الدّرر النجفيّة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢١

ويرزقني من علمك وأرجو أن الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته. فقال : «يا أبا عبد الله ، ليس العلم بالتعلم إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه ، فإن أردت العلم ، فاطلب أولا في نفسك حقيقة العبودية ، واطلب العلم باستعماله ، واستفهم الله يفهمك». قلت : يا شريف. فقال : «قل : يا أبا عبد الله» : قلت : يا أبا عبد الله (١) ما حقيقة العبودية؟ قال : «ثلاثة أشياء : ألا يرى العبد [لنفسه فيما] (٢) خوّله الله ملكا ؛ لأن العبيد لا يكون لهم ملك ، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به ، ولا يدبر العبد لنفسه تدبيرا ، وجملة اشتغاله فيما أمره الله تعالى به ونهاه عنه. فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكا هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه ، فإذا فوض العبد تدبير نفسه على مدبره هان عليه مصائب الدنيا ، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه ، لا يتفرّغ منهما (٣) إلى المراء والمباهاة مع الناس.

فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا وإبليس والخلق ، ولا يطلب الدنيا تكاثرا وتفاخرا ، ولا يطلب ما عند الناس عزّا وعلوّا ، ولا يدع أيامه باطلا ، فهذا أول درجة التقى ، قال الله تعالى (تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٤)».

قلت يا أبا عبد الله ، أوصني. قال : «أوصيك بتسعة أشياء فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى ، والله أسأل أن يوفّقك لاستعماله : ثلاثة منها في رياضة النفس ، وثلاثة منها في الحلم ، وثلاثة منها في العلم فاحفظها وإياك والتهاون بها».

قال عنوان : ففرغت قلبي له. فقال : «أما اللواتي في الرياضة ، فإياك أن تأكل مالا تشتهيه ، فإنه يورث الحماقة والبله. ولا تأكل إلّا عند الجوع. وإذا أكلت فكل حلالا ، وسم

__________________

(١) قلت : يا أبا عبد الله ، سقط في «ح».

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : في نفسه لما.

(٣) في «ح» : يفزع منها ، بدل : يتفرّغ منهما.

(٤) القصص : ٨٣.

٨١

الله ، واذكر حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما ملأ آدمي وعاء شرّا من بطنه ، فإن كان ولا بدّ فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه.

وأما اللواتي في الحلم ، فمن قال لك : إن قلت واحدة سمعت عشرا ، فقل : إن قلت عشرا لم تسمع واحدة. ومن شتمك فقل له : إن كنت صادقا فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لي ، وإن كنت كاذبا فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لك. ومن وعدك بالخيانة ، فعده بالنصيحة والدعاء.

وأما اللواتي في العلم ، فاسأل العلماء ما جهلت ، وإياك أن تسألهم تعنتا وتجربة ، وإياك أن تعمل برأيك شيئا. وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا. واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك للناس جسرا. قم عنّي يا أبا عبد الله ، فقد نصحت لك ولا تفسد عليّ وردي ؛ فإني امرؤ ضنين بنفسي ، والسّلام على من اتبع الهدى») (١).

تلخيص

قد استفيد من الخبر المذكور بمعونة ما ذكرنا من الأخبار وكلام (٢) علمائنا الأبرار امور : الأوّل (٣) : أنه لا يكتفى في الحكم بعدالة الفقيه وجواز تقليده والأخذ بفتياه وقبول أحكامه بعد اتّصافه بهذه العلوم الرسميّة ـ وإن كان فيها صاحب اليد الطولى والدرجة العليا والمرتبة القصوى ـ بمجرد الملكة على القول بها ، أو حسن الظاهر على القول الآخر والإسلام على القول الثالث ، بل لا بدّ من معرفة اتّصافه بعلوم الأخلاق النفسيّة من الملكات الصالحة الزكية و [اجتناب] (٤) المهلكات الردّية.

__________________

(١) بحار الأنوار ١ : ٢٢٤ ـ ٢٢٦.

(٢) في «ح» : كلمات.

(٣) في «ح» أ .. و، بدل : الأوّل .. السادس.

(٤) في النسختين : الاجتناب من.

٨٢

الثاني : أن العلم الذي وردت بمدحه الآيات القرآنية والأخبار المعصومية ، والثناء على من اتصف به إنّما هو علم الأخلاق ، وهو العلم الموجب للفوز والقرب من الملك الخلّاق ، لا علم السلم والإجارة والسبق والرماية والنكاح والطلاق وإن كانت هذه العلوم وأمثالها فاضلة شريفة وواجبة كفاية إلّا إن حصول الشرف لصاحبها إنّما يتمّ بانضمام ذلك العلم لها ، وإلّا فهي بدونه إنما تكون على صاحبها وبالا وبعدا من الله تعالى ونكالا.

الثالث : شدة خطر هذا المقام ـ أعني : مقام الحكم والفتوى ـ وأنه في الدرجة العالية القصوى ، وهو مقام لا ينال بالتمنّي ، ولا يحصل بالتظني (١). فلا تغتر أيّها الطالب لنفائس المطالب ، وتحصيل ما هو الحق والواجب بكثرة المتصدرين في (٢) هذا المقام والناصبين أنفسهم للأنام وعكوف من عكف عليهم من الجهّال الذين هم كالأنعام. وقد سمعت ما تكرّر من كلام المحقّق الشارح المازندراني في معنى تلك الأخبار ، وما تكرر في كلام شيخنا الشهيد الثاني وأمثاله من علمائنا الأبرار ، وما وشّحنا به ذلك من الروايات الجارية في هذا المضمار.

