الدّرر النجفيّة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢١

راوي هذا الحديث ، وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب ؛ لأنه كان في كتاب (الرحمة (١)) وقد قرأته عليه فلم ينكره ، ورواه لي) (٢).

أقول وكتاب (الرحمة) (٣) لسعد بن عبد الله.

وقال في (من لا يحضره الفقيه) ـ في باب ما يجب على من أفطر أو جامع في شهر رمضان ، حيث روى عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل أتى امرأته وهي صائمة وهو صائم ، فقال : «إن كان أكرهها فعليه كفارتان ، وإن كانت طاوعته فعليه كفارة» الحديث ـ ما صورته : (قال مصنف هذا الكتاب رضي‌الله‌عنه : لم أجد ذلك في شي‌ء من الاصول ، وإنما تفرد بروايته علي بن إبراهيم بن هاشم) (٤). وقال في كتاب (الغيبة (٥)) ـ بعد أن نقل حديثا عن أحمد بن زياد ما صورته ـ : (قال مصنف هذا الكتاب رضي‌الله‌عنه : لم أسمع هذا الحديث إلّا من أحمد بن زياد رضي‌الله‌عنه بهمدان بعد منصرفي من حج بيت الله الحرام ، وكان رجلا ثقة ديّنا فاضلا رحمة الله ورضوانه عليه) (٦).

وقال أيضا في الكتاب المذكور ـ بعد نقل حديث عن علي بن عبد الله الوراق ـ : (قال مصنف هذا الكتاب رضي‌الله‌عنه : لم أسمع هذا الحديث إلّا من علي بن عبد الله الوراق ، ووجدته بخطه مثبتا ، فسألته عنه فرواه لي عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن إسحاق كما ذكرته) (٧) انتهى.

وقال أيضا في كتاب (معاني الأخبار) في باب معنى ما جاء في لعن الذهب

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : الترجمة.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١ ـ ٢٢ / ٤٥.

(٣) وهو كتاب الوضوء ، والصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصيام. انظر : رجال النجاشي : ١٧٧ / ٤٦٧ ، الذريعة ١٠ : ١٧٢ / ٣٤٣.

(٤) الفقيه ٢ : ٧٣ / ٣١٣.

(٥) من «ح» ، وفي «ق» : الفقيه.

(٦) كمال الدين : ٣٦٩ / ٦.

(٧) كمال الدين : ٣٨٥ / ١.

٣٢١

والفضة : (قال مصنف هذا الكتاب رحمه‌الله : هذا حديث لم أسمعه إلّا من الحسن بن حمزة العلوي رضي‌الله‌عنه ، ولم أروه عن شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد ، ولكنه صحيح عندي) (١).

إلى غير ذلك من المواضع التي يضيق عن نشرها المقام ، كما لا يخفى على من أحاط خبرا بكتبه لا سيما (علل الشرائع والأحكام (٢)) (٣).

ولا يخفى على الفطن اللبيب والموفق المصيب أن تذييله هذه الأخبار ونحوها بأمثال هذا الكلام ، يدلّ دلالة واضحة على أن جميع ما ينقله من الأخبار في كتبه ساكتا عن الكلام عليه ، فهو صحيح عنده متنا وسندا. وفيه أيضا دلالة واضحة على أن جميع تلك الأخبار مستفيضة عنده منقولة من الاصول المعتمدة الموثوق بها.

وبالجملة ، فالخوض في بحور كتب الرجال ، والنظر في مصنفات المتقدّمين ، والاطلاع على سيرتهم وطريقتهم يفيد الجزم بما قلناه. وأما من أخذ بظاهر المشهور من غير تدبر لما هو ثمة مذكور ، فهو فيما ذهب إليه معذور ، وكل ميسر لما خلق له. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

__________________

(١) معاني الأخبار : ٣١٤ / ١.

(٢) ليست في «ح».

(٣) علل الشرائع ٢ : ١٥٩ / ب ٢٠٤ ، ح ١.

٣٢٢

(٣٧)

درّة نجفيّة

في تقسيم الأحاديث

قد صرّح جملة من أصحابنا المتأخّرين (١) بأن الأصل في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة المشهورة هو العلّامة ، أو شيخه جمال الدين أحمد بن طاوس ـ نوّر الله تعالى مرقديهما ـ وأما المتقدمون ، فالأخبار عندهم كلّها صحيحة إلّا ما نبهوا على ضعفه ، والصحيح عندهم ليس باعتبار السند ، بل هو عبارة عما اعتضد بما يوجب الاعتماد عليه من القرائن والأمارات التي ذكرها الشيخ قدس‌سره في كتاب (العدة) (٢).

وعلى هذا جملة من أصحابنا المحدّثين (٣) ، وطائفة من متأخري متأخري (٤) المجتهدين ، كشيخنا المجلسي (٥) ـ رحمه‌الله تعالى ـ وجملة ممن تأخر عنه. وقد اتّسع خرق الخلاف بين المجتهدين من أصحابنا والأخباريين في جمل عديدة من مسائل الاصول الفقهية ، وبسط كل من علماء الفريقين لسان التشنيع على الأخر بما لا ينبغي التعرض له بالكلية.

