الدّرر النجفيّة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢١

عنه (١) دعوى المعاينة ، ولا أنه احترق بأنوار العظمة الإلهية وتلاشى عما كان عليه من الصورة البشرية.

روى الكليني قدس‌سره في (الكافي) بسنده عن صفوان قال : سألني أبو قرة المحدّث أن ادخله على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، فاستأذنته في ذلك فأذن لي ، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد ، فقال أبو قرة : إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين اثنين ، قسم الكلام لموسى عليه‌السلام ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الرؤية. فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «فمن يبلّغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٢) (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٣) ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ) (٤)؟ أليس محمّد؟». قال : بلى.

قال : «كيف يجي‌ء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بامر الله ، فيقول (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) ، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ) ثم يقول أنا رأيته بعيني وأحطت به علما ، وهو على صورة البشر؟! أمّا تستحون (٥)؟ ، ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا [أن يكون يأتي من عند الله بشي‌ء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر]؟». قال أبو قرة : فإنه يقول : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (٦)؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى ، حيث قال (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (٧) ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه ، ثم أخبر بما رأى فقال

__________________

(١) ولم ينقل عنه ، من «ح» ، وفي «ق» بدلها : من.

(٢) الأنعام : ١٠٣.

(٣) طه : ١١٠.

(٤) الشورى : ١١.

(٥) في «ح» : تستحيون.

(٦) النجم : ١٣.

(٧) النجم : ١١.

٢٤١

(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (١) وآيات الله غير الله. وقد قال (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٢) وإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة». فقال أبو قرة : فتكذّب الروايات؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبناها.

وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شي‌ء» (٣).

وأنت خبير بأن القائل بهذه المرتبة على وجه الحقيقة أو ما قاربها إنما أراد فتح باب القول بالحلول أو الاتحاد أو وحدة الوجود كما هو المأثور المشهور عن الصوفية ، كما يعطيه التمثيل بالفحم المحترق بالنار حتى صار نارا (٤) يترتب عليه ما يترتب على النار بزعمهم ، وقد عرفت ما فيه.

تذييل جليل ينبئ عن السبب في هذا الضلال والتضليل

أقول : ينبغي أن يعلم أن الأصل في هذه المقالات ـ يعني دعوى الكشف والوصول إلى الله على الوجه الذي تدعيه الصوفية من الرؤية والمعاينة والفناء في الله بالاحتراق ، ونحو ذلك من تلك الخرافات بمجرد العقول والأفكار والرياضات التي يعملونها والأوراد والأذكار ـ هم الفلاسفة الكفرة والحكماء الفجرة لدفع نبوّة الأنبياء المبعوثين في زمانهم لهم ولغيرهم. كما نقل عن أفلاطون أنه لما دعاه عيسى ـ على نبينا وعليه‌السلام ـ أجابه بأنك إنما ارسلت إلى ضعفة العقول

__________________

(١) النجم : ١٨.

(٢) طه : ١١٠.

(٣) الكافي ١ : ٩٥ ـ ٩٦ / ٢ ، باب في إبطال الرؤية.

(٤) أقول : قال الشيخ البهائي رحمه‌الله : (قال الشيخ العارف مجد الدين البغدادي : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام فقلت : ما تقول في حق ابن سينا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو رجل أراد أن يصل إلى الله تعالى بلا واسطتي فمحقته بيدي هكذا ، فسقط في النار. (هامش «ح»).

٢٤٢

لتكميل عقولهم ، وأما مثلي فلا حاجة به إليك (١).

ألا ترى إلى ما تحكم به الحكماء من أحوال الأفلاك السماوية والأقاليم الأرضية كما هو مذكور في علم الهيئة المدون في كلامهم؟ كما قيل : إن فيثاغورس صاحب (علم الموسيقى) وضع الألحان على أصوات حركات الفلك (٢).

ونقل عن بطليموس أنه عرف حركات الأفلاك (٣) ، ثم أخذ ذلك صوفية العامة لمّا ابتدعوا هذه المقالة في عصر الأئمَّة عليهم‌السلام لمعارضتهم عليهم‌السلام والرد عليهم ، وجروا على قواعد الفلاسفة في أكثر أحكامهم وقواعدهم ، وادّعوا لأنفسهم هذه المكاشفات والإخبار بالمغيّبات والكرامات ، وتبعهم ضلّال العامة العمياء ، ونقلوا لهم من المعجزات والكرامات ما هو مذكور في كتبهم كما لا يخفى على من طالعها.