الرابع : كثرة من تلبّس في هذه الصناعة بهذا اللباس من أتباع الوسواس الخناس ، حتى صار تمييز العالم الحقيقي في قالب الخفاء والالتباس. ومما يؤكد ذلك زيادة على ما قدّمناه ما رواه في كتاب (الاحتجاج) (٣) وهو في (تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام) ، حيث قال عليه‌السلام بعد ذمّ تقليد الشّيعة لفسقة علمائهم ، وأنهم مثل اليهود في تقليدهم لعلمائهم ما صورته : «فإمّا من كان من الفقهاء صائنا نفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه مطيعا لمولاه ، فللعوام أن يقلدوه. وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ؛ فإن من ركب من القبائح والفواحش مركب فسقة

__________________

(١) كذا في النسختين.

(٢) سقط في «ح».

(٣) الاحتجاج ٢ : ٥١١ ـ ٥١٢ / ٣٣٧.

٨٣

[فقهاء] العامّة ، فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ولا كرامة ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنا أهل البيت لذلك ؛ لأن الفسقة يتحمّلون عنا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم» (١) الحديث.

الخامس : أن التمييز يحتاج إلى نظر دقيق وفكر جيّد عميق ، كما دلّ عليه الخبر ، وإليه يشير كلام المحدث المحسن الكاشاني المتقدّم نقله (٢) ، هذا فيما تقدّم من الزمان المملوء بالعلماء والفضلاء والأعيان ، وأما مثل أوقاتنا الآن فالأمر أظهر من أن يحتاج إلى تمييز (٣) وبيان ، حيث إن الناس لضعف اليقين والإيمان والحرص على تحصيل المطالب الدنيويّة كائنا ما كان لا يبالون عمّن يأخذون وعلى من يعتمدون ، ومن أمثالهم القبيحة : (قلد عالما واخرج سالما) وإن عرفوا من علمائهم الّذين يقلدونهم العمل بخلاف الدين ، والخروج عن حدود شريعة سيّد المرسلين.

ومن أجل ذلك رفع أكثر علمائهم الحجاب ، و [كشفوا] (٤) النقاب ورضوا لأنفسهم بما رضيه (٥) الجهّال ، وقنعوا به منهم من الفعال والمقال ، وأكثر ذلك وقوعا في بلدان العجم التي قد آلت به إلى الاضمحلال والعدم من إرجاع الامور الشرعية والأحكام الإلهية إلى كل من نصبه لهم حكام الجور بعنوان القاضي ، وشيخ الإسلام المبنية أحكامهم على الرشا ، زيادة على ما هم عليه من الجهل بين جملة الأنام.

وهؤلاء من جملة من أشار إليهم الإمام العسكري عليه‌السلام وشبّههم بمقلدة اليهود ، حيث قال عليه‌السلام بعد ذكر مقلدة اليهود : «وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٣٠٠ / ١٤٣.

(٢) انظر الدرر ٢ : ٧٧.

(٣) في «ح» : تميّز.

(٤) في النسختين : كشف.

(٥) في «ح» : بارضية.

٨٤

الظاهر والعصبية الشديدة ، والتكالب على حطام الدنيا وحرامها ، وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقا ، وبالترفق بالبر والإحسان على من تعصبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقا ، فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء ، فهو مثل اليهود الذين ذمّهم الله تعالى بالتقليد لفسقة علمائهم» (١) الحديث.

السادس : تعدد الأفراد لتعدّد المواد ؛ فمنهم من ليس له من العلم إلا اسمه ، وإنما هو متكلف جاهل وإن تسربل بالخضوع وأظهر التذلل والخشوع ، ومنهم العالم الخالي من التقوى ، ومنهم من هو عالم محافظ على الورع من المعايب التي توجب النزول عن أعين الخلق دون ما يوجب النزول من عين الحق ، ومنهم من هو محافظ على الورع عن الجميع غير أنه محبّ للرئاسات الدنيوية والتصدر على غيره من البرية يتوهم أن هذا أمر جائز له شرعا لما هو عليه من العلم ، وأن في ذلك إعزازا للعلم ورفعة (٢) لشأنه. وهذا هو البلاء العام الذي لا يكاد ينجو منه إلّا من أيّده الله منه بالاعتصام وقليل ما هم في الأنام.

ومما يرسّخ (٣) فساد هذا الوهم ويبين أنه من أقبح الأوهام ما رواه ثقة الإسلام (٤) وغيره (٥) من الأعلام عن محمّد بن سنان رفعه قال : قال عيسى بن مريم : «يا معشر الحواريين ، لي إليكم حاجة فاقضوها» ، قالوا : قضيت حاجتك يا روح الله. فقام ، [فغسل] (٦) أقدامهم ، فقالوا : كنا نحن (٧) أحقّ بهذا يا روح الله.

فقال : «إنّ أحق الناس بالخدمة العالم ، إنما تواضعت لكم لكيما تتواضعوا [بعدي] في الناس كتواضعي لكم».

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري : ٣٠٠ / ١٤٣ ، الاحتجاج ٢ : ٥١١ / ٣٣٧.

(٢) في «ح» : رفقة.

(٣) في «ح» : يوضح.

(٤) الكافي ١ : ٣٧ / ٦ ، باب صفة العلماء.

(٥) منية المريد : ١٨٣.

(٦) من المصدر ، وفي النسختين : فقبل.

(٧) من «ح» والمصدر.

٨٥

قال عيسى عليه‌السلام : «بالتواضع تعمر (١) الحكمة لا بالتكبر ، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل».

ومنهم من هو كامل في التقوى والورع ، ولكنه قاصر في العلوم واستنباط الأحكام ، ويظنّ أن ما يؤدّي إليه فهمه كاف في صحة دخوله في هذا المقام وقيامه به حقّ القيام ، وإليه يشير كلام شيخنا البهائي في القسم الثاني من شرح حديث كميل كما قدمنا نقله (٢) ، ويشير إليه هذا الخبر بقوله : «فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا ما عقله فما أكثر من ترك ذلك أجمع ، ثم لا يرجع إلى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بفعله».