والحق الحقيق بالاتّباع ما سلكه طائفة من متأخّري المتأخّرين كشيخنا

__________________

(١) منتقى الجمان ١ : ١٤ ، مشرق الشمسين : ٣١ ـ ٣٢ ، وسائل الشيعة ٣٠ : ٢٦٢.

(٢) العدة في اصول الفقه ١ : ١٤٣ ـ ١٥٥.

(٣) الوافي ١ : ٢٢ ـ ٢٤.

(٤) ليست في «ح».

(٥) ملاذ الأخيار ١ : ٢٥ ـ ٢٧.

٣٢٣

المجلسي رحمه‌الله (١) وطائفة ممن أخذ عنه وأتى بعده ، فإنّهم سلكوا من طرق الخلاف بين ذينك الفريقين طريقا وسطا من القولين ، ونجدا أوضح من ذينك النجدين ، وخير الامور أوسطها.

والحق هنا في الكلام على الأخبار صحة وضعفا مع الأخباريين ومتقدمي أصحابنا المجتهدين ، وأنا مبين في هذه الدرة ذلك على وجه الحق واليقين ، وموضحه بالأدلة القاطعة والبراهين ، فأقول :

أولا : قد صرّح شيخنا البهائي في كتاب (مشرق الشمسين) (٢) ، وقبله المحقق الشيخ حسن قدس‌سرهما في مقدمات كتاب (المنتقى) (٣) بما ملخصه ؛ وهو أن (٤) الداعي إلى تقرير المتأخّرين رضي‌الله‌عنه هذا الاصطلاح في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة هو أنه لما طالت المدة فيما بينهم وبين الصدر الأول ، وبعدت عليهم الشقة ، وخفيت عليهم تلك القرائن التي أوجبت صحة الأخبار عند المتقدّمين ، فضاق عليهم ما كان متسعا على غيرهم ، التجئوا إلى العمل بالظن بعد فقد العلم ؛ لكونه أقرب مجازا إلى الحقيقة عند تعذرها.

وبسبب التباس الأخبار ؛ غثّها بسمينها ، وصحيحها بسقيمها (٥) التجئوا إلى هذا الاصطلاح الجديد ، وقربوا لنا البعيد ، ونوّعوا الحديث إلى الأنواع الأربعة.

وزاد في كتاب (مشرق الشمسين) أنهم ربما سلكوا طريقة القدماء في بعض الأحيان ، ثم عد قدس‌سره مواضع من ذلك القبيل. هذا خلاصة ما ذكروه في تعليل ذلك.

ونحن نقول : لنا على بطلان هذا الاصطلاح والحكم بصحّة أخبارنا وجوه من الأدلّة التي لا يداخلها عيب ولا علّة :

__________________

(١) ملاذ الأخيار ١ : ٢٧.

(٢) مشرق الشمسين : ٣٠ ـ ٣٢.

(٣) منتقى الجمان ١ : ١٤.

(٤) في «ح» : بعدها : السبب.

(٥) ليست في «ح».

٣٢٤

الأوّل : ما قد عرفت في الدرة المتقدمة من أن منشأ الاختلاف في أخبارنا إنّما هو التقيّة من ذوي الخلاف ، لا من دسّ الأخبار المكذوبة ؛ حتى يحتاج إلى هذا الاصطلاح. على أنه متى كان الداعي إلى هذا الاصطلاح إنما هو دسّ الأحاديث المكذوبة ، كما توهموه ـ رضوان الله عليهم ـ ففيه أنه لا ضرورة تلجئ إلى اصطلاحهم ؛ لأنّهم عليه‌السلام قد أمرونا بعرض ما نشك فيه من الأخبار على (الكتاب) والسنة ، فيؤخذ بما وافقهما ويطرح ما خالفهما.

فالواجب في خبر (١) تمييز الخبر الصادق من الكاذب مراعاة ذلك ، وفيه غنية عما تكلّفوه. ولا ريب أن اتّباع الأئمّة عليهم‌السلام أولى من اتّباعهم.

الثاني : أن التوثيق والجرح اللذين بنوا عليهما تنويع الأخبار إنما أخذوه من كلام القدماء ، وكذلك الأخبار التي رويت في أحوال الرواة مدحا وذمّا ، فإنّما أخذوها عنهم ، فإذا اعتمدوا عليهم في مثل ذلك فكيف لا يعتمدون عليهم في تصحيح ما حكموا بصحته من الأخبار واعتمدوه وضمنوا صحّته؟! كما صرّح به جملة منهم ، ومنهم رئيس المحدّثين الصدوق في كتاب (الفقيه) (٢) ، وقد عرفت ممّا تقدّم في الدرة المتقدمة (٣) أنه المعلوم من سيرته وطريقته (٤) في جميع مصنفاته.

ومنهم ثقة الإسلام الكليني في ديباجة كتابه (الكافي) (٥) ، والشيخ في (العدة) (٦) ، وديباجة كتاب (الاستبصار) (٧) ، فإن كانوا ثقات عدولا في الأخبار بما أخبروا ، ففي الجميع ، وإلّا فالواجب تحصيل الجرح والتعديل من غير كتبهم ، وأنى به؟

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) الفقيه ١ : ٣.

