١٣٥ ، تاج العروس ١٦ / ٣٨.
وتضوّرٍ ونشيج ، ومُتطلّبٍ للماء إلى متحرٍّ ما يبلّ غلته ، وكُلُّ ذلك بعين (أبي علي عليهالسلام والغيارى من آله ، والأكارم من صحبه ، وما عسى أنْ يجدوا لهم وبينهم وبين الماء رماحٌ مُشرعة وبوارقٌ مُرهفة في جمعٍ كثيف يرأسهم عمرو بن الحجّاج ، لكنْ (ساقي العِطاشى) لمْ يتطامن على تحمّل تلك الحالة.
أَو تَشتَكي العَطشَ الفَواطمُ عِندَهُ |
|
وَبصدرِ صعدَتِهِ الفراتُ المُفعمُ |
وَلو اِستَقَى نَهرَ المَجرَّةِ لارتَقَى |
|
وَطَويلُ ذابلِهِ إِلَيها سُلمُ |
لَو سَدُّ ذي القَرنينِ دُونَ ورودِهِ |
|
نَسَفتْهُ هِمَّتُهُ بِما هوَ أَعظَمُ |
في كَفِّهِ اليُسرى السَّقاءُ يقلُّهُ |
|
وَبِكَفِّهِ اليُمنَى الحسامُ المِخْذَمُ |
مثل السَّحابةِ لِلفَواطمِ صَوبُهُ |
|
ويُصيبُ حاصبُهُ العَدوَّ فَيُرجَمُ |
هناك قيّض الحسين عليهالسلام لهذه المُهمّة أخاه العبّاس ، في حين أنّ نفسه الكريمة تُنازعه إلى ذلك قبل الطلب ، ويحدوه إليه حفاظه المُرُّ ، فأمره أنْ يستقي للحرائر والصبية وإنْ كان دونه شقّ المرائر وسفك المُهج ، وضمّ إليه ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ، وبعث معهم عشرين قربة ، وتقدّم أمامهم نافع بن هلال الجملي ، فمضوا غير مبالين وكُلّ بحفظ الشريعة ; لأنّهم محتفون بشتيم من آل محمّد صلىاللهعليهوآله ، فتقدّم نافع باللّواء ، وصاح به عمرو بن الحجّاج : مَن الرجل؟ وما جاء بك؟
قال : جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه.
فقال له : اشرب هنيئاً.
قال نافع : لا واللّه ، لا أشرب منه قطرة والحسين ومَن ترى من آله وصحبه عِطاشا.
فقال : لا سبيل إلى سقي هؤلاء ، وإنّما وُضعنا هاهنا لنمنعهم
الماء. ثُمّ صاح نافع بأصحابه : املأوا قربكم. وشدّ عليهم أصحاب ابن الحجّاج ، فكان بعض القوم يملأ القرب وبعضٌ يُقاتل ، وحاميهم (ابنُ بجدتها) مُسدّد الكماة ، المُتربِّي في حجر البسالة الحيدريّة والمُرتضع من لبانها (أبو الفضل) ، فجاؤوا بالماء وليس في القوم المناوئين مَن تُحدّثه نفسه بالدنوِّ منهم ؛ فرقاً من ذلك البطل المغوار ، فبُلّت غلّة الحرائر والصبية الطيِّبة من ذلك الماء ، وابتهجت به النّفوس (١).
ولكنْ لا يفوت القارئ معرفة : إنّ تلك الكميّة القليلة من الماء ما عسى أنْ تُجدي اُولئك الجمع الذي هو أكثر من مئة وخمسين ، رجالاً ونساءً وأطفالاً ، أو أنّهم ينيفون على المئتين على بعض الروايات؟! ومِنَ المقطوع به أنّه لم تروِ أكبادهم إلاّ مرّة واحدة ، أو أنّها كمصّة الوشل ، فسرعان أنْ عاد إليهم الظمأ ، وإلى اللّه سبحانه المُشتكى.