إلى غير ذلك من الأفراد (٣) التي لا يكاد يحصيها قلم التعداد ، والفرد المطلوب من بينها والمراد أقل قليل ، وهي صفة لكل شريف وجليل. وهذا في الأعصار المتقدمة ، وأما الآن فربما لا يكاد يوجد إلّا أن يكون في أعيان مبهمة.

ومما يعضد ما قلناه ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في كتابه المتقدم ذكره بعد ذكر الأمر ببذل الوسع في تكميل النفس ما صورته : (فإن العالم الصالح في هذا الزمان بمنزلة نبي من أنبياء بني إسرائيل ، بل هم في هذا الزمان أعظم ؛ لأن أنبياء بني إسرائيل كان يجتمع منهم في العصر الواحد ألوف ، والآن لا يوجد من العلماء إلّا الواحد بعد الواحد) (٤) انتهى.

فإذا كان هذه حال العلماء في زمانه قدس‌سره ، فمنه يعلم حال علماء هذا الزمان بالمقايسة.

وبالجملة ، فالفطن اللبيب والموفق المصيب إذا دقق النظر في هذا المقام ، وجده

__________________

(١) في «ح» : تعم.

(٢) انظر الدرر ٢ : ٧١ ـ ٧٢.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : الأخبار. وهو إشارة إلى أفراد العلماء الذين شرع بذكرهم في أوّل الأمر السادس.

(٤) منية المريد : ١٨٢.

٨٦

من أعظم من مزالّ الأقدام ومداحض الأفهام ، وقلّ من وفق للنهوض به والقيام حق القيام ، ولا سيما في مثل هذه الأيام التي قد اندرست فيها معالم الإسلام ، وطمست رسوم الدّين المبين وعفت آثاره بين الأنام بتلبّس المفسدين بلباس العلماء الأعلام ، وتصدّرهم للنقض والإبرام في كلّ حلال وحرام. قال شيخنا الشهيد الثاني قدس‌سره في كتاب (منية المريد) بعد ذكر النهي عن المراء والجدل ، ونقل ما ورد في ذمه من الأخبار وذكر معائبه وقبائحه ما لفظه : (ومن خالط متفقهة هذا الزمان والمتسمّين بالعلم ، غلب على طبعه المراء والجدل ، وعسر عليه الصمت إذا ألقى إليه قرناء السوء. أن ذلك هو الفضل ، ففر منهم فرارك من الأسد) (١) انتهى.

فإذا كان هذا وأمثاله في متفقهة تلك الأزمان ، فبالأحرى وقوع أضعافه وأضعاف أضعافه الآن ؛ لما علم من تنزل الزمان وتسافله في جميع المراتب التي لا يحيط بها (٢) قلم البيان ، نسأل الله تعالى تعجيل الفرج وإزالة هذه الرتج بظهور صاحب الزمان والعصر ، أمدّه الله تعالى بالتأييد والنصر.

ولرب ناظر فيما ذكرناه في هذه الدرة بعينه العوراء ممن عادته في جميع أحواله التدليس والتلبيس والجدال والمراء ، يحمله طبعه المهيض ، وطرفه المريض على المقابلة لما ذكرناه بالاستبعاد واللدد والعناد. والسبب في ذلك إنما هو ضيق المسلك عليه والطريق ، وحرمانه من التوفيق بالشرب بذلك المشرب الرحيق ، وتسهيل الأمر على نفسه في التصدّر لذلك المقام والرئاسة على العوام.

ولا أظنك بعد التأمّل فيما شرحناه ، والنظر فيما أوضحناه تستريب في بعد ما ذكره شيخنا قدس‌سره في ذيل الخبر من التأويل ، وأنه لا اعتماد عليه ولا تعويل. وما

__________________

(١) منية المريد : ١٧٣.

(٢) في «ح» : يحيطها ، بدل : يحيط بها.

٨٧

ذكره من القرائن التي اعتمدها للحمل على الإمام عليه‌السلام ، فإن مثلها وأمثالها ورد في حق المؤمن الصالح والمجاهد المناصح ، وكفاك (١) الحديث القدسي وقوله سبحانه : «إن العبد ليتقرب إليّ بالنوافل» (٢) إلى آخر الحديث.

وأبعد من ذلك قوله : (إن غرضه الردّ على الزيدية ومن حذا حذوهم) ، وأين الزيدية في أيام علي بن الحسين عليهما‌السلام؟ وغاية استبعاده قدس‌سره : أن تلك الصفات لا تحصل (٣) إلّا في الأولياء الكمل.

ولا ريب أن هذا مؤيد لما اخترناه على الوجه الأكمل ؛ فإن النائب عنهم عليهم‌السلام والخليفة الجالس في مجلسهم ومقامهم ، يجب البتّة (٤) أن يكون من الأولياء ، الكمل ، بل الفرد الأعلى في ذلك والأكمل ؛ لما هو معلوم عرفا وشرعا من المناسبة التامة ، والمشابهة الواقعة بين النائب والمنوب عنه ، فلا ينوب عنهم إلا الأكمل من أوليائهم. وقد عرفت بما ذا يحصل ذلك الكمال في الأقوال والأفعال ، والله الهادي لمن يشاء.

__________________

(١) في «ح» : الناصح وكذاك ، بدل : المناصح وكفاك.

(٢) الكافي ٢ : ٣٥٢ / ٧ ، ٨ ، باب من آذى المسلمين واحتقرهم.

(٣) لا تحصل ، من «ح».

