الدّرر النجفيّة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢١

وروى مثله في (الكافي) (١) أيضا.

احتج العلّامة قدس‌سره في المنتهى على أن الكفار مخاطبون بفروع العبادات بوجوه ، منها (قوله سبحانه (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ) (٢) ، و (يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (٣).

ومنها أن الكفر لا يصلح للمانعية ، حيث إن الكافر متمكن من الإتيان بالإيمان أوّلا ، حتى يصير متمكنا من الفروع.

ومنها : قوله تعالى (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (٤) ، وقوله تعالى (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى) (٥) ، وقوله تعالى (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (٦)) (٧) انتهى.

والجواب عن الأول بما عرفته في الوجه السابع.

وعن الثاني بأنه مصادرة محضة ؛ [ف] قوله : (إن الكافر متمكن من الإتيان بالإيمان) على إطلاقه محل نظر ، وتفصيل ذلك أن يقال : إن بلغته الدعوة وقامت عليه الحجة ولم يؤمن ، فهو مخاطب بالإيمان ، والعقاب إنما يترتب على عدم الإيمان على تلك الفروع المتفرّعة عليه كما هو مفاد الأخبار المتقدمة ؛ فإنه إنما يكلف أولا بالإيمان ؛ فإذا آمن كلف ثانيا بالعبادات وغيرها ـ وإن لم تبلغه الدعوة ولم تقم عليه الحجّة ـ سقط البحث من أصله.

وعن الثالث بعد تسليم جواز الاستدلال بظواهر الآيات القرآنية من غير ورود تفسير لها من الأخبار المعصومية : فأما عن الآية الاولى فبالحمل على المخالفين المقرّين بالإسلام ؛ إذ لا تصريح

__________________

(١) الكافي ١ : ٤١٢ / ١ ، باب في ذكر المنافقين وإبليس في الدعوة.

(٢) آل عمران : ٩٧.

(٣) البقرة : ٢١.

(٤) المدثر : ٤٣.

(٥) القيامة : ٣١.

(٦) فصّلت : ٦ ـ ٧.

(٧) منتهى المطلب ٢ : ١٨٨ ـ ١٨٩.

٤١

فيها بذكر الكفار. ويدل عليه ما في تفسير الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي ـ طاب ثراه ـ من تفسيرها باتباع الأئمَّة عليهم‌السلام أي لم نك من أتباع الأئمّة عليهم‌السلام (١) وهو مروي عن الصادق عليه‌السلام ، وقد فسر عليه‌السلام المصلّي هنا ، بمعنى الذي يلي السابق في الحلبة قال : «فذلك الذي عنى ، حيث قال (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لم نك من أتباع السابقين» (٢).

وعن الكاظم عليه‌السلام يعني : «إنا لم نتولّ وصيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والأوصياء من بعده ولم نصلّ عليهم» (٣).

فإن قيل : إن قوله (وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٤) حكاية عن هؤلاء القائلين : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) ، يعني أنهم من الكفّار ، وبذلك أيضا صرّح أمين الإسلام الطبرسي قدس‌سره في (مجمع البيان) حيث قال بعد تفسير المصلين بالصلاة المكتوبة : (وفيه دلالة على أنّ الكفار مخاطبون بالعبادات الشرعيّة ؛ لأنه حكاية عن الكفار بدلالة قوله (وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٥)) (٦) انتهى.

وهو مناف لما ذكرتموه من حمل الآية على المخالفين المسلمين ومصادم لما أوردتموه من الأخبار أيضا.

قلنا : ما ذكره الشيخ المفسّر المشار إليه من الاستدلال بمحلّ من التأمل ، بل الاختلال (٧) ؛ لجواز حمل الآية المذكورة على المنافقين في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله المظهرين للإسلام المكذبين بوصيّه عليه‌السلام ؛ فإنهم كفار باطنا ، مكذبون بيوم الدين. ومرادنا

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤١٨.

(٢) الكافي ١ : ٤١٩ / ٣٨ ، باب فيه نكت ونتف من التنزيل ..

(٣) الكافي ١ : ٤٣٤ / ٩١ ، باب فيه نكت ونتف من التنزيل ..

(٤) المدّثّر : ٤٦.

(٥) المدّثّر : ٤٦.

(٦) مجمع البيان ١٠ : ٤٩٧.

(٧) أي بمحل من الاختلال.

٤٢

بالمخالفين فيما قدمنا : ما هو أعم من المنافقين. وحينئذ ، فتكون الآية المذكورة منطبقة على الأخبار التي هي أولى بالمراعاة والاعتبار.

وأمّا عن الآية الثانية ، فيمكن حمل التصديق على التصديق بالوحدانية ، والرسالة ، والصلاة على المعنى الذي دلّت عليه الأخبار المتقدّمة. وكيف كان فلفظ (صَلّى) باعتبار اشتراكه بين الصلاة بهذا المعنى الشرعي ، والصلاة بالمعنى اللغوي ، ومعنى التالي للسابق في الحلبة لا يصلح (١) للاستدلال ؛ لكونه من قبيل المتشابه الذي منعت منه الآية والرواية.

