الدّرر النجفيّة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢١

ومشتق من لوامع تلك البروق الصمدانية. ولذا ورد في الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا علي ، ما عرف الله إلّا أنا وأنت ، ولا عرفني إلّا الله وأنت ، ولا عرفك إلّا الله وأنا» (١) ، وهذه المعرفة جارية (٢) فيهما وفي أبنائهما المعصومين ، صلوات الله عليهم أجمعين.

وحينئذ ، فلا مطمع للوقوف على كنه حقائقهم [و] ذواتهم (٣) المقدّسة كسائر الأنام ، وقياسهم على غيرهم من البشر في أمثال هذه الأحكام. ومن نظر إلى عباداتهم وأذكارهم وتسبيحهم في عالم الأرواح ، علم أنه لا مساح له عما ذكرنا ولا براح.

الثاني : أنه كيف يمكن القول بهذا الخبر على إطلاقه ، وهو يستلزم التناقض الذي نبه عليه شيخنا المفيد ، وسيدنا المرتضى ـ رضي‌الله‌عنهما ـ من رؤية المحقّ والمبطل ، والمؤمن والكافر له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإخبار كل منهم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بما يوافق اعتقاده؟

والجواب عن ذلك أنه لا بدّ من تخصيص الخبر المذكور برؤيا المؤمن خاصة لما عرفت آنفا من اشتراط صحة الرؤيا غالبا بالإيمان والصلاح والتقوى ، وإن فرضنا صدق رؤيا غيره فهو نادر ، فيحمل الخبر على ما هو الأكثر الغالب. ومثل هذا الحمل غير عزيز في الأخبار كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار.

قال القرطبي من علماء المخالفين في شرح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة» : (الرؤيا لا تكون جزءا من النبوة إلّا إذا وقعت من مسلم صالح صادق ؛ لأنّه الذي يناسب حاله حال النبي ، وكفى بالرؤيا شرفا أنها نوع ممّا أكرمت به الأنبياء ، وهو الاطلاع على شي‌ء من علم الغيب ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لم

__________________

(١) مشارق أنوار اليقين : ١١٢ ، وفيه : ما عرفك إلّا الله وأنا ، وما عرفني إلّا الله وأنت ، وما عرف الله إلّا أنا وأنت.

(٢) من «ح».

(٣) في «ح» : حقائق ذواتهم ، بدل : حقائقهم وذواتهم.

٢٨١

تبق من مبشرات النبوة إلّا (١) الرؤيا الصادقة يراها الرجل المسلم».

وأما الكافر والكاذب والمخلط وإن صدقت رؤياهم في بعض الأحيان ، فلأنها (٢) لا تكون من الوحي ولا من النبوة ؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره نبوة ، بدليل الكاهن والمنجم ، فإن أحدهم قد يحدث ويصدق ، لكن على الندرة. وكذلك الكافر قد تصدق رؤياه ، كرؤيا العزيز سبع بقرات (٣) ، ورؤيا الفتيين في السجن (٤). ولكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلّطة الفاسدة) (٥) انتهى.

وأما ما ذكره شيخنا المفيد قدس‌سره من التقسيم ، فظني أن شكله عقيم ؛ إذ لا مانع من أن يتصور إبليس بصورته صلى‌الله‌عليه‌وآله في حال الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية. وقوله : (لأن الشيطان لا يتشبه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في شي‌ء من الحق والطاعات) مجرد دعوى ؛ فإنه إذا جوّز تصوره بصورته في إحدى الحالين جاز في الحالة الاولى ، والتلبس بالطاعة وعدمها لا يصلح للفرق ، ولا سيما بناء على ما ذكره من أن رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما هي عبارة عن معان تصوّرت في نفس الرائي يخيّل إليه منها أنه رآه.

المقام الثالث : في حجّية قول المعصوم في المنام

في أنه هل يكون ما يراه الرائي ويسمعه من فعله عليه‌السلام وقوله حجة في الأحكام الشرعية أم لا؟ لم أقف لأحد في ذلك على كلام إلّا لشيخنا العلّامة ـ أجزل الله تعالى إكرامه ـ في أجوبة مسائل السيد السعيد مهنا بن سنان المدني رحمه‌الله حيث قال : (ما يقول سيدنا فيمن رأى في منامه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو بعض الأئمّة عليهم‌السلام ، وهو

__________________

(١) في «ق» بعدها : ان ، وما اثبتناه وفق «ح» والمصدر.

(٢) في «ح» : فإنها.

(٣) إشارة إلى الآية : ٤٣ من سورة يوسف.

(٤) إشارة إلى الآية : ٣٦ من سورة يوسف.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ٩ : ١٢٤ ـ ١٢٥ ، عنه في شرح الكافي (المازندراني) ١١ : ٤٤٥.

٢٨٢

يأمره بشي‌ء أو ينهاه عن شي‌ء؟ هل يجب عليه امتثال ما أمر به أو اجتناب ما نهاه عنه أم لا يجب ذلك مع ما صح عن سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «من رآني في منامه فقد رآني (١) ، فإن الشيطان لم يتمثل بي» ، وغير ذلك من الأحاديث (٢)؟

وما قولكم ، لو كان ما أمر به أو نهى عنه على خلاف ما في أيدي الناس من ظاهر الشريعة ، هل بين الحالين فرق أم لا؟ أفتنا في ذلك مبيّنا ، جعل الله كل صعب عليك هيّنا).

فأجاب ـ نوّر الله مرقده ، وأعلى الله مقعده ـ : (أما ما يخالف الظاهر فلا ينبغي المصير إليه ، وأما ما يوافق الظاهر فالأولى المتابعة من غير وجوب ؛ لأن رؤيته عليه‌السلام لا تعطي وجوب الاتباع في المنام) (٣) انتهى.

أقول : لا يخفى ما في كلام السائل والمسؤول من التأييد لما قدمناه ، من كون رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله في المقام رؤية حقيقة ، لا أنها عبارة عن مجرّد حصول الصورة في الحس المشترك الذي هو عبارة عن مجرد تخيّله وتصوره ؛ إذ مجرد التخيّل والتصوّر لا يصح أن يترتب عليه حكم شرعي لا وجوبا ولا استحبابا.

وحاصل جواب العلّامة قدس‌سره أنه وإن كان قد رآه في المنام إلّا إنه لم يقم دليل على وجوب الاتباع في الرؤية النومية. وهو جيد :

أما أولا ، فلأن الأدلة الدالة على وجوب متابعتهم وأخذ الأحكام عنهم ـ صلوات الله عليهم ـ إنما تحمل على ما هو المعروف المتكرر دائما ؛ لما حققناه في غير موضع من زبرنا ومصنفاتنا من أن الأحكام المودعة في الأخبار إنما تحمل على الأفراد المتكررة الكثيرة الدوران ، فإنها هي التي ينصرف إليها

__________________

(١) فقد رآني ، من «ح» والمصدر.

(٢) انظر في هذا الحديث وغيره بحار الأنوار ٥٨ : ٢٣٤ ـ ٢٤٤.

(٣) أجوبة المسائل المهنائية : ٩٧ ـ ٩٨ / المسألة : ١٥٩.

٢٨٣

الإطلاق دون الفروض النادرة الوقوع. ولا ريب أن الشائع الذائع المتكرر إنّما هو أخذ الأحكام منهم حال اليقظة.

وأما ثانيا ، فإن الرؤيا وإن كانت صادقة فإنها قد تحتاج إلى تأويل وتعبير ، وهو لا يعرفه ، فالحكم بوجوب العمل بها والحال كذلك مشكل.

وأما ثالثا ، فلأن الأحكام الشرعية إنما بنيت على العلوم الظاهرة ، لا على العلم بأي وجه اتفق ، ألا ترى أنهم عليهم‌السلام إنما يحكمون في الدعاوى بالبينات والأيمان وربما عرفوا المحقّ من المبطل واقعا ، وربما عرفوا كفر المنافقين وفسق الفاسقين ونجاسة بعض الأشياء بعلومهم المختصة بهم؟ إلّا إن الظاهر أنهم ليسوا مأمورين بالعمل بتلك العلوم في أحكام الشريعة ، بل إنما يعملون على ظاهر علوم الشريعة ، وقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنا نحكم بالظاهر ، والله المتولّي للسرائر» (١).

وأما رابعا ، فلما ورد بأسانيد متعدّدة عن الصادق عليه‌السلام ، في أحاديث الأذان : «إنّ الله تبارك وتعالى أعزّ من أن يرى في النوم» (٢).

المقام الرابع : في معنى أن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوّة

قد تضمّن الخبر المذكور أن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة ، وقد ورد هذا المضمون في جملة من أخبار الخاصّة والعامّة ففي (الكافي) عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «رأى المؤمن ، ورؤياه في آخر الزمان جزء من سبعين جزءا من (٣) النبوة» (٤).

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٣ : ٤٨٦ ، الإحكام في اصول الأحكام ١ : ٢٣٨ / المسألة : ٢٥ ، ٢ : ٣٤٤ / المسألة : ٨ ، ٤ : ٣١٨ / المسألة : ٥٣.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٥ / ب ١ ، ح ١ ، بحار الأنوار ٧٩ : ٢٣٧ / ١.

(٣) في المصدر بعدها : أجزاء.

(٤) الكافي ٨ : ٧٦ / ٥٨.

٢٨٤

وفي كتاب (المؤمن) للحسين بن سعيد بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «[إنّ المؤمن رؤياه] (١) جزء من سبعين جزءا من النبوة ، ومنهم من يعطى على الثلاث» (٢).

قال بعض مشايخنا ـ عطر الله مراقدهم ـ : (إن معنى قوله : «ومنهم من يعطى على الثلاث» أن بعض الكمّل من المؤمنين يكون رأيه ورؤياه ثلاثة من أجزاء النبوة) (٣) انتهى.

وفي كتاب (جامع الأخبار) عنه عليه‌السلام : «ولقد حدّثني أبي عن جدي عن أبيه عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من رآني في منامه فقد رآني ؛ فإنّ الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ولا في صورة أحد من شيعتهم. وإنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة» (٤).

وأكثر أخبار العامة دلّت على أنّها جزء من ستة وأربعين جزءا (٥).

والكلام هنا في موضعين :

أحدهما : في معنى كون الرؤيا الصادقة جزءا من أجزاء النبوة ، فقيل : (إن المراد : الإشارة إلى أن الرؤيا الصادقة من المؤمن الصالح في الصدق والصحة كالنبوة (٦) ؛ لما فيها من الإعلام الذي هو على معنى النبوة على أحد الوجهين. وقد قال كثير من الأفاضل : إن للرؤية الصادقة ملكا وكّل بها ، يرى الرائي من ذلك ما فيه من تنبيه على ما يكون له ، أو يقدّر عليه من خير أو شر.

وهذا معنى النبوة ؛ لأن النبي إما (فعيل) بمعنى مفعول ، أي يعلمه الله ويطلعه في

__________________

(١) من المصدر : وفي «ح» : رأى المؤمن.

(٢) المؤمن : ٣٥ / ٧١.

(٣) بحار الأنوار ٥٨ : ١٩١.

(٤) جامع الأخبار : ٤٩٠ / ١٣٦٦.

(٥) صحيح البخاري ٦ : ٥٦٢ ـ ٢٥٦٤ / ٦٥٨٢ ، ٦٥٨٦ ـ ٦٥٨٨ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٢٨٢ / ٣٨٩٣ ـ ٣٨٩٤.

(٦) كذا في النسختين ، وفي المصدر ، جزء من أجزاء النبوّة ، بدل : في الصدق والصحّة كالنبوّة.

٢٨٥

منامه من غيبه ما لا يظهر عليه أحدا إلّا من ارتضى من رسول ؛ أو بمعنى فاعل كـ (عليم) ، أي يعلم غيره بما القي عليه. وهذا أيضا صورة صاحب الرؤيا) (١). وقد تقدم من كلام القرطبي في المقام الثاني ما يؤيد ذلك.

وقيل : (المراد أنّها جزء من أجزاء علم النبوة ، وعلم النبوة باق وإن كانت النبوة غير باقية) (٢).

وقيل : (إنما كانت جزءا من النبوة في حق الأنبياء دون غيرهم) (٣).

قال ابن الأثير في (النهاية) : (الجزء : القطعة والنصيب من الشي‌ء ومنه الحديث : «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» ، وإنّما خصّ هذا العدد ؛ لأن عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله في أكثر الروايات الصحيحة كان ثلاثا وستين سنة ، وكانت مدة نبوته منها ثلاثا وعشرين سنة ، لأنه بعث عند استيفاء الأربعين.

وكان في أوّل الأمر يرى الوحي في المنام ودام كذلك نصف سنة ، ثم رأى الملك في اليقظة ، فإذا نسبت مدّة الوحي في النوم وهي نصف سنة إلى مدة نبوته وهي ثلاث وعشرون سنة كانت نصف جزء من ثلاثة وعشرين جزء ، وذلك جزء واحد من ستة وأربعين جزءا) (٤) انتهى.

وظاهر كلامه ـ كما ترى ـ حمل الخبر على المعنى الأخير ، ولكن قد أورد عليه أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يوحى إليه في سائر أيّام حياته في النوم في أحكام الشريعة ، وأنه يرى الرؤيا كما دلّت عليه الآيات من قوله عزوجل (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ) (٥) ، وقوله عزوجل (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ) (٦).

__________________

(١) شرح الكافي (المازندراني) ١١ : ٤٤٥.

(٢) انظر مرآة العقول ٢٥ : ٢٠٤.

(٣) شرح السنة ٧ : ١٤٨.

(٤) النهاية في غريب الحديث والأثر ١ : ٢٦٥ ـ جزأ.

(٥) الفتح : ٢٧.

(٦) الإسراء : ٦٠.

٢٨٦

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم يوم احد : «رأيت في سيفي ثلمة ، ورأيت كأني مردف كبشا» (١) ، فتأول ثلمة السيف أنه يصاب في أصحابه ، وأنه يقتل كبش القوم. ومتى اضيفت هذه الروايات إلى ما ذكره بطلت القسمة وسقط الحساب الذي (٢) ذكره (٣).

وبالجملة ، فالظاهر حمل الخبر على أحد المعنيين اللذين ذكرناهما أولا لا غير.

وثانيهما : في بيان السبب لهذه النسبة المخصوصة ـ أعني : كونها جزءا من سبعين جزءا ـ فقيل : يحتمل أن تكون هذه التجزئة من طريق الوحي ، وأن (٤) منه ما سمع من الله تعالى بدون واسطة ، كما قال الله تعالى (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) (٥) ، ومنه ما سمع بواسطة الملك ، ومنه ما يلقى في القلب ، كما قال تعالى (إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوحى) (٦) أي إلهام ، ومنه ما يأتي به الملك وهو (٧) على صورته ، ومنه ما يأتيه به وهو على صورة آدمي ، ومنه ما يأتيه في منامه بحقيقته ، ومنه ما يأتيه تمثال أحيانا يسمع الصوت ويرى الضوء ، ومنه ما يأتيه كصلصلة الجرس ، ومنه ما يلقيه روح القدس في روعه ، إلى غير ذلك ممّا وقفنا عليه ومما لم نقف عليه.

ويكون مجموع الطرق سبعين ، ولا يلزم أن نبيّن تلك الأجزاء كملا ؛ لأنه لا يلزم العلماء أن يعلموا كلّ شي‌ء جملة وتفصيلا ، وقد جعل الله سبحانه لهم في ذلك حدا يوقف عنده ؛ فمنها ما لا يعلم أصلا ، ومنها ما يعلم جملة ولا يعلم تفصيلا ـ وهذا منه ـ ومنها ما يعلم جملة وتفصيلا ، لا سيما فيما طريقه السمع وبيّنه الشارع.

__________________

(١) كنز العمّال ١٥ : ٣٨٠ / ٤١٤٦٧ ، وفيه : رأيت كأني مردف كبشا ، وكأن ظبة سيفي انكسرت.

(٢) ليست في «ح».

(٣) شطب عنها في «ح».

(٤) في «ح» : فان.

(٥) الأحزاب : ٥٣ ، الشورى : ٥١.

(٦) النجم : ٤.

(٧) من «ح».

٢٨٧

وقيل : (مجموع خصال النبوة سبعون وإن لم يعلمها تفصيلا ومنها الرؤيا ، والمنام الصادق من المؤمن خصلة واحدة لها هذه النسبة مع تلك الخصال) (١).

أقول : ولا يبعد عندي أن يكون ذكر السبعين إنما خرج مخرج التمثيل ، كما قيل في قوله سبحانه (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٢) ، وكذا قيل في قوله تعالى (ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) (٣) ، أي طويلة. وحينئذ ، فلا ضرورة إلى هذه التكلفات ، والله العالم.

المقام الخامس : في أنه هل تكون رؤيا المعصوم شيطانية؟

قد روى الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره في تفسير قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) (٤) ـ الآية ـ عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان سبب نزول هذه الآية أن فاطمة عليها‌السلام رأت في منامها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله همّ أن يخرج هو وفاطمة وعلي والحسن والحسين ـ صلوات الله عليهم ـ من المدينة ، فخرجوا حتى جاوزوا من حيطان المدينة ، فعرض لهم طريقان ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات اليمين حتى انتهى إلى موضع فيه نخل وماء ، فاشترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شاة [كبراء] وهي التي في أحد اذنيها نقط بيض ، فأمر بذبحها ، فلما أكلوا ماتوا في [مكانهم] (٥) منامهم ، فانتبهت فاطمة عليها‌السلام باكية ذعرة ، فلم تخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك.

فلما أصبحت جاء (٦) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحمار ، فأركب عليه فاطمة عليها‌السلام ، وأمر أن يخرج أمير المؤمنين عليه‌السلام والحسن والحسين عليهما‌السلام من المدينة كما رأت فاطمة عليها‌السلام في نومها ، فلما خرجوا من حيطان المدينة عرض لهم طريقان فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات اليمين

__________________

(١) شرح الكافي (المازندراني) ١١ : ٤٤٦.

(٢) التوبة : ٨٠.

(٣) الحاقة : ٣٢.

(٤) المجادلة : ١٠.

(٥) من المصدر ، وفي النسختين : منامهم.

(٦) ليست في «ح».

٢٨٨

كما رأت فاطمة عليها‌السلام ، حتى انتهوا إلى موضع فيه نخل وماء ، فاشترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شاة كما رأت فاطمة عليها‌السلام فأمر بذبحها فذبحت وشويت ، فلمّا أرادوا أكلها قامت فاطمة وتنحت ناحية منهم ، تبكي مخافة أن يموتوا ، فطلبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى وقع عليها وهي تبكي ، فقال : ما شأنك يا بنية؟ قالت : يا رسول الله ، رأيت البارحة كذا وكذا في نومي وقد فعلت أنت كما رأيته ، فتنحيت عنكم لئلا أراكم تموتون.

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلى ركعتين ، ثم ناجى ربه ، فنزل عليه جبرئيل فقال : يا محمد هذا شيطان يقال له الزها ، وهو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا ، ويؤذي (١) المؤمنين في نومهم بما يغتمون به.

فأمر جبرئيل عليه‌السلام فجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال له : أنت الذي أريت فاطمة هذه الرؤيا؟ فقال : نعم يا محمد. فبزق عليه ثلاث بزقات ، فشجّه في ثلاثة مواضع.

ثم قال جبرئيل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا محمد (٢) إذا رأيت في منامك شيئا تكرهه ، أو رأى أحد من المؤمنين ، فليقل : أعوذ بما عاذت به ملائكة الله المقربون وأنبياء الله المرسلون وعباده الصالحون من شر ما رأيت من رؤياي. ويقرأ الحمد والمعوذتين ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٣) ؛ ويتفل عن يساره ثلاث تفلات ، فإنه لا يضره ما رأى ، فأنزل الله على رسوله (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) الآية» (٤).

ووجه الإشكال في هذا الخبر من وجهين :

أحدهما : ما يدل عليه بظاهره من تمثل الشيطان بصورهم عليهم‌السلام ، لتصريح الخبر بأن الشيطان المذكور هو الذي أرى فاطمة عليها‌السلام هذه الرؤيا. وقد دل الخبر المذكور وغيره على أن الشيطان لا يتمثّل بصورة أحدهم ، بل ولا أحد من شيعتهم كما عرفت.

__________________

(١) كذا في المصدر ، والظاهر أنها : يري.

(٢) قوله عليه‌السلام : يا محمد ، ليس في «ح».

(٣) الإخلاص : ١.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

٢٨٩

وثانيهما : كون رؤيا المعصوم شيطانيا ، وتسلط الشيطان عليه في المنام ، وهو مناف لشرف (١) عصمتهم ـ صلوات الله عليهم ـ وقد وقفت على كلام لبعض مشايخنا المتأخّرين يتضمن الجواب عن الإشكال الثاني ، قال قدس‌سره بعد نقل الخبر المذكور : (وتعرض الشيطان لفاطمة عليها‌السلام ، وكون منامها المضاهي للوحي شيطانيا وإن كان بعيدا ، ولكن باعتبار عدم بقاء الشبهة وزوالها سريعا ، وترتب المعجز من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك ، والمنفعة المستمرة للامة ببركتها يقل الاستبعاد. والحديث مشهور متكرر في الاصول) (٢) انتهى.

وأما الإشكال الأول فلم أقف على كلام لأحد يتضمن ذكره فضلا عن الجواب عنه ، ويخطر بالبال الفاتر والخيال القاصر أحد وجهين :

الأول : أنه لعل ما دلّت عليه الأخبار المتقدمة من أن الشيطان لا يتصور في صورة أحد منهم عليهم‌السلام ، إنما وقع بعد هذه القضية ، إلّا إنه لا يخلو من بعد.

الثاني : أن يخص تعرض الشيطان لها عليها‌السلام في المنام بإراءته لها أنهم قد ماتوا بعد الأكل ، وإلّا فجميع ما رأته كان حقّا وصدقا ، والذي تخلف منه إنما هو رؤيتها لموتهم بعد الأكل.

وحينئذ ، فيحمل قولهم في الخبر إن الشيطان أراها عليها‌السلام هذه الرؤيا على هذا القدر منها. وباب التجوز واسع كما لا يخفى ، وظني قرب هذا الجواب ، وأنه لا يعدل عنه في الباب ، والله العالم.

__________________

(١) في «ح» : بشرف.

(٢) بحار الأنوار ٥٨ : ١٨٨ / ٥٣.

٢٩٠

(٣٥)

درّة نجفيّة

حكم محاذاة ضريح المعصوم عليه‌السلام في الصلاة

قد اشتهر في هذه الأيام ـ لاندراس العلم وشيوع الجهل بين الأنام ـ المنع من الصلاة بجنب الشبكة التي تحاذي رأس مولانا الحسين عليه‌السلام بحيث يكون المصلّي مسندا ظهره إلى الجدار ، وحكم جماعة ممن يدعي أنه من أهل العلم من أهل البلاد ببطلان الصلاة في الموضع المذكور ؛ بدعوى أنه يلزم من ذلك مساواة القبر الشريف ، ومساواته حال الصلاة غير جائزة ، وشنعوا على من يصلي في هذا المكان أتم التشنيع ، ورموه بالذم الفظيع ، وتبعهم على ذلك أكثر الرعاع الذين هم كالأغنام العديمي العقول والأفهام.

وأنا مبين في هذه المقالة ، وموضح في هذه العجالة ضعف ما ذهبوا إليه ، وبطلان ما اعتمدوا عليه ، وأن ما ذكروه إنما نشأ عن عدم إعطاء التأمل حقه في الأخبار ، وعدم الاطلاع على كلام من تقدم من العلماء الأبرار ، وليس القصد في علم الله سبحانه إلّا إلى تحقيق الحق واليقين ، وتمييز الغث من السمين ، وإزالة هذه الشبهة عن قلوب المؤمنين ، فأقول : إن ما ذهبوا إليه باطل من وجوه :

الأول : أن الأصل في العبادة الصحة حتى يقوم دليل الإبطال ، وليس فليس. أما دعوى أصالة الصحة في العبادة [فهي] (١) ممّا لا يمتري [فيها] (٢) من له ذوق

__________________

(١) في النسختين : فهو.

(٢) في النسختين : فيه.

٢٩١

العلم ، ولا يخفى على ذي رؤية ممن شم رائحة الفهم.

وأما عدم دليل على الإبطال ، فلأنه ليس لهم ممّا يمكن أن يتشبثوا به إلّا التوقيع المروي في كتاب (الاحتجاج) عن الحميري أنه كتب إلى الإمام القائم عليه‌السلام ، يسأله : هل يجوز لمن صلى عند بعض قبورهم عليهم‌السلام أن يقوم وراء القبر ويجعل القبر قبلة ، أم يقوم عند رأسه أو رجليه؟ وهل يجوز (١) أن يتقدم القبر ويصلي ويجعل القبر خلفه أم لا؟ فأجاب عليه‌السلام : «وأما الصلاة فإنها خلفه ، ويجعل القبر أمامه ، ولا يجوز أن يصلي بين يديه ولا عن يمينه ولا عن يساره ؛ لأن الإمام عليه‌السلام لا يتقدّم ولا يساوى» (٢).

والجواب عنه أن هذا الحديث وإن كان يدلّ على ما ذكروه من النهي عن المساواة ، إلّا إن الشيخ ـ رضوان الله عليه ـ قد روى هذا الخبر عن (٣) الحميري أيضا في (التهذيب) بسند صحيح ، وفيه جوابا عن السؤال المذكور ما صورته : «وأما الصلاة فإنها خلفه يجعله الإمام ، ولا يجوز أن يصلي بين يديه ؛ لأن الإمام لا يتقدم ، ويصلّى عن يمينه وشماله» (٤) ، وهو ـ كما ترى ـ ظاهر في جواز المساواة كما تدل عليه الأخبار الآتية.

وبذلك أيضا صرّح شيخنا البهائي ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (الحبل المتين) حيث قال ـ بعد نقل الخبر المذكور بطوله ـ : (هذا الخبر يدل على عدم جواز وضع الجبهة على قبر الإمام عليه‌السلام).

إلى أن قال : (وعلى عدم جواز التقدم على الضريح المقدس حال الصلاة ؛ لأن قوله عليه‌السلام : «يجعله الإمام» صريح في جعل القبر بمنزلة الإمام في الصلاة ، فكما أنه

__________________

(١) لمن صلّى عند بعض قبورهم .. وهل يجوز ، من «ح» والمصدر.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٥٨٣ / ٣٥٧.

(٣) من «ح».

(٤) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٢٨ / ٨٩٨.

٢٩٢

لا يجوز للمأموم أن يتقدم على الإمام بأن يكون موقفه أقرب إلى القبلة من موقف الإمام ، بل يجب أن يتأخر عنه أو يساويه في الموقف يمينا وشمالا فكذا هنا. وهذا هو المراد بقوله عليه‌السلام : «ولا يجوز أن يصلي بين يديه ؛ لإن الإمام لا يتقدم ، ويصلي عن يمينه وشماله».

والحاصل أن المستفاد من الحديث ، أن كل ما ثبت للمأموم من وجوب التأخر عن الإمام أو المساواة له ، وتحريم التقدم عليه ثابت للمصلي بالنسبة إلى الضريح المقدّس من غير فرق ، فينبغي لمن يصلي عند رأس الإمام عليه‌السلام أو عند رجليه أن يلاحظ ذلك.

وقد نبهت على هذا جماعة من إخواني المؤمنين في المشهد المقدس الرضوي ـ على مشرفه السّلام ـ فإنهم كانوا يصلّون في الصفة التي عند رأسه عليه‌السلام صفين ، فبينت لهم أن الصفّ الأول أقرب إلى القبلة من الضريح المقدس ، على صاحبه السّلام. وهذا ممّا ينبغي ملاحظته لمن يصلي في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذا في سائر المشاهد المقدسة على ساكنيها أفضل التسليمات) (١) انتهى كلامه ، زيد مقامه ، وعلت في الخلد أقدامه.

وهو ظاهر الجودة والرشاقة لمن رغب لتحقيق الحق واشتاقه ، صريح الدلالة واضح المقالة في أن الممنوع شرعا إنما هو التقدم على الضريح المقدس ـ على ساكنه الصلاة والسّلام ـ دون المساواة والتأخّر.

وهذا الكلام قد نقله عنه شيخنا المجلسي قدس‌سره في كتاب الصلاة من (البحار) (٢) ، ولم يعترضه بشي‌ء ، وهو مؤذن بميله إليه واعتماده عليه ، وربما (٣) يتوهم أو

__________________

(١) الحبل المتين : ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٢) بحار الأنوار ٨٠ : ٣١٥.

(٣) في «ح» : وما ربّما.

٢٩٣

يتمحل من احتمال عطف «ويصلي» على قوله : «ولا يجوز أن يصلي» أو على قوله : «لا يتقدم» ، وهو (١) تعسف ظاهر عند ذوي الأفهام ، بل ممّا يجلّ عنه كلام الإمام الذي هو إمام الكلام ؛ إذ لا يخفى على من عضّ على البلاغة بضرس قاطع ، وتتبع كلام البلغاء في جملة المواضع أن المتبادر من قول القائل : ما جاءني زيد وجاءني عمرو ، إنما هو نفي المجي‌ء عن زيد مع إثباته لعمرو ، لا نفيه عنه أيضا.

ومتى أريد نفي المجي‌ء عن عمرو اعيدت أداة النفي ، فقيل : ما جاءني زيد ولا عمرو (٢) ، كما هو مذكور في الرواية التي استند إليها الخصم.

وحينئذ ، فإذا كان الشيخ قدس‌سره قد روى الرواية المذكورة بهذا اللفظ الدال على جواز المساواة ـ ومما لا ريب فيه عند المحدّثين ولا خلاف فيه بين المحققين ، هو ترجيح العمل بروايات الكتب الأربعة التي عليها المدار في جميع الأعصار والأمصار ، لشهرتها ومعلوميتها ، كالشمس في دائرة النهار ، حتى إن المشهور بين أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ هو الاقتصار في الأحكام على ما فيها خاصة دون غيرها من كتب الأخبار ؛ لوجوه حرروها وأدلة ذكروها ، وإن كنا لا نعتمد ذلك ولا نرتضيه ، إلّا إنه في مقام التعارض بين ما فيها وفي غيرها فالترجيح لما فيها البتة ، ولا سيما مع صحة السند كما ذكرناه وضعف الرواية المقابلة. وحينئذ ، فيتعين العمل على رواية (التهذيب) ويسقط العمل بتلك الرواية بالكلية ، كما [هي] (٣) قضيّة الترجيح في مقام التعارض من تقديم العمل بالراجح وإرجاء المرجوح ، سيما مع تأيّد رواية (التهذيب) بالأخبار الآتية ، وعمل الأصحاب قديما وحديثا بها ، مع غض الطرف عن الترجيح فالمقام لنا فسيح وأي فسيح ـ

__________________

(١) في «ح» : فهو.

(٢) في «ح» بعدها : وهو.

(٣) في النسختين : هو.

٢٩٤

فلنا (١) أن نقول أيضا : إن الخبرين قد تعارضا فتساقطا ، فرجعنا إلى البقاء على أصالة الصحّة ـ كما قدمنا ـ حتى يقوم دليل الإبطال. وهذا بحمد الله الملك المتعال ظاهر لمن يعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال.

الثاني : الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام في الزيارة وكيفيتها ، وذكر مكان صلاة الزيارة ، فإن جملة من الأخبار قد وردت بأنّها عند الرأس الشريف وجملة أخرى خلف القبر ، بل دل بعض تلك الأخبار على أنّها عند الرأس أفضل.

فمن الأخبار في ذلك رواية جعفر بن ناجية ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «صلّ عند رأس قبر الحسين عليه‌السلام» (٢) الحديث.

ومنها رواية أبي حمزة الثمالي ، عن الصادق عليه‌السلام ، وفيها بعد ذكر زيارة علي بن الحسين عليهما‌السلام وما يفعله عند قبره : «ثم تأتي قبر الحسين عليه‌السلام ، ثم تدور من خلفه إلى عند رأس الحسين عليه‌السلام ، وصل عند رأسه ركعتين ، تقرأ في الأولى الحمد ويس ، وفي الثانية الحمد والرحمن ، وإن شئت صليت خلف القبر وعند رأسه أفضل ، فإذا فرغت فصل ما أحببت إلّا إن الركعتين ركعتي الزيارة لا بدّ منهما عند كل قبر» (٣) الحديث.

ومنها رواية صفوان عن الصادق عليه‌السلام وفيها : «ثم قم فصّل ركعتين عند الرأس .. اقرأ فيهما ما [أحببت] (٤) ..» (٥) الحديث.

ومنها ما نقله شيخنا المجلسي قدس‌سره في كتاب مزار (البحار) ، عن الشيخ

__________________

(١) جواب أداة الشرط (إذا) في قوله : فإذا كان الشيخ قد روى الرواية المذكورة ..

(٢) كامل الزيارات : ٤٢٤ / ٦٤٠ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٥١٩ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٦٩ ، ح ٥.

(٣) كامل الزيارات : ٤١٧ / ٦٣٩.

(٤) من المصدر ، وفي النسختين : أحسنن.

(٥) مصباح المتهجد : ٦٦٠ ـ ٦٦٥ ، بحار الأنوار ٩٨ : ٢٠٠ / ٣٢.

٢٩٥

المفيد (١) ، ومؤلف (المزار الكبير) (٢) قال : (قالا : زيارة اخرى له عليه‌السلام برواية اخرى غير مقيدة بوقت من الأوقات) (٣).

وساق الكلام إلى أن قال : «ثم انحرف عند الرأس فصل ركعتين ، تقرأ في الاولى فاتحة الكتاب» (٤) الحديث.

ومنها رواية اخرى لصفوان أيضا عن الصادق عليه‌السلام وفيها : «ثم ادخل عند القبر وقم عند الرأس خاشعا قلبك و [قل] (٥) : السّلام عليك».

إلى أن قال : «ثم صل عند الرأس ركعتين» (٦) الحديث.

ومنها ما نقله في كتاب مزار (البحار) أيضا عن السيد الزاهد العابد المجاهد ، رضي الدين بن طاوس ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في (مصباح الزائر) (٧) في زيارة طويلة حيث قال فيها : (ثم اعدل إلى موضع الرأس ، فاستقبل القبلة وصل ركعتين صلاة الزيارة ، تقرأ في الاولى (الحمد) وسورة (الأنبياء) ، وفي الثانية (الحمد) وسورة (الحشر) أو ما تهيّأ لك) (٨) إلى آخره.

أقول : وهذه الزيارة إمّا أن تكون من مرويات السيد قدس‌سره ، فيكون سبيلها سبيل الروايات المتقدمة ، أو تكون من إنشائه ، كما يقع ذلك منه كثيرا ، فيكون فيه تأييد لما ذكرناه لدلالته على كون ذلك هو المختار عنده والأفضل لديه أو المتعين.

ومنها ما ورد في زيارة الرضا عليه‌السلام ، كما نقله شيخنا المجلسي ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (تحفة الزائر) في باب زيارته عليه‌السلام قال : ففي خبر معتبر عن

__________________

(١) المزار (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ٥ : ٩٩ ، ١١٥.

(٢) المزار الكبير : ٣٧٠ ، ٣٨٥ ، ب ١٥.

(٣) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٠٦ / ٣٣.

(٤) بحار الأنوار ٩٨ : ٢١٥ / ٣٣.

(٥) من المصدر ، في النسختين : قال.

(٦) المزار الكبير : ٤٣١ ـ ٤٣٢ / ٣ ، بحار الأنوار ٩٨ : ٢٦٠ / ٤١.

(٧) مصباح الزائر : ٢٤٠.

(٨) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٤٦.

٢٩٦

الإمام الهادي عليه‌السلام أنه يصلّى عند رأسه عليه‌السلام.

ومثله في رواية أخرى أيضا قال : (ثم تحول عند رأسه وصل ركعتين ، تقرأ في الاولى سورة يس ، وفي الثانية سورة (الرحمن) ..) (١).

وكلام من وقفت على كلامه من الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ كله متطابق على العمل بهذه الروايات. ومنهم شيخنا الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (الفقيه) حيث قال في باب زيارة الإمامين الكاظم والجواد عليهما‌السلام ما صورته : (ثم صلّ في القبة التي فيها محمد بن علي عليهما‌السلام أربع ركعات بتسليمتين عند رأسه : ركعتين لزيارة موسى بن جعفر ، وركعتين لزيارة محمد بن علي عليهما‌السلام ، ولا تصلّ عند رأس موسى عليه‌السلام ، فإنه يقابل قبور قريش ، ولا يجوز اتّخاذها قبلة إن شاء الله تعالى) (٢) انتهى.

وقال شيخنا الشهيد في (الدروس) : (وسادسها صلاة ركعتين للزيارة عند الفراغ ، فإن كان زائرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ففي الروضة ، وإن كان لأحد الأئمّة عليهم‌السلام فعند رأسه ، ولو صلاهما بمسجد المكان جاز ، ورويت رخصة في صلاتهما إلى القبر) (٣) إلى آخره.

وقال في (الذكرى) : (وهي ركعتان بعد الفراغ من الزيارة ، تصلّى عند الرأس) (٤) انتهى.

وبالجملة ، فالظاهر أنه لما كان المشهور عندهم هو كراهة الصلاة إلى القبر ـ كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ـ كان وظيفة صلاة الزيارة عندهم عند الرأس حسب ما دلّت عليه هذه الأخبار ، وهو مؤذن بجواز المساواة ، وأنه هو المعمول عليه بينهم والمعوّل عليه عندهم.

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٩ : ٤٨ / ٢.

(٢) الفقيه ٢ : ٣٦٣ / ٢٢٢.

(٣) الدروس ٢ : ٢٣.

(٤) ذكرى الشيعة ٤ : ٢٨٧.

٢٩٧

وأنت خبير بأنه لا يخفى على الفطن المنصف والفهم الغير المتعسف أن المتبادر من كونها عند الرأس هو كون المصلي محاذيا للرأس الموجب للمساواة سيما مع المقابلة بالخلف في جملة من الأخبار ، وبذلك صرّح شيخنا المجلسي ـ طاب ثراه ـ في كتاب (تحفة الزائر) حيث قال : (الفصل السابع : في فضيلة الصلاة في الروضة المقدسة ونواحيها ، وكيفية الصلاة للزيارة وغيرها. وقد مرّ سابقا أحاديث في فضيلة الصلاة عند رأسه الشريف وخلف ضريحه وكذا مرّ في الباب الأول أخباره وبيان الصلاة خلف أضرحة الأئمَّة عليهم‌السلام. وما يستفاد من الأخبار جواز الصلاة للزيارة وغيرها عند رأسهم وخلف أضرحتهم عليهم‌السلام) (١).

فانظر إلى اعترافه أولا بدلالة الأخبار على جواز الصلاة فوق الرأس خارجا عن القبر محاذيا له ، وإنما ذكر التأخير يسيرا في كلامه من باب الاحتياط عنده.

ولو زعم الخصم أن الصلاة عند الرأس أعم من المحاذاة أو التأخر قليلا.

قلنا : يكفينا في الدلالة على ما ندّعيه العموم المذكور ، والتخصيص يحتاج إلى دليل ، وليس فليس.

ولو قيل : إن الحديث المنقول عن (الاحتجاج) مخصص.

قلنا : قد بيّنا بحمد الله فيما مضى سقوطه بما عارضه من صحيحة (التهذيب) ،

__________________

(١) وردت هذه العبارة في النسختين باللغة الفارسية ، ونصها : (فصل هفتم : در فضيلت نماز كردن در روضه مقدسه وحوالى آن ، وكيفيت نماز زيارت وغير آنست. در فصول سابقه ، چند حديث در فضيلت نماز نزد سر حضرت ودر عقب قبر مقدس گذشت ودر باب أول أخبار وبيان نماز در عقب قبور أئمه عليهم‌السلام گذشت. وآنچه از أخبار ظاهر مى‌شود آنست كه نماز زيارت وغير آن را در عقب قبر آن حضرت وبالاى سر آن حضرت كردن هر دو خوبست واگر بالاى سر كند پشت‌سرتر (١) بايستد كه محاذى اصل قبر مقدّس نباشد).

__________________

١ـ في «ح» : بشت‌تر ، وفي «ق» : بشتر ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٩٨

كما لا يخفى على الموفق المصيب ، ومن له من المعرفة والإنصاف أدنى نصيب.

الثالث : أنه لا يخفى على كل ناظر ذي عينين ممن لم يطمس بصر بصيرته بغشاوة التعصب والرين أن المصلي في الموضع المذكور متى كان مسندا ظهره للجدار كما هو المفروض أولا ، فإنه لا يكون مساويا للقبر ، بل هو متأخر عنه ، والقبر إنما يحاذي موضع سجوده. وهذا لا يسمى مساواة لا عرفا ولا شرعا ؛ لأن المساواة عبارة عن الاستواء.

فإذا قيل : ساواه في المكان ، يعني : صار محاذيا له ومستويا معه (١) ، كصلاة المأموم الواحد مع الإمام يقوم إلى جنبه محاذيا له ، كما عرفته من كلام شيخنا البهائي المتقدّم.

ولو قيل : إن القبر عبارة عن مجموع الصندوق الموضوع على القبر ـ كما يتوهمه بعض الجهلة ـ فهو ممّا لا يستحق قائله الجواب ؛ لخروجه عن زمرة ذوي العقول والألباب ؛ لأن القبر شرعا ولغة وعرفا إنّما هو عبارة عن الموضع الذي يدفن فيه الميت ، وهو هنا في وسط الصندوق الكبير ، وقد جعل عليه علامة الصندوق الصغير المطروح فوق الصندوق الكبير ، وهو الذي تطرح عليه الزينة والثياب المطرزة المذهبة في جميع قبور الأئمّة عليهم‌السلام ، فإنّهم يطرحون ذلك علامة للقبر (٢) ، ليكون موضعه معلوما للناظر لأجل الآداب المتعلّقة به والأعمال الراجعة إليه.

الرابع : أنه لا يخفى أن القبر الآن قد صار مستورا بهذا الصندوق الموضوع عليه ، والأحكام الواردة في الأخبار إنما ترتبت على القبر مع ظهوره وبروزه ، ولو جاز أن ترتب عليه مع خفائه ، لصدق أيضا ذلك بالنسبة إلى من صلّى خارج

__________________

(١) في «ح» بعدها : فيه.

(٢) ليست في «ح».

٢٩٩

القبة الشريفة ، مع أن الخصم لا يقول به (١).

وأيضا فإنه كما تزول الكراهة أو التحريم (٢) بالنسبة إلى الصلاة خلف القبر بالحيلولة بهذا الصندوق بناء على ما عليه الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ كما يأتي ذكره ، كذلك تزول بالنسبة إلى المساواة لو سلمنا التحريم أو الكراهة.

الخامس : ورود النهي عن الصلاة خلف القبر مطلقا قبر إمام أو غيره ، كما قد استفاضت به الأخبار (٣). وبه قال جملة علمائنا الأبرار ؛ كراهة على المشهور (٤) أو تحريما على قول آخرين ، فإن المشهور بينهم هو كراهة الصلاة إلى القبر وجعله قبلة ، سواء كان قبر إمام أو غيره ما لم يحصل ما به تزول الكراهة من البعد المقرر أو الحائل.

وظاهر عبارة شيخنا الصدوق قدس‌سره المتقدّمة (٥) ، هو التحريم مطلقا ، وكذلك نقله عنه العلّامة في (منتهى المطلب) (٦) ، وأنه نقل عنه عدم جواز الصلاة إلى القبور مطلقا. وبه صرّح شيخنا المفيد ـ عطر الله مرقده ـ في (المقنعة) حيث قال : (ولا تجوز الصلاة إلى شي‌ء من القبور حتى يكون بينه وبينه حائل ، ولو قدر لبنة أو عنزة (٧) منصوبة أو ثوب موضوع).

ثم قال : (وقد روي أنه لا بأس بالصلاة إلى قبلة فيها قبر إمام ، والأصل ما قدمناه) (٨) انتهى.

__________________

(١) يرد عليه أن معناه جواز الصلاة أمام القبر لخفائه بالصندوق واختصاص الأحكام بظهور القبر فقط ، فتأمل.

(٢) في «ح» : التجري.

(٣) وسائل الشيعة ٥ : ١٥٩ ـ ١٦٢ ، أبواب مكان المصلّي ، ب ٢٥ ، ح ٢ ، ٥ ، ٦ ، ٧ ، ٨ ، ب ٢٦ ، ح ١ ، ٢ ، ٣ ، ٥.

(٤) منتهى المطلب ٤ : ٣١٣.

(٥) انظر الدرر ٢ : ٢٩٧.

(٦) منتهى المطلب ٤ : ٣١٦.

(٧) العنزة : عصا في قدر نصف الرمح يتوكأ عليها الشيخ. لسان العرب ٩ : ٤٢٤ ـ عنز.

(٨) المقنعة (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٤ : ١٥١ ـ ١٥٢.

٣٠٠