وجميع ذلك إنما قصدوا به يومئذ معارضة الأئمَّة ـ صلوات الله عليهم ـ فيما يأتون به من المعجزات والكرامات ، ثم انتهى الأمر إلى أن قال بهذه المقالة جملة من الشيعة الذين أخذوا من قواعد الفلسفة ، وسلكوا تلك المسالك المتعسفة ، حتى ادّعوا ـ لفرط غلوهم في القول بمذهب الصوفية ـ أن صوفية زمانهم عليهم‌السلام كانوا من خلص الشيعة الإمامية كما صرّح به جملة منهم ، كالقاضي نور الله في (مجالس

__________________

(١) انظر : الأنوار النعمانية ٣ : ١٣٠. ويذكر أن كتب التراجم التي بين أيدينا تشير إلى أن أفلاطون عاش قبل النبي عيسى عليه‌السلام بأربعة قرون تقريبا ، فهو قد توفي عام (٣٤٧) ق. م كما في موسوعة المورد ٨ : ٤٨ ، الموسوعة الفلسفية المختصرة : ٤٥ ، موسوعة أعلام الفلسفة ١ : ٩٧ ، المنجد (الأعلام) ٢ : ٥٨. ويبعد حمله على أفلوطين أيضا ؛ إذ إنه توفي عام (٢٧٠) م كما في موسوعة المورد ٨ : ٥١ ، موسوعة أعلام الفلسفة ١ : ١٠٦ ، المنجد (الأعلام) ٢ : ٥٨.

(٢) انظر رسائل إخوان الصفا ١ : ٢٠٨.

(٣) انظر الملل والنحل ٢ : ٤٠٤ ، بالمعنى.

٢٤٣

المؤمنين) (١) ، وصاحب الرسالة التي أشرنا فيما تقدم إلى ردها. وقد استوفينا جملة من الأبحاث والكلام في الرسالة التي كتبناها في الرد على الرسالة المذكورة ، وأوضحنا فضائحهم ، ونشرنا قبائحهم بما لا يقبل الاستتار ولا يداخله الاعتداد.

__________________

(١) انظر مجالس المؤمنين ٢ : ٣٨.

٢٤٤

(٣٣)

درّة نجفيّة

هل يقدم دليل العقل على دليل النقل؟

قد اشتهر بين أكثر أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ الاعتماد على الأدلة العقلية في الاصول والفروع ، وترجيحها على الأدلة النقلية ؛ ولذا تراهم في الاصولين متى تعارض الدليل العقلي والسمعي ، قدّموا الأول واعتمدوا عليه وتأولوا الثاني بما يرجع إليه وإلّا اطّرحوه بالكلية.

وفي كتبهم الاستدلالية في الفروع الفقهية أول ما يبدءون في الاستدلال بالدليل العقلي ، ثم ينقلون الدليل السمعي مؤيدا له. ومن ثم قدم أكثرهم العمل بالبراءة الأصليّة والاستصحاب ونحوهما من الأدلة العقلية على الأخبار الضعيفة باصطلاحهم بل الموثّقة.

قال المحقق ـ رضوان الله عليه ـ في بعض مصنّفاته في مسألة جواز إزالة الخبث بالمائع وعدمه ـ حيث إن السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه اختار الطهارة من الخبث به ، ونسب ذلك إلى مذهبنا ، مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ـ ما صورته : (أما علم الهدى فإنه ذكر في (الخلاف) (١) أنه إنما أضاف ذلك إلى المذهب ؛ لأن من أصلنا

__________________

(١) هو كتاب الخلاف في اصول الفقه ، ذكره النجاشي : ٢٧١ / ٧٠٨.

٢٤٥

العمل بدليل العقل ما لم يثبت الناقل. وليس في [الشرع] (١) ما يمنع من استعمال المائعات في الإزالة ولا ما يوجبها. ونحن نعلم أنه لا فرق بين الماء والخل في الإزالة ، بل ربما كان غير الماء أبلغ ، فحكمنا حينئذ بدليل العقل).

ثم قال المحقق قدس‌سره بعد كلام في البين : (أما نحن فقد فرقنا بين الماء والخل ، فلم يرد علينا ما ذكره علم الهدى) (٢) إلى آخر كلامه.

فانظر إلى موافقته المرتضى فيما نقله عنه من أصالة العمل بدليل العقل في الفروع الشرعية ، وإنما نازعه في هذا الجزئي وحصول الفرق فيه بين الفردين المذكورين.

وبالجملة ، فكلامهم تصريحا في مواضع وتلويحا في اخرى متّفق الدلالة على ما نقلناه ، ولم أر من ردّ ذلك وطعن فيه من أصحابنا سوى المحدّث المحقق السيد نعمة الله الجزائري ـ طيب الله تعالى مرقده ـ في مواضع من مصنفاته ؛ منها في كتاب (الأنوار النعمانية) ، وهو كتاب جليل يشهد بسعة دائرته ، وكثرة اطّلاعه على الأخبار ، وجودة متبحرة في العلوم والآثار ، حيث قال فيه ـ ونعم ما قال ؛ فإنه الحق الذي لا تعتريه غياهب الإشكال ـ : (إن أكثر أصحابنا قد تبعوا جماعة من المخالفين من أهل الرأي والقياس ، ومن أهل الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من الذين اعتمدوا على العقول واستدلالاتها ، وطرحوا ما جاءت به الأنبياء عليهم‌السلام ، حيث لم يأت على وفق عقولهم ، حتى نقل أن عيسى ـ على نبينا وعليه‌السلام ـ لما دعا أفلاطون إلى التصديق بما جاء به أجاب بأن عيسى رسول إلى ضعفة العقول ، وأما أنا وأمثالي فلسنا نحتاج في المعرفة إلى إرسال الأنبياء.