على أنه قد تقرّر عندهم أنه متى قام الاحتمال بطل الاستدلال.

وأمّا عن الآية الثالثة ، فما عرفت في الوجه الرابع ، والله العالم.

__________________

(١) أي لفظ (صلّى) بهذه الحال.

٤٣
٤٤

(٢١)

درّة نجفيّة

في صفات الفقيه الجامع للشرائط

روى الثقة الجليل أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي قدس‌سره في كتاب (الاحتجاج) ، بسنده فيه إلى الإمام العسكري عليه‌السلام (١) عن الإمام الرضا عليه‌السلام قال :«قال علي بن الحسين عليه‌السلام : إذا رأيتم (٢) الرجل قد حسن سمته وهديه ، وتماوت في منطقه ، وتخاضع في حركاته ، فرويدا لا يغرنكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم منها لضعف نيّته ومهانته وجبن قلبه ، فنصب الدين فخّا لها ، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره ، فإن تمكن من حرام اقتحمه.

وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام ، فرويدا لا يغرنكم ، فإن شهوات الخلق مختلفة ، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة ، فيأتي منها محرما! فإذا وجدتموه يعفّ عن ذلك ، فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا ما عقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ، ثم لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله! فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا أمع هواه يكون على عقله أو

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٣ / ٢٧.

(٢) إذا رأيتم ، سقط في «ح».

٤٥

يكون مع عقله على هواه؟ وكيف محبّته للرئاسات الباطلة وزهده فيها؟ فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة ، حتى إذا قيل : (اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (١) ، فهو يخبط خبط عشواء ويقوده أوّل باطل إلى أبعد غايات الخسارة ، ويمدّه ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه ، فهو يحل ما حرم الله ، ويحرم ما أحل الله لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد شقي (٢) من أجلها. فاولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم ، وأعدّ لهم عذابا مهينا.

ولكن الرجل كل الرجل نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعا لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضا الله ، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عزّ الأبد من العز في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ، وإن كثير ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤدي إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال.

فذلكم الرجل نعم الرجل فبه فتمسكوا ، وبسنّته فاقتدوا ، وإلى ربكم [به] فتوسلوا ؛ فإنّه لا ترد له دعوة ، ولا تخيب له طلبة» (٣).

أقول : قال شيخنا المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن الصالح البحراني ـ طيب الله تعالى مرقده بفيض جوده السبحاني ـ في كتاب (منية الممارسين في أجوبة الشيخ ياسين) ـ في الكلام على العدالة وبيان المعنى المراد منها بعد نقل هذا الخبر ما صورته ـ : (إنه محمول على تعريف الإمام والولي ومن يحذو حذوهما من خواص الصلحاء وخلّص أهل الإيمان الذين لا تسمح الأعصار منهم إلّا

__________________

(١) إشارة إلى الآية : ٢١٦ من سورة البقرة.

(٢) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : يتقي.

(٣) الاحتجاج ٢ : ١٥٩ ـ ١٦٢ / ١٩٢.

٤٦

بأفراد شاذّة ، ويرشد إليه قوله عليه‌السلام : «فذلكم الرجل نعم الرجل فبه فتمسكوا ، وبسنّته فاقتدوا» ، بل لا يبعد كون مراده : الإمام خاصّة ، ويرشد إليه قوله عليه‌السلام : في آخر الحديث : «فإنه لا تردّ له دعوة ، ولا تخيّب له طلبة» ، ويكون غرضه الردّ على الزيديّة ومن حذا حذوهم من القائلين بالاكتفاء في الإمام بظهور الصلاح والورع. كيف ، وما ذكر لا يتحقّق إلّا في الأولياء الكمّل؟ فلو اعتبر ذلك لعظم الخطب ، واختل النظام ، وانسد باب القضاء والفتيا والتقليد والشهادات والجمعة والجماعات والطلاق ، وغير ذلك. هكذا حقّقه شيخنا في الكتاب المذكور وهو متين جدا) انتهى.

وأشار بذلك إلى ما نقله في أثناء كلامه المتقدم في المسألة عن شيخه العلّامة سليمان قدس‌سرهما في كتابه (العشرة الكاملة) (١) ، ثم قال هنا أيضا : (وأقول : إن سياق الحديث دال بجملته على أن المراد به : تصعيب أمر الإمامة العامة ، وتشديد أمرها. وقرينة الرئاسة عليه شاهدة كما لا يخفى ، وإلّا فلا يستقيم حمله على غيره أصلا قطعا لما تقدم في رواية ابن أبي يعفور (٢) من المعارضة الصريحة من قوله : «يحرم من المسلمين ما وراء ذلك من عثراته .. وعيوبه ، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس». وما تقدم في رواية علقمة (٣) وغيرها مما هو صريح في المعارضة واضح في المناقضة.

ولا يجوز التعارض في كلامهم عليهم‌السلام ولا التناقض ، مع أن هذه الرواية رواية شاذّة ، فالترجيح للأكثر المشهور بين الأصحاب المتلقاة بينهم بالقبول ، المعتمد عليها في الفتوى ، وقد أجمعوا على ترك العمل بظاهر هذه الرواية ، وقد قال

__________________

(١) انظر العشرة الكاملة : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٢) الفقيه ٣ : ٢٤ ـ ٢٥ / ٦٥.