الثاني : كان أصحاب الحسين عليهالسلام بعد الحملة الاُولى التي استشهد فيها خمسون ، يخرج الاثنان والثلاثة والأربعة ، وكُلٌّ يحمي الآخر من كيد عدوّه ، فخرج الجابريان وقاتلا حتّى قُتلا ، وخرج الغفّاريان فقاتلا معاً حتّى قُتلا ، وقاتل الحُرُّ الرياحي ومعه زهير بن القَين يحمي ظهره حتّى فعلا ذلك ساعة ، فكان إذا شدّ أحدهما واستلحم ، شدَّ الآخر واستنقذه حتّى قُتل الحُرُّ (٢).
وفي تاريخ الطبري ج ٦ ص ٢٥٥ : إنّ عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه ، وجابر بن الحارث السّلماني ، ومجمع ابن
__________________
(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٤٠ ، مقتل الحسين لأبي مخنف / ١٦٠.
(٢) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٢ ، مقتل الحسين لأبي مخنف / ٩٨.
عبد اللّه العائذي شدّوا جميعاً على أهل الكوفة ، فلمّا أوغلوا فيهم عطف عليهم النّاس من كُلِّ جانب وقطعوهم عن أصحابهم ، فندب إليهم الحسين عليهالسلام أخاه العبّاس ، فاستنقذهم بسيفه ، وقد جُرحوا بأجمعهم ، وفي أثناء الطريق اقترب منهم العدو ، فشدّوا بأسيافهم مع ما بهم من الجراح وقاتلوا حتّى قُتلوا في مكان واحد ، وفازوا بالسّعادة الخالدة.
الشهادة
لم يفتأ لقمر بني هاشم دؤب على مناصرة الحقّ في شمم وإباء عن النّزول على حكم الدنيّة ، منذ كان يرتضع لبان البسالة ، وتربّى في حجر الإمامة ، فترعرع ونُصبَ عينه أمثلة الشجاعة والتضحية دون النّواميس الإلهيّة ، لمطاردة الرجال ومجالدة الأبطال ؛ فإمّا فوز بالظفر أو ظفر بالشهادة ، فمن الصعب عنده النّزول على الضيم ، وهو يرى الموت تحت مشتبك الأسنّة أسعد من حياة تحت الاضطهاد ، فكان لا يرى للبقاء قيمةً و (إمام الحقّ) مكثور ، وعقائل بيت الوحي قد بلغ منهنّ الكرب كُلَّ مبلغ.
ولكنْ لمّا كان ـ سلام اللّه عليه ـ أنفس الذخائر عند السّبط الشهيد عليهالسلام وأعزّ حامته لديه ، وطمأنينة الحرم بوجوده وبسيفه الشاهر ، ولوائه الخفاق وبطولتِهِ المعلومة ، لم يأذن له إلى النّفس الأخير من النّهضة المُقدّسة ، فلا الحسين عليهالسلام يسمح به ، ولا العائلة الكريمة تألف بغيره ، ولا الحالة تدعه لأنْ يُغادر وحرائر أبيه بين الوحوش الكواسر.
هكذا كان أبو الفضل بين نزوعٍ إلى الكفاح بمقتضى غريزته ، وتأخّرٍ عن الحركة لباعثٍ دينيٍّ وهو طاعة الإمام عليهالسلام ، حتّى بلغ الأمر نصابه ، فلم يكن لجاذب الغيرة أو دافعها مكافئ ، وكان مِلْءُ سمعه ضوضاء الحرم من العطش تارة ، ومن البلاء المُقبل اُخرى ، (ومركز
الإمامة) دارت عليه الدوائر ، وتقطّعت عنه خطوط المدد ، وتفانى صحبه وذووه.
هنالك هاج (صاحب اللّواء) ـ ولا يلحقه الليث عند الهياج ـ فمثل أمام أخيه الشهيد يستأذنه ، فلم يجد أبو عبد اللّه عليهالسلام بُدّاً من الإذنْ ، حيث وجد نفسه لَتسبق جسمه ؛ إذ ليس في وسعه البقاء على تلك الكوارث المُلمّة من دون أنْ يأخذ ثأره من اُولئك المَرَدة ، فعرّفه الحسين عليهالسلام أنّه مهما ينظر اللّواء مرفوعاً كأنّه يرى العسكر مُتّصلاً والمدد مُتتابعاً ، والأعداء تحذر صولته وترهب إقدامه ، وحرائر النّبوَّة مُطمئنة بوجوده ، فقال له : «أنتَ صاحبُ لوائِي ، ولكنْ اطلبْ لهؤلاءِ الأطفالِ قليلاً مِن الماءِ».
فذهب العبّاس عليهالسلام إلى القوم ووعظهم وحذّرهم غضب الجبّار ، فلم ينفع ، فرجع إلى أخيه وأخبره ، فسمع الأطفال يتصارخون من العطش ، فنهضت بـ (ساقي العِطاشى) غيرته الشمّاء وأخذ القربة ، وركب فرسه وقصد الفرات ، فلم يرعه الجمع المُتكاثر ، وكشفَهم شبلُ عليٍّ عن الماء ومَلَك الشريعة ، ومذ أحسّ ببرده تذكّر عطش الحسين عليهالسلام ، فرأى من واجبه ترك الشرب لأنّ الإمام عليهالسلام ومَن معه أضرّ بهم العطش ، فرمى الماء من يده وأسرع بالقربة محافظاً على مهجة الإمام عليهالسلام ولو في آن يسير ، وقال (١) :
يا نفسُ مِنْ بعدِ الحُسينِ هُوني |
|
وبعدَهُ لا كُنتِ أنْ تكوني |
هذا الحُسينُ واردُ المنونِ |
|
وتشْرَبينَ باردَ المعينِ |
تاللّهِ ما هذا فعالُ دينِي
__________________
(١) بحار الأنوار ٤٥ / ٤٢ ، مقتل الحسين لأبي مخنف / ١٧٩ ، ينابيع المودّة لذوي القربى للقندوزي ٣ / ٦٧.
فتكاثروا عليه وقطعوا طريقه ، فلم يُبالِ بهم ، وجعل يضرب فيهم بسيفه ، ويقول :
لا أرْهبُ المَوتَ إذا الموتُ زقا |
|
حتّى اُوارَى في المصاليتِ لَقَى |
إنِّي أنَا العبّاسُ أغْدو بالسّقا |
|
ولا أهابُ المَوتَ يومَ المُلتَقَى |
فكمنَ له زيد بن الرقّاد الجهني ، وعاونه حكيم بن الطفيل السّنبسي ، فضربه على يمينه فقطعها ، فأخذ السّيف بشماله وجعل يضرب فيهم ، ويقول :
واللّهِ إنْ قَطعتُمُ يَمينِي |
|
إنّي اُحامِي أبداً عَنْ دِينِي |
وعَنْ إمامٍ صادقِ اليَقينِ |
|
نجلِ النَّبيِّ الطَّاهرِ الأمينِ |
فكمنَ له حكيم بن الطفيل من وراء نخلة ، فضربه على شماله فبراها ، فضمّ اللّواء إلى صدره.
فعند ذلك أمنوا سطوته وتكاثروا عليه ، وأتته السّهام كالمطر ؛ فأصاب القربة سهمٌ واُريق ماؤها ، وسهمٌ أصاب صدره ، وسهمٌ أصاب عينه ، وحمل عليه رجلٌ بعمودٍ من حديد وضربه على رأسه المُقدّس.
وَهوَى بِجَنبِ العَلقميِّ فَلَيتَهُ |
|
لِلشَّاربينَ بِهِ يُدافُ العَلْقمُ |
ونادى بصوت عالٍ : عليك منّي السّلام يا أبا عبد اللّه (١). فأتاه الحسين عليهالسلام ، ويا ليتني علمتُ بماذا أتاه ، أبحياة مُستطارة منه بذلك الفادح الجلل ، أو بجاذب من الاُخوّة إلى مصرع صنوه المحبوب!