(٤) ليست في «ح».

٨٨

(٢٢)

درة نجفية

في صحة طلاق الحائل المراجعة قبل الدخول بها

من مسائل بعض الأخلّاء الأجلّاء وقد طلب فيها تحقيق الحال على وجه يحيط بأطراف المقال ويندفع به الإشكال ، وهي ما لو طلق الرجل امرأته وهي حائل ثم راجعها ولم يجامعها بعد المراجعة ، فهل يصح طلاقه لها ثانيا بمجرد تلك المراجعة ؛ سواء كان ذلك الطلاق الثاني في الطهر الأول أم في طهر آخر (١)؟

فكتبت له في الجواب مستعينا بمن به الهداية للصواب في كل باب أنه لا خلاف بين الأصحاب فيما أعلم في أنه لو طلق الرجل امرأته الحائل ، ثم راجعها وجامعها ، ثم طلّقها في طهر آخر ، فإن الطلاق الثاني يكون صحيحا ، أما في الصورة المذكورة في السؤال فالمشهور فيها ، بل كاد يكون إجماعا ، هو صحة الطلاق. ونقل عن ابن أبي عقيل رحمه‌الله العدم ، وهذه عبارته على ما نقله عنه جمع من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ قال رحمه‌الله تعالى : (لو طلّقها من غير جماع بتدنيس (٢) مواقعة بعد الرجعة لم يجز ذلك ، لأنه طلقها من غير أن ينقضي الطهر الأول ، ولا ينقضي الطهر الأول إلّا بتدنيس (٣) المواقعة بعد المراجعة ، وإذا جاز

__________________

(١) في «ح» بعدها : أم لا.

(٢) في «ح» : بتدليس.

(٣) في «ح» : بتدليس.

٨٩

أن يطلق التطليقة الثانية بلا طهر جاز أن يطلق كل تطليقة بلا طهر ، ولو جاز ذلك لما وضع الله الطهر (١)) (٢) انتهى.

واعترضه شيخنا الشهيد الثاني في ذلك ، فقال بعد نقل عبارته ما صورته : (وإنّما ذكرنا عبارته لاشتمالها على الاستدلال على حكمه ، وبه يظهر ضعف قوله مع شذوذه ؛ فإنا لا نسلم أن الطهر لا ينقضي بدون المواقعة ؛ للقطع بأن تخلل الحيض بين الطهرين يوجب انقضاء الطهر السابق ؛ سواء وقع فيه أم لا. ثم لا نسلم اشتراط انقضاء الطهر في صحة الطلاق مطلقا ، وإنّما الشرط انقضاء الطهر الذي واقعها فيه ، وهو منتف هنا ؛ لأن الطلاق الأوّل وقع بعده في طهر آخر لأنه الفرض فلا يشترط أمر آخر) (٣) انتهى.

__________________

(١) يؤيد ما قلناه ، ويثبت ما سطرناه في دفع كلامه قدس‌سره قول الإمام العسكري عليه‌السلام في تفسير قوله سبحانه (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) (١) ، قال عليه‌السلام «يعني : ممّن يرضون دينه وأمانته وصلاحه وعفّته ، وتيقظه فيما يشهد به وتحصيله وتمييزه ؛ فما كل صالح مميّز ولا محصّل ، ولا كل محصّل مميّز صالح. وإن من عباد الله لمن هو أهل لصلاحه وعفّته لو شهد لم تقبل شهادته لقلة تمييزه ، فإذا كان صالحا عفيفا مميّزا محصّلا مجانبا للمعصية والمراء والميل والتحامل ، فذلك الرجل الفاضل ، فبه فتمسّكوا وبهداه فاقتدوا ، وإن انقطع عنكم المطر فاستمطروا به وإن امتنع [عليكم النبات] (٢) فاستخرجوا به النبات ، وإن تعذّر عليكم الرزق فاستدرّوا به الرزق ؛ فإن ذلك ممّن لا يخيّب طلبه ولا تردّ مسألته» (٣) انتهى.

وهذا [..] (٤) مما تقدم في آخر الحديث المذكور مع أن كلامه إنما هو في حق الشاهد وبيان عدالته وكيفية عدالة الفقيه الجامع لشرائط الفتوى. منه رحمة الله عليه. (هامش «ح»).

(٢) عنه في مختلف الشيعة ٧ : ٣٧٢ ـ ٣٧٣ / المسألة : ٢٣ ، مسالك الأفهام ٩ : ١٣٧.

(٣) مسالك الأفهام ٩ : ١٣٧ ـ ١٣٨.

__________________

١ ـ البقرة : ٢٨٢.

٢ ـ من المصدر ، وفي المخطوط : نبات.

٣ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٧٢ / ٣٧٥.

٤ ـ كلمة غير مقروءة.

٩٠

أقول : وتحقيق المقام على وجه لا يعتريه نقض ولا إبرام يتوقف على نقل ما ورد من الأخبار في هذا المجال ليتّضح بذلك حقيقة الحال ويندفع به الإشكال ، فنقول : من الأخبار الدالة على ما هو المشهور موثقة إسحاق بن عمار عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : قلت له : رجل طلق امرأته ثم راجعها بشهود ، ثم طلقها ، ثم بدا له فراجعها بشهود ، ثم طلقها [فراجعها] بشهود ، تبين منه؟ قال : «نعم».

قلت : كل ذلك في طهر واحد. قال : «تبين منه (١)» (٢).

وهي صريحة في أن مجرد الرجعة كان في صحة الطلاق ثانيا وإن كان في طهر الطلاق الأوّل.