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : الأدلة العقلية ، ونقل العبارة في الحدائق ١ : ٤٠٢ ؛ بلفظ : الأدلّة النقليّة.

(٢) المسائل المصريّة (ضمن الرسائل التسع) : ٢١٦.

٢٤٦

والحاصل أنهم ما اعتمدوا في شي‌ء من امورهم إلّا على العقل ، فتابعهم بعض أصحابنا وإن لم يعترفوا بالمتابعة ، فقالوا : إذا تعارض الدليل العقلي والنقلي طرحنا النقلي أو تأولنا النقلي بما يرجع إلى العقل. ومن هنا تراهم في مسائل من الاصول يذهبون إلى أشياء كثيرة قد قامت الدلائل النقلية على خلافها لوجود ما تخيلوا أنه دليل عقلي مثل قولهم بنفي الإحباط في العمل تعويلا على ما ذكروه في محلّه من مقدمات لا تفيد ظنا فضلا عن العلم ، وسنذكرها إن شاء الله في أنوار القيامة مع وجود الدلائل من (الكتاب) والسنة ، على أن الإحباط الّذي هو الموازنة بين الأعمال وإسقاط المتقابلين وإبقاء الرجحان حق لا شك فيه ولا ريب يعتريه.

ومثل قولهم : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يحصل له الإسهاء من الله تعالى في صلاة قط ، تعويلا على ما قالوه من أنه لو جاز السهو عليه في الصلاة لجاز عليه في الأحكام ، مع وجود الدلائل الكثيرة من الأحاديث الصحاح والحسان والموثقات والضعيفات والمجاهيل على حصول مثل هذا (١) الإسهاء ؛ وعلل في تلك الروايات بأنه رحمة للأمّة لئلّا يعيّر الناس بعضهم بعضا بالسهو. وسنحقق هذه المسألة في نور من هذا الكتاب إن شاء الله إلى غير ذلك من مسائل الاصول.

وأما مسائل الفروع فمدارهم على طرح الدلائل النقلية ، والقول بما أدت إليه الاستحسانات العقلية وإذا عملوا بالدلائل النقلية يذكرون أولا الدلائل العقلية ، ثم يجعلون دليل النقل مؤيدا لها وعاضدا إياها ، فيكون المدار والأصل إنما هو العقل.

وهذا منظور فيه لأنا نسألهم عن بعض (٢) الدليل العقلي الذي جعلوه أصلا في الاصولين والفروع ، فنقول : إن أردتم ما كان مقبولا عند العقول فلا يثبت ولا يبقى

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) في «ح» : معنى.

٢٤٧

لكم دليل عقلي ، وذلك كما تحققت أن العقول مختلفة في مراتب الإدراك ، وليس لها حدّ تقف عنده. فمن ثم ترى كلّا من اللاحقين يتكلم على دلائل السابقين وينقضها ، ويأتي بدلائل اخرى على ما ذهب إليه (١). ولذلك لا ترى دليلا واحدا مقبولا عند عامة العقلاء والأفاضل وإن كان المطلوب متحدا ، فإن جماعة من المحققين اعترفوا بأنه لا يتم دليل من الدلائل على إثبات الواجب ؛ وذلك أن الدلائل التي ذكروها مبنية على إبطال التسلسل ، ولم يتم برهان على بطلانه.

فإذا لم يتم دليل على هذا المطلب الجليل الذي توجهت إلى الاستدلال عليه كافة الخلائق ، فكيف يتم على غيره ممّا توجهت إليه آحاد المحققين وإن كان المراد به ما كان مقبولا بزعم المستدل به واعتقاده؟ فلا يجوز لنا تكفير الحكماء والزنادقة ، ولا تفسيق المعتزلة والأشاعرة ، ولا الطعن على من ذهب إلى مذهب يخالف ما نحن عليه. وذلك أن أهل كل مذهب استندوا في تقوية ذلك المذهب إلى دلائل كثيرة من العقل وكانت مقبولة في عقولهم ، معلومة لهم ، ولم يعارضها سوى دلائل العقل لأهل القول الآخر أو دلائل النقل.

وكلاهما لا يصلح دليل (٢) المعارضة لما علمتم ؛ لأن دليل النقل يجب تأويله ، ودليل العقل لهذا الشخص لا يكون حجة على غيره ؛ لأن عنده مثله ويجب عليه العمل بذلك ، مع أن الأصحاب (٣) ذهبوا إلى تكفير الفلاسفة ومن يحذو حذوهم وتفسيق أكثر طوائف المسلمين ؛ وما ذلك إلّا لأنهم لم يقبلوا منهم تلك الدلائل ولم يعدوها من دلائل العقل) (٤) انتهى كلامه زيد في الخلد إكرامه.

__________________

(١) إذا بطل العقلي فالنقلي أولى بالبطلان ، ولعمري إن هذا إبطال لدليل العقل بالعقل. (ح) لمحرره ، (هامش «ع»).

(٢) ليست في «ح».

(٣) انظر كشف اللثام ٢ : ٤١٢ ، ففيه إشارة إلى ذلك.

(٤) الأنوار النعمانية ٣ : ١٢٩ ـ ١٣٢.

٢٤٨

أقول : وقد سبق إلى هذه المقالة الإمام الرازي حيث قال : (هذه الأشياء المسمّاة بالبراهين لو كانت في أنفسها براهين لكان كل من سمعها ووقف عليها وجب أن يقبلها وألّا ينكرها أصلا.

وحيث نرى أن الذي يسميه أحد الخصمين برهانا فإن الخصم الثاني يسمعه ويعرفه ولا يفيد له ظنا ضعيفا ، علمنا أن هذه الأشياء ليست في أنفسها براهين ، بل هي مقدمات ضعيفة انضافت العصبية والمحبة إليها فتخيّل بعضهم كونها برهانا مع أن الأمر في نفسه ليس كذلك. وأيضا فالمشبّه يحتج على القول بالتشبيه بحجة (١) ، ويزعم أن تلك الحجّة أفادته الجزم واليقين :

فإما أن يقال : إن كل واحدة من هاتين الحجتين صحيحة يقينية ، فحينئذ يلزم صدق النقيضين وهو باطل.

وإما أن يقال : إحداهما صحيحة والاخرى فاسدة ، إلّا إنه متى كان الأمر كذلك كانت مقدمة واحدة من مقدمات تلك الحجّة باطلة في نفسها ، مع أن الذي تمسّك بتلك الحجة جزم بصحة تلك المقدمة ابتداء.

فهذا يدل على أن العقل يجزم بصحة الفاسد جزما ابتداء ، فإذا كان كذلك كان العقل غير مقبول القول في البديهيات ، وإذا كان كذلك ، فحينئذ [تنسدّ] (٢) جميع الدلائل.

فإن قالوا : إن العقل إنما جزم بصحة ذلك الفاسد بشبهة متقدمة.

فنقول : قد حصل في تلك الشبهة المتقدمة مقدمة فاسدة ، فإن كان ذلك لشبهة اخرى لزم التسلسل ، فإن كان ابتداء فقد توجّه الطعن.

وأيضا فإنا نرى الدلائل القويّة في بعض المسائل العقلية متعارضة ، مثل

__________________

(١) في «ح» : لحجة.

(٢) من المصدر ، وفي «ق» : تفسد.

٢٤٩

مسألة الجوهر الفرد ، فإنا نقول : إن (١) كل متحيز فإن يمينه غير يساره ، وكلّ ما كان كذلك فهو منقسم ، ينتج أن كل متحيّز منقسم. ثم نقول : [الآن الحاضر غير منقسم وإلّا [لم يكن [كله] حاضرا بل بعضه ، وإذا كان غير منقسم كان أوّل عدمه في آن آخره متصل بآن وجوده ، فلزم تتالي الآنات ، ويلزم منه كون الجسم مركبا من أجزاء لا تتجزّأ ، فهذان الدليلان متعارضان.

ولا نعلم جوابا شافيا عن أحدهما. ونعلم أن أحد الكلامين يشتمل على مقدمة باطلة ، وقد جزم العقل بصحّتها ابتداء (٢) فصار العقل مطعونا فيه) (٣) ، ثم أخذ في تفصيل هذه الوجوه بكلام طويل (٤) كما هي عادته.

فإن قلت : فعلى ما ذكرت من عدم الاعتماد على الدليل العقلي يلزم ألّا يكون العقل معتبرا بوجه من الوجوه ، مع أنه قد استفاضت الآيات القرآنية والأخبار المعصومية بالاعتماد على العقل والعمل على ما يرجّحه ، وأنه حجة من حجج الله عزوجل كقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٥) في غير موضع من (الكتاب) العزيز ، أي يعملون بمقتضى عقولهم ، (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٦) (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٧) (لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) (٨) (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٩) (لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٠).

وقد ذم عزوجل قوما لم يعملوا بمقتضى عقولهم ، فقال سبحانه

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) في المصدر : أبدا.

(٣) عنه في الأنوار النعمانية ٣ : ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٤) وردت هذه العبارة في الأنوار النعمانية في ذيل نقل السيد الجزائري لكلام الرازي.

(٥) الرعد : ٤ ، النحل : ١٢.

(٦) الرعد : ٣ ، الروم : ٢١ ، الزمر : ٤٢ ، الجاثية : ١٣.

(٧) آل عمران : ١٩٠.

(٨) طه : ٥٤ ، ١٢٨.

(٩) الرعد : ١٩ ، الزمر : ٩.

(١٠) الزمر : ٢١.

٢٥٠

(أَفَلا يَعْقِلُونَ) (١) ، ولكن (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٢) (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (٣) (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٤) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على مدح العمل بمقتضى العقل وذم عكسه.

وفي الحديث (٥) عن أبي الحسن عليه‌السلام حين سئل : فما الحجة على الخلق اليوم؟

فقال عليه‌السلام : «العقل ، يعرف به الصادق على الله فيصدقه ، والكاذب على الله فيكذبه» (٦).

وفي آخر عن الصادق عليه‌السلام قال : «حجة الله على العباد النبي (٧) ، والحجة فيما بين الله وبين العباد (٨) العقل» (٩).

وفي آخر عن الكاظم عليه‌السلام : «يا هشام ، إن لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة وحجة باطنة ؛ فأما الحجة الظاهرة فالأنبياء والرسل والأئمَّة ، وأمّا الباطنة فالعقول» (١٠).

قلت : لا ريب أن العقل الصحيح الفطري حجة من حجج الله سبحانه وسراج منير من جهته جلّ شأنه وهو موافق للشرع ، بل هو شرع من داخل كما أن ذاك شرع من خارج ، لكن ما لم تغيّره غلبة الأوهام الفاسدة وتتصرف فيه العصبية أو حب الجاه أو نحو ذلك من الأغراض الكاسدة ، وهو يدرك الأشياء قبل ورود الشرع بها فيأتي الشرع مؤيدا له ، وقد لا يدركها قبله ويخفى عليه الوجه فيها فيأتي الشرع كاشفا ومبينا.

وغاية ما تدلّ عليه الأدلة مدح العقل الفطري الصحيح الخالي من شوائب

__________________

(١) يس : ٦٨.

(٢) المائدة : ١٠٣ ، العنكبوت : ٦٣ ، الحجرات : ٤.

(٣) المائدة : ٥٨ ، الحشر : ١٤.

(٤) محمّد : ٢٤.

(٥) في «ح» : الحسن.

(٦) الكافي ١ : ٢٥ / ٢٠.

(٧) من «ح» ، والمصدر.

(٨) في «ح» والمصدر : بين العباد وبين الله.

(٩) الكافي ١ : ٢٥ / ٢٢.

(١٠) الكافي ١ : ١٦ / ١٢ ، وفيه : فالرسل والأنبياء ، بدل : فالأنبياء والرسل.

٢٥١

الأوهام ، العاري عن التلوث بتلك الآلام والأسقام ، وأنه بهذا المعنى حجة إلهية ؛ لإدراكه بصفاء نورانيته وأصل فطرته بعض الامور التكليفية ، وقبوله لما يجهل منها متى ورد عليه الشرع بها ، وهو أعمّ من أن يكون بإدراكه ذلك أولا أو قبوله لها ثانيا كما عرفت. ولا ريب أن الأحكام الفقهيّة من عبادات وغيرها كلّها توقيفية تحتاج إلى السماع من حافظ الشريعة.

ولهذا قد استفاضت الأخبار ـ كما مرّ بك الإشارة إلى شطر منها في درر هذا الكتاب ، ولا سيما في درة البراءة الأصلية ، والدرّة التي في (١) مقبولة عمر بن حنظلة ـ بالنهي عن القول في الأحكام الشرعية بغير سماع منهم عليهم‌السلام وعلم مأثور عنهم ـ صلوات الله عليهم ـ ووجوب التوقف عن الفتوى والرجوع إلى الاحتياط في العمل متى انسدّ طريق العلم منهم عليهم‌السلام ، ووجوب الرد إليهم فيما خفي وجهه وأشكل أمره من الأحكام.

وما ذاك إلّا لقصور العقل المذكور عن الاطلاع على أغوارها ، وإحجامه عن التلجج في لجج بحارها. بل لو تم للعقل الاستقلال بذلك لبطل إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ؛ ومن ثم تواترت الأخبار ناعية على أصحاب القياس بذلك.

ومن الأخبار المؤكدة لما ذكرنا رواية أبي حمزة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث طويل قال : «إنّ الله لم يكل أمره إلى (٢) خلقه لا إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل ، ولكنه أرسل رسولا من ملائكته فقال له : قل : كذا وكذا فأمرهم بما يحبّ ونهاهم عما يكره» (٣) الحديث.

ومنها رواية أبي بصير عنه عليه‌السلام قال : قلت : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في

__________________

(١) في «ح» بعدها : شرح.

(٢) في «ح» : ولا.

(٣) الكافي ٨ : ١٠١ / ٩٢ ، باب حديث آدم عليه‌السلام عليه‌السلام مع الشجرة ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٥ ـ ٣٦ ، أبواب صفات القاضي ب ٦ ، ح ١.

٢٥٢

كتاب ولا سنة ، فننظر فيها؟ فقال : «لا ، أما إنك إن أصبت لم تؤجر ، وإن أخطأت كذبت على الله» (١).

ورواية يونس عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «من نظر برأيه هلك ، ومن ترك أهل بيت نبيه ضلّ» (٢).

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣) : «إنّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ، ولكن أتاه من ربه فأخذ به» (٤).

وفي (٥) آخر لما قال له السائل : ما رأيك في كذا؟ قال عليه‌السلام : «وأي محل للرأي هنا؟ إنّا إذا قلنا ، حدثنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرئيل عن الله عزوجل» (٦).

إلى غير ذلك من الأخبار المستفيضة (٧) الدالة على كون الشريعة توقيفية لا مدخل للعقل في استنباط شي‌ء من أحكامها بوجه من الوجوه.

نعم ، عليه القبول والانقياد والتسليم لما يراد ، وهو أحد فردي ما دلت عليه تلك الأدلة التي أوردها المتعرض.

نعم يبقى الكلام بالنسبة إلى ما لا يتوقف على التوقيف ، فنقول : إن كان الدليل العقلي المتعلّق بذلك بديهيا ظاهر البداهة كقولهم : الواحد نصف الاثنين فلا ريب

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٦ / ١١ ، باب البدع والرأي والمقاييس ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٤٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦ ، ب ٦.

(٢) الكافي ١ : ٥٦ / ١٠ ، باب البدع والرأي والمقاييس ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٤٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦ ، ح ٧.

(٣) من نظر برأيه هلك .. عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، من «ح».

(٤) الكافي ٢ : ٤٥ ـ ٤٦ ، باب نسبة الإسلام ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٤٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦ ، ح ١٤.

(٥) في «ح» بعدها : حديث.

(٦) انظر بحار الأنوار ٢ : ٢٥٠ / ٦٢.

(٧) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٥ ـ ٦٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦.

٢٥٣

في صحة العمل به ، وإلّا فإن لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك ، وإن عارضه دليل عقلي آخر فإن تأيّد أحدهما بنقلي كان الترجيح للمتأيد بالدليل النقلي وإلّا فإشكال ، وإن عارضه دليل نقلي فإن تأيد ذلك العقلي أيضا بنقلي كان الترجيح للعقليّ.

إلّا إن هذا في الحقيقة تعارض في النقليات ، وإلّا فالترجيح للنقلي وفاقا للسيد المحدث المتقدم ذكره ، وخلافا للأكثر.

هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق ، أما لو اريد به المعنى الأخصّ ، وهو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام ، الذي هو حجة من حجج الملك العلّام وإن شذ وجوده بين الأنام ، ففي ترجيح النقلي عليه إشكال ، والله العالم بحقيقة الحال (١).

__________________

(١) بحقيقة الحال ، ليس في «ح».

٢٥٤

(٣٤)

درّة نجفيّة

في حقيقة الرؤيا وأشكالها

روى الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (عيون أخبار الرضا عليه‌السلام) (١) وفي كتاب (المجالس) (٢) بسنده عن الحسن بن علي بن فضال عن الرضا عليه‌السلام أنه قال له رجل من أهل خراسان. يا بن رسول الله ، رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام كأنه يقول لي : كيف أنتم إذا دفن في أرضكم بضعتي ، واستحفظتم وديعتي ، وغيب في ثراكم نجمي؟ فقال الرضا عليه‌السلام : «أنا المدفون في أرضكم ، وأنا بضعة من نبيّكم ، وأنا الوديعة والنجم».

إلى أن قال عليه‌السلام : «ولقد حدثني أبي عن جدي عن أبيه عليهم‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من رآني (٣) في منامه فقد رآني ؛ لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ولا في صورة أحد من شيعتهم ، وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة».

أقول : [الكلام في الرؤيا يقع في خمسة مقامات]

المقام الأول : في تحقيق حقيقة الرؤيا وصدقها وكذبها

والأقوال في ذلك ثلاثة :

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٥٧ / ١١.

(٢) الأمالي : ١٢٠ ـ ١٢١ / ١١١.

(٣) في عيون الأخبار : زارني.

٢٥٥

أحدها : قول الحكماء ، فإنهم بنوا ذلك على ما أسسوه من انطباع صور الجزئيات في النفوس المنطبعة الفلكية ، وصور الكليات في العقول المجردة وقالوا : إن النفس في حالة النوم قد تتصل بتلك المبادئ العالية ، فيحصل لها بعض العلوم الحقة الواقعة ، فهذه هي الرؤيا الصادقة. وقد تركب المتخيلة بعض الصور المخزونة في الخيال ببعض ، وهذه هي الرؤيا الكاذبة.

وردّ هذا القول بأنّه رجم بالغيب ، وتقوّل بالظن والريب ، ولم يستند إلى دليل ولا برهان ، ولا إلى مشاهدة وعيان ، ولا إلى وحي إلهي مع ابتنائه على إثبات العقول المجردة والنفوس الفلكية المنطبعة (١) ، وهما ممّا نفتهما الشريعة المقدّسة كما تقرر في محله (٢).

وثانيها : قول المتكلمين ، قال في (المواقف) وشرحه : (وأما الرؤيا فخيال باطل عند المتكلمين ـ أي جمهورهم ـ أما عند المعتزلة فلفقد شرائط الإدراك حالة النوم من المقابلة ، و [انبثاث] (٣) الشعاع ، وتوسط الهواء الشفاف ، والبينة المخصوصة ، وانتفاء الحجاب إلى غير ذلك من الشرائط المعتبرة في الإدراكات فما يراه النائم ليس من الإدراكات في شي‌ء ، بل هو من قبيل الخيالات الفاسدة والأوهام الباطلة.

وأما عند الأصحاب ، إذ لم يشترطوا في الإدراك شيئا من ذلك ، فلأنه خلاف العادة ـ أي لم تجر عادته تعالى بخلق الإدراك في الشخص وهو نائم ـ ولأن النوم ضد الإدراك فلا يجامعه ، فلا تكون الرؤيا إدراكا حقيقة بل (٤) من

__________________

(١) يعني أن صور ما يجري في الأرض أو في العالم العادي كالنقوش. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) انظر بحار الأنوار ٥٨ : ١٩٦ ـ ١٩٧.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : اثبات.

(٤) في النسختين بعدها : هو ، وما أثبتناه وفق المصدر.

٢٥٦

قبيل الخيال الباطل) (١) انتهى.

وقال شيخنا المفيد ـ عطر الله مرقده ـ على ما نقله عنه الكراجكي رحمه‌الله في كتاب (كنز الفوائد) ما ملخصه : والرؤيا في المنام تكون من أربع جهات :

أحدها : حديث النفس بالشي‌ء والفكر فيه حتى يحصل كالمنطبع في النفس ، فيخيّل إلى النائم ذلك بعينه وأشكاله ونتائجه ، وهذا معروف بالاعتبار.

والجهة الثانية : من الطباع ، و [ما] يكون من قهر بعضها لبعض ، فيضطرب له المزاج ويتخيل لصاحبه ما يلائم ذلك الطبع الغالب من مأكول ومشروب ومرئيّ وملبوس ومبهج ومزعج. وقد نرى تأثير الطبع (٢) في اليقظة والشاهد حتى إن من غلبت عليه الصفراء يصعب عليه الصعود إلى المكان العالي ؛ يتخيل له وقوعه منه ، ويناله من الهلع والجزع ما لا ينال غيره. ومن غلبت عليه السوداء يتخيل له أنه قد صعد في الهواء وناجته الملائكة ويظن صحة ذلك ، حتى إنه ربما اعتقد في نفسه النبوّة وأن الوحي يأتيه من السماء ، وما أشبه ذلك.

والجهة الثالثة : ألطاف من الله عزوجل لبعض خلقه من تنبيه وتيسير ، وإعذار وإنذار ، فيلقي [في روعه] (٣) ما ينتج له تخييلات امور تدعوه إلى الطاعة والشكر على النعمة ، وتزجره عن المعصية وتخوّفه الآخرة ، ويحصل له بها مصلحة وزيادة وفائدة فكر يحدث له معرفة (٤).

والجهة الرابعة : أسباب من الشيطان ووسوسة يفعلها للإنسان يذكره بها امورا تحزنه وأسبابا تغمّه فيما لا يناله ، أو يدعوه إلى ارتكاب محظور يكون فيه عطبه ، أو تخيل شبهة في دينه يكون منها هلاكه. وذلك مخصوص بمن عدم التوفيق

__________________

(١) شرح المواقف ٦ : ١١١ ـ ١١٢.

(٢) في «ح» بعدها : الغالب.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : من روحه.

(٤) في «ح» : معرفته.

٢٥٧

لعصيانه وكثرة تفريطه في طاعات الله سبحانه ، ولن ينجو من باطل المنامات و [أحلامها] (١) إلّا الأنبياء والأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ ومن رسخ من الصالحين.

وقد كان شيخي رضي‌الله‌عنه قال لي : (إن كل من كثر علمه واتسع فهمه قلّت مناماته ، فإن رأى مع ذلك مناما وكان جسمه من العوارض سليما فلا يكون منامه إلّا حقا). يريد بسلامة الجسم : عدم الأمراض المهيجة للطباع وغلبة بعضها على ما تقدم به البيان.

والسكران أيضا لا يصح له منام ، وكذلك الممتلئ من الطعام ؛ لأنه كالسكران (٢). انتهى المقصود نقله من كلامه.

وقال السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه في كتاب (الغرر والدرر) في جواب سائل سأله : ما القول في المنامات ؛ أصحيحة هي أم باطلة؟ ومن فعل من هي؟ وما وجه صحتها في الأكثر؟ وما وجه الإنزال عند رؤية المباشرة في المنام؟ وإن كان فيها صحيح وباطل فما وجه (٣) السبيل إلى تمييز أحدهما من الآخر؟

الجواب : (اعلم أن النائم غير كامل العقل ؛ لأن النوم ضرب من السهو ، والسهو ينفي العلوم ، ولهذا يعتقد النائم الاعتقادات الباطلة لنقصان عقله وفقد علومه.

وجميع المنامات إنما هي اعتقادات [يبتدأ بها] (٤) النائم في نفسه).

إلى أن قال : (وينبغي أن يقسم ما يتخيل النائم أنه يراه إلى أقسام ثلاثة (٥) : منها ما يكون في غير سبب يقتضيه ، ولا داع يدعو إليه اعتقادا مبتدئا.

ومنها ما يكون من وسواس الشيطان ، [ومعنى هذه الوسوسة أن الشيطان]

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : اخلافها.

