الدّرر النجفيّة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢١

ما إذا علم أصل الحكم وكان هو الوجوب ، ولكن حصل الشك في اندراج بعض الأفراد تحته ، وستأتي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الواردة في جزاء الصيد دالة على ذلك. ومن هذا القسم ـ لكن مع كون الاحتياط بالترك ـ ما إذا كان الحكم الشرعي في المقام التحريم ، وحصل الشك في اندراج بعض الجزئيات كما ذكرنا ، فإن الاحتياط هنا بالترك كحكم السجود على الخزف ، والحكم بطهارته بالطبخ ، فإن أصل الحكم في كل من المسألتين معلوم ، ولكن هذا الفرد بسبب الشك في استحالته بالطبخ وعدمها ، قد حصل الشك في اندراجه تحت أصل الحكم.

فالاحتياط عند من يحصل له الشك المذكور واجب بترك السجود عليه وترك التيمم به ، لعدم الجزم ببقائه على أصل الأرضية ومنك الشك في اندراج بعض الأصوات ودخوله في الغناء المعلوم تحريمه ، فإن الاحتياط واجب بتركه. وأما من يعمل بالبراءة الأصليّة فإنه يرجح بها هاهنا جانب العدم فلا يتجه ذلك عنده.

ومن الاحتياط الواجب بالجمع بين الأفراد المشكوك فيها ما إذا اشتغلت ذمته تعيينا بواجب ، ولكن تردّد بين فردين أو أزيد من أفراد ذلك الواجب ، فإنه يجب عليه الإتيان بالجميع من قبيل ما لا يتم الواجب إلّا به ، فهو واجب ، كما إذا اشتغلت الذمة بفريضة من الصلوات الخمس مع جهلها في الخمس مثلا ، فإنّه يجب عليه الإتيان بالخمس مقتصرا فيما اشترك فيها في عدد بالإتيان بذلك العدد بنيّة (١) مرددة.

ومنه التردد في وجوب الجمعة ، فإنه يجب عليه الجمع بينها وبين الظهر.

إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع.

__________________

(١) من «ح».

١٢١

ولا باس بنقل جملة من الأخبار المشتملة على ذكر الاحتياط ، وتذييل كل منها بما يوقف الناظر على سواء الصراط ؛ فإن جملة من مشايخنا ـ رضوان الله عليهم ـ قد اشتبه عليهم ما تضمّنته من الأحكام حتى صرحوا بتعارضها في المقام على وجه يعسر الجمع بينها والالتئام كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. فمن ذلك صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ؛ الجزاء عليهما ، أم على كل واحد منهما؟ قال : «لا ، بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما عن الصيد». قلت : إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال عليه‌السلام : «إذا اصبتم بمثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط» (١).

وهذه الرواية قد دلّت على وجوب الاحتياط في بعض جزئيات موضوع الحكم الشرعي مع الجهل بالحكم وعدم إمكان السؤال ، وذلك لأن ظاهر الرواية ، أن السائل عالم بأصل وجوب الجزاء ، وإنما شك في موضعه بكونه عليهما معا جزاء واحدا وعلى كل واحد جزاء بانفراده.

ومن ذلك صحيحته الاخرى عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة ، أهي ممن لا تحل له أبدا؟ فقال : «لا ، أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك».

فقلت : أي الجهالتين أعذر بجهالته أن يعلم أن ذلك محرّم عليه ، أم بجهالته أنها في عدة؟ فقال : «إحدى الجهالتين أهون من الاخرى : الجهالة بأنّ الله حرم عليه ذلك ، وذلك أنه لا يقدر على الاحتياط معها». فقلت : هو في الاخرى معذور؟ فقال : «نعم ،

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٩١ / ١ ، باب القوم يجتمعون على الصيد وهم محرمون ، تهذيب الأحكام ٥ : ٤٦٦ ـ ٤٦٧ / ١٦٣١ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ١.

١٢٢

إذا انقضت عدتها ، فهو معذور في أن يتزوّجها» (١).

أقول : هذه الرواية قد اشتملت على أحد فردي الجاهل بالحكم الشرعي ، والجاهل ببعض جزئيات موضوعه ، ودلت على معذورية كل منهما ، إلّا إن الأوّل أعذر ؛ لعدم قدرته على الاحتياط.

وبيان ذلك أن الجاهل بالحكم الشرعي ـ وهو تحريم التزويج في العدة جهلا ساذجا غير متصور له بالمرة ـ لا يتصور الاحتياط في حقه بالكلية ، لعدم تصوره الحكم بالمرة كما عرفت.