وصحيحة عبد الحميد بن عواض ومحمد بن مسلم قالا : سألنا أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته وأشهد على الرجعة ولم يجامع ، ثم طلق في طهر آخر على السنة ، أثبتت التطليقة الثانية من غير جماع؟ قال : «نعم إذا هو أشهد على الرجعة ولم يجامع كانت التطليقة ثانية» (٣). وهي صريحة أيضا في المدّعى ، إلا إن الطلاق الثاني هنا ليس في طهر الطلاق الأوّل.

وصحيحة البزنطي قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته بشاهدين ، ثم راجعها ، ولم يجامعها بعد الرجعة حتى طهرت من حيضها ، ثم طلقها على طهر بشاهدين ، أتقع عليها التطليقة الثانية ، وقد راجعها ولم يجامعها؟ قال : «نعم» (٤).

__________________

(١) من «ح» والمصدر.

(٢) تهذيب الأحكام ٨ : ٩٢ / ٣١٧ ، الاستبصار ٣ : ٢٨٢ / ١٠٠٠ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٤ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٩ ، ح ٥.

(٣) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٥ / ١٣٩ ، الاستبصار ٣ : ٢٨١ / ٩٩٧ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٣ ـ ١٤٤ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٩ ، ح ١.

(٤) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٥ / ١٤٠ ، الاستبصار ٣ : ٢٨١ / ٩٩٨ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٣ ـ ١٤٤ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٩ ، ح ٢.

٩١

وحسنة أبي علي بن راشد قال : سألته مشافهة عن رجل طلق امرأته بشاهدين على طهر ، ثم سافر وأشهد على رجعتها ، فلما قدم طلّقها من غير جماع ، أيجوز ذلك له؟ قال : «نعم قد جاز طلاقها» (١).

وهما صريحتان في المدعى.

واستدلّ جملة من الأصحاب (٢) على ذلك أيضا بما ورد من الأخبار دالّا على تحقق الرجعة مع عدم الجماع ، كصحيحة عبد الحميد الطائي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : الرجعة بغير جماع تكون رجعة؟ قال : «نعم» (٣).

وظني أن هذا الاستدلال لا محل له ، فإنه لا يفهم من كلام ابن أبي عقيل منع حصول الرجعة إلا بالجماع معها ، بل ظاهر عبارته أن مراده انما هو كون الجماع شرطا في صحة الطلاق الواقع بعد الرجعة ، فالرجعة تقع وإن لم يكن ثمة جماع ، ولكن لو طلقها والحال كذلك لم يحسب به إلّا التطليقة الاولى دون هذه.

ويدل على ما ذهب إليه ابن أبي عقيل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام في الرجل يطلق امرأته أله أن يراجع؟ قال : «لا يطلقن التطليقة الاخرى حتى يمسّها» (٤).

ورواية المعلّى (٥) بن خنيس عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يطلق امرأته

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٥ ـ ٤٦ / ١٤١ ، الاستبصار ٣ : ٢٨١ ـ ٢٨٢ / ٩٩٩ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٤ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٩ ، ح ٤.

(٢) انظر مسالك الأفهام ٩ : ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٣) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٤ ـ ٤٥ / ١٣٧ ، الاستبصار ٣ : ٢٨٠ ـ ٢٨١ / ٩٩٥ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٢ ـ ١٤٣ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٨ ، ح ١.

(٤) الكافي ٦ : ٧٣ ـ ٧٤ / ٢ ، باب أن المراجعة لا تكون إلّا بالموافقة ، تهذيب الأحكام ٨ : ٤٤ / ١٣٤ ، الاستبصار ٣ : ٢٨٠ / ٩٩٣ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤١ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٧ ، ح ٢.

(٥) في «ح» : معلّى.

٩٢

تطليقة ، ثم يطلقها الثانية قبل أن يراجع ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لا يقع الطلاق الثاني حتى يراجع ويجامع» (١).

وموثقة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : سألته عن رجل يطلق امراته في طهر من غير جماع ، ثم يراجعها من يومه ذلك ، ثم يطلقها أتبين منه بثلاث طلقات في طهر واحد؟ فقال : «خالف السنة». قلت : فليس ينبغي له إذا هو راجعها أن يطلقها إلّا في طهر آخر؟ قال : «نعم». قلت : حتى يجامع؟ قال : «نعم» (٢).

وهذه الروايات الثلاث صريحة فيما ذهب إليه ابن أبي عقيل من عدم صحة الطلاق بعد المراجعة ، إلا مع الجماع ، سواء طلقها في الطهر الأول أو الثاني ، مع أنه لم ينقلها الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ له في كتب الاستدلال ، بل إنما استدلّ له في (المختلف) (٣). وتبعه على ذلك جملة المتأخرين (٤) عنه برواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المراجعة هي الجماع وإلا فإنّما هي واحدة» (٥) وفي هذا الاستدلال ما عرفت.

والظاهر أنّهم فهموا من منع ابن أبي عقيل من الطلاق ثانيا بعد المراجعة بدون جماع أن الوجه فيه عدم حصول الرجعة بالكلية ، فيصير الطلاق لاغيا. وأنت خبير بأنه لا دلالة في كلامه على ذلك إذا قضى ما يدل عليه عدم صحة ذلك

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٦ / ١٤٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٨٤ / ١٠٠٤ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٢ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٧ ، ح ٥.

(٢) الكافي ٦ : ٧٤ / ٤ ، باب أن المراجعة لا تكون إلّا بالمواقعة ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤١ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ١٧ ، ح ٣.

(٣) مختلف الشيعة ٧ : ٣٧٣ / المسألة : ٢٣.

(٤) انظر مسالك الأفهام ٩ : ١٣٨.

(٥) الكافي ٦ : ٧٣ / ١ ، باب أن المراجعة لا تكون إلّا بالمواقعة ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٠ ـ ١٤١ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ١٧ ، ح ١.

٩٣

الطلاق الأخير خاصة ، وأمّا أن العلّة فيه عدم حصول الرجعة ، فلا دلالة فيه عليه.

أقول : ويدلّ على هذا القول أيضا صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : «كل طلاق لا يكون على السنة ، أو على العدة فليس بشي‌ء».

ثم فسّر عليه‌السلام طلاق السنّة بأن يطلقها في طهر لم يقربها فيه ، ثم يدعها حتى تمضي لها ثلاثة قروء ، وقد بانت منه.

وفسر طلاق العدّة بأن يطلقها في طهر لم يقربها فيه ، ثم يراجعها ويواقعها ، ثم يعتزلها حتى تحيض وتطهر ، ثم يطلّقها ، ثم يراجعها ويواقعها ، ثم يعتزلها حتى تحيض وتطهر ، ثم يطلّقها الثالثة ، وقد بانت منه (١).

وجه الاستدلال بها أنه من الظاهر أن الطلاق بعد المراجعة بدون مواقعة غير داخل في شي‌ء من ذينك (٢) الفردين ، فيثبت بموجب الخبر أنه ليس بشي‌ء.

وأجاب السيد السند قدس‌سره في (شرح النافع) عن هذه الرواية بـ (أن قوله : «ليس بشي‌ء» يعني ليس بشي‌ء يعتدّ به في الأدلة كما في هذين النوعين) (٣) ، وفيه من البعد ما (٤) لا يخفى.

ويدلّ عليه أيضا صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن طلاق السنّة ، [قال : «طلاق السنة] إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته» ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ : «وأما طلاق الرجعة ، فإن يدعها حتى تحيض وتطهر ، ثم يطلق بشهادة شاهدين (٥) ، ثم يراجعها ويواقعها ، ثم ينتظر بها الطهر فإذا حاضت وطهرت أشهد شاهدين على تطليقة

__________________

(١) الكافي ٦ : ٦٥ / ٢ باب تفسير طلاق السنة والعدة وما يوجب الطلاق ، تهذيب الأحكام ٨ : ٢٦ / ٨٣ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٠٣ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ١ ، ح ١ ، وفيه صدر الحديث ، و ٢٢ : ١٠٨ ـ ١٠٩ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ٢ ، ح ١.

(٢) من «ح» وفي «ق» : ذلك.

(٣) نهاية المرام ٢ : ٥٨.

(٤) في «ح» بما.

(٥) في «ح» بعدها : على تطليقة اخرى.

٩٤

اخرى ، ثم يراجعها ويواقعها ثم ينتظر بها الطهر فإذا حاضت وطهرت أشهد شاهدين على التطليقة الثالثة ، ثم لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وعليها أن تعتدّ ثلاثة قروء من يوم طلقها التطليقة الثالثة.

فإن طلقها واحدة على طهر بشهود ، ثم انتظر بها حتى تحيض وتطهر ، ثم طلقها قبل أن يراجعها لم يكن طلاقه الثاني طلاقا ، لأنه طلق طالقا ؛ لأنه إذا كانت المرأة مطلقة من زوجها كانت خارجة عن ملكه حتى يراجعها ، فإذا راجعها صارت في ملكه ما لم يطلق التطليقة الثالثة ، فإذا طلّقها التطليقة الثالثة فقد خرج ملك الرجعة من يده ، فإن طلّقها على طهر بشهود ثم راجعها وانتظر بها الطهر من غير مواقعة فحاضت وطهرت ، ثم طلقها قبل أن يدنسها بمواقعة بعد الرجعة لم يكن طلاقه لها طلاقا ، لأنه طلّقها التطليقة الثانية في طهر الأولى ، ولا ينقضي الطهر إلّا بمواقعة بعد الرجعة. وكذلك لا تكون التطليقة الثالثة إلّا بمراجعة ومواقعة بعد المراجعة ، ثم حيض وطهر بعد الحيض ثم طلاق بشهود ، حتى يكون لكل تطليقة طهر من تدنيس المواقعة بشهود» (١).

أقول : ويقرب بالبال العليل والفكر الكليل أن هذا الخبر هو معتمد ابن أبي عقيل فيما ذهب إليه وإن دلّت أيضا تلك الأخبار عليه ، حيث إن الفاظ عبارته منه ، بل كلامه في التحقيق نقل للخبر المذكور بالمعنى في بعض ، وباللفظ في بعض آخر.

وحاصل معنى الخبر المذكور : أنه لو طلق ثم راجع من غير مواقعة ، ثم طلقها في طهر آخر لم يكن ذلك طلاقا ؛ لأنه وقع في طهر الطلقة الاولى. وقوله : «ولا

__________________

(١) الكافي ٦ : ٦٦ / ٤ باب تفسير طلاق السنة والعدة وما يوجب الطلاق ، تهذيب الأحكام ٨ : ٢٧ ـ ٢٨ / ٨٤ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٠٤ ـ ١٠٥ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ١ ، ح ٣ ، و ٢٢ : ١٠٩ ـ ١١٠ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ٢ ، ح ٢.

٩٥

ينقضي الطهر» ـ إلى آخره ـ في مقام التعليل لذلك ، بمعنى أن الطهر الآخر (١) الذي تصير به الطلقة الواقعة فيه ثانية وتكون صحيحة هو ما وقع بعد الرجعة المشتملة على المواقعة ، ثم الحيض بعدها والطهر منه.

ثم ذكر عليه‌السلام : «أنه لا تكون التطليقة الثالثة» ولا تصح «إلا بمراجعة» قبلها «ومواقعة» إلى آخره ، فالطهر المعتبر (٢) في كلامه هو الطهر من تدنيس المواقعة ، وهو خلاف ما هو الشائع على ألسنة الأصحاب والمعروف بينهم في هذا الباب من كون الطهر : عبارة عن النقاء بعد الحيض على الوجوه المقرّرة هناك.

ولهذا اعترض شيخنا الشهيد الثاني فيما تقدم من كلامه على عبارة ابن أبي عقيل التي هي مأخوذ من هذه الرواية كما ذكرناه ولم يدر قدس‌سره أن كلام ابن أبي عقيل إنما هو مأخوذ من هذا الخبر ، وأنّ الإشكال الذي في عبارته إنما نشأ من هنا ، وإن الطهر المراد في كلام ابن أبي عقيل كما في هذا الخبر ، ليس هو المعنى المعروف بينهم.

وحينئذ يتم ما ذكره ابن أبي عقيل في عبارته من قوله : (وإذا جاز أن يطلق التطليقة الثانية) إلى آخره ، ويندفع عنه ما أورده عليه شيخنا الشهيد الثاني أيضا هنا ؛ لأنه إذا فسّر الطهر في عبارته بالمعنى المذكور في الخبر ، وهو ما يكون خاليا عن المواقعة ، فلو طلّق بعد مراجعات عديدة من غير مواقعة في شي‌ء منها ، أو طلق بعد كل مراجعة وإن كان الطلاق بعد النقاء من الحيض ، فإنها تكون كلها في طهر واحد ، ولو اعتبرت هذه الطلقات وصحّت ، لم تكن لاعتبار الشارع الطهر وصفه له مزيد فائدة.

ولا أراك ترتاب بعد التأمل في مضمون الخبر في صحة ما ذكرناه من كون

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) في «ح» المعين.

٩٦

عبارة ابن أبي عقيل مأخوذة من هذا الخبر وملخصة منه ، وبعد معلومية ذلك أيضا تظهر (١) صحة وجه ما قدّمنا ذكره من أن ابن أبي عقيل لم يذهب إلى اشتراط المواقعة في صحة الرجعة كما توهموه ، حسب ما ينادي به هذا الخبر الذي منه أخذت عبارته ، فإنه عليه‌السلام صرّح بأنه لو طلق قبل المراجعة «لم يكن طلاقه الثاني طلاقا ؛ لأنه طلّق طالقا» ، وعلله بأنّ المطلقة تخرج من ملك الزوج ولا تدخل في ملكه بالرجعة.

ثمّ صرّح عليه‌السلام أنه إذا طلقها ثم راجعها من غير مواقعة ثم طلّقها (٢) ، لم يكن طلاقه ذلك طلاقا ، وعلّله من حيث وقوع الطلاق في طهر الطلقة الاولى مع أن شرط صحة الطلاق المتعدد تعدد الأطهار.

وحينئذ ، فلو كانت الرجعة التي حصلت منه بعد الطلاق من غير جماع غير صحيحة كما يدعونه ، وأن المرأة باقية على مقتضى الطلاق الأول ، لعلّل به بما (٣) علل به سابقه من كونه طلق طالقا ، فإنه أوضح في التعليل وأظهر كما لا يخفى.

وبالجملة فالظاهر أن ما أدعوه من ذلك مجرد توهم نشأ من حكم ابن أبي عقيل ببطلان الطلاق الأخير ، ولا وجه له ظاهرا عندهم إلا ذلك ، حيث إن هذا الوجه الذي علل به الإبطال كما (٤) في الرواية غريب على قواعدهم ، بل لم يقفوا على هذه الرواية بالكلية ولم يتعرضوا لها في الكتب الاستدلالية.

وأما قوله عليه‌السلام في رواية أبي بصير السابقة : «المراجعة هي الجماع» فالظاهر أن المعنى فيها أن المراجعة الموجبة لصحة الطلاق بعدها هي ما اشتملت على الجماع كما يدل عليه قوله عليه‌السلام ، وإلّا فهي واحدة كما لا يخفى. إذا عرفت ذلك ،

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) ثم طلقها ، من «ح».

(٣) في «ح» بعدها : لعلّه عليه‌السلام.

(٤) ليست في «ح».

٩٧

فالكلام في الجمع بين هذا الأخبار لا يخلو عن أحد وجوه :

الأول : ما ذكره الشيخ قدس‌سره في كتابي الأخبار من حمل (١) الأخبار الواردة بالنهي عن تكرار الطلاق بعد الرجعة بدون وطء ، وأن ذلك الطلاق لا يقع ـ على كون ذلك الطلاق للعدة ؛ لأنه كما تقرر مشروط بالرجعة والوطء بعدها (٢) ، وحمل أخبار الجواز على طلاق السنّة بالمعنى الأعمّ (٣). ونسبه المحقق في هذا الجمع إلى التحكم (٤).

قال في (المسالك) ، ووجهه : (أن كلا من الأخبار ورد في الرجل يطلق على الوجه المذكور ، ويجيب الإمام عليه‌السلام بالجواز أو النهي من غير استفصال ؛ فيفيد العموم من الطرفين ، ولأن شرط الطلاق العدّي الوطء بعده وبعد الرجعة منه في العدة ، وهاهنا شرط في جواز الطلاق ثانيا سبق الوطء ، وسبقه ليس بشرط في طلاق العدة ، وإنما الشرط تأخره ، فيلزم الشيخ أخذ غير الشرط مكانه).

ثم قال قدس‌سره : (وللشيخ أن يجيب بأنّ الباعث على الجمع التعارض ، فلا يضره عمومها من الطرفين على تقدير تسليمه ؛ لأن تخصيص العام لأجل الجمع جائز [و] (٥) خير من اطراح أحد الجانبين ، والوطء الذي جعل معتبرا في الطلاق ثانيا يجعل الطلاق السابق عدّيا ، وليس الحكم مختصّا بالطلاق الثاني ، بل بهما معا.