(٣) انظر الدرر ٢ : ٣١١ ـ ٣٢٢ / الدرّة : ٣٦.

(٤) ليست في «ح».

(٥) الكافي ١ : ٨ ـ ٩.

(٦) العدة في اصول الفقه ١ : ٣ ـ ٤.

(٧) الاستبصار ١ : ٤ ـ ٥.

٣٢٥

لا يقال : إن إخبارهم بصحة ما رووه في كتبهم ، يحتمل الحمل على الظن القوي باستفاضة ، أو شياع ، أو شهرة يفيد بها ، أو قرينة ، أو نحو ذلك ممّا يخرجه عن محوضة الظن كما أجاب به شيخنا أبو الحسن قدس‌سره في كتابه (العشرة الكاملة) (١) ، حيث إنه فيه كان شديد التعصب لهذا الاصطلاح وترويج القول بالاجتهاد ، إلّا إن مصنفاته المتأخرة تدلّ على عدوله عن ذلك التعصّب الخارج عن طريق السداد ، وميله إلى الطريقة الوسطى التي أشرنا إليها آنفا.

لأنا نقول : فيه :

أولا : أن أصحاب هذا الاصطلاح ـ كما سمعت من كلام الشيخين المتقدّمين ـ مصرحون بأن مفاد الأخبار عند المتقدّمين هو القطع واليقين ، كما صرحت به عبائرهم على الخصوص والتعيين ، وأنّهم إنما عدلوا عنه إلى الظن ؛ لانسداد الطرق التي كانت مفتوحة لأولئك ؛ وعدم تيسّر ذلك لهم لما ذكروا من بعد الشقة وخفاء القرائن.

وأما ثانيا : ما صرحت به تلك العبارات ، ونصّت [عليه] (٢) من أن مرادهم هو القطع واليقين بثبوت تلك الأخبار عن المعصومين.

فإن قيل : تصحيح ما حكموا بصحته أمر اجتهادي لا يجب تقليدهم فيه ، ونقلهم المدح والذمّ رواية يعتمد عليهم فيها.

قلنا : فيه أن إخبارهم بكون ذلك الراوي ثقة أو كذابا أو نحو ذلك ، إنما هو أمر (٣) اجتهادي استفادوه بالقرائن المطلعة على أحواله أيضا.

الثالث : تصريح جملة من العلماء الأعلام بل أساطين الإسلام ومنهم المعتمد

__________________

(١) العشرة الكاملة : ٢١٥.

(٢) في النسختين : عليهم.

(٣) ليست في «ح».

٣٢٦

في النقض والإبرام من متقدمي الأصحاب ، ومن متأخريهم الذين هم أصحاب هذا الاصطلاح أيضا بصحة هذه الأخبار وثبوتها عن الأئمّة الأبرار. ولكنا نقتصر على نقل ما ذكره أرباب هذا الاصطلاح في المقام ، فإنه أقوى حجة في النقض والإلزام فمن ذلك ما صرّح به شيخنا الشهيد قدس‌سره في كتاب (الذكرى) في الاستدلال على وجوب اتّباع مذهب الإمامية المنسوب إلى الأئمّة عليهم‌السلام ، حيث قال : (التاسع : اتفاق الامّة على طهارتهم وشرف اصولهم وظهور عدالتهم ، مع تواتر الشيعة (١) إليهم والنقل عنهم بما لا سبيل إلى إنكاره ، حتى إنه كتب من أجوبة مسائل أبي عبد الله عليه‌السلام أربعمائة مصنّف لأربعمائة مصنّف ، ودوّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام.

وكذلك عن مولانا الباقر عليه‌السلام.

ورجال باقي الأئمّة عليهم‌السلام معروفون مشهورون ، اولو مصنفات مشتهرة ومباحث متكثرة قد ذكر كثيرا منهم العامة (٢) في رجالهم. ونسبوا بعضهم إلى التمسّك بأهل البيت عليهم‌السلام.

وبالجملة ، اشتهار النقل والنقلة عنهم عليهم‌السلام يزيد أضعافا مضاعفة (٣) كثيرة عن النقلة عن كل واحد من رؤساء العامة. فالإنصاف يقتضي الجزم بنسبه ما نقل عنهم إليهم عليهم‌السلام).

إلى أن قال : (ومن رام معرفة رجالهم والوقوف على مصنفاتهم فليطالع (كتاب الحافظ ابن عقدة) ، وفهرست النجاشي ، وابن الغضائري ، والشيخ أبي جعفر الطوسي ، وكتاب (الرجال) لأبي عمرو الكشّي ، وكتب الصدوق أبي جعفر بن

__________________

(١) في «ح» : التقية.

(٢) تهذيب التهذيب ١ : ٨١.

(٣) ليست في «ح» ، والمصدر.