وأما الجاهل بكونها في عدة مع علمه بتحريم التزويج في العدة ، فهو جاهل بموضوع الحكم المذكور مع معلومية أصل الحكم له ، ويمكنه الاحتياط بالفحص والسؤال عن كونها ذات عدة أم لا ، إلّا إنه غير مكلف به ، بل ظاهر الأخبار مرجوحية السؤال والفحص كما تقدمت الإشارة إليه عملا بسعة الحنفية السمحة السهلة.

نعم ، لو كان في مقام الريبة ، فالأحوط السؤال كما يدلّ عليه بعض الأخبار ، ومن ذلك رواية عبد الله بن وضاح قال : كتبت إلى العبد الصالح عليه‌السلام : يتوارى القرص ويقبل الليل ، ثم يزيد الليل ارتفاعا وتستر عنا الشمس وترتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذن عندنا المؤذنون ، فاصلّي حينئذ وأفطر إن كنت صائما ، أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إليّ : «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك» (٢).

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٢٧ / ٣ ، باب المرأة التي تحرم على الرجل فلا تحلّ له أبدا ، تهذيب الأحكام ٧ : ٣٠٦ / ١٢٧٤ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٥٠ ـ ٤٥١ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب ١٧ ، ح ٤.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٥٩ / ١٠٣١ ، الاستبصار ١ : ٢٦٤ / ٩٥٢ ، وفيه : عبد الله بن صباح ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٦ ـ ١٦٧ أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٤٢.

١٢٣

أقول : والاحتياط هنا بالتوقف على ذهاب الحمرة عند من قام له الدليل على أن الغروب عبارة عن استتار القرص المعلوم ، لعدم رؤيته عند المشاهدة ، مع عدم الحائل محمول على الاستحباب ، وأما عند من يجعل أمارة الغروب زوال الحمرة كما هو المختار عندنا ـ لحمل تلك الأخبار على التقية ـ فهو محمول على الوجوب. وكلامه عليه‌السلام هنا محتمل لكل من الأمرين.

ومن ذلك صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه‌السلام في المتمتع بها ، حيث قال فيها : «اجعلوهن من الأربع» ، فقال له صفوان بن يحيى : على الاحتياط؟ قال : «نعم» (١).

والظاهر كما استظهره أيضا جملة من أصحابنا (٢) ـ رضوان الله عليهم ـ حمل الاحتياط هنا على المحاذرة من العامة والتقية منهم ؛ لاستفاضة النصوص وذهاب جمهور الأصحاب إلى عدم الحصر في المتعة ، وأنها ليست من السبعين (٣) فضلا عن الأربع. ولعل وجهه أنه إذا اقتصر على جعلها رابعة لم يمكن الاطلاع عليه بكونها متعة ليطعن عليه بذلك ويتيسّر له دعوى الدوام لو أنهم بخلاف ما إذا كانت زائدة على الأربع ، فإنه لا يتم له الاعتذار ولا النجاة من اولئك الفجار.

ومن ذلك رواية شعيب الحداد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل من مواليك يقرئك السّلام ، وقد أراد أن يتزوج امرأة قد وافقته وأعجبه بعض شأنها ، وقد كان لها زوج فطلّقها ثلاثا على غير السنة ، وقد كره أن يقدم على تزويجها حتى

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٥٩ / ١١٢٤ ، الاستبصار ٣ : ١٤٨ / ٥٤٢ ، وسائل الشيعة ٢١ : ٢٠ ، أبواب المتعة ، ب ٤ ، ح ٩.

(٢) وسائل الشيعة ٢١ : ٢٠ ، أبواب المتعة ، ب ٤ ، ذيل الحديث : ٩.

(٣) الكافي ٥ : ٤٥١ / ٤ ، باب أنهن بمنزلة الإماء .. ، وسائل الشيعة ٢١ : ١٩ ، أبواب المتعة ، ب ٤ ، ح ٧.

١٢٤

يستأمرك ، فتكون أنت آمره. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «هو الفرج وأمر الفرج شديد ، ومنه يكون الولد ، ونحن نحتاط فلا يتزوجها» (١).

أقول : ظاهر هذا الخبر كما ترى كون المطلق مخالفا ، ولا خلاف بين الأصحاب في إلزامه بما ألزم به نفسه من صحة الطلاق ، وبه استفاضت جملة من الأخبار أيضا ، وحينئذ فيحمل الاحتياط هنا على الاستحباب ، إلّا إن الأقرب عندي هو أن يقال : إن الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ وإن اتّفقوا على الحكم المذكور ، إلا إن الروايات فيه مختلفة ؛ فإن جملة من الأخبار وإن دلّت على ما ذهب إليه الأصحاب إلا إن جملة منها قد دلّت على أنه : «إياكم وذوات الأزواج المطلقات على غير السنة» (٢).

