العبّاس عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

العبّاس عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


المترجم: الشيخ محمّد الحسّون
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 964-95037-0-6
الصفحات: ٣٩١

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة التّحقيق

بعد سقوط النّظام البعثي في العراق ، سعى مركز الأبحاث العقائديّة ـ الذي اُنشئ بمباركة ودعم سماحة المرجع الديني الأعلى زعيم الحوزة العلميّة آية اللّه العظمى السيّد علي الحسيني السّيستاني دام ظلّه الوارف ، وبإشراف الأخ الكريم سماحة حجّة الإسلام والمسلمين السيّد جواد الشهرستاني ـ إلى إعادة الروح في مكتبات العتبات المقدّسة في العراق ، والتي قضى عليها وأبادها النّظام البعثي الجائر.

فكان أوّلها مكتبة الروضة الحيدريّة في النّجف الأشرف ، ومكتبة الروضة الحسينيّة ، ومكتبة الروضة العبّاسيّة في كربلاء المقدّسة ؛ إذ قام المركز بتجهيز هذه المكتبات بكلّ ما تحتاج إليها من كُتب وأجهزة كومبيوتر ، ومقاعد ومناضد ، وقفصات لحفظ الكتب ، وسجّاد وغيرها.

ولم يكتفِ المركز بذلك ، بل ظلّ طيلة هذه السّنوات يدعم هذه المكتبات بما تحتاجه ، وحسب الإمكانات المتوفّرة لديه.

ومن أجل دعم الحركة العلميّة في هذه المكتبات قام المركز بإحياء مجموعة من الكتب وطبعها بالتعاون مع المسؤولين فيها ، منها هذا الكتاب الماثل بين أيدينا ، والذي قمنا بتحقيقه وطبعه في فترة قصيرة جدّاً ؛ ليحمل الرقم الأوّل من إصدارات مكتبة الروضة

٥

العبّاسيّة ، ويُوزّع في افتتاح هذه المكتبة المباركة في أوائل شعبان سنة ١٤٢٧ هـ.

ونحاول في هذه المُقدّمة البسيطة إلقاء ضوء على حياة المؤلِّف ـ السيّد المُقرّم ـ وكتابه هذا.

المُؤلِّف :

هو السيّد عبد الرزاق بن محمّد بن عباس بن حسن بن قاسم بن حسّون المُقرّم الموسوي الدغاري النّجفي. أصل اُسرتِهِ من مدينة الحسكة ، وقد هاجر جدّه الأعلى قاسم بن حسّون إلى مدينة النّجف الأشرف.

وُلد في مدينة النّجف الأشرف سنة ١٣١٦ هـ ـ ١٨٩٨ م ، وترعرع في أحضان جدّه الذي تولّى تربيته وتعليمه ، وما إنْ بلغ سنّ الرشد حتّى شرع في دراسة علوم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في مدينة باب علمه النّجف الأشرف ، وحضر عند كبار علماء عصره،مثل :

العلاّمة الشيخ محمّد جواد البلاغي (ت ١٣٥٢ هـ).

الميرزا حسين النّائيني (ت ١٣٥٥ هـ).

الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (ت ١٣٦١ هـ).

الشيخ ضياء الدِّين العراقي (ت ١٣٦١ هـ).

السيّد أبو الحسن الأصفهاني (ت ١٣٦٥ هـ).

السيّد أبو القاسم الخوئي (ت ١٤١٣ هـ).

٦

وذكر الشيخ محمّد حسين حرز الدِّين ، حفيد الشيخ محمّد حرز الدِّين (ت ١٣٦٥ هـ) في تعليقه على كتاب جدّه (معارف الرجال) : إنّ السيّد المُقرّم كان من المجازين في الرواية من الشيخ آقا بُزرك الطهراني (ت ١٣٨٩ هـ) (١).

كان رحمه‌الله يعقد مجالس عزاء الإمام الحسين عليه‌السلام في داره ، ويقرأ التعزية بنفسه ، ويحضر مجلسه هذا كبار العلماء والفضلاء ، وفي مُقدّمتهم المرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئي رحمه‌الله.

ذكره الشيخ محمّد هادي الأميني (ت ١٤٢١ هـ) قائلاً : عالمٌ متتبّع ، ومُجتهدٌ محقّق ، مُتضلّعٌ في الفقه المقارن والتأريخ الإسلامي ، مُؤلِّف مُكثر له كتب (٢).

ومدحه وأطراه السيّد محمّد الغروي ، إذ قال : عالمٌ كاملٌ ، ومجتهدٌ متتبّع ، مؤرّخ محقّق ، ... كان على جانب كبير من الورع والتّقوى ، والتفاني في حبّ أهل البيت الطاهرين عليهم‌السلام ، والتمسّك بحبل مودّتهم ، خشناً في ذات اللّه ، لا تأخذه فيه لومة لائم ، بعيداً عن التكلّف والتصنّع والرياء. وكانت له خِزانةُ كُتب قيّمة ، كما كانت داره ندوة الأفاضل والعلماء ، ومجمع الخطباء والمؤمنين. يتجنّب التدخّل في قضايا خارجة عن نطاق عقيدته ودينه ، ولم تستهوه الحياة وزخارفها. كان يقرأ مقتل الإمام السّبط الشهيد عليه‌السلام كلَّ يوم عاشوراء في حسينية النّجفيّين في كربلاء المقدّسة ، منذ طلوع الشمس إلى الظهر ، مع البكاء والعويل (٣).

__________________

(١) معارف الرجال ٢ / ١٨٨ (الهامش).

(٢) معجم رجال الفكر والأدب / ١٢٣١.

(٣) مع علماء النّجف الأشرف ٢ / ٢٣١.

٧

وقد عُرف السيّد المُقرّم بكثرة تآليفه القيّمة ، والتي أكثرها في حياة أهل البيت عليهم‌السلام ؛ منها ما هو مطبوع ، ومنها لازال خطّيّاً لم يرَ النّور لحدّ الآنّ ، نذكرها مُرتّبة حسب الحروف الألف بائية :

(١) الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، طُبع في النّجف الأشرف سنة ١٣٧٤ هـ.

(٢) الإمام الجواد عليه‌السلام ، طُبع سنة ١٣٧١ هـ.

(٣) الإمام الرضا عليه‌السلام ، طُبع بدون تأريخ.

(٤) اُرجوزة (الأنوار القُدسيّة) في النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام.

(٥) تعليقة في الفقه المقارن على المحاضرات في الفقه الجعفري.

(٦) تنزيه المختار الثقفي ، طُبع سنة ١٣٥٦ هـ.

(٧) ثامن شوّال ، في حوادث هدم القبور بالبقيع وأحوال الوهابيّة.

(٨) الحسن المُجتبى عليه‌السلام.

(٩) زيد الشهيد ، طُبع سنة ١٣٧١ هـ.

(١٠) زينب بنت أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(١١) سرّ الإيمان في الشهادة الثالثة في الأذان ، طُبع سنة ١٣٧٤ هـ.

(١٢) السيّدة سكينة بنت الإمام الحسين عليه‌السلام ، طُبع سنة ١٣٧٨ هـ.

(١٣) الشهيد مسلم بن عقيل ، طُبع سنة ١٣٦٩ هـ.

(١٤) الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام ، طُبع في النّجف سنة ١٣٧٠ هـ.

٨

(١٥) عاشوراء في الإسلام.

(١٦) العبّاس [ابن علي عليه‌السلام].

(١٧) علي الأكبر ابن الإمام الحسين عليه‌السلام ، طُبع سنة ١٣٦٧ هـ.

(١٨) عمّار بن ياسر.

(١٩) قداسة ميثم التمّار.

(٢٠) قمر بني هاشم ، طُبع سنة ١٣٦٩ هـ.

(٢١) الكشكول في ما جرى على آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢٢) الكنى والألقاب ، مخطوط.

(٢٣) ليلة عاشوراء عند الحسين عليه‌السلام.

(٢٤) مقتل الحسين عليه‌السلام وحديث كربلاء ، وهو أشهر كتبه ، طُبع عدّة مرات ، وتُرجم إلى اللغة الإنكليزيّة.

(٢٥) المقداد الكندي.

(٢٦) نقد التأريخ.

(٢٧) يوم الأربعين ، طُبع سنة ١٣٧٧ هـ.

وقد تُوفّي السيّد المُقرّم في مدينة النّجف الأشرف في السّابع عشر من محرم الحرام سنة ١٣٩١ هـ الموافق ١٩٧١ م ، بعد عمر قضاه في خدمة الدِّين الإسلامي الحنيف ومذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، فرحمه اللّه تعالى وأسكنه مع الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام.

هذا الكتاب :

حينما أعلمنا مسؤول مكتبة الروضة الحسينيّة والروضة

٩

العبّاسيّة الأخ العزيز سماحة حجّة الإسلام الشيخ علي الفتلاوي ، بقرب افتتاح مكتبة الروضة العبّاسيّة ، بعد تهيئة مستلزماتها ، فكّرت بطبع كتابٍ عن العبّاس عليه‌السلام يكون باكورة أعمال هذه المكتبة المباركة.

وقد استشرتُ الكثير من الفضلاء وخطباء المنبر الحسيني في هذا الموضوع ، فأكثرهم أشاروا عليَّ بطبع هذا الكتاب بعد تحقيقه وضبط نصّه ، وفعلاً شرعنا بتحقيقه وإخراجه في فترة قصيرة.

وقد واجهنا في تحقيقه بعض المصاعب ; لأنّ المؤلّف لم ينقل نصوصه من نفس المصادر ، بل اعتمد على محفوظاته ؛ لذلك شاهدنا اختلافاً بين نصوص الكتاب ومصادره ، فحاولنا قدر الإمكان تصحيحها وجعلها مطابقة للمصادر.

إضافة لذلك : فإنّا شاهدنا أنّ هذا الكتاب طُبع عدّة مرّات وبأسماء متعدّدة ، هي : العبّاس عليه‌السلام ، العبّاس بن علي عليه‌السلام ، العبّاس بن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حياة العبّاس بن علي عليه‌السلام ، قمر بني هاشم عليه‌السلام.

وبعد التتبّع ظهر لنا أنّ الأسماء الأربعة الاُولى كلّها مسمّيات لكتاب واحد ، وضعها النّاشرون لها لعدم بيان المؤلِّف اسم كتابه هذا ، لا في أوّله ولا في آخره.

أمّا الكتاب الأخير (قمر بني هاشم) فهو كتاب آخر ، أي : أنّ للسيّد المُقرّم كتابين عن العبّاس عليه‌السلام ، ألّف أوّلاً كتاب (قمر بني هاشم) ، ثمّ ألّف كتابه الآخر (العبّاس عليه‌السلام ، إذ أضاف في كتابه الأخير بعض الفصول لم تكن موجودة في كتابه الأوّل ، وغيّر بعض

١٠

عناوينه ؛ لذلك فالكتاب الأخير أكبر من الأوّل ، وبينهما عموم وخصوص مطلق.

وقد ذكر المتتبّع آقا بُزرك الطهراني هذين الكتابين مشيراً إلى عدد صفحاتهما ، فقال :

(حياة العبّاس بن علي) ، طُبع في ٢٤٠ صفحة (١).

(قمر بني هاشم) ، طُبع في ١٧٦ صفحة (٢).

وقد وقفنا على الطبعة الاُولى للكتاب الأوّل (قمر بني هاشم) الذي قامت بطبعه سنة ١٣٦٩ هـ المطبعة الحيدريّة في النّجف الأشرف ، وطبعته في قم أيضاً سنة ١٤١٤ هـ بالتصوير على الطبعة الأولى.

أمّا الكتاب الثاني فقد طُبع عدّة طبعات ، شاهدنا منها طبعة دار الأضواء في بيروت باسم (العبّاس بن علي) ، وطبعة مكتبة الشريف الرضي في قم المقدّسة ، وهي بدون تأريخ ، وباسم (العبّاس عليه‌السلام ، وهذه الطبعة هي التي اعتمدنا عليها في تحقيق ونشر هذا الكتاب.

فقد قمنا بتصحيح الكتاب قدر المستطاع ، واستخراج ما يحتاج إلى تخريج من : آيات قرآنيّة كريمة ، وأحاديث شريفة ، وأقوال العلماء المختلفة ، كلّ ذلك من المصادر الرئيسة لها ، المتوفّرة لدينا.

__________________

(١) الذريعة ٧ / ١٢١ ، ٦٤١.

(٢) الذريعة ١٧ / ١٦٧ ، ٨٨٣.

١١

شكر وتقدير :

ختاماً نتقدّم بجزيل الشكر والتقدير لكلّ الإخوة والأخوات الذين ساهموا في إخراج هذا الكتاب بحلّته القشيبة هذه ؛ ونخصّ بالذكر الأخ العزيز المُحقّق الاُستاذ الشيخ لؤي المنصوري ، الذي أخذ على عاتقه عملية الاستخراجات كاملة ، والعمّ الاُستاذ الفاضل عبد الحسين الحسّون ، وزوجته الفاضلة اُمّ علاء الحسّون ، اللذان قاما بمقابلة الكتاب وتصحيح أخطائه المطبعيّة ، والأخ محمّد الجبوري ، والأخ نجاح خازن ، والاُخت سرور الموسوي ، الذين قاموا بصفّ حروف هذا الكتاب في فترة وجيزة جدّاً ، فللّه درهم جميعاً وعليه أجرهم.

سيّدي ومولاي يا أبا الفضل ، يا حامي الحمى ، ويا باب الحوائج ، ويا ساقي العِطاشى ، إنّا قمنا بإحياء هذا الكتاب المتعلّق بك ؛ رجاءً منّا أنْ تحمينا وأهلنا من كلِّ مكروه ، وتقضي حوائجنا ، وتسقينا وتشفع لنا يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون. اللهمّ ، اجعله في ميزان أعمالنا إنّك أنت الرحمن الرحيم ، والصلاة والسّلام على نبيّنا ومقتدانا محمّد وآله الطيبين الطاهرين ، آمين ربّ العالمين.

محمّد الحسّون

يوم مولد الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام ١٤٢٧ هـ

site.aqaed.com / Mohammad

muhammad@aqaed.com

١٢

بسم اللّه الرحمن الرحيم

حمداً لك اللهمّ ، وصلاة على خاتم أنبيائك وخلفائه المعصومين ، ورضىً بقضائك وتقديرك بأوليائك الذين تحمّلوا المشاقّ في إحياء شرعك الأقدس ، فقابلوا الأخطار بكلّ طلاقة وبشاشة حتّى كرعوا حياض المَنون ، وانتهلت من دمائهم الزاكية بيض الصفاح ، وأمسوا بجوارك متلفّعين بالبرود القانية ....

فسلاماً على أرواحهم الطاهرة ، وأشلائهم المقطّعة في سبيل مرضاتك يا ربَّ العالمين.

١٣
١٤

المُقدّمة

إنّ للنسب مكانةً كبرى في شتّى النّواحي ، فليس من المستنكر دخله في تهذيب الأخلاق ، فإنّ الإنسان مهما كان مولعاً بالشهوات مستهتراً ماجناً ، إذا عرف أنّ له سلفاً مجيداً ، وأنّ من ينتمي إليهم أُناس مبجّلون ـ كما هو الشأن في جلّ البشر ، إنْ لم نقل كلّهم ـ لا يروقه أنْ يرتكب ما يشوّه سمعتهم ، وإنّما يكون جلّ مسعاه أنْ يكون خلقاً صالحاً لهم ، يجدّد ذكرياتهم ، ويخلّد ذكرهم الجميل بالتلفّع بمكارم الأخلاق.

ولقد جعل اللّه تعالى أبناء آدم عليه‌السلام شعوباً وقبائل ليتعارفوا (١) ، فتشتبك الأواصر ، وتتواصل الأرحام ، ويحمى الجوار بالتساند والمؤازرة ، ويعرفهم مَن عداهم كتلة واحدة ، فيهاب جانبهم ولا تخفر ذمَّتهم ، فيسود بذلك السّلام والوئام ؛ ومن هنا نشاهد المَردة من قوم شعيب قالوا له لما عتَوا عن أمره : (وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ) (٢).

فإذاً يكون في مشتبك الأواصر مناخُ العزّ ومأوى الهيبة ، كما

__________________

(١) (يَا أيّهَا النّاسُ إنّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). سورة الحجرات / ١٣.

(٢) سورة هود / ٩١.

١٥

قال أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما‌السلام : «وأكرم عشيرتَك ؛ فإنّهم جناحُك الذي به تطيرُ ، وأصلُكَ الذي إليه تصيرُ ، ويدُكَ التي بها تصولُ. ولا يستغني الرجلُ عن عشيرته وإنْ كان ذا مالٍ ؛ فإنّه يحتاج إلى دفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم ، وهُمْ أعظم النّاس حيطةً من ورائه ، وألمّهم لشعثه ، وأعظمهم عليه إنْ نزلت به نازلة أو حلّت به مصيبة. ومَن يقبض يده عن عشيرته ، فإنّما يقبض عنهم يداً واحدة ، وتُقبض عنه أيدٍ كثيرة» (١).

ولقد جاء في الشريعة المقدّسة أحكام منوطة بمعرفة الأنساب خاصّة أو عامّة ، كالمواريث والأخماس ، وصلة الأرحام وديّة قتل الخطأ ... إلى غيرها من فوائد النّسب التي جعلته في الغارب والسّنام من بين العلوم الفاضلة ، وأكسبته الأهمية الكبرى.

وجعلت منصّة النسّابة في المحلّ الأسمى عند الديني والاجتماعي والأخلاقي (٢). وهو أحد العلماء الذين لكلٍّ منهم اختصاص في فنٍّ من الفنون يرجع إليه في فنّه ويُستفتى ، كما يراجع

__________________

(١) نهج البلاغة ، شرح الشيخ محمّد عبده ٣ / ٥٧ ، من وصيّة له لابنه الحسن عليهما‌السلام.

(٢) ورد عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه دخل المسجد ، فإذا جماعة قد طافوا برجل ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما هذا؟».

فقيل : علاّمة. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وما العلاّمة؟».

فقالوا : أعلم النّاس بأنساب العرب ووقائعها.

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ذاك علم لا يضرُّ مَن جهله ، ولا ينفعُ مَنْ علمه».

ثمّ قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما العلم ثلاثة : آيةٌ مُحكمةٌ ، أو فريضةٌ عادلةٌ ، أو سُنّةٌ قائمةٌ ، وما خلاهنّ فهو فضلٌ».

انظر : الكافي ١ / ٣٢ ، ح ، وصول الأخيار إلى أُصول الأخبار / ٣٧ ، الفصول المهمّة في اُصول الأئمّة للعاملي / ٦٧٩.

١٦

غيره من العلماء فيما اختُصّ به من الفنون.

ولقد كان عقيل بن أبي طالب عليه‌السلام ـ على شرف أصله وقداسة منبته ومجده الهاشمي الأثيل ـ نسّابة عصره ، يعرف أنساب العرب وقبائلها ، ويميّز بين منابت المجد والخطر ، ومناخ السّوأة والخزاية ، وينوّه بواسع علمه بما تتحلّى به الفصائل والعمائر من المآثر ، وما ترتديه البطون والأفخاذ من شية العار.

فكان يُخشى ويُرجى من هاتين النّاحيتين ، ويراجع للوقوف على لوازم الكفاية عند المصاهرة ؛ تحرّياً للحصول على الدّعة في العِشرة بين الزوجين ، وكرائم الأخلاق المكتسبة من إرضاع الحرائر الكريمات ، وعروق الأخوال الأكارم. والشريعة المُطهّرة تقول في نصّها على ذلك : «اختاروا لنطفكم ؛ فإنّ الخال أحدُ الضجيعين» (١). كما حذّرت عن خلافه : «إياكم وخضراء الدِّمَنْ». وفسّره صاحب الشريعة بأنّها : «المرأة الحسناء في منبت السّوء» (٢).

فكان عقيل ـ كما وصفه الصفدي ـ أحد الذين يتحاكّم إليهم ، ويوقَف عند قولهم في علم النّسبِّ ; لكونه العليم به وبأيّام العرب. وكانت تُبسط له طنفسة تُطرح في مسجد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يُصلّي عليها ، ويجتمع إليه في معرفة الأنساب وأيّام العرب وأخبارهم مع ما له من السّرعة في الجواب ، والمراجعة في القول (٣).

__________________

(١) الكافي ٥ / ٣٣٢ ، باب اختيار الزوجة ، ح ٢.

(٢) الكافي ٥ / ٣٣٢ ، باب اختيار الزوجة ، ح ٤.

(٣) نصُّ عبارة الصفدي عن ابن عقيل هكذا : وكان عقيل أنسب قريش وأعلمهم بأيامهم ، ولكنّه كان يعدّ مساوئهم ، وكانت له طنفسة تُطرح في مسجد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يُصلّي عليها ، ويجتمع إليه في علم النّسب وأيام العرب ، وكان أسرع

١٧

ومن هنا قال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : «انظُرْ لي امرأةً قد ولدتها الفُحولةُ من العرب لأتزوّجها ؛ فتلد لي غُلاماً فارساً».

فقال له : تزوّج باُمّ البنيّن الكلابيّة ؛ فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها (١).

هكذا جاء الحديث ، ولكن لا يفوت القارئ إنّا نعتقد في حملة أعباء الإمامة ، شمول علمهم كُلَّ ما ذرأ اللّه سبحانه وبرأ ، وما جاءت به الاُمّم من فضائل ومخازٍ ، وأوصاف وعادات في كُلّ حال. وللبرهنة على هذه الدعوى مجال في غير هذا المختصر.

إذاً ، فأين يقع علم عقيل وغير عقيل من واسع علم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، المتدفّق بأحوال قبائل العرب ، وبمعرفة الشجعان منهم حتّى يحتاج إلى نظر عقيل؟!

وهل يخفى علم ذلك على مَن كان يعلمُ الذّكر والاُنثى من النّمل كما في حديث أبي ذر الغفاري : دخلت أنا وأمير المؤمنين عليه‌السلام وادياً فيه نمل كثير ، فقلت : سبحان اللّه محصيه!

فقال عليه‌السلام : «لا تقلّ ذلك ، وقل : سبحان اللّه باريه! فواللّه ، إنّي لأحصيه وأعرف الذّكر منه والاُنثى» (٢).

__________________

النّاس جواباً ، وأحضرهم مراجعة في القول ، وأبلغهم في ذلك. وكان الذين يُتحاكم إليهم ويُوقف عند قولهم في علم النّسب أربعة : عقيل بن أبي طالب ، ومخرمة بن نوفل الزهري ، وأبا جهم بن حذيفة العدوي ، وخويطب بن عبد العزّى العامري. وعقيل أكثرهم ذكراً لمثالب قريش. راجع عبارة الصفدي في الوافي بالوفيات ٢٠ / ٦٣ ، واُسد الغابة ٣ / ٤٢٣ ، والاستيعاب ٣ / ١٧٨.

(١) عمدة الطالب لابن عنبة / ٣٥٧.

(٢) مدينة المعاجز ٢ / ١٦٠.

١٨

ويقول عليه‌السلام : «إنّ شيعتنا من طينة مخزونة قبل أنْ يُخلق آدم ... لا يشذّ منها شاذٌّ ولا يدخل فيها داخل ، وإنّي لأعرفهم حين ما أنظر إليهم ... ولأعرفُ عدوِّي منْ صديقي» (١).

«وإنّهم لَمكتوبون عندنا بأسمائِهم وأسماء آبائهم ، وعشائرهم وأنسابهم» (٢).

فمَن كان هذا علمه لا يحتاج إلى تعرّف القبائل والبطون من عقيل ، مهما بلغ من العلم والمعرفة إلى ذُرَى عالية.

نعم :

وكَمْ سائلٍ عنْ أمرِهِ وهوَ عالمُ.

فإنّه جرى صلوات اللّه عليه مجرى العادة في أمثاله ، وكم لهم من ضرائب في أعمالهم عليهم‌السلام لحكمٍ ومصالح لعلّنا نُدرك بعضها ، والبعض الآخر منها مطويٌّ لديهم مع أمثالها من غوامض أسرارهم.

فهذا الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو المُسدَّد بالفيض الأقدس والإرادة الإلهيّة ، المستغني عن الاستعانة بأيّ رأيّ ، يمشي وراء العادة فيشاور أصحابه إذا أراد المضيَّ في أمر ، ولعلّ النّكتة فيه ـ مضافاً إلى ذلك ـ تعريف خطأ الاستبداد وإنْ بلغ الرجل أعلى مراتب العقل ، فكانت الصحابة تبُصر مِن أشعّةِ حِكَمِه فوائدَ الاستشارة

__________________

(١) مدينة المعاجز ٢ / ١٩٥. والنّص كالتالي : «إنّ شيعتنا من طينة مخزونة قبل أنْ يخلق اللّهُ آدمَ بألفَي عام ، لا يشذُّ منها شاذٌّ ، ولا يدخل فيها داخل ، وإنِّي لأعرفهم حينما أنظر إليهم ; لأنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا تفلَ في عينيَّ وكنتُ أرمد ، قال : اللهمّ ، اذهب عنه الحرَّ والبردَ ، وأبصر صديقه من عدوّه. فلم يُصبني رمدٌ ولا حرٌّ ولا بردٌ ، وإنّي لأعرفُ صديقي مِن عدوّي».

(٢) الاختصاص / ٢١٧.

١٩

كالاستخارة ، وتمضي على قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَن اُعجب برأيه ضلّ ، ومَن استغنى بعقلهِ زلّ» (١). و «لا يندَمُ مَن استشارَ ، ولا خابَ مَن استخارَ» (٢).

ولمّا خرج صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة طالباً عِير أبي سفيان ، بلغه في (ذفران) (٣) أنّ قريشاً خرجت على كُلّ صعب وذلول ، شاور أصحابه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما تقولونَ؟ العيرُ أحبُّ إليكُمْ أم النّفيرُ؟».

فقال بعضهم : العير. وقال (رجلان) : يا رسول اللّه ، إنّها قريش وخيلاؤها ، ما ذلّت منذُ عزّت ، وما آمنت منذُ كفرت. فساءه كلامهما ، وتغيّر وجهه ، فقام المُقداد بن الأسود الكندي ، وقال : امضِ يا رسول اللّه لِما أمرك به اللّه ونحن معك. فواللّه ، لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى بن عمران : (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (٤). ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ما دام منّا عينٌ تطرف ؛ نُقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن خلفك. فوالذي بعثك بالحقِّ ، لو سرت بنا إلى بركِ الغَمامِ (بلاد الحبشة) ، لجالدنا معك من دونه حتّى تبلغه. فضحك رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأشرق وجهُهُ وسُرّ بكلامه (٥).

__________________

(١) في تفسير القرطبي ٤ / ٢٥١ ورد هكذا : «ما ندِم مَن استشارَ ، ولا خابَ مَن استخارَ». وأمّا في مصادرنا فوردت هكذا : عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : «ما حارَ مَنْ استخارَ ، ولا ندمَ مَنْ استشارَ». وسائل الشيعة ٨ / ٢٦٥ ح ٨ ، الأمالي للطوسي / ١٣٦ ، كشف الغُمّة ٣ / ١٧٣.

(٢) نهج السّعادة ٧ / ٢٧٥ ، الفائدة السّادسة.

(٣) قال في لسان العرب ١ / ١٥٧ : ذفران : موضع عند بدر.

(٤) سورة المائدة / ٢٤.

(٥) اُسد الغابة ٤ / ٤١٠ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٤٠ ، تاريخ الإسلام للذهبي ٢ :

٢٠