٣٢٧

بابويه القمي ، وكتاب (الكافي) لأبي جعفر الكليني ، فإنه وحده يزيد على ما في الصحاح الستّة للعامة متونا وأسانيد ، وكتاب (مدينة العلم) ، و (من لا يحضره الفقيه) قريب من ذلك ، وكتابا (التهذيب) و (الاستبصار) (١) ، ونحو ذلك بالأسانيد الصحيحة المتصلة المنتقدة والحسان والقوية. فالإنكار بعد ذلك ، مكابرة محضة وتعصب صرف).

ثم قال : (لا يقال : فمن أين وقع الاختلاف العظيم بين فقهاء الإمامية إذا كان نقلهم عن المعصومين وفتواهم عن المطهّرين؟

لأنا نقول : محل الخلاف إما من المسائل المنصوصة ، أو ممّا فرعه العلماء.

والسبب في الثاني اختلاف الأنظار ومبادئها ، كما هو بين سائر علماء الأمة ، وأما الأول فسببه اختلاف الروايات ظاهرا ، وقلّما يوجد فيها التناقض بجميع شروطه.

و (٢) كانت الأئمّة في زمن تقية واستتار من مخالفيهم ، فكثيرا ما يجيبون السائل على وفق معتقده أو معتقد بعض الحاضرين أو بعض من عساه يصل إليه من المناوئين ، أو يكون عاما مقصورا على سببه ، أو قضية في واقعة مختصة بها ، أو اشتباها على بعض النقلة عنهم ، أو عن بعض الوسائط بيننا وبينهم) (٣) انتهى.

ولعمري إنه نفيس يستحق أن يكتب بالنور على وجنات الحور ، ويجب أن يسطر ولو بالخناجر على الحناجر. فانظر إلى تصريحه ، بل جزمه بصحّة تلك الروايات التي تضمّنتها هذه الكتب المعدودة ونحوها. وتخلّصه من الاختلاف الواقع في الأخبار بوجوه تنفي احتمال تطرّق دخول الأحاديث الكاذبة فيها.

ومن ذلك ما صرّح به شيخنا الشهيد الثاني ـ أعلى الله رتبته ـ في (شرح

__________________

(١) في «ح» : وكتاب التهذيب ، بدل : وكتابا التهذيب والاستبصار.

(٢) في «ح» : وقد.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ٥٨ ـ ٦٠.

٣٢٨

الدراية) ، حيث (١) قال : (كان قد استقر أمر الإمامية على أربعمائة مصنف سموها اصولا ؛ فكان عليها اعتمادهم ، [ثم] تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك الاصول ولخّصها جماعة في كتب خاصة ؛ تقريبا على المتناول. وأحسن ما جمع منها (الكافي) ، و (التهذيب) ، و (الاستبصار) ، و (الفقيه) ..) (٢) انتهى.

وانظر إلى شهادته قدس‌سره بكون أحاديث كتبنا هي أحاديث تلك الاصول بعينها.

وحينئذ ، فالطاعن في هذه كالطاعن في تلك الاصول مع أنه اعترف بأنّه قد استقر أمر الإمامية ومذهبهم عليها.

ثم إن الظاهر أن تخصيصه هذه الكتب الأربعة بالأحسنية إنما هو من حيث اشتمالها على أبواب الفقه كملا على الترتيب بخلاف غيرها من كتب الأخبار ، كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار. ولا يتوهّم من قوله : (تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك الاصول ، ولخّصها) ـ إلى آخره (٣) ـ أن تلخيص تلك الجماعة إنما وقع بعد ذهاب معظمها ؛ فإن ذلك باطل من وجوه :

أولها : أن التلخيص وقع عطفه في كلامه بالواو دون ثم المفيدة للترتيب.

وثانيها : أن الظاهر ـ كما نبّه عليه بعض فضلائنا ـ أن (٤) اضمحلال تلك الاصول إنما وقع بسبب الاستغناء عنها بهذه الكتب التي دونها أصحاب الأخبار ؛ لكونها أحسن منها جمعا وأسهل تناولا ، وإلّا فتلك الاصول قد بقيت إلى زمن السيد رضي الدين بن طاوس رضي‌الله‌عنه ، كما ذكر أن أكثر تلك الاصول كانت عنده ، ونقل منها شيئا كثيرا كما يشهد به تتبّع مصنّفاته.

وبذلك يشهد كلام ابن إدريس في آخر كتاب (السرائر) حيث نقل ممّا

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : أنه حيث.

(٢) الرعاية في علم الدراية : ٧٢ ـ ٧٣.

(٣) إلى آخره ، ليس في «ح».

(٤) من «م» ، وفي النسختين : فان.

٣٢٩

استطرفه من جملة منها شطرا وافرا من الأخبار ، ويزيدك بيانا لما ذكرناه ما صرّح به شيخنا البهائي ـ عطر الله مرقده ـ في أول كتاب (مشرق الشمسين) حيث عد من جملة الامور الموجبة للقطع بصحة الأخبار عند المتقدّمين وجوده في كثير من الاصول الأربعمائة المتّصلة بأصحاب العصمة عليهم‌السلام ، قال : (وكانت متداولة بينهم في تلك الأعصار مشتهرة بينهم اشتهار الشمس في رابعة النهار) (١) انتهى.

وبالجملة ، فاشتهار تلك الاصول في زمن اولئك الفحول لا ينكره إلّا معاند جهول.

ومن ذلك ما صرّح به المحقّق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني ، حيث قال في بحث الإجازة من كتاب (المعالم) ما صورته : (إن أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنما يظهر حيث لا يكون متعلقها معلوما بالتواتر ونحوه ، ككتب أخبارنا ، فإنها متواترة إجمالا (٢). والعلم بصحة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال ولا مدخل للإجازة فيه غالبا) (٣).

ومن ذلك ما صرّح به شيخنا البهائي ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في وجيزته ، حيث قال : (جميع أحاديثنا إلّا ما ندر ينتهي إلى أئمتنا الاثني عشر عليهم‌السلام ، وهم ينتهون فيها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله).

إلى أن قال : (وقد كان جمع قدماء محدثينا ما وصل إليهم من كلام أئمتنا عليهم‌السلام في أربعمائة كتاب تسمى (الاصول) ، ثم تصدّى جماعة من المتأخّرين ـ شكر الله سعيهم ـ لجمع تلك الكتب وترتيبها ؛ تقليلا للانتشار ، وتسهيلا على طالبي تلك

__________________

(١) مشرق الشمسين : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) من «ح».

(٣) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ١٠٥.

٣٣٠

الأخبار ، فألّفوا كتبا مضبوطة مهذّبة مشتملة على الأسانيد المتّصلة بأصحاب العصمة عليهم‌السلام كـ (الكافي) ، و (من لا يحضره الفقيه) ، و (التهذيب) و (الاستبصار) ، و (مدينة العلم) ، و (الخصال) ، و (الأمالي) ، و (عيون الأخبار) وغيرها) (١).

هذا ما حضرني من كلامهم ، نوّر الله تعالى مراقدهم وأعلى مقاعدهم. وأما كلام المتقدّمين كالصدوق في ديباجة كتابه (من لا يحضره الفقيه) (٢) وثقة الإسلام في ديباجة (الكافي) (٣) ، والشيخ الطوسي في جملة من مؤلفاته (٤) ، وعلم الهدى (٥) وغيرهم ممن نقلنا كلامهم في غير هذا الكتاب ، فهو ظاهر البيان ساطع البرهان في هذا الشان.

ثم العجب من هؤلاء الفضلاء الذين نقلنا كلامهم هنا أنه إذا كان الحال على ما صرحت به عبائرهم هنا من صحة هذه الأخبار عن الأئمّة عليهم‌السلام ، فما الموجب لهم إلى المتابعة في هذا الاصطلاح؟ وأعجب من ذلك كلام شيخنا البهائي رحمه‌الله في كتاب (مشرق الشمسين) حيث ذكر ما ملخصه أن اجتناب الشيعة لمن كان منهم ، ثم أنكر إمامة بعض الأئمّة كان أشد من اجتناب المخالفين في المذهب ، وكانوا يحترزون عن مجالستهم والتكلم معهم ، فضلا عن أخذ الحديث عنهم.

فإذا نقل علماؤنا رواية رواها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء وعولوا عليها وقالوا بصحّتها مع علمهم بحاله ، فقبولهم لها وقولهم بصحتها لا بدّ من ابتنائه على وجه صحيح لا يتطرق إليه القدح ، ولا إلى ذلك الرجل الثقة الراوي عمّن هذا حاله ، كأن يكون سماعه منه قبل عدوله عن الحق ، وقوله

__________________

(١) الوجيزة (ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين) : ٦ ـ ٧.

(٢) الفقيه ١ : ٣.

(٣) الكافي ١ : ٨ ـ ٩.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٣ ، العدّة في اصول الفقه ١ : ١٢٦.

(٥) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٦ ، عنه في معالم الاصول ٢٧٤.

٣٣١

بالوقوف ، أو بعد توبته ورجوعه إلى الحق ، أو إن النقل إنما وقع من أصله الذي ألفه واشتهر عنه قبل الوقف ، أو من كتابه الذي ألّفه بعد الوقف.

ولكنه أخذ (١) ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا الذين عليهم الاعتماد ، ككتب علي بن الحسن الطاطري (٢) ، فإنه وإن كان من أشد الواقفة عنادا للإمامية إلّا إن الشيخ شهد له في (الفهرست) (٣) بأنّه روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم وبرواياتهم ، إلى غير ذلك من المحامل الصحيحة (٤) ، إلى آخر كلامه ـ طاب ثراه ـ ولقد أجاد فيما أفاد.

ولكنه ناقض نفسه فيما أورده من العذر للمتأخرين في عدولهم إلى تجديد هذا الاصطلاح ؛ لأن قوله : (كانوا يحترزون عن مجالستهم ، فضلا عن أخذ الحديث عنهم) ، وقوله : (فقبولهم لها وقولهم بصحتها لا بدّ من ابتنائه على وجه صحيح) يستلزم أن تكون أحاديث كتب هؤلاء الأئمّة الثلاثة الّذين شهدوا بصحة ما رووه فيها كلّها صحيحة.

الرابع : أنه لو تمّ ما ذكروه وصحّ ما قرروه للزم فساد الشريعة وإبطال الدين ؛ لأنه متى اقتصر في العمل على هذا القسم الصحيح أو مع الحسن خاصة أو بإضافة الموثّق أيضا ، ورمى بقسم الضعيف [ب] اصطلاحهم من البين ـ والحال أن جل الأخبار من هذا القسم كما لا يخفى على من طالع كتاب (الكافي) اصولا وفروعا ، وكذا غيره من سائر كتب الأخبار وسائر الكتب الخالية من الأسانيد ـ لزم ما ذكرناه ، وتوجّه الطعن به علينا من العامة بأن جل أحاديثنا مكذوبة مزوّرة ، ولذا ترى شيخنا الشهيد في (الذكرى) كيف تخلّص من ذلك بما قدمنا نقله عنه (٥)

__________________

(١) في «ح» بعدها : من.

(٢) في «ح» : الطاهري.

(٣) الفهرست : ١٥٦ / ٣٩٠.

(٤) مشرق الشمسين : ٥٩ ـ ٦١.

(٥) ليست في «ح».

٣٣٢

دفعا لما طعنوا به علينا ونسبوه إلينا.

ولله درّ المحقق رحمه‌الله في (المعتبر) حيث قال : (أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد ، حتى انقادوا لكل خبر ، وما فطنوا إلى ما تحته من التناقض ، فإن من جملة الأخبار قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ستكثر بعدي القالة» (١)).

إلى أن قال : (واقتصر بعض عن هذا الإفراط ، فقال : كل سليم السند يعمل به ، وما علم أن الكاذب قد يصدق ، والفاسق قد يصدق. ولم يتنبّه أن ذلك طعن في علماء الشيعة ، وقدح في المذهب ؛ إذ لا مصنف إلّا وهو يعمل بخبر المجروح ، كما يعمل بخبر العدل).

إلى أن قال : (وكل هذه الأقوال منحرفة عن السنن ، والتوسّط أقرب ، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عمل به ، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ يجب اطراحه) (٢) انتهى.

وهو قوي متين وجوهر ثمين وإن كان صاحبه قد خالفه في مواضع من كتابه المذكور.

الخامس : أن ما اعتمدوه من ذلك الاصطلاح غير منضبط القواعد والبنيان ، ولا مشيد الجوانب والأركان :

أما أولا : فلأن اعتمادهم في التمييز بين أسماء الرواة المشتركة على الأوصاف (٣) والألقاب والنسب والراوي والمروي عنه ونحوها. ولم لا يجوز الاشتراك في هذه الأشياء ؛ وذلك لأن الرواة عنهم عليهم‌السلام ليسوا محصورين في عدد مخصوص ولا بلد واحد؟

__________________

(١) المعتبر ١ : ٢٩.

(٢) المعتبر ١ : ٢٩.

(٣) شبه الجملة خبر للحرف المشبّه بالفعل.

٣٣٣

وقد نقل الشيخ المفيد في إرشاده أن الذين رووا عن الصادق عليه‌السلام خاصة من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات كانوا أربعة آلاف رجل (١). ونحو ذلك ذكر ابن اشوب‌آشوب في كتاب (معالم العلماء) (٢) والطبرسي في كتاب (إعلام الورى).

والجميع قد وصفوا هؤلاء الأربعة آلاف بالتوثيق ، وهو مؤيّد لما ادّعيناه ، ومشيّد لما أسّسناه. فإذا كان هؤلاء الرواة عن الصادق عليه‌السلام خاصة ، فما بالك بالرواة عن الباقر إلى العسكري عليه‌السلام؟ فأين تأثير القرائن في هذه الأعداد؟ وأين الوصول إلى تشخيص المطلوب منها والمراد؟

وأما ثانيا : فلأن مبنى (٣) تصحيح الحديث عندهم على نقل توثيق رجاله في أحد كتب المتقدّمين ككتاب (الكشي) ، و (النجاشي) ، و (الفهرست) ، و (الخلاصة) ونحوها نظرا إلى أن نقلهم ذلك شهادة منهم بالتوثيق ، حتى إن المحقق الشيخ حسنا في كتاب (المنتقى) لم يكتف في تعديل الراوي بنقل واحد من هؤلاء ، بل أوجب في تصحيح الحديث نقل اثنين منهم لعدالة الراوي ؛ نظرا إلى أنها شهادة فلا يكفي فيها الواحد.

وأنت خبير بما بين مصنّفي تلك الكتب ، وبين رواة الأخبار من المدة والأزمنة المتطاولة ، فكيف اطّلعوا على أحوالهم الموجبة للشهادة بالعدالة أو الفسق؟

والاطلاع على ذلك بنقل ناقل أو شهرة أو قرينة حال أو نحو ذلك ـ كما هو معتمد مصنفي تلك الكتب في الواقع ـ لا يسمى شهادة ، وهم قد اعتمدوا على ذلك وسمّوه شهادة. وهب أن ذلك كاف في الشهادة ، لكن لا بدّ في العمل بالشهادة

__________________

(١) الإرشاد (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١١ / ٢ : ١٧٩.

(٢) مثل هذا الكلام غير موجود في (معالم العلماء) ، بل ذكره المصنّف في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩.

(٣) في «ح» : معنى.

٣٣٤

من السماع من الشاهد ، لا مجرد نقله في كتابه ، فإنه لا يكفي في كونه شهادة.

هب أنه يكفي في ذلك ، فما الفرق بين هذا النقل في هذه الكتب ، وبين نقل أولئك الأجلّاء الذين هم أساطين المذهب صحة ما رووه في كتبهم ، وأنها مأخوذة عن الصادقين عليهم‌السلام ، فيعتمد عليهم في أحدهما دون الآخر؟

وأما ثالثا ، فلمخالفتهم أنفسهم فيما قرّروه من ذلك الاصطلاح ، حيث حكموا بصحة جملة من الأحاديث التي هي ضعيفة بمقتضى ذلك الاصطلاح ، فخرجوا عن مقتضى اصطلاحهم فيها ، كمراسيل ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى ، وغيرهما ؛ زعما منهم أن مثل هؤلاء لا يرسلون إلّا عن ثقة ، ومثل بعض الأحاديث الضعيفة المشهور عمل المتقدّمين بها ، فيتستّرون لأجل العمل بها بكونها مجبورة بالشهرة ، ومثل أحاديث جملة من مشايخ الإجازة الذين لم يذكروا في كتب الرجال بمدح ولا قدح ؛ زعما منهم أن هؤلاء مشايخ الإجازة ، وهم مستغنون عن التوثيق. وأمثال ذلك كثير يظهر بالتتبّع (١).

وأما رابعا ، فلاضطراب كلامهم في الجرح والتعديل على وجه لا يقبل الجمع والتأويل ، فترى الواحد منهم يخالف نفسه فضلا عن غيره ، فهذا يقدم الجرح على التعديل ، وهذا يقول : لا يقدم إلّا مع إمكان الجمع ، وهذا يقدم النجاشي على الشيخ ، وهذا ينازعه ويطالبه بالدليل.

وبالجملة ، فالخائض في الفن يجزم بصحة ما ادّعيناه ، والبناء من أصله لمّا كان على غير أساس كثير الانتقاض فيه والالتباس.

السادس : أن أصحاب هذا الاصطلاح قد اتفقوا على أن مورد التقسيم إلى الأنواع الأربعة المذكورة إنما هو خبر الواحد العاري عن القرائن ، وقد عرفت من

__________________

(١) في «ح» مشطوب عنها ، وقد وضعت عليها علامة تصحيح لكن لم يشر لها في الهامش.

٣٣٥

كلام اولئك الفضلاء المتقدم نقله ـ وبذلك صرّح غيرهم أيضا أن (١) أخبار كتبنا المشهورة محفوفة بالقرائن الدالة على صحتها.

وحينئذ يظهر عدم وجود مورد التقسيم المذكور في أخبار هذه الكتب ، وقد ذكر صاحب (المنتقى) أن أكثر أنواع الأحاديث المذكورة في دراية الحديث بين المتأخّرين من مستخرجات العامّة بعد وقوع معانيها في أحاديثهم ، وأنه لا وجود لأكثرها في أحاديثنا (٢). وأنت إذا تأملت بعين الحق واليقين وجدت هذا التقسيم هنا من ذلك القبيل.

السابع : أن التعديل والجرح [موقوفان] (٣) على معرفة ما يوجب الجرح ، ومنه الكبائر ، وقد اختلفوا فيها اختلافا منتشرا فلا يمكن الاعتماد على تعديل المعدل وجرحه إلّا مع العلم بموافقة مذهبه لمذهب من يريد العلم (٤). وهذا العلم ممّا لا يمكن أصلا ؛ إذ المعدّلون والجارحون من علماء الرجال ليس مذهبهم في عدد الكبائر معلوما. قال شيخنا البهائي قدس‌سره على ما نقل (٥) عنه من المشكلات : (إنا لا نعلم مذهب (٦) الطوسي في العدالة ، وأنه يخالف مذهب العلّامة ، وكذا لا نعلم مذاهب بقية أصحاب الرجال كالكشي والنجاشي وغيرهم ، ثم نقبل تعديل العلّامة في التعويل على تعديل أولئك.

وأيضا كثير من الرجال ينقل عنه أنه كان على خلاف المذهب ، ثم رجع وحسن إيمانه ، والقوم يجعلون روايته من الصحيح مع أنهم غير عالمين بأن أداء الرواية متوقع بعد التوبة أم قبلها. وهذان المشكلان لا أعلم أن أحدا قبلي تنبه لشي‌ء منهما) انتهى.

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : إذ.

(٢) منتقى الجمان ١ : ٩ ـ ١٠.

(٣) في النسختين : موقوف.

(٤) في «ح» : العمل.

(٥) الوافية : ٢٧٤.

(٦) في «ح» بعدها : الشيخ.

٣٣٦

الثامن (١) : أن العدالة بمعنى الملكة المخصوصة عند المتأخّرين ممّا لا يجوز إثباتها بالشهادة ؛ لأن الشهادة وخبر الواحد ليس حجة إلّا في المحسوسات دون الامور الباطنة ، كالعصمة ، فلا تقبل فيها الشهادة ؛ فلا اعتماد على تعديل المعدلين بناء على اعتقاد المتأخّرين. وهذا الوجه ممّا أورده المحدّث الأمين الأسترابادي قدس‌سره (٢).

التاسع (٣) : أنه قد تقرر في محله أن شهادة فرع الفرع غير مسموعة ؛ إذ لا يقبل إلّا من شاهد الأصل أو من (٤) شاهد الفرع خاصة ، مع أن شهادة علماء الرجال على أكثر المعدلين والمجروحين إنما من شهادة فرع الفرع ؛ فإن الشيخ والنجاشي ونحوهما لم يلقوا أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام ، فليست شهادتهم إلّا من قبيل شهادة فرع الفرع (٥) بمراتب كثيرة ، فكيف يجوز العمل شرعا على شهادتهم بالجرح والتعديل (٦)؟ وهذا الوجه أيضا ممّا أفاده الفاضل المحدث المشار إليه ـ أفاض الله تعالى شآبيب جوده عليه ـ إلى غير ذلك من الوجوه الكثيرة. وطالب الحق المنصف تكفيه الإشارة ، والمكابر المتعسف لا ينتفع ولو بألف عبارة.

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) الفوائد المدنيّة : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

(٣) في «ح» : الثامن.

(٤) في «ح» : و، بدل : أو من.

(٥) الشيخ والنجاشي .. فرع الفرع ، من «ح».

(٦) من «ح».

٣٣٧
٣٣٨

(٣٨)

درّة نجفيّة

جواز استنباط الحكم الشرعي من القرآن

لا خلاف بين أصحابنا الاصوليين في العمل بـ (القرآن) في الأحكام الشرعية والاعتماد عليه ، حتى صنف جملة منهم كتبا في الآيات المتعلّقة بالأحكام الشرعية ، وهي خمسمائة آية عندهم.

وأما الأخباريون منهم ـ وهو المحدّث الأمين الأسترآبادي قدس‌سره ومن تأخر عنه ، فإنه لم يفتح هذا الباب أحد قبله ـ فهم في هذه المسألة ما بين الإفراط والتفريط ، فمنهم من منع فهم شي‌ء منه مطلقا حتى مثل قوله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) إلّا بتفسير من أصحاب العصمة عليهم‌السلام. قال الفاضل المحدّث الفاضل السيد نعمة الله الجزائري رحمه‌الله في بعض رسائله : (إني كنت حاضرا في المسجد الجامع من شيراز ، وكان الاستاذ المجتهد الشيخ جعفر البحراني ، والشيخ المحدّث صاحب (جوامع الكلم) يتناظران في هذه المسألة فانجر الكلام بينهما حتى قال له الفاضل المجتهد : ما تقول في معنى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فهل يحتاج في فهم معناها إلى الحديث؟

فقال : نعم ، لا نعرف معنى الأحدية ، ولا الفرق بين الأحد والواحد ، ونحو ذلك إلّا بذلك) (٢) انتهى.

__________________

(١) الإخلاص : ١.

(٢) ذكر في الأنوار النعمانية ١ : ٣٠٨ ، قريبا منها ، ولم يصرّح فيه باسمي المتناظرين.

٣٣٩

ومنهم من جوّز ذلك حتّى كاد يدّعي المشاركة لأهل العصمة عليهم‌السلام في تأويل مشكلاته وحل مبهماته وبيان مجملاته ، كما يعطيه كلام المحدّث المحسن الكاشاني في مقدمات تفسيره (الصافي) (١) جريا على قواعد الصوفية الذين يدّعون مزاحمة الأئمّة عليهم‌السلام في تلك المقامات العلية ، كما لا يخفى على من تتبع كلامه في تفسيره المشار إليه.

والتحقيق في المقام أن يقال : إن الأخبار متعارضة من الجانبين ، ومتصادمة من الطرفين ، إلّا إن أخبار المنع أكثر عددا وأصرح دلالة ، فروى في (الكافي) بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ما ادّعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما انزل إلّا كذاب ، وما جمعه وحفظه كما أنزل الله إلّا علي بن أبي طالب والأئمّة من بعده عليهم‌السلام» (٢).

وبإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء» (٣).

وفي (الكافي) أيضا في حديث الباقر عليه‌السلام مع قتادة : «ويحك يا قتادة ، إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت».

إلى أن قال عليه‌السلام : «ويحك يا قتادة ، إنما يعرف القرآن من خوطب به» (٤).

وروى في كتاب (العلل) في حديث دخول أبي حنيفة على الصادق عليه‌السلام أنه قال له : «يا أبا حنيفة ، تعرف كتاب الله حق معرفته ، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟».

__________________

(١) التفسير الصافي ١ : ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) الكافي ١ : ٢٢٨ / ١ ، باب أنه لم يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة عليهم‌السلام ، وفيه : نزله ، بدل : أنزل.

(٣) الكافي ١ : ٢٢٨ / ٢ ، باب أنه لم يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة عليهم‌السلام.

(٤) الكافي ٨ : ٢٥٩ / ٤٨٥.

٣٤٠