العبّاس عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

العبّاس عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


المترجم: الشيخ محمّد الحسّون
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 964-95037-0-6
الصفحات: ٣٩١

بعد أنْ هبط الحلّة الفيحاء ، وأقام فيها دعامة الدِّين وشيّد أركان المذهب ، يمرّ بهذا المشهد حين وفوده إلى بني زبيد للإرشاد والهداية ، ولا يزوره ؛ ولذلك قلَّت رغبةُ النّاس في زمانه. فصادف أنْ مرّ به مرّة ، فطلبَ منه أهلُ القرية زيارة المرقد المُطهّر ، فاعتذر بما قدّمناه ، وقال : لا أزور مَن لا أعرفه.

فبات ليلةً وغادر القرية من غدٍ إلى المزيديّة وبات بها ، حتّى إذا قام للتهجُّد في آخر الليل وفرغ من عمله ، طفق يراقب طلوع الفجر ، إذْ دخل عليه رجلٌ في زيٍّ علوي شريف من سادة تلك القرية ، يعرفه المهدي بالصلاح والتقوى ، فسلّم وجلس ، وقال له : استضفت أهل الحمزة ، وما زرت مشهده؟!

قال : نعم.

قال : ولم ذلك؟

فأجابه بما قدّمناه من جوابه لأهل القرية.

فقال العلوي المذكور : رُبَّ مشهورٍ لا أصل له. وليس هذا قبر حمزة بن موسى الكاظم عليه‌السلام كما اشتُهر ، وإنّما هو قبر أبي يعلى حمزة بن القاسم العلوي العبّاسي ، أحد علماء الإجازة وأهل الحديث ، وقد ذكره أهل الرجال في كتبهم وأثنوا عليه بالعلم والورع.

فحسبَ سيّدنا الحجّة المهدي أنّه أخذ هذا من أحد العلماء ؛ لأنّه كان من عوام السّادة ، وأين هو من الاطّلاع على الرجال والحديث؟! فاغفل عنه ونهض لفحص الفجر ، وخرج العلوي من عنده.

ثمّ أدّى السيّد الفريضة وجلس للتعقيب حتّى مطلع الشمس ، وراجع كُتب الرجال التي كانت معه ، فوجد الأمر كما وصفه الشريف العلوي الداخل عليه قُبيل الفجر ، ثُمّ ازدلف أهلُ القرية إليه مُسلّمين

٣٢١

عليه ، وفيهم العلوي المُشار إليه ، فسأله عن دخوله عليه قُبيل الفجر وإخباره إيّاه عن المشهد وصاحبه ، عمّن أخذه ، ومن أين له ذلك. فحلف العلوي باللّه أنّه لم يأته قبل الفجر ، وأنّه كان بائتاً خارج القرية في مكان سمّاه ، وأنّه سمع بقدوم السيّد فأتاه زائراً في وقته هذا ، وأنّه لم يره قبل ساعته تلك.

فنهض السيّد المهدي من فوره وركب لزيارة المشهد ، وقال : الآن وجب عليَّ زيارتُهُ ـ وإنّي لا أشكّ أنّ الداخل عليه هو الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه) ـ وركب الطريق معه أهل المزيديّة (١).

ومن يومئذ اشتهر المرقد الشريف بالاعتبار والثبوت ، وازدلفت الشيعة إلى زيارته والتبرك والاستشفاع إلى اللّه تعالى به.

وبعد ذلك نصَّ سيّدنا المهدي عليه في فلك النّجاة ، وتبعه على ذلك من بعده العلاّمة النّوري في تحيّة الزائر ، والعلاّمة المامقاني في تنقيح المقال ، وشيخنا المحدّث القمّي في الكنى والألقاب (٢).

أخذنا هذا النّبأ العظيم من جنّة المأوى للعلاّمة النّوري.

هذا ما كتبه شيخنا العلاّمة ميرزا محمّد علي الاُوردبادي أيَّده اللّه.

__________________

(١) الكنى والألقاب ١ / ١٨٦.

(٢) شجرة طوبى للحائري / ١٧٣.

٣٢٢

عمارةُ المشهد

تمهيد :

لا شكّ في رجحان عمارة قبور الأولياء المُقرّبين ، لا سيما مَن حظي منهم بشرف المنبت النّبوي الطاهر الذي هو معدود من أكبر الفضائل ؛ لأنّه لا يزال بمجرّده مُتواصل العرى ، يحدو بصاحبه إلى أوج العظمة ، وكُلّ سببٍ ونسب مُنقطع يوم القيامة إلاّ نسبه وسببه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو مُشرِّف مَن تحلَّى به في الدُّنيا والآخرة ، فكيف به إذا كان مشفوعاً بعلم وتقىً ، ومآثر ومفاخر؟!