(٢) كنز الفوائد ٢ : ٦٠ ـ ٦١.

(٣) ليست في «ح».

(٤) من المصدر ، وفي النسختين : يبديها.

(٥) في «ح» : ثلاثة أقسام.

٢٥٨

يفعل في داخل سمعه كلاما خفيا يتضمن أشياء مخصوصة ، فيعتقد النائم إذا سمع ذلك الكلام أنه يراه ، فقد نجد كثيرا من النيام يسمعون حديث من يتحدث بالقرب منهم فيعتقدون أنّهم يرون ذلك الحديث في منامهم.

ومنها ما يكون سببه والداعي إليه خاطرا يفعله الله تعالى أو يأمر بعض الملائكة بفعله. ومعنى هذا الخاطر أن يكون كلاما يفعل في داخل السمع فيعتقد النائم أيضا ما يتضمن ذلك الكلام.

والمنامات الداعية إلى الخير والصلاح في الدين يجب أن تكون إلى هذا الوجه مصروفة ، كما أن ما يقتضي الشر منها الأولى أن تكون إلى وسواس الشيطان مصروفة. وقد يجوز على هذا فيما يراه النائم في منامه ثم يصح ذلك حتى يراه في يقظته على حد ما يراه في منامه ، وفي كل منام يصح تأويله أن يكون سبب صحته أن الله تعالى يفعل كلاما في سمعه لضرب من المصلحة بأن شيئا يكون أو قد كان على بعض الصفات ، فيعتقد النائم أن الذي يسمعه هو يراه ، فإذا صح تأويله على ما يراه فما ذكرناه إن لم يكن مما يجوز أن يتفق فيه الصحة اتفاقا ، فإن في المنامات ما يجوز أن يصح بالاتفاق ، وما يضيق فيه مجال نسبته إلى الاتّفاق. فهذا الذي ذكرناه يمكن أن يكون وجها فيه) (١) إلى آخر كلامه قدس‌سره.

وثالثها : ما استفدته من الوالد ـ قدس الله نفسه وطيب رمسه ـ مذاكرة ، وهو الأقرب إلى الأخبار الواردة عن الأئمَّة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ وهو أن الروح قبل حلولها البدن ـ سواء قلنا بتجردها كما هو أحد الأقوال (٢) ، أو بتجسّمها كما هو ظاهر بعض الآيات وجملة من الروايات ، أو بكونها في قالب مثالي كما قيل به أيضا ـ لما كانت مخلوقة قبل الجسد كما استفاضت به

__________________

(١) لم نعثر عليه في كتاب الغرر والدرر ، والكلام موجود برمّته في رسائل الشريف المرتضى ، (المجموعة الثانية) : ٩ ـ ١١.

(٢) انظر كشف المراد : ١٨٤.

٢٥٩

الأخبار (١) ، ولها عالم آخر غير هذا العالم العنصري فهي في حال النوم تخرج من هذا الجسد إلى ذلك العالم الذي هو عالمها الأصلي وتسرح إليه ، فربما اطّلعت ثمة على بعض الامور الغيبية التي تقع في هذا العالم اطّلاعا حقيقيا فيقع كما رأته في اليقظة ، وربما اطّلعت عليه بوجه ما لأسباب وعوارض اقتضت ذلك.

وهذه الرؤيا المحتاجة إلى تعبير وتأويل ، وكلا الأمرين من قسم الرؤيا الصادقة.

وربما يتخيل لها أشياء لا (٢) حقائق لها لأسباب يأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى ، وهذه هي الرؤيا الكاذبة المعبّر عنها بأضغاث الأحكام.

قال بعض مشايخنا ـ عطر الله مراقدهم ـ : (إن الروح في حال النوم تخرج من البدن إلى عالم آخر وهو عالم الملكوت ، وتطّلع هناك على بعض التقديرات المثبتة في الألواح المشتملة على الأقضية والأقدار ، فإن كان لها صفاء ولعينها ضياء فإنها ترى الأشياء كما اثبتت ، وهذا في رؤيا الأنبياء والأئمَّة عليهم‌السلام ممّا لا ريب فيه وكذلك بعض الصلحاء. وحينئذ ، فلا تحتاج إلى تأويل ولا تعبير.

وإن كانت قد اسدلت على أعينها أغشية ظلمات التعلّقات الجسمانية والشهوات النفسانيّة ، فإنها ترى الأشياء بصور شبيهة لها.

كما أن ضعيف البصر ومن بعينه آفة يرى الأشياء على غير ما هي عليه ، وهذه الرؤيا المحتاجة إلى التعبير ، وقد يرى في الهواء قبل الاتصال بذلك العالم أو بعد الرجوع منه أشياء وهي الرؤيا الكاذبة ، وهي تقع من الشياطين والمردة المترددين في الهواء (٣) ، انتهى ملخصا وهو جيد.

__________________

(١) انظر الأنوار النعمانية ٤ : ٥١.

(٢) في النسختين : ولا.

(٣) بحار الأنوار ٥٨ : ٢١٨.

٢٦٠