بمعنى أن من اراد طلاق المرأة للعدّة أزيد من مرّة ، فليس له ذلك ولا يتحقّق إلّا بالمراجعة والوطء ، ثم الطلاق ليصير الأوّل طلاق عدّه ، وإذا أراد الطلاق كذلك ثالثا لم يكن له ذلك إلّا بعد المراجعة ، والوطء ليصير الثاني عدّيا أيضا ، وليصير

__________________

(١) من «ح».

(٢) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٦ / ذيل الحديث : ١٤٢ ، الاستبصار ٣ : ٢٨٤ / ذيل الحديث : ١٠٠٣.

(٣) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٦ / ذيل الحديث : ١٤١ ، الاستبصار ٣ : ٢٨٢ / ذيل الحديث : ٩٩٩.

(٤) شرائع الإسلام ٣ : ١٥.

(٥) من النسخة الحجرية للمسالك : ٢٣.

٩٨

الثالث بحكمها لتحرم (١) في الثالثة عليه قطعا ، بخلاف ما لو طلّقها على غير هذا الوجه ، فإن فيه أخبارا كثيرة تؤذن بعدم التحريم تقدم بعضها) (٢) انتهى.

أقول : واستند الشيخ في وجه الجمع الذي ذكره إلى رواية المعلّى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الذي يطلّق ثم يراجع ثم يطلق فلا يكون بين الطلاق والطلاق جماع ، فتلك تحل له قبل أن تتزوج زوجا غيره ، والتي لا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره ، هي التي تجامع فيما بين الطلاق والطلاق» (٣).

وأورد عليه أنه لا دلالة فيها إلا على أن الجماع بين الطلاقين شرط في التحريم المحوج إلى المحل. وأما التفصيل بالسني والعدّي واشتراط الجماع بعد الرجوع في العدّي خاصة ، فلا دلالة فيها عليه. وفي هذا الخبر أيضا من الإشكال ما يمنع من العمل به والاعتماد عليه ، لدلالته على أن غير الطلاق العدّي لا تبين به منه في الثالثة ، وهو خلاف ما عليه الأصحاب ، ومنهم الشيخ أيضا ، فهي مخالفة لقواعدهم. نعم ، ربما يمكن انطباقها على مذهب ابن أبي عقيل هذا. وعندي فيما ذهب إليه الشيخ رحمه‌الله من الجمع المذكور نظر من وجهين :

أحدهما : ما ذكره في (المسالك) ، في بيان أحد وجهي التحكم الذي نسبه المحقّق إلى الشيخ من أن الحمل على الطلاق العدّي يوجب اشتراطه بسبق الوطء مع أن الشرط فيه إنما هو تأخر الوطء وما أجاب به شيخنا الشهيد الثاني عنه من أن الواطئ الذي جعل معتبرا في الطلاق ثانيا يجعل الطلاق السابق عدّيا ـ إلى آخره ـ ينافي ما صرّح به الشيخ من أن مراده بالطلاق العدّي هو الثاني لا

__________________

(١) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : للتحريم.

(٢) مسالك الأفهام ٩ : ١٣٩ ـ ١٤٠.

(٣) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٦ / ١٤٢ ، الاستبصار ٢ : ٢٨٤ / ١٠٠٣ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٤ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٩ ، ح ٣.

٩٩

الأوّل. فإنه قال في (الاستبصار) ـ بعد أن نقل (١) صحيحة عبد الحميد الطائي المتقدمة ، وصحيحة محمد بن مسلم الدالتين على أن الرجعة بغير جماع رجعة ما صورته ـ : (فالوجه في هذين الخبرين أنه تكون رجعة بغير جماع ، بمعنى أنه يعود إلى ما كان عليه من أنه يملك مواقعتها (٢) ، ولو لا الرجعة لم يجز ذلك ، وليس في الخبر أنه يجوز له أن يطلقها تطليقة اخرى للعدة وإن لم يواقع ، ونحن إنما اعتبرنا ، المواقعة فيمن أراد ذلك ، فأما من لا يريد ذلك فليس الوطء شرطا له) (٣) انتهى.

وهو صريح في أن مراده بالطلاق العدّي هو الثاني المسبوق بالمواقعة كما لا يخفى. وقال أيضا بعد إيراد صحيحة البزنطي ، وحسنة أبي علي بن راشد المتقدمتين الدالتين على وقوع الطلقة الثانية وجوازها بعد المراجعة من غير جماع ما لفظه : (لأنه ليس في هذه الأخبار ان له أن يطلّقها طلاق العدّة ونحن إنّما نمنع أن يجوز له أن يطلّقها طلاق العدة ، فامّا طلاق السنة فلا بأس أن يطلقها بعد ذلك) (٤) إلى آخره. فإنه كما ترى قد حمل قوله عليه‌السلام في صحيحة البزنطي : «تقع عليه التطليقة الثانية» وقوله في حسنة أبي علي : «يجوز له ذلك» على كون ذلك الطلاق الثاني سنيّا لا عدّيّا.

وبالجملة ، فحيث كان محل النزاع والاختلاف في الأخبار ، إنما هو بالنسبة إلى وقوع الطلقة الثانية الواقعة بعد الرجعة بغير مواقعة وصحتها وعدمه ، فبعض الأخبار دل على صحة ذلك الطلاق ، وبعضها على عدم صحته ووقوعه حمل (٥)

__________________

(١) في النسختين بعدها : في خبر أما.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» موافقتها.

(٣) الاستبصار ٣ : ٢٨١ / ذيل الحديث : ٩٩٦.

(٤) الاستبصار ٣ : ٢٨٢ / ذيل الحديث : ٩٩٩.

(٥) جملة جواب الشرط لاسم الشرط : حيث.

١٠٠