١ ـ لأنّه من تعظيم شعائر اللّه : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (١). ومن موارد حرماته المُعيّنة بقوله تعالى : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) (٢).

وإذا كانت البُدن من الشعائر له سبحانه : (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ) (٣). وليست البُدن إلاّ بهيمة تُنحر في مرضات اللّه سبحانه وفي سبيل طاعته ، والشعار فيها نحرها.

فلماذا لا يكون عملُ الوليِّ المُقرَّب ، الشَّهيد الصدِّيق المنحور

__________________

(١) سورة الحج / ٣٢.

(٢) سورة الحج / ٣٠.

(٣) سورة الحج / ٣٦.

٣٢٣

على الدعوة الإلهيّة ، والمراق دمه الطاهر على مجزرة الشّهادة ، من مستوى القدس ، من جملة الشعائر والحُرمات التي يجب تعظيمها ؛ بتعاهد مرقده الأطهر ، وقصده بالزيارة والعبادة فيه ، وعمارته عند الانهدام ؛ ليأوى إليه الزائر ويتفيّأ بظلّه للتعبُّد ، كما أنّ الأمر بطواف البيت يستدعي عمارته كُلّما أوشك أنْ يتضعضع بنيانه؟!

٢ ـ على أنّ رجالات بيت النّبوَّة هم : (فِي بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (١). والمُراد من البيت : ما كان مسقوفاً ؛ ولذلك أطلقه في الكتاب المجيد على الكعبة المُعظَّمة ، حيث يقول : (الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) (٢). لكونها مسقوفة ، ولم يُرد من البيوت مطلق المساجد أو المساجد الأربعة ، وهي : المسجّد الحرام ، ومسجد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومسجد الكوفة ، والبصرة. فالمساجد كُلّما ذُكرت في القرآن اُطلق عليها المسجّد دون البيت ، مثل قوله تعالى :

(لَمَسْجِدٌ اُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى) (٣).

(عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدِ) (٤).

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) (٥).

(لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (٦).

__________________

(١) سورة النّور / ٣٦.

(٢) سورة المائدة / ٩٧.

(٣) سورة التوبة / ١٠٨.

(٤) سورة الأعراف / ٢٩.

(٥) سورة التوبة / ١٠٧.

(٦) سورة الكهف / ٢١.

٣٢٤

(شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (١).

(وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (٢).

والمساجد بمقتضى تشريعها مكشوفة ، والسّقف الموجودة فيها حادثة ؛ لقصد أنْ يأوي إليها الوفود من المرامي السّحيقة الذين لا مأوى لهم ، لتكنّهم من قائض الحرّ وقارص البرد ، فلا يُناسب إطلاق البيت عليها ؛ لأنّه عبارة عن المحلّ المسقوف ، ولا يُطلَق على غير المسقوف ، ولذلك تجد إطلاق بيوت الأعراب على أخبيتهم دون الصحاري التي يسكنونها ، ومن ذلك اُطلق البيت على الكعبة لكونها مسقوفة.

وكما لا يُراد من تلك البيوت ـ التي يجب (أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ـ المساجد ، لا يُراد منها خصوص الكعبة المشرّفة ؛ لأنّ لفظ البيوت في الآية جمعٌ ، وحينئذ فمِن المُتعيّن أنْ يُراد منها بيوتات تكون مستوى لذكر اللّه والدعوة إليه ؛ إمّا بألسنة ساكنيها أو بأعمالهم وجهادهم ، فتكون تلك البيوت منبثق أنوار اللّه.

وإذا فتَّشنا بيوت العالَم فلا نجد ما هو أولى بصدق هذه البيوت عليهم ، إلاّ بيوت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين أنفذوا طاقاتهم في رفع كلمة اللّه العلي وتوحيده ، والتذكير بوعده ووعيده ، فكانت مقصورةً على ذلك دعوتُهم ، منحصراً به هتافُهم حتّى أثبتوه على جبهة الدهر ، وكتبوا بدمائهم الزاكية على صحيفة الزمان ، مع ما لهم من الدؤوب على العبادة والتلاوة في آناء الليل وأطراف النّهار ، وللنّاس بهم اُسوة حسنة.

__________________

(١) سورة البقرة / ١٤٤.

(٢) سورة البقرة / ١٩١.

٣٢٥

وليس من الرأي السّديد قصرها على بيوتهم التي يسكنونها أيّام حياتهم ـ بل تعمّها ـ ومشاهدهم المُقدّسة ؛ فإنّهم (أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١). وإذا ثبت في الشُّهداء ـ وهم دونهم بمراتب ـ أنّهم أحياءٌ ، فإنّ أهل البيت عليهم‌السلام أولى بذلك ؛ لأنّهم الدعاة إلى سبيل ربّهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، أحياءً وأمواتاً ، وشهداء في سبيل تلك الدعوة المُقدّسة ، وشهداء على أعمال الاُمّة المرحومة.

وعليه فلا يخلو : إمّا أنْ يُراد من الرفع في الآية خصوص العمارة وتشيدها ، كما هو الظاهر على حدّ قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ) (٢). أو يُراد مُطلق التعظيم ؛ وممّا لا شكّ فيه أنّ من أظهر مصاديقه عمارتها وتجديدها عند أولها إلى الخراب ، لتتمّ بقيّة أقسام التعظيم ؛ من تفيِّئ المُتعبّدين ، وانتجاع المُزدلفين إليها ، واختلاف الزوّار إليها ، وذكر اللّه سبحانه ، والصلاة والترحّم على أولياء اللّه المتبوّئين هاتيك المشاهد المُطهّرة ، وتكون تلك القباب والأبنية الشاهقة كنارٍ تدلّ الوافدين على ما هناك من ضالَّتهم المنشودة.

٣ ـ ثُمّ إنّ في الكتاب العزيز شيئاً آخر دلّنا على مشروعية البناء على مراقد الصالحين ، واتخاذ خصوص المساجد عليها ، وهو قوله جلّ شأنه : (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (٣). وذلك أنّ المؤمنين مع ملِكِهم (بيدروس) ، وكان موحّداً ،

__________________

(١) سورة آل عمران / ١٦٩.

(٢) سورة البقرة / ١٢٧.

(٣) سورة الكهف / ٢١.

٣٢٦

لمّا وصلوا إلى أصحاب الكهف واطَّلعوا على موتهم في مكانهم ، أمر الملك أنْ يُتركوا في مكانهم ، ويُبنى على باب الكهف مسجدٌ يتعبّد فيه النّاس ويتبرّكون بمكانهم (١).

وهذا منه سبحانه ، وإنْ كان إخباراً عن عمل اُمّة سابقة على الإسلام ، لكنّه مقرون بالتقرير من اللّه عزّ ذكره ، وعدم الإنكار عليهم ، وكُلّما كان الحكم غير مُنكر من الإسلام فهو مستصحبُ البقاء ، والنّسخ وإنْ وقع في الشريعة لكنّه لمجموع هاتيك الشرائع لا لجميعها ، فهو كالعشرة الإبراهيمية (٢) التي لم تُنسخ ولا تُنسخ أبداً كغيرها من الأحكام المُستصحبة.

وإذا أجازت الشريعة الإلهيّة بناء المسجد على اُولئك الصالحين من فتية الكهف للعبادة والتبرّك بهم ، فالحكم شرع سواء فيهم وفي مَن هو أفضل منهم ؛ ألا وهُم الحُججُ المعصومون ، والأولياء المُقرّبون من هذه الاُمّة المرحومة.

وعلى هذا النّهج اللاحب جاءت سنّة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا دفن عثمان بن مظعون أمر بحجر فوضع عند رأسه ؛ مُعلّلاً بأنّه يُعلم منه قبر أخيه ليُدفن إليه مَن مات من أهل

__________________

(١) تفسير البغوي ٣ / ١٥٢ ، الكشّاف عن حقائق التنزيل ٢ / ٤٧٨ ، تفسير النّسفي ٣ / ٩ ، التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي ٢ / ١٨٥ ، تفسير أبي السّعود ٥ / ٢١٥ ، تفسير الآلوسي ١٥ / ٢٣٤ ، الكامل في التاريخ ١ / ٣٥٩ ، قصص الأنبياء للرواندي / ٢٦١ ، قصص الأنبياء للجزائري / ٥٢.

(٢) خمسة من هذه العشرة في الرأس ، وهي : أخذ الشارب ، وإعفاء اللّحى ، وطمّ الشعر ، والسّواك ، والخلال ، وخمسة في البدن : الختان ، وتقليم الأظفار ، والغسل من الجنابة ، والطهور بالماء ، وحلق الشعر من البدن ، تفسير القمّي ١ / ٥٩ ، التفسير الصافي للفيض الكاشاني ١ / ١٨٦ ، مجمع البحرين للطريحي ١ / ٢٤٧.

٣٢٧

بيته ، وهذا الحجر أخذه مروان بن الحكم ووضعه على قبر عثمان بن عفان ، فكلّمته بنو اُميّة ، وقالوا : كيف تأخذ حجراً وضعه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فلم يعبأ بهم (١).

وإذا كان وضع الحجر للتعريف بالقبر ، فلا ريب أنّ البناء على القبر أوفى بهذه العلّة من وضع الحجر ، فيكون راجحاً بالأولويّة.

على أنّ اهتمام النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بتعريف قبر عثمان دون غيره من المسلمين يدلّنا على امتياز بعضهم عن بعض بالفضل والعلم ، والورع والمعرفة ، وحينئذ يكون البناء على قبور الأنبياء والأوصياء والأولياء عليهم‌السلام ، والأمثل فالأمثل ، امتيازاً عن غيرهم ، وإعلاماً لهم بما مِن شأنٍ ورفعة أولى وأرجح.

وكانت فاطمة الزهراء عليها‌السلام تزور قبرَ حمزة وترمُّه وتُصلحه ، وقد علّمته بحجر (٢) ، فدلّ على أنّ إصلاح القبر وتعاهده كي لا تندرس آثاره معروفٌ في زمن الشارع المُقدّس ، وإلاّ لما فعلت ذلك سيّدة نساء العالمين عليها‌السلام ، والوحي يُنزل في بيتها.

وإصلاح القبر يختلف باختلاف الأوقات والأزمنة ، فقد تقتضي الحالة والوقت إصلاح القبر بجمع ترابه ووضع الحجرعليه،وقد تقتضي بناء قبّة عليه أو وضع جدار حوله.

ومن أجل ذلك دفنوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجرة عائشة ، وكانت مُسقّفة بجريد النّخل ، وأوّل مَن بناها باللبن عمر بن الخطّاب (٣).

__________________

(١) وفاء الوفاء للسمهودي ٨٥:٢ وبعضها في نيل الاوطار للشوكانى ١٣٢:٤ بحار الانوار ٢٩٧:٤٨ السنن الكبرى للبيهقي ٤١٢:٣ السيرة الحلبية ٢٩٠:٢.

(٢) السيّدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام للبيّومي / ١٣٤.

(٣) وفاء الوفاء للسمهودي ١ / ٣٨٣ ، السّيرة النّبويّة لابن كثير ٤

٣٢٨

ثُمّ إنّ عبد اللّه بن الزُّبير شيّد جدران قبر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعلها مرتفعة ، وفي سنة ١٩٣ هـ أمر الرشيد وإليه على المدينة أبا البُختري أنْ يبني سقف الحجرة ، ثُمّ المتوكّل أمر واليه على الحرمين إسحاق بن سلمة أنْ يُشيّد حجرة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بحجارة الرخام ، ففعل ذلك سنة ٢٤٢ هـ.

وفي الأوراق البغدادية للسيّد إبراهيم الراوي : إنّ المسلمين لمّا فتحوا بلاد الشام وبيت المقدس ، ورأوا على قبور الأنبياء المباني لم يهدموها ، ومن أشهرها البناءُ الذي على قبر إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وقد رأى ذلك عمر بن الخطّاب فلم يهدمه ولم يأمر بهدمه.

وغير خفيّ أنّ تقرير الصحابة ـ وفيهم الخلفاء ـ ذلك العمل دليلٌ قويٌّ على تعارف البناء على القبور وجوازه لديهم.

وحدّث محمّد بن الحنفيّة المُتوفّى سنة ٨١ هـ : أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله دفن فاطمة بنت أسد في موضع المسجد الذي يُقال له اليوم : (قبر فاطمة) ، وفيه دلالة ـ كما عند السّمهودي ـ على أنّ قبرها كان عليه مسجدٌ يُعرف به ذلك الزمان (١) ، وهو في المئة الاُولى من الهجرة ، كما كان على قبر حمزة بن عبد المُطّلب مسجداً يومئذٍ (٢).

وكما بُني على قبر العبّاس بن عبد المُطّلب قبّة دُفن فيها الحسن والسّجاد (٣) ، والباقر (٤) والصادق عليهم‌السلام (٥) ، ففي المئة الاُولى والثانية كانت القبّة على قبر العبّاس موجودة.

__________________

: ٥٤١ ، سُبل الهدى والرَّشاد للصالحي.

(١) تاريخ المدينة لابن شبّة النّميري ١ / ١٢٣.

(٢) المصدر السّابق ١ / ١٢٦.

(٣) وفيات الأعيان ٣ / ٣٦٩.

(٤) وفيات الأعيان ٤ / ١٧٤ ، الوافي بالوفيات ٤ / ٧٧.

(٥) وفيات الأعيان ١ / ٣٢٧.

٣٢٩

وإنّ الخطيب البغدادي المولود سنة ٣٩٢ هـ حكى في ترجمة الإمام الكاظم عليه‌السلام : أنّه دُفن في مقام الشونيزية (مقابر قريش) خارج القبّة ، وقبره هناك مشهور يُزار ... إلى آخره.

فدلّ على أنّه كان يوم وفاة الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام قبّة في مقابر قريش (١).

وعليه يكون وضع القباب على القبور متعارفٌ بين المسلمين ، لم تُنكره علماء تلك العصور مع تبصّرهم بأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن هنا لم يمتنع الخلفاء من وضع القباب على قبور أسلافهم ؛ فهذا الرشيد بنى قبّة على قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٢) ، وبنى المأمون على قبر الرشيد قبّة (٣) مع أنّ عصره كان حافلاً بالعلماء كالشافعي وابن حنبل وسفيان بن عيينة وغيرهم ، فلم يُنكر عليه أحدٌ.

ولمّا توفِّي المعزّ البويهي سنة ٣٥٦ هـ دُفن في داره ، ثُمّ نُقل إلى مشهد بُنيَ له في مقابر قريش (٤) ، وابن وكيع الشاعر المُتوفّى ٣٩٣ هـ دُفن في المقبرة الكبرى في القبّة التي بُنيت له بها (٥) ، وأبو

__________________

(١) في تاريخ بغداد ١٣ / ٢٩ ، فقدم هارون مُنصرفاً من عمرة شهر رمضان سنة تسع وتسعين.

فحمل موسى عليه‌السلام معه الى بغداد ، وحبسه بها إلى أنْ توفّي في محبسه.

نعم في الإرشاد للمفيد ٢ / ٢٤٣ : ثم حُمل فدُفن في مقابر قريش. وكذلك في غيره ، ومقابر قريش معروفة أنّها في بغداد.

(٢) عمدة الطالب / ٦٢.

(٣) بحار الأنوار ٤٨ / ٣٢٣.

(٤) وفيات الأعيان ١ / ١٧٤.

(٥) وفيات الأعيان ٢ / ١٠٦.

٣٣٠

تمّام المُتوفّى سنة ٢٧١ هـ بنى على قبره نهشل بن حميد الطوسي قبّة (١).

فما قيل من أنّ هذه القباب حدثت منذ القرن الخامس ، فهي من البدع غير المعروفة في زمن الشارع المُقدّس ، وما بعده من الأكاذيب الفاضحة.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ البناء على القبور وعمارتها ، وتجديدها وتعاهدها أمرٌ راجح وعليه الاُمّة الإسلاميّة من دون نكير بينها ، ويتأكّد في قبور الأولياء المُقرّبين ، والشُّهداء الصدّيقين ، والعلماء الصالحين ، وذوي المآثر والفضائل ؛ لأنّ فيه تعريفاً بالميّت وتنويهاً بمقامه ، ليزوره الزائر ، ويستريح إليه المُتعبّد ؛ لكونه من الأمكنة المحبوبة للّه تعالى ، فيها الذكر والطاعة ، وتحصيل المصالح الدينيّة.

وبذلك اتّفقت كلمة العلماء الذين هم أعرف الاُمّة بموارد الأمر والنّهي ، بل زادوا على البناء والعمارة تزيينها بالمُعلّقات والفرش والسّتائر ، وكُلّ ما فيه احترامهم وتعظيمهم.

مدّعين على ذلك ـ بعد الإجماع والاتّفاق ـ أنّه من الشعائر ، وعدم إنكار الأئمّة عليهم‌السلام في عهود كانوا ظاهرين فيها ، والأخبار الكثيرة الدالّة على ميلهم ورضاهم به ، وقد أمرت بالوقوف على باب الروضة أو القبّة أو النّاحية المُقدّسة ، والاستئذان ، وتقبيل القبّة والدعاء عند ترائي القبّة الشريفة ، وغيرها ممّا يتوقّف على وجود الباب والقبّة والعتبة ، المتوقّف كُلّه على البناء ، فلولا البناء أين تكون القبّة؟ وأين

__________________

(١) وفيات الأعيان ٢ / ١٧.

٣٣١

الباب؟ وأين العتبة؟ وأين الاستئذان عنده؟!

مع صراحة خبر أبي عامر ـ واعظ أهل الحجاز ـ عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيه : «إنّ اللّهَ سبحانهُ جعلَ قلوبَ نُجباءٍ مِنْ خلقهِ ، وصفوةٍ مِنْ عبادهِ تحنُّ إليكُمْ ، وتحتملُ الأذَى والمذلّةَ فيزورونَ قُبورَكُمْ ، ويُكثرون زيارتَهُمْ ؛ تقرّباً منهم إلى اللّهِ تعالى ، ومودّةً منهم لرسولِهِ ، اُولئكَ المخصوصونَ بشفاعَتي ، الواردونَ حوضِي ، وهُمْ زوَّاري غداً في الجنّة.

يا عليُّ ، مَنْ عمَّر قبورَكُمْ وتعاهدَها ، فكأنَّما أعانَ سُليمانَ على بناءِ بيتِ المقدسِ ... إلى أنْ قال : ولكنّ حثالةً مِنَ النّاسِ يُعيّرونَ زوّارَكُمْ كما تُعيَّر الزَّانيةُ بزناها ، اُولئك شرارُ اُمّتي ، لا نالتهم شفاعتِي» (١).

وحينئذ فلا ريب في تخصيص العمومات المانعة من تجصيص القبر وتجديده ، بل ادّعى صاحب الجواهر أعلى اللّه مقامه : أنّ البناء على قبور الأئمّة عليهم‌السلام والصُّلحاء من ضروري المذهب ، بل الدِّين (٢).

على أنّ النّهي عن التجصيص معارضٌ بما هو أقوى منه سنداً ودلالة وأكثر عدداً ، ومنه حديث صفوان : زار الصادقُ عليه‌السلام قبرَ جدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وذكر فضل زيارته واستئذانه منه أعلام الشيعة بهذا

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ / ٢٢ ، المزار للشيخ المفيد / ٢٢٨ ، وغيرهما من المصادر باختلاف في بعض الألفاظ.

(٢) جواهر الكلام ٤ / ٣٤١ ، وعبارته بعد الكلام عن القبور كالتّالي : وحاصل الكلام أنّ استحباب ذلك كاستحباب المقام عندها ، وزيارتها وتعاهدها كاد يكون من ضرورات المذهب إنْ لم يكن الدِّين.

٣٣٢

الفضل ، إلى أنّ قال : وأعطاني دراهمَ فأصلحتُ القبر (١).

ويُحدّث يونس بن يعقوب : أنّ الإمام الكاظم عليه‌السلام عند رجوعه من بغداد ماتت ابنة له بـ (فيد) ، فدفنها وأمر بعض مواليه أنْ يجصّص قبرها ، ويكتب على لوح اسمها ويجعله في القبر (٢).

وماتت اُمّ الإمام الحجّة صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) في أيّام أبي محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام ، فدُفنت في الدار ، وكُتب على لوح : هذا قبر اُمّ محمّد عليه‌السلام. ووضع في القبر (٣).

وليس هو من خصائص أولادهم ، وإنّما جرى الأمر على العادة المألوفة من التعريف بالميّت والتنويه بذكره ، فيكون الفعل في غيرها من الأنبياء عليهم‌السلام ، والعلماء الصالحين أولى وأرجح وأأكد.

والمراد من البناء المكروه ـ كما نصّ عليه الأردبيلي وكاشف الغطاء (٤) ـ هو ما كان فوق القبر ، بحيث يصير القبر تحت الحائط ؛ فإنّه غير مناسب لحرمة الميّت ، وأمّا البناء المتعارف المتداول بحيث يكون القبر تحت القبّة ، فلا يشمله النهي ، كما لا يشمل عمارة القبّة وتجصيصها وتزيينها ، ولا وضع الصناديق المُزيَّنة والأقمشة النفيسة على القبور والوقف لها.

وإليكَ أسماء مَن تعرّض لهذا الحكم من علمائنا عند مسألة

__________________

(١) الغارات للثقفي ٢ / ٨٥٦ ، فرحة الغري لابن طاووس / ١٣٢ ، بحار الأنوار ٩٧ / ٢٨٠.

(٢) الكافي ٣ / ٢٠٢ ، ح ٣ ، التهذيب ١ / ٤٦١ ، ح ١٤٦ ، الاستبصار ١ / ٢١٧ ، ح ٢ ، وغيرها من المصادر.

(٣) كمال الدِّين للصدوق / ٤٣١ ، وفي الإكمال / ٤٥٩ : إنّها ماتت في زمن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ، وقد تقدّم ذكر ذلك في الهامش.

(٤) كشف الغطاء ١ / ٢٠٨.

٣٣٣

تجصيص القبور من أحكام الأموات وغيرها ، مرتَّبين على سنة الوفاة :

السيّد عبد الكريم بن طاووس في الفرحة ، المُتوفّى سنة ٦٩٣ هـ (١).

الشهيد الأوّل في الذكرى والدروس ، المُتوفّى سنة ٧٨٦ هـ (٢).

المُحقّق الكركي في جامع المقاصد ، المُتوفّى سنة ٩٣٣ هـ (٣).

الشهيد الثاني في روض الجنان ، المُتوفّى سنة ٩٦٦ هـ (٤).

الأردبيلي في شرح الإرشاد ، المُتوفّى سنة ٩٩٣ هـ (٥).

السبزواري في الذخيرة ، المُتوفّى سنة ١٠٩٠ هـ (٦).

الحُرُّ العاملي في الوسائل ، المُتوفّى سنة ١١٠٤ هـ (٧).

المجلسي في مزار البحار ومرآة العقول ، المُتوفّى سنة ١١١٠ هـ (٨).

السيّد جواد العاملي في مفتاح الكرامة ، المُتوفّى سنة ١٢٢٦ هـ (٩).

__________________

(١) فرحة الغري / ٦٠.

(٢) الذكرى ٢ / ٣٧ ، الدروس الشرعيّة ١ / ٣١٨.

(٣) جامع المقاصد ١ / ٤٤٩ ، علماً بأنّ وفاة المُحقّق الكركي كانت سنة ٩٤٠ هـ.

(٤) روض الجنان / ٣١٧.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ٢ / ٤٩٩.

(٦) ذخيرة المعاد ١ / القسم الثاني / ٣٤٣.

(٧) وسائل الشيعة ٣ / ٢١١.

(٨) بحار الأنوار ٩٩ / ٣٠٠.

(٩) مفتاح الكرامة ٤ / ٤٨٠.

٣٣٤

كاشف الغطاء في نهج الرشاد ص ٧١ ، المُتوفّى سنة ١٢٢٨ هـ (١).

السيّد علي في الرياض ، المُتوفّى سنة ١٢٣١ هـ (٢).

الميرزا القمّي في الغنائم ، المُتوفّى سنة ١٢٣١ هـ (٣).

النّراقي في المستند ، المُتوفّى سنة ١٢٤٤ هـ (٤).

الكرباسي في منهاج الهداية ، المُتوفّى سنة ١٢٦٢ هـ.

صاحب الجواهر فيها ، المُتوفّى سنة ١٢٦٦ هـ (٥).

النوري في المستدرك ، المُتوفّى سنة ١٣٣٠ هـ (٦).

__________________

(١) كشف الغطاء ١ / ١٥٧.

(٢) رياض المسائل ٢ / ٢٢١.

(٣) غنائم الأيّام ٣ / ٥٣٥.

(٤) مستند الشيعة ٣ / ٣٧٣.

(٥) جواهر الكلام ٤ / ٣٣٢.

(٦) مُستدرَك الوسائل ٢ / ٣٧٩.

٣٣٥

عمارةُ مرقد العبّاس

إذا تمهّد ما ذكرناه ، فمشهد سيّدنا أبي الفضل عليه‌السلام من أظهر مصاديق تلك البيوت التي أذن الله أنْ تُرفع ويُذكر فيها اسمه ، كما أنّه في الرعيل الأوّل من اُولئك الصدّيقين والشُّهداء الصالحين ، وفي تشييد قبّته السامية إبقاء لما أوعزنا إليه من السرّ في انحياز قبره عن مجتمع الشُّهداء.

وإذا أعلَمَنا الإمام الصادق عليه‌السلام في زيارته بما له من المقام الرفيع في ملأ القدس ، وعند مجتمع الأنبياء والرسل عليهم‌السلام ، وقد حاز بذلك إكباراً منهم وتبجيلاً حتّى غبطه ـ على ما حباه اللّه ـ جميع الشُّهداء والصدّيقين. [و] لتفرّده بتلك المنعة والخطر كان الاحتفاء بمشهده القدسي ، من العمارة والتعاهد ، من أوّليات فرائض عالم الشُّهود.

ثُمّ إنّه سبحانه قيّض لعمارة هذا المشهد الكريم اُناساً قدّر لهم الخير والسعادة ، وأجرى على أيديهم المبرّات ففازوا بالباقيات

٣٣٦

الصالحات ، وكانت لهم الذكرى الخالدة في الدارين ، والسعادة في النشأتين ؛ من ملوك واُمراء ، وعلماء ووجهاء ، فتعاقب عليه العمران ، وفي كُلّ يوم يزداد بهجة وبهاءً حتّى تجلَّى ـ كما هو اليوم ـ في أبهج المناظر بقبّته التي تحاكي السّماء رفعة ، وإنْ شئت النُّجوم بهجة ، وذلك الحرم المنيع المضاهي للعرش عظمة ، وأروقته المغشّاة بالقوارير التي تفوقُ الأفلاك بذخاً ، وذلك الصحن الذي هو ساحة القدس وباحة الجلال ، والبهو الكبير الذهبي الذي دونه عرش الملك ومناط الاُبّهة ، فحاكى غُرفَ الجنان وصروحها.

ويتحدّث المؤّرخون : أنّ الشاه طهماسب في سنة ١٠٣٢ هجرية زيّن القبّة السامية بالكاشاني ، وبنى شبّاكاً على الصندوق ، ونظّم الرواق والصحن ، وبنى البهو أمام الباب الأوّل للحرم ، وأرسل الفرش الثمينة من صنع إيران.

وفي سنة ١١٥٥ هـ أهدى نادر شاه إلى الحرم المُطهّر تُحفاً كثيرة ، وزيّن بعض تلك المباني بالقوارير.

وفي سنة ١١١٧ هـ زار الحسين عليه‌السلام وزيره الشّهم ، فجدّد صندوق القبر ، وعمّر الرواق ، وأهدى ثريا يوضع فيها الشمع لإنارة الحرم الشريف.

وبعد حادثة الوهابيّة بكربلاء سنة ١٢١٦ هـ ، ونهب ما في الحرم من الأعلاق النّفيسة والذخائر المثمنة ، نهض الشاه فتح علي وجدّد ما نُهب من الحسين وأخيه أبي الفضل عليهما‌السلام ، وعمّر قبّة العبّاس

٣٣٧

بالكاشاني ، كما أنّه ذهّب قبّة سيّد الشُّهداء عليه‌السلام وصدَّر الإيوان الذي أمام الباب الاُولى للحرم من جهة القبلة ، وأنشأ صندوق ساج على قبر أبيِّ الضيم أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفضّض الشباك المُطهّر.

وفي كتاب طاقة ريحان صفحة ٩١ للعلاّمة الحاج ميرزا عبد الكريم المُقدّس الأرومي : إنّ خال جدّته لاُمّه الحاج شكر الله بن بدل بك الأفشاري ذهّب الإيوان الذي هو أمام حرم أبي الفضل ، وأنفق على ذلك كُلّ ماله ، وذلك بإيعاز زين الفقهاء والمُجتهدين الشيخ زين العابدين المازندراني ، المُتوفّى ١٢ ذي العقدة سنة ١٣٠٩ هـ ، وكتب اسمه في الجانب الغربي من جدار الإيوان على صفائح الذهب بخطٍّ ذهبي موجود إلى الآن ، وتاريخ الكتابة سنّة ١٣٠٩ هـ.

وفي الكتاب المذكور : إنّ نصير الدولة ذهّب منارة أبي الفضل ، وكان الصائع يغشُّ في تطلية الطاقات الصفريّة بالذهب ، فعُرف منه ذلك ، وجيء به من بغداد إلى كربلاء ، فَلمّا دخل الصحن اضطرب وأسودّ وجهه سواداً شديداً ، ومات من الغد.

وحدّثني العلاّمة الحجّة السيّد حسن مؤلّف كتاب (فدك) وغيره من المُؤلّفات القيّمة : أنّ الإيوان الصغير الذهبي الذي هو أمام الباب الاُولى أنشأه ملك لكنهو محمّد شاه الهندي ، وأمّا الطارمة المُسقّفة بالخشب فبأمر السّلطان عبد الحميد خان ، وجدّد بناء القبّة بالكاشاني محمّد صادق الأصفهاني ، الشيرازي الأصل ، وهو الذي اشترى الدور الملاصقة للصحن الشريف وزادها في الصحن وبناه بما هو المشاهد ، وكانت الزيادة من جهة القبلة أكثر من سائر الجهات

٣٣٨

قدر إيوانين أو ثلاث ، ودُفن في حجرة عند باب القبلة تُعرف باسمه ، وبنى الصحن بالكاشاني رحمه‌الله ، وجزاه لخدمته لأبي الفضل أفضل جزاء المُحسنين.

وجدّد السيّد المُبجّل ، سادن الروضة المُقدّسة ، السيّد مرتضى البابَ الفضّي التي هي في الإيوان الذهبي أمام حضرة العبّاس عليه‌السلام سنة ١٣٥٥ هـ ، وكتب على المصراعين قصيدة الخطيب الاُستاذ الشيخ محمّد علي اليعقوبي ، وتفضّل حفظه الله بها ، ولطروس الإنشاء الذي ذكرناه فيما تقدّم ، وهذه القصيدة :

لُذْ بأعتابِ مَرقدٍ قدْ تَمنَّتْ

أنْ تكونَ النُّجومُ منْ حَصباهُ

وانْتَشقْ مِنْ ثَرى أبي الفضْلِ نشْرَاً

ليسَ يَحكي العبيرُ نفْحَ شَذاهُ

غابَ فيهِ مِنْ هاشمٍ أيُّ بَدرٍ

فيهِ ليلُ الضَّلالِ يَمحِي دُجاهُ

هو يومُ الطُّفوفِ ساقِي العِطاشَى

فَاسقِ مِنْ فيضِ مُقلتَيكَ ثَراهُ

وأطِلْ عندَهُ البُكاءَ فَفيهِ

قدْ أطالَ الحُسينُ شَجْواً بُكاهُ

٣٣٩

لا يُضاهيهِ ذو الجَناحينِ لمّا

قُطعتْ في شَبا الحُسامِ يَداهُ

هو بابُ الحُسينِ ما خابَ يوماً

وافدٌ جاءَ لائذاً في حِماهُ

قامَ دونَ الهُدَى يُناضلُ عنهُ

قامَ دونَ الهُدَى يُناضلُ عنهُ

فادياً سِبطَ أحمدٍ كأبيهِ

حيدرٍ مُذْ فَدَى النَّبيَّ أخاهُ

جَدَّدَ المُرتضَى له بابَ قُدسٍ

مِن لُجينٍ يَغشَى العُيونَ سَناهُ

إنَّهُ بابُ حِطَّةٍ ليس يَخشَى

كلَّ هولٍ مُسْتمسِكٌ في عُراهُ

قِفْ بهِ داعياً وفيهِ تَوسَّلْ

فبِهِ المَرْءُ يُسْتجابُ دُعاهُ

٣٤٠