وحمل بعض الأصحاب لها على غير المخالف يردّه ما اشتمل عليه بعضها من ذكر المخالف.

والحكم حينئذ لا يخلو من نوع اشتباه ؛ لتعارض الأخبار ، والاحتياط فيه مطلوب ، والأمر بالاحتياط في هذا الخبر مما قوّى الشبهة وأكّدها. وحينئذ ، فلا يبعد وجوب الاحتياط هنا. ويحتمل أن يكون هذا الخبر من جملة الأخبار المانعة وإن عبر عن ذلك بالاحتياط ، وجعله في قالبه ، فيتحتّم كون الاحتياط فيه على جهة الوجوب ، والله سبحانه وقائله أعلم بحقيقة الحال.

وأما الأخبار الدالة على رجحان العمل بالاحتياط على الإطلاق ، فهي كثيرة ، ومنها قول أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل بن زياد ، فيما رواه الشيخ رحمه‌الله في (الأمالي)

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٧ : ٤٧٠ / ١٨٨٥ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٥٨ ، أبواب مقدمات النكاح ب ١٥٧ ، ج ١.

(٢) الكافي ٥ : ٤٢٣ / ١ ، باب تزويج المرأة التي تطلق على غير السنة ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٩٥ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب ٣٥ ، ح ٢.

١٢٥

مسندا عن الرضا عليه‌السلام : «يا كميل ، أخوك دينك فاحتط لدينك» (١).

وما رواه الشهيد عن الصادق عليه‌السلام في حديث عنوان البصري : «وخذ بالاحتياط لدينك في جميع امورك ما تجد إليه سبيلا» (٢).

وما رواه الفريقان عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٣) ، وما روي عنهم عليهم‌السلام : «ليس بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط» (٤) وقد تقدم جملة من الأخبار في درة البراءة الأصلية (٥) ناصة على وجوب التوقف في مقام الشبهة وعدم العلم. وحينئذ ، فما ذهب إليه ذلك البعض المتقدّم ذكره في صدر المسألة من عدم مشروعية الاحتياط خروج عن سواء الصراط ، حيث قال : (إن الاحتياط ليس بحكم شرعي فلا يجوز العمل بمقتضاه ، بل الواجب أن يعمل به هو ما ساق إليه الدليل (٦)) انتهى.

وهو غفلة عما فصّلته هذه الأخبار التي ذكرناها ، وأجملته الأخبار التي تلوناها. ولعل كلام هذا القائل مبنية على حجيّة البراءة الأصلية والعمل عليها ، إلّا

__________________

(١) الأمالي : ١١٠ / ١٦٨ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٤٦.

(٢) انظر : بحار الأنوار ١ : ٢٢٦ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦١.

(٣) عوالي اللآلي ١ : ٣٩٤ / ٤٠ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٣ ، الجامع الصحيح ٤ : ٦٦٨ / ٢٥١٨ ، المستدرك على الصحيحين ٢ : ١٦ / ٢١٦٩ ـ ٢١٧٠.

(٤) ذكره زين الدين الميسي في إجازته لولده ، انظر بحار الأنوار ١٠٥ : ١٢٩ ، وذكره الشيخ محمود بن محمد الأهمالي في إجازته للسيد الأمير معين الدين ابن شاه أبي تراب ، انظر بحار الأنوار ١٠٥ : ١٨٧ ، ولم يورداه على انه حديث.

(٥) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.

(٦) في «ح» بعدها : ورجحه وكل ما ترجح عنده تعيّن عليه وعلى مقلده العمل به ، والعمل بالاحتياط عمل ما لم يؤدّ إليه الدليل.

١٢٦

إن الأخبار كما عرفت في الدرة الموضوعة فيها تدفعه ، وجملة من علمائنا الاصوليين ، فضلا عن جملة أصحابنا الأخباريين ، قد منعوا من العمل بها. وما ادّعاه من أن الواجب هو (١) العمل بما قام عليه الدليل مسلم ، إلّا إنه بناء على عدم العمل (٢) بالبراءة الأصلية ، فالأدلة تتصادم وتتعارض على وجه لا يمكن الترجيح فيها ، وقد تتشابه فلا يكون الحكم ظاهرا منها ، وقد لا يوجد دليل على الحكم المطلوب بالكلية.