(٣) الأمالي (الصدوق) : ١٦٣ ـ ١٦٤ / ١٦٣ ، وانظر منية الممارسين : ١٣٤.

٤٧

الصادق عليه‌السلام : «خذا [ب] ما اشتهر بين أصحابك» (١). و «دع الشاذ الذي ليس بمشهور ، فإن المجمع عليه أمر لا ريب فيه» (٢)) (٣) انتهى كلامه ، زيد إكرامه.

أقول : هذا الخبر قد نقله قدس‌سره في الكتاب المذكور في جملة الأخبار الدالة على المعنى المراد من العدالة ، وأنها عبارة عنها (٤) بعد أن اختار تفسيرها بما دلّت عليه صحيحة ابن أبي يعفور ، وكذا شيخه العلّامة الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني قدس‌سرهما في كتابه (العشرة الكاملة) (٥). وحيث كان هذا الخبر بحسب ظاهره كما ترى من الدلالة على صعوبة الأمر فيها تأوّله بما ذكره ونقله عن شيخه المشار إليه في الكتاب المذكور. وهذا الكلام مبني على ما هو ظاهر المشهور ، وبه صرح شيخنا المجلسي قدس‌سره في (البحار (٦)) (٧) من أن العدالة في جميع المواضع المشترطة فيها عبارة عن أمر واحدة ، وهو إما الملكة كما هو المشهور ، أو حسن الظاهر كما هو القول الآخر ، أو الإسلام كما هو القول الثالث ، ولا تفاوت فيها بالنسبة إلى تلك المواضع.

وعلى هذا القول جرينا سابقا في بعض أجوبة المسائل التي خرجت منا ، إلّا إن الذي يظهر لي الآن ـ وعليه أعتمد وله أعتقد ـ خلاف ذلك ، وهو أن العدالة المشترطة في الفقيه النائب عنهم عليهم‌السلام ـ وهو المعبّر عنه في لسان الأصحاب بالفقيه الجامع الشرائط ـ ليست على حسب العدالة المشترطة في غيره من الشاهد والإمام ، التي هي عندنا عبارة عمّا دلّت عليه رواية ابن أبي يعفور ، وأن

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

(٢) الكافي ١ : ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث.

(٣) منية الممارسين : ٣٣٨.

(٤) في «ح» : عما ذا.

(٥) العشرة الكاملة : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٦) من «م» ، وفي «ح» الرمز : ر ، وفي «ق» : ملاذ الأخيار.

(٧) بحار الأنوار ٨٥ : ٣٢.

٤٨

هذا الخبر إنما اريد به النائب عنهم عليهم‌السلام المتصدّر (١) للجلوس في مقامهم والمتصدّي للقيام بأحكامهم.

ومخرج الخبر وإن كان في مقام التعريض بعلماء العامة المتصدّين لذلك المقام ، إلّا إنه شامل أيضا لغيرهم وعامّ. وجميع ما ذكره شيخنا المتقدم قدس‌سره هنا من عظم الخطب واختلال النظام ، ونحو ذلك من الكلام (٢) ، فلا ورود له في المقام ؛ لما ذكرنا من الاختصاص بذلك الفرد المذكور ، ولزوم صعوبة الأمر بالنسبة إلى القضاء والفتوى اللذين هما من خواص النائب المذكور لا يوجب طعنا في الخبر ؛ فإنه إنما نشأ من المكلفين بإخلالهم بما اخذ عليهم في الجلوس في هذا المجلس الشريف والمحل المنيف ، فإنه مجلس النبوّة والإمامة ، وبيت الإيالة والكرامة ، والمقام مقام خطير ، ومنصب كبير ، كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.

وكفاك في ذلك قول الأمير ـ صلوات الله عليه ـ : «يا شريح ، جلست مجلسا لا يجلسه إلّا نبي أو وصيّ نبيّ أو شقي» (٣).

فإن قلت : إن هذا الحديث غير معمول على ظاهره ، لما علم من إذنهم عليهم‌السلام لعلماء شيعتهم في القيام بهذا المقام ، وتنفيذ القضايا والأحكام.

قلنا : نعم ، الأمر كذلك ، ولكن ذلك لا يقتضي منع الحصر في الثلاثة بزيادة رابع ، بل إنما يكون بالتجوّز في إطلاق الوصيّ على النائب المشار إليه ، وكفاك فيمن يطلق عليه هذا اللفظ ولو مجازا أنه لا بدّ من معرفته بالاتّصاف بأوصاف المنوب عنه حسب القدرة والمكنة من العلم والعمل وتهذيب الباطن من رذائل الأخلاق ، والتحلي بالكمالات الموجبة لرضا الخلّاق ، فكما أنه لا بدّ في الحكم بإمامة

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) في «ح» بعدها : فهو نفخ في غير ضرام.

(٣) الكافي ٧ : ٤٠٦ / ٢ ، باب أن الحكومة إنما هي للإمام عليه‌السلام ، الفقيه ٣ : ٤ / ٨ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٣ ، ح ٢.

٤٩

الإمام عليه‌السلام الموجبة لاتّباعه والاقتداء به من معرفته بالإمامة وظهور دلائلها ، فكذا لا بدّ في نائبه من معرفته بما يوجب له صحة النيابة. ومجرد الاتصاف بالعلم خاصّة غير كاف ، بل لا بدّ من الاتصاف بعلم الأخلاق.

والسبب في استبعاد هذين العمدتين لهذا الخبر وأمثاله مع اعتضاده ـ كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى ـ بجملة أخبارهم عليهم‌السلام في هذا الباب وكلام جملة من أجلّاء الأصحاب هو عدم إعطاء التأمل حقه في الأخبار ، والوقوف على ما اشتهر بينهم وعند الناس في أكثر الأعصار من أن كل من حصّل حظا وافرا من العلوم ، وصارت له اليد الطولى في استنباط كلّ مفهوم ـ وإن كان في زماننا هذا قد تسافل الحال بل إلى الاضمحلال ، فلا تجد إلّا مجرد الدعوى ، وبسط لسان المقال (١) تصدر للحكم والفتوى وإن كان عاريا عن جملة من تلك الأخلاق التي هي السبب الأقوى ؛ بل هي العروة الوثقى في الفوز بتلك المرتبة القصوى.

وحيث إن هذا العلم ـ أعني : علم الأخلاق ـ مما قد اندرست معالمه ، وانطمست مراسمه ؛ فمن هنا نشاهد (٢) هذا الاستبعاد ، كما سيظهر لك إن شاء الله بأوضح دلالة لا يعتريها الإيراد.

ثم إنه مما يدل على ما قلنا من حمل الخبر المذكور على النائب عنهم عليهم‌السلام المتصدر للجلوس في مقامهم ما ذكره الإمام العسكري عليه‌السلام (٣) في تفسيره قبل هذا الخبر ، ثم صبّ هذا الخبر عليه. وصاحب (الاحتجاج) إنما رواه عنه حيث قال : «حدثني أبي عن جدي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبضه بقبض العلماء ، فإذا لم ينزل عالم إلى عالم يصرف عنه طلاب

__________________

(١) في «ح» : القال.

(٢) في «ح» : نشأ.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٢ ـ ٥٥ / ٢٥ ـ ٢٦.

٥٠

حطام الدنيا وحرامها ، ويمنعون الحق أهله ويجعلونه لغير أهله ، فاتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا.

وقال أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ : يا معشر شيعتنا المنتحلين مودّتنا ، إياكم وأصحاب الرأي ، فإنهم أعداء السّنن ، تفلتت (١) منهم الأحاديث أن يحفظوها ، وأعيتهم السنّة أن يعوها ، فاتخذوا عباد الله خولا وماله دولا ، فذلت لهم الرقاب ، وأطاعهم الخلق أشباه الكلاب ، ونازعوا الحق أهله ، وتمثلوا بالأئمة الصادقين ، وهم من الكفار والملاعين ، فسئلوا [عما لا يعلمون] فأنفوا أن يعترفوا بأنهم لا يعلمون ، فعارضوا الدين بآرائهم فضلوا وأضلوا. أما لو كان الدين بالقياس ، لكان باطن الرجلين أولى بالمسح من ظاهرهما.

وقال الرضا عليه‌السلام : قال علي بن الحسين عليهما‌السلام : إذا رأيتم الرجل» (٢) الحديث ، إلى آخره. وهو كما ترى صريح فيما قلناه ، ونص فيما ادّعيناه.

وها نحن نبسط لك جملة من الأخبار ، وكلام علمائنا الأبرار في بيان ما يجب أن يكون عليه النائب عنهم عليهم‌السلام من الصفات الموافقة لما دل عليه الخبر المذكور ؛ ليظهر لك ما في كلام الرادّ له والمستبعد لما دلّ عليه من البعد والقصور ، فنقول : روى شيخنا ثقة الإسلام قدس‌سره في (الكافي) بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ أنه كان يقول : «يا طالب العلم ، إن العلم ذو فضائل كثيرة ؛ فرأسه التواضع ، وعينه البراءة من الحسد ، واذنه الفهم ، ولسانه الصدق ، وحفظه الفحص ، وقلبه حسن النيّة ، وعقله معرفة الأشياء والامور ، ويده الرحمة ، ورجله زيارة

__________________

(١) في «ح» بعدها : فلتة خلاص الدابّة من المربط.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٢ ـ ٥٣ ، وقوله : «وقال الرضا عليه‌السلام ..» ليس في موضعه منه ، بل ورد فيه في أوّل الرواية ؛ حيث إن الرواية بأكملها ينقلها العسكري عن الرضا عليهما‌السلام.

٥١

العلماء ، وهمّته السلامة ، وحكمته الورع ، ومستقره النجاة ، وقائده العافية ، ومركبه الوفاء ، وسلاحه لين الكلمة ، وسيفه الرضا ، وقوسه المداراة ، وجيشه محاورة العلماء ، وماله الأدب ، وذخيرته اجتناب الذنوب ، وزاده المعروف ، وماؤه الموادعة ، ودليله الهدى ، ورفيقه محبة الأخيار» (١).

أقول : انظر إلى هذا الخبر الشريف ، وكيف جعل هذه الأخلاق الملكوتية أجزاء من العلم وآلات له وأسبابا وأعوانا ، فكيف يكتفى في الحكم بعلم العالم والرجوع إليه والاعتماد في الأحكام الإلهية عليه بدون معرفتها فيه واتصافه بها؟

قال المحقق الشارح الملّا محمد صالح قدس‌سره في شرحه على الكتاب ما صورته : (نبههم على أن العلم إذا لم يكن معه هذه الفضائل التي بها تظهر آثاره ، فهو ليس بعالم (٢) حقيقة ، ولا يعد صاحبه عالما) (٣).

إلى أن قال بعد شرح الفضائل المذكورة ما لفظه : (وهي أربعة وعشرون فضيلة من فضائل العلم ، فمن اتصف بالعلم واتصف علمه بهذه الفضائل ، فهو عالم رباني ، وعلمه نور إلهي ، متصل بنور الحقّ مشاهد لعالم التوحيد بعين اليقين. ومن لم يتّصف بالعلم أو اتّصف [به ولم يتّصف] علمه بشي‌ء من هذه الفضائل فهو جاهل ظالم لنفسه ، بعيد عن عالم الحق ، وعلمه جهل ، وظلمه يرده إلى أسفل السافلين.

وما بينهما مراتب كثيرة متفاوتة بحسب تفاوت التركيبات في القلة والكثرة ، وبحسب ذلك يتفاوت قربهم وبعدهم عن الحق ، والكل في مشيئة الله سبحانه إن شاء قربهم ورحمهم ، وإن شاء طردهم وعذبهم) (٤) انتهى ، وهو كما ترى صريح فيما ادعيناه ، واضح فيما قلناه.

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٨ / ٢ ، باب نوادر كتاب فضل العلم.

(٢) في «ح» : بعلم.

(٣) شرح الكافي ٢ : ٢٠٥.

(٤) شرح الكافي ٢ : ٢١٠.

٥٢

وروى الكليني ـ عطر الله مرقده ـ أيضا في الكتاب المذكور بسنده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام : «طلبة العلم ثلاثة ، فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم : صنف يطلبه للجهل والمراء ، وصنف يطلبه للاستطالة والختل ، وصنف يطلبه للفقه والعقل.

فصاحب الجهل والمراء مؤذ ممار متعرض للمقال (١) في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم ، قد تسربل بالخشوع ، وتخلّى من الورع. فدق الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه.

وصاحب الاستطالة والختل ذو خبّ وملق ، يستطيل على مثله من أشباهه ، ويتواضع للأغنياء من دونه ، فهو لحلوائهم هاضم ، ولدينه حاطم. فأعمى الله على هذا خبره ، وقطع من آثار العلماء أثره.

وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسهر ، قد تحنّك في برنسه ، وقام الليل في حندسه يعمل ويخشى وجلا ، داعيا مشفقا مقبلا على شانه ، عارفا بأهل زمانه ، مستوحشا من أوثق إخوانه. فشد الله من هذا أركانه ، وأعطاه يوم القيامة أمانه» (٢).

أقول : وحينئذ فإذا كانت العلماء كما ذكر عليه‌السلام على هذه الصفات ، فكيف يكتفى بمجرد ظاهر العلم وعدم استيطان أحوالهم ، وتميز الفرد الذي يجوز الاقتداء به والمتابعة له من غيره ، وهل كلام زين العابدين ـ صلوات الله عليه ـ في ذلك الخبر إلّا لاستعلام هذا الفرد (٣) المشار إليه في هذا الخبر من بين هذين الفردين المشابهين له في بادي النظر. ولا ريب أنهم لاشتراكهم في ظاهر النظر فيما ذكره عليه‌السلام من التعلم والخشوع والخضوع والحلم ونحو ذلك يدقّ الفرق ويحتاج إلى مزيد تلطف وتأمل.

__________________

(١) في «ح» : للقال.

(٢) الكافي ١ : ٣٦ / ٢ ، باب صفة العلماء.

(٣) في «ح» : الاستعلام ، بدل : لاستعلام هذا الفرد.

٥٣

وروى في الكتاب المذكور بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (١) : «يعني بالعلماء : من صدق فعله قوله ، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم» (٢).

وهذا الخبر كما ترى أوضح دلالة من أن يحتاج إلى البيان. وحينئذ ، فلا بدّ من الاطلاع على الأحوال والأفعال ، والعلم بكونها مصدّقة لما يظهر من الأقوال ، وإلّا لم يحكم بكونه عالما.

وقريب منه ما ورد عنه عليه‌السلام أنه ذكر عنده قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «النظر إلى وجه العالم عبادة» ، فقال : «هو العالم الذي إذا نظرت إليه ذكّرت الآخرة ، ومن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة» (٣).

قال المحقق الشارح المشار إليه آنفا في بيان معنى قوله عليه‌السلام : «يعني بالعلماء : من صدق فعله قوله» : (هذا التصديق من آثار العلم والخشية ولوازمهما ؛ لأن العلم إذا صار ملكة راسخة في النفس مستقرة فيها ، صارت النفس نورا إليها وضوءا ربانيا ، تنقاد لها القوة الشهوية والغضبية ، وسائر القوى الحيوانية وتنقطع عن الهوى والوساوس الشيطانية ، فترى بنورها عالم الكبرياء والجبروت (٤) والجلال والعظمة الإلهية ، فيحصل لها من مشاهدة ذلك خوف وخشية وهيبة موجبة للعمل له والجد في العبادة وغاية الخضوع وعدم الإهمال لشي‌ء من أنحاء التعظيم ، ويخاف من أن يأمر بشي‌ء ولا يعمل به ؛ لأن ذلك إثم وخيانة ونفاق ، فيكون فعله مصدّقا لقوله قطعا.

ومما ذكرنا يعلم أن العلم والتصديق المذكور ثمرة الخشية ، والخشية ثمرة

__________________

(١) فاطر : ٢٨.

(٢) الكافي ١ : ٣٦ / ٢ ، باب صفة العلماء.

(٣) الأمالي (الطوسي) : ٤٥٤ / ١٠١٥ ، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام) : ٩٢ ، بحار الأنوار ٧١ : ٧٣ / ٥٩ ، بالمعنى.

(٤) من «م».

٥٤

العلم ، فمن علم يخشاه ، ومن يخشه يعمل له ويصدّق قوله فعله.

وإن أردت زيادة توضيح ، فنقول : للعلم سواء كان عمليّا أو اعتقاديا تأثير عظيم في نفس الإنسان ؛ إذ هو نور يوجب مشاهدتها [ما] في العوالم اللاهوتية وهدايتها إلى سبيل النجاة من الطبائع الناسوتية ، وجناح يورث عروجها إلى مساكن القديسين وارتقاءها إلى منازل الروحانيين. فإذا بلغت هذه المرتبة وشاهدت عظمة الرب وجلاله وكماله بعين اليقين ، حدث لها نار الخوف والخشية واشتعلت فيها ، فينعكس شعاعها وضوؤها إلى ظاهر الإنسان لما بين الظاهر والباطن من المناسبة الموجبة لسراية أثر كل منهما إلى الآخر ، فيستضي‌ء كل عضو من أعضائه الظاهرة ، ويهتدي إلى ما خلق لأجله ، وما هو آلة لارتقائه وعروجه من الأقوال والأفعال ، ويصدّق بعض أعضائه بعضا بالتوافق والتعاون ، ويوافق ظاهره باطنه وباطنه ظاهره ، [فيفعل] (١) الحق ويقول له ويدعو إليه ويخشى منه ؛ فهو إذن عالم ربّاني ، وجسم روحاني ، ونور إلهي كامل في ذاته مكمّل لغيره) (٢) انتهى.

وأنت خبير بأن المراد بالعلم في الآية المشار إليها والخبر المذكورة فيه ـ كما ينادي به كلام الشارح المذكور ـ إنما هو علم الأخلاق العديم الآن الاتفاق (٣) لا علم البيع والسلم ، والنكاح والطلاق ، وأمثالها من العلوم الرسمية ، فإن الخشية إنما تترتب على تلك العلوم لا هذه. وبذلك يظهر لك صدق ما ادعيناه ، وقوّة ما قوّيناه ويؤيده أيضا ما ذكره الشارح في معنى قوله عليه‌السلام : «تفقهوا في الدين» (٤) : (المراد بالتفقه فيه : طلب العلوم النافعة في الآخرة الجالبة للقلب إلى حضرة القدس دائما

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : فيقول.

(٢) شرح الكافي ٢ : ٧٨ ـ ٨٠.

(٣) في «ح» : العديم الاتفاق الآن.

(٤) الكافي ١ : ٣١ / ٦ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه.

٥٥

بحيث يعدّ الطالب عرفا من جملة طلبتها ، ومشتغلا بها. وتلك العلوم هي المعدة لسلوك سبيل الحقّ ، والوصول إلى الغاية من الكمال ، كالعلوم الإلهية ، والأحكام النبوية ، وعلم الأخلاق وأحوال المعاد ومقدماتها) (١) انتهى.

قال الإمام الغزالي في العلم المتعلق بأحوال القلب : (هو فرض [عين] في فتوى علماء الآخرة ، والمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة ، كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين (٢) الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا. فنظر الفقهاء في فروض العين بالإضافة إلى صلاح الدنيا ، وهذا بالإضافة إلى صلاح الآخرة. ولو سئل فقيه عن معنى الإخلاص والتوكل وعن وجه الاحتراز عن الرياء مثلا ، لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه في الآخرة. ولو سئل عن الظهار واللعان والسبق والرمي (٣) مثلا ، لسرد مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شي‌ء منها ، فلا يزال يتعب فيه ليلا ونهارا في حفظه ودرسه ، ويغفل عما هو مهم في نفسه في الدين ، ويزعم أنه مشتغل بعلم الدين ويلبس (٤) على نفسه وعلى غيره.

والفطن يعلم [أنه لو كان] (٥) غرضه أداء الحق في فرض الكفاية (٦) ، لقدم فرض العين ، بل غرضه تيسّر الوصول به إلى توليته الأوقاف والوصايا ، وحيازة أموال الأيتام ، وتقلد القضاء والحكومة ، والتقدم على الأقران ، والغلبة على الخصوم.

هيهات قد اندرس علم الدين بتلبيس علماء السوء ، وإليه المستعان وإليه اللياذ

__________________

(١) شرح الكافي ٢ : ١٦.

(٢) بسيف سلاطين ، من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : بسلاطين.

(٣) في «ح» : الرماية.

(٤) في «ح» : يلتبس.

(٥) من الإحياء ، وفي «ح» أن ، وفي «ق» وشرح المازندراني : أن ليس.

(٦) في النسختين بعدها : وإلّا.

٥٦

في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ، ويضحك الشيطان) (١) انتهى.

قال الفاضل الشارح المتقدم ذكره بعد نقله هذا الكلام عنه : أقول : لقد (٢) أفرط في ذم الفقهاء وكأنه ابتلي بالفقهاء الموصوفين بالصفات المذكورة أو أخبر عن حال من ينسب نفسه إلى الفقه في عصرنا هذا ، حيث يجعل ما التقطه من كتب العلماء ذريعة إلى التوسل بالسلاطين والتقرب إلى السفهاء وإخوان الشياطين وليس هو أوّل من ذمّهم بذلك ؛ لأن ذم علماء السوء متواتر من طرق أهل العصمة عليهم‌السلام ، وليس غرضه ذم الفقهاء على الإطلاق ؛ إذ الفقيه العالم بالدين العامل الزكي الأخلاق الورع الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من ورثة النبيّين ومعدود من الصديقين ، وهو في الآخرة من المقرّبين) (٣) انتهى.

وروى الكليني قدس‌سره أيضا في الكتاب المتقدم بسنده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه ، فليتبوّأ مقعده من النار ، وإن الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها» (٤).

قال الشارح المتقدم ذكره في معنى قوله عليه‌السلام : «إن الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها» ما هذا لفظه : (وهم الفائزون بالنفوس القدسية ، والعالمون بالقوانين الشرعية ، والعاملون بالسياسات المدنية ، والمتصفون بالملكات العدلية ، والآخذون بزمام نفوسهم وقواها [في] (٥) سبيل الحق على نحو ما تقتضيه البراهين الصحيحة العقلية والنقلية.

وبالجملة ، إنما تصلح الرئاسة لمن يكون حكيما عليما شجاعا عفيفا سخيا

__________________

(١) إحياء علوم الدين ١ : ٢١ ، باختلاف ، عنه بنصّه في شرح الكافي ٢ : ١٤ ـ ١٥.

(٢) في «ح» : قد.

(٣) شرح الكافي ٢ : ١٥.

(٤) الكافي ١ : ٤٧ / ٦ ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به.

(٥) من المصدر ، وفي النسختين : على.

٥٧

عادلا فهيما ذكيّا ثابتا (١) ساكنا متواضعا ، رقيقا رفيقا ، حبيبا سليما ، صبورا شكورا قنوعا ورعا وقورا ، عفوّا مؤثرا مسامحا ، صديقا وفيّا شفيقا مكافئا متودّدا ، متوكلا عابدا زاهدا موقنا ، محسنا بارا قابضا ، لجميع أسباب الاتصال بالحق ، مجتنبا عن جميع أسباب الانقطاع عنه. فمن اتصف بهذه الفضائل وانقطع عن أضدادها من الرذائل وقعت الألفة بين عقله ونفسه وقواه ، فيصير كل ما فيه نورا إلهيا ، ويحصل لاجتماع هذه الأنوار هيئة نورانية يشاهد بها ما في عالم [الملك و] الملكوت ، وينتظم بها نظام أحواله ، ويستحق الخلافة الإلهية ، والرئاسة البشرية في عباده وبلاده ، ووجب عليهم الرجوع إليه في امور الدين والدنيا ، وأخذ العلوم منه والتسليم لأمره ونهيه والاتّباع لقوله وفعله. ومن لم يبلغ هذه الدرجة ولم ينزل في هذه المنزلة والمرتبة وتقلد (٢) الرئاسة ، فهو من الجبت والطاغوت) (٣) انتهى.

أقول : انظر أيدك الله تعالى إلى ما في هذا الكلام من الصراحة فيما ادعيناه في المقام ، وما يشترط في ذلك النائب عن الإمام عليه‌السلام ممّا لا يكاد يوجد إلّا في نوادر الأيام. وروي في (الكافي) أيضا في باب مجالسة العلماء وصحبتهم بسنده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال الحواريون : يا روح الله ، من نجالس؟

قال : من تذكّركم الله رؤيته ، ويزيد في علمكم منطقه ، ويرغبكم في الآخرة عمله» (٤).

قال الشارح المتقدم ذكره في شرح الفقرة الاولى : «يذكركم الله رؤيته» : (لصفاء ذاته ، وضياء صفاته ، وحياء وجهه ، وسيماء جبهته ، ولواء زهادته ، وبهاء عبادته).

وقال في شرح قوله : «ويزيد في علمكم منطقه» : (أي كلامه ونطقه في العلوم

__________________

(١) في «ح» بعدها : متوكلا.

(٢) في «ح» بعدها : أمر.

(٣) شرح الكافي ٢ : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٤) الكافي ١ : ٣٩ / ٣.

٥٨

الحقيقية والمعارف الإلهية والأحكام الشرعية والآداب النفسية والأخلاق القلبية وسائر الكمالات البشرية).

وقال في شرح قوله : «ويرغبكم في الآخرة عمله» : (الدال على إقباله إلى الامور الاخروية ، وإعراضه عن الشواغل الدنيوية ؛ فإن رؤية الأعمال الصالحة والأفعال الفاضلة والعبادات الكاملة تؤثر في نفس الرائي تأثيرا عظيما ، حتى ينفض عنها غبار الشهوات ، وينقض منها خمار الغفلات ، ويبعثها على الأعمال الموجبة للارتقاء على معارج القدس والارتواء بزلال الانس. فقد ذكر لمن ينبغي مجالسته ثلاثة أوصاف هي أمهات جميع الصفات المرضية ؛ إذ هي مشتملة عليها كاشتمال المجمل على المفصّل. وفيه إشعار بأن من لم يكن فيه هذه الصفات أو كان فيه أضدادها لا ينبغي المجالسة معه ، بل الفرار والاعتزال عنه لازم. فإن مجالسته تميت القلب وتفسد الدين ، وتورث النفس ملكات مهلكة ومؤدية إلى الخسران المبين) (١) انتهى.

وقال قدس‌سره أيضا ـ في شرح قوله عليه‌السلام : «العلماء امناء» ـ : (الأمين هو المعتمد عليه ، الموثوق به فيما فوض أمره إليه (٢). والعلماء امناء الله في بلاده وعباده ، وكتابه ودينه ، وحلاله وحرامه ، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه ، وعامّه وخاصّه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومجمله ومفصله ، ومطلقه ومقيّدة ، وعبره وأمثاله ؛ لكونهم حملة لكتابه وخزنة لأسراره وحفظة لأحكامه ، منحهم الله تعالى ذلك ، وأعطاهم هذه المنزلة الشريفة التي هي الخلافة العظمى والرئاسة الكبرى ، ليجذبوا العقول الناقصة من تيه الضلال إلى جناب حضرته ، ويخلصوا الخلائق عما التفتوا إليه من اتّباع الشهوات الباطلة واقتناء اللذات الزائلة ، ويبعثوهم على أداء ما خلقوا لأجله).

__________________

(١) شرح الكافي ٢ : ١١٦ ـ ١١٧.

(٢) في «ح» : إليه أمره.

٥٩

إلى أن قال : (فمن حصل له صور المعقولات الكلية ، وملكة الاقتدار بها على الإدراكات الجزئية ، وجعلها وسيلة لاكتساب الزخارف الدنية الدنياوية بالتسويلات النفسانية والتدليسات الشيطانية ، ولم يتصف بفضيلة الديانة والأمانة ، وعزل نفسه عن السلطنة (١) والخلافة وترك تعليم الناس وإخراجهم من الضلالة والجهالة ، فهو ليس بعالم بالشريعة في الحقيقة ، بل هو عالم خائن مفتون ، والجاهل خير منه) (٢) انتهى.

وبالجملة ، فإنه لما كان علم الأخلاق وتحلية النفس بالفضائل وتخليتها من الرذائل أحد أفراد العلوم ، بل هو أصلها وأساسها الذي عليه مدارها ، وبه قرارها ـ وقد عرفت من الأخبار أن من جملة العلماء من هو خال من تلك العلوم ، أو متّصف بأضدادها مع تلبسه بلباس العلماء الأبرار ، وإظهاره الخشوع والخضوع (٣) ، والزهد والانكسار ، وقد تضمنت الأخبار الحث والتأكيد على المنع من الركون إلى هؤلاء ، والانخداع بما يظهرونه والاغترار ـ فالواجب حينئذ هو الفحص والبحث والتفتيش عن أحوال العلماء ، والتمييز بين الفسقة منهم والأبرار ، كما نص عليه الخبر المشار إليه وغيره في هذا المضمار.

وأيضا فإنه لا تحقق لنيابة هذا العالم وصحة تقليده ومتابعته إلّا بوجود شروطها ، ومن جملتها العلم باتّصافه تلك الصفات الجليلة ، وتخلّيه عن كل منقصة ورذيلة كما عرفته من الأخبار ، والأخبار التي دلّت على الاكتفاء في العدالة بحسن الظاهر كما هو الأظهر ، أو الإسلام كما هو القول الآخر موردها الشهادة والإمامة ، ولا دلالة في شي‌ء منها على التعرض للنائب عنهم عليهم‌السلام. كما لا

__________________

(١) في «ح» : السلطة.

(٢) شرح الكافي ٢ : ٣٦ ـ ٣٧.

(٣) في «ح» : الخضوع والخشوع ، بدل : الخشوع والخضوع.

٦٠