نعم ، حصل الحسين عليهالسلام عنده وهو يُبصر هيكل البسالة وقربان القداسة فوق الصعيد ، وقد غشيته الدِّماء السّائلة وجلّلته النّبال ، ورأى ذلك الغصن الباسق قد ألمّ به الذبول ، فلا يمينٌ تبطش ولا
__________________
(١) ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي ٣ / ٦٨.
منطقٌ يرتجز ، ولا صولةٌ ترهبُ ولا عينٌ تُبصر ، ومرتكز الدماغ على الأرض مبدّدٌ.
أصحيح أنّ الحسين عليهالسلام ينظر إلى تلكم الفجائع ومعه حياة تقدمه ، أو عافية تنهض به؟ لا واللّه ، لم يبقَ الحسين عليهالسلام بعد أبي الفضل إلاّ هيكلاً شاخصاً مُعرّى عن لوازم الحياة ، وقد أعرب سلام اللّه عليه عن هذا الحال بقوله : «الآن انكسرَ ظَهرِي ، وقلَّتْ حِيلَتِي ، وشمتَ بِي عدوِّي».
وبانَ الانكسارُ فِي جبينِهِ |
|
فاندكّتْ الجِبالُ مِنْ حَنينِهِ |
كافلُ أهلِهِ وساقِي صبْيتِهْ |
|
وحاملُ اللِّوا بعالِي همَّتِهْ |
وكيفَ لا وهوَ جمالُ بهجتِهْ |
|
وفي مُحيَّاهُ سرورُ مُهجَتِهْ |
ورجع إلى المُخيّم مُنكسراً حزيناً باكياً يُكفكف دموعه بكُمِّه كي لا تراه النّساء (١) ، وقد تدافعت الرِّجال على مخيمه ، فنادى بصوت عالٍ : «أمَا مِنْ مُجيرٍ يُجيرُنا؟ أمَا مِنْ مُغيثٍ يُغيثُنا؟ أمَا مِنْ طالبِ حقٍّ يَنصُرُنا؟ أمَا مِنْ خائفٍ مِنَ النّارِ فيذبُّ عنّا؟».
كُلّ هذا لإبلاغ الحُجّة ، وإقامة العذر حتّى لا يعتذر أحدٌ بالغفلة يوم يقوم النّاس لربِّ العالمين.
ولمّا رأته سُكينة مُقبلاً أخذت بعنان جواده ، وقالت : أينَ عمّي العبّاس ، أراه أبطأ بالماء؟
فقال لها : «إنَّ عمَّكِ قُتلْ». فسمعته زينب فنادت : وا أخاه! وا عبّاساه! وا ضيعتنا بعدك! وبكين النّسوة وبكى الحسين عليهالسلام معهنّ ، ونادى : «وا ضيْعَتَنا بعدَكَ أبا الفضلِ».
__________________
(١) بحار الأنوار ٤٥ / ٤٢.
المشهد المُطهَّر
ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام الشهيد أبا عبد اللّه عليهالسلام لم يترك القتلى في حومة الميدان ، وإنّما كان يأمر بحملهم إلى الفسطاط الذي يقاتلون دونه ، وهذا وإنْ لم نجده صريحاً في كُلِّ واحد من المُستشهدين إلاّ أنّ التأمّل فيما يؤثر في الواقعة يقتضيه ، وإنّ طبع الحال يستدعيه ، ويؤيّده ما في البحار من حمل الحُرِّ حتّى وُضع بين يديّ الحسين عليهالسلام ، وعند سقوط علي الأكبر أمر الحسين عليهالسلام فتيانه أنْ يحملوه إلى الفسطاط الذي يُقاتلون دونه ، وقد حمل القاسم بنفسه المُقدّسة حتّى وضعه مع ابنه الأكبر ، وقتلى حوله من أهل بيته عليهمالسلام.
هذا لفظ ابن جرير وابن الأثير ، ومن البعيد جدّاً أنْ يحمل سيّد الشُّهداء عليهالسلام أهل بيته خاصّة إلى الفسطاط ويترك اُولئك الصفوة الأكارم الذين قال فيهم : «لا أعلمُ أصحاباً أولَى ولا خيراً مِنْ أصحابي». ففضّلهم على كُلِّ أحد حتّى على أصحاب جدّه وأبيه (صلوات الله عليهما وآلهما) ، وإنّ كُلّ أحد لا يرضى من نفسه هذه الفعلة ، فكيف بذلك السيّد الكريم الذي علّم النّاس الشّمم والإباء والغيرة؟!
على أنّ الفاضل القزويني يحكي في تظلّم الزهراء عليهاالسلام ص ١١٨ عن غيبة النّعماني : أنّ أبا جعفر الباقر عليهالسلام يقول : «كان الحسينُ يضع قتلاه بعضَهُمْ معَ بعضٍ ، ويقول : قتلةٌ مثلُ قتلةِ النَّبيِّينَ وآلِ
النَّبيِّين»(١).
نعم ، ممّا لا شكّ فيه أنّه عليهالسلام ترك أخاه العبّاس في محلّ سقوطه قريباً من المسنّاة ، لا لما يمضي في بعض الكتب من كثرة الجروح وتقطّع الأوصال ، فلم يقدر على حمله ؛ لأنّ في وسع الإمام عليهالسلام أنْ يُحرّك ذلك الشلو المُبضَّع إلى حيث أراد ومتى شاء.
وإلاّ لِما قيل : من أنّ العبّاس أقسم عليه بجدّه الرسول صلىاللهعليهوآله أن يتركه في مكانه ; لأنّه وعد سكينة بالماء ويستحي منها (٢) لعدم الشاهد الواضح على كُلِّ منهما.
بل إنّما تركه لسرّ دقيقٍ ، ونكتة لا تخفى على المتأمّل ومَن له ذوق سليم ، ولولاه لم يعجز الإمام عليهالسلام عن حمله مهما يكن الحال ، وقد كشفت الأيّام عن ذلك السّرّ المصون ، وهو : أنْ يكون له مشهد يُقصد بالحوائج والزيارات ، وبقعة يزدلف إليها النّاس وتتزلّف إلى المولى سبحانه تحت قبته التي تحك السّماء رفعةً وسناءً ؛ فتظهر هنالك الكرامات الباهرة ، وتعرف الاُمّة مكانته السّامية ومنزلته عند اللّه ؛ فتُقدّره حقّ قدره ، وتؤدّي ما وجب عليهم من الحبّ المتأكّد والزورة المتواصلة ، ويكون عليهالسلام حلقة الوصل بينهم وبين اللّه تعالى ، وسبب الزلفى لديه.
فشاء المهيمن تعالى شأنه ، وشاء وليُّه وحُجّته أنْ تكون منزلة
__________________
(١) الغيبة للنعماني / ٢١٩ ، والنّص : «كان الحسينُ بنُ عليٍّ يضعُ قتلاه بعضَهُمْ إلى بعضٍ ، ويقول : قتلانا قتلَى النَّبيِّين».
(٢) الدمعة السّاكبة ٤ / ٣٢٤ ، قال : أقول : وفي بعض الكتب المعتبرة : إنّ من كثرة الجراحات الواردة على العبّاس عليهالسلام لم يقدر الحسين عليهالسلام أنْ يحملهُ إلى محل الشُّهداء ، فترك جسده في محلّ قتله ورجع باكياً حزيناً إلى الخيام.
أبي الفضل الظاهريّة شبيهة بالمنزلة المعنويّة الاُخرويّة ، فكان كما شاءا وأحبّا.
ولو حمله سيّد الشُّهداء عليهالسلام إلى حيث مجتمع الشُّهداء في الحائر الأقدس لغمره فضل الإمام الحُجّة عليهالسلام ، ولم تظهر له هذه المنزلة التي ضاهت منزلة الحُجّج الطاهرين عليهمالسلام ، خصوصاً بعد ما أكّد ذلك الإمام الصادق عليهالسلام بإفراد زيارة مُختصّة به ، وإذناً بالدخول إلى حرمه الأطهر كما شُرّع ذلك لأئمّة الهدى عليهمالسلام ، غير ما يُزار به جميع الشُّهداء بلفظ واحد ، وليس هو إلاّ لمزايا اختُصّت به.
وقد أرشدتنا آثار أهل البيت عليهمالسلام على هذا الموضع من مرقده الطيّب ، ففي كامل الزيارات لابن قولويه ص ٢٥٦ بسند صحيح عن أبي حمزة الثمالي ، عن الصادق عليهالسلام قال : «إذا أردتَ زيارةَ العبّاسِ بنِ عليٍّ وهو على شطِّ الفُراتِ بحذاء الحَيْر ، فقف على باب السّقيفة ، وقل : سلامُ اللّهِ وسلامُ ملائكتِهِ ...».
وحكى المجلسي ـ أعلى اللّه مقامه ـ في مزار البحار ، عن الشيخ المفيد وابن المشهدي زيارةً اُخرى له في هذا المشهد الذي أشار إليه الصادق عليهالسلام ، برواية غير مُقيّدة بوقت من الأوقات.
وهكذا حُكي عن المفيد والشهيد والسيّد ابن طاووس في زيارة النّصف من رجب ، وليلة القدر ، ويومَي العيدين ، ومثله العلاّمة النّوري في تحيّة الزائر.
وعبارة المفيد في الإرشاد صريحة فيما نصّت به رواية أبي حمزة الثمالي ؛ فإنّه قال عند ذكر مَن قُتل من آلِ الحسين عليهالسلام : وكلُّهم مدفونون ممّا يلي رجلَي الحسين عليهالسلام في مشهده ، حُفر لهم حفيرة
واُلقوا فيها جميعاً ... إلاّ العبّاس بن عليٍّ رضوان اللّه عليه ، فإنّه دُفن في موضع مقتله على المسنّاة بطريق الغاضريّة ، وقبره ظاهرٌ ، وليس لقبور إخوته وأهله الذين سمّيناهم أثرٌ ، وإنّما يزورهم الزائر من عند قبر الحسين عليهالسلام ، ويومئ إلى الأرض التي نحو رجليهِ بالسّلام ، وعلي بن الحسين في جملتهم ، ويُقال : إنّه أقربهم دفناً إلى الحسين عليهالسلام.
فأمّا أصحاب الحسين عليهالسلام الذين قُتلوا معه ، فإنّهم دُفنوا حوله ، ولسنا نحصل لهم أجداثاً على التحقيق ، إلاّ أنّا لا نشكّ أنّ الحائر محيطٌ بهم (١).
وعلى هذا مشى العلماء المُحقّقون والمُنقّبون في الآثار من كون مشهده بحذاء الحائر الشريف ، قريباً من شطّ الفرات ، نصّ عليه الطبرسي في إعلام الورى ص ١٤٧ ، والسيّد الجزائري في الأنوار النّعمانيّة ص ٣٤٤ ، والشيخ الطُّريحي في المنتخب ، والسيّد الداودي في عمدة الطالب ص ٣٤٩ ، وحكاه في رياض الأحزان ص ٣٩ عن كامل السّقيفة (٢).
وهو الظاهر من ابن إدريس في السّرائر ، والعلاّمة في المنتهى ، والشهيد الأوّل في مزار الدروس ، والأردبيلي في شرح الإرشاد ، والسّبزواري في الذخيرة ، والشيخ آقا رضا في مصباح الفقيه ؛ فإنّهم نقلوا كلام المفيد ساكتين عليه (٣).
__________________
(١) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ١٢٦.
(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٥٦.
(٣) السّرائر ١ / ٣٤٢ ، منتهى المطلب ١ / ٣٩٥ ، ذخيرة العباد / ٤١٣ ، غنائم الأيّام ٢ / ١٣٢ ، جواهر الكلام ١٤ / ٣٤٠ ، مصباح الفقيه ٢ / ٧٦١ ، كتاب