والأخبار قد استفاضت بالردّ إليهم عليهم‌السلام في بعض الأحكام ، والوقوف كما تقدمت في درّة البراءة الأصلية ، والمستفاد من الأخبار كما قدّمناه في الدرة المشار إليها أن الله سبحانه كما تعبد بالعمل بالأمر والنهي في بعض الأحكام ، تعبد بالتوقف في بعض والعمل بالاحتياط ، فقوله : (إن الاحتياط ليس بدليل شرعي) على إطلاقه ممنوع.

نعم ، لو كان ذلك الاحتياط إنما نشأ من الوساوس الشيطانية والأوهام النفسانية كما يقع من بعض الناس المبتلين بالوسواس ، فهذا ليس باحتياط ، بل الظاهر من الأخبار تحريمه ؛ لما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «الوضوء بمدّ والغسل بصاع ، وسيأتي أقوام [بعدي] يستقلون ذلك ، فاولئك على غير سنتي ، والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس» (٣).

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) من «ح».

(٣) الفقيه ١ : ٢٣ / ٧٠ ، وسائل الشيعة ١ : ٤٨٣ ، أبواب الوضوء ، ب ٥٠ ، ح ٦.

١٢٧
١٢٨

(٢٥)

درّة نجفيّة

في الشبهة المحصورة وغير المحصورة

الظاهر من كلام جمهور الأصحاب ، بل لا أعرف فيه خلافا إلّا من بعض متأخّري المتأخّرين ممن سيأتي ذكرهم هو الفرق بين المحصور وغير المحصور بالنسبة إلى اشتباه الحلال بالحرام والنجس بالطاهر ، بمعنى أنه لو اختلط الحلال بالحرام ، والنجس بالطاهر في أفراد محصورة حكم بتحريم الجميع ونجاسته ، ولو اشتبه أحدهما بالآخر في أفراد غير محصورة كان كل من تلك الأفراد على ظاهر الحليّة والطهارة ، حتى يعلم الحرام أو النجس بعينه.

ووجه الفرق بينهما ظاهر ؛ وذلك فإنه مع كون تلك الأفراد محصورة في عدد معيّن وأشخاص متميزة ، فإنه يعلم وجود الحرام قطعا ، والشارع قد أوجب اجتنابه مطلقا ـ أعم من أن يكون متعينا متشخصا ، أو مختلطا بأفراد محصورة ـ إذ الأدلة الدالة على وجوب اجتنابه مطلقة ، فإن قوله سبحانه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (١) شامل بإطلاقه لما لو كانت الميتة متميزة ، ولما لو كانت مشتبهة بفردين أو ثلاث مثلا. وقوله سبحانه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) (٢) الآية ، شامل بإطلاقه لما لو كانت الامّ متشخّصة ، ولما لو كانت مشتبهة بأجنبية أو

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) النساء : ٢٣.

١٢٩

مختلطة بامرأتين أو أكثر. وهكذا باقي المحرمات في الآية.

غاية الأمر أن وجوب الاجتناب في موضع الاشتباه لمّا كان لا يمكن ولا يتم إلّا باجتناب جملة الأفراد المختلطة بها ، وجب اجتناب الجميع ، من باب (ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب) ، وأمّا في غير المحصورة فإنه لا يعلم وجود الحرام ثمة ، ولا يقطع بحصوله ، فلا يتعلق التكليف الشرعي باجتنابه ووجوده في الواقع ونفس الأمر بحيث يحتمل كون هذا الفرد والأفراد منه لا يجدي نفعا في المقام ؛ لأن الشارع لم يجعل الواقع ونفس الأمر مناطا للأحكام الشرعية ، وإنما جعلها منوطة بنظر المكلف وعلمه كما لا يخفى على من أحاط خبرا بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية. ولم أر من خالف في هذه القاعدة الكلية والضابطة الجلية ، سوى جماعة من متأخّري المتأخّرين وذلك في مقامين :

المقام الأول : في مسألة الإناءين

حيث إن الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بناء على القاعدة المذكورة المؤيدة بالأخبار ، ولا سيما في خصوص المسألة المذكورة ـ أوجبوا اجتنابهما معا ، بل نقل الإجماع على ذلك جماعة من أجلاء الأصحاب منهم الشيخ في (الخلاف) (١) ، والمحقق في (المعتبر) (٢) والعلّامة في (المختلف) (٣) ، واحتج في (المعتبر) بعد نقل الاتفاق على ذلك : بأن (يقين الطهارة في كل منهما معارض بيقين النجاسة ولا رجحان ، فيتحقق المنع) (٤).

وأورد عليه في (المعالم) بأن يقين الطهارة في كل واحد بانفراده إنما يعارضه الشك في النجاسة لا اليقين (٥). ونقل السيد السند في (المدارك) عن العلّامة أنه

__________________

(١) الخلاف ١ : ١٩٦ / المسألة : ١٥٣.

(٢) المعتبر ١ : ١٠٣.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ٨١ / المسألة : ٤٣.

(٤) المعتبر ١ : ١٠٣.

(٥) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ٣٧٨.

١٣٠

احتج في (المختلف) أيضا على ذلك بأن اجتناب النجس واجب قطعا ، وهو لا يتمّ إلّا باجتنابهما معا ، وما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب (١). واعترضه بأن (اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلّا مع تحققه بعينه لا مع الشكّ فيه ، واستبعاد سقوط حكم هذه النجاسة شرعا إذا لم يحصل المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه غير ملتفت إليه. وقد ثبت نظيره في حكم واجدي المني في الثوب المشترك ، واعترف به الأصحاب في غير المحصور أيضا ، والفرق بينه وبين المحصور غير واضح عند التأمل) (٢) انتهى.

وقد تقدّمه في هذا الكلام شيخه المولى الأردبيلي قدس‌سرهما (٣) ، وقد جرى على هذا المنوال جملة ممن تأخّر عنهما (٤) ، وحيث إن المسألة المذكورة ممّا لم يعطها حقها من التحقيق أحد من الأصحاب ، ولم يميز القشر منها من اللباب مع تكثر أفرادها في الأحكام ودورانها في كلام علمائنا الأعلام ، فحريّ بنا أن نبسط فيها الكلام بما يقشع عنها غياهب الظلام ، ونبيّن ما في كلام هؤلاء الأعلام من سقوط ما اعترضوا به في المقام ، فنقول :

أولا : لا يخفى على من مارس الأحكام ، وخاض في تيّار ذلك البحر القمقام أن القواعد الكليّة الواردة عنهم عليهم‌السلام (٥) في الأحكام الشرعية كما تكون باشتمال القضية على سور الكلية ، كذلك تحصل بتتبع الجزئيات الواردة عنهم عليهم‌السلام ، كما في القواعد النحوية ، وما صرّح به الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في حكم

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٨١ / المسألة : ٤٣ ، وقد ذكر الحكم دون العلّة ، وهي مذكورة في مدارك الأحكام ١ : ١٠٧.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٢ ، وفيه القول بالاحتياط دون الوجوب.

(٤) ذخيرة المعاد : ١٣٨.

(٥) في «ق» بعدها : كما في القواعد النحوية ، وما أثبتناه وفقا لـ «ح».

١٣١

المحصور وغير المحصور في هذا المقام ، وإن كان لم يرد في الأخبار بقاعدة كلية ، إلّا إن المستفاد منها على وجه لا يزاحمه الريب في خصوصيات الجزئيات التي تصلح للاندراج تحت كل من المحصور وغير المحصور هو ما ذكروه وصرّحوا به من التفصيل ، بل في بعض الأخبار تصريح بكلية الحكم في بعض تلك الأفراد كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وها أنا أذكر لك ما وقفت عليه من المواضع والجزئيات المتعلّقة بكل من ذينك الفردين ؛ فأما ما دل على حكم المحصور وأنه يلحق المشتبه فيه حكم ما اشتبه به من نجاسة أو تحريم :

فأحدها : ما نحن فيه من مسألة الإناءين ، فقد روى عمار في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء ووقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو قال : «يهريقهما ويتيمم» (١).

ومثله روى سماعة في الموثق (٢).

وهما صريحتان في الحكم.

وطعن جملة من متأخّري المتأخّرين (٣) في الخبرين بضعف السند بناء على الاصطلاح المحدّث بينهم ، وبعض منهم جبر ضعفهما بعمل الأصحاب بهما (٤).

وجملة منهم إنّما اعتمدوا على الإجماع المدّعى في هذه المسألة (٥). والكل

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٤٨ / ٧١٢ ، وسائل الشيعة ١ : ١٥٥ ـ ١٥٦ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٨ ، ح ٤.

(٢) الكافي ٣ : ١٠ / ٦ ، باب الوضوء من سؤر الدواب ، وسائل الشيعة ١ : ١٥١ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٨ ، ح ٢.

(٣) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ٣٩٨ ، مدارك الأحكام ١ : ١٠٧ وقد نسب الضعف لجماعة من الفطحية في سندها.

(٤) ذخيرة المعاد : ١٣٨.

(٥) مشارق الشموس : ٢٨٨.

١٣٢

بمكان من الضعف فإنه لم يقم لنا دليل على صحة هذا الاصطلاح الذي اعتمدوه ، بل كلماتهم في غير مكان ممّا تدلّ على أنه متداعي الأركان منهدم البنيان كما أوضحناه في مواضع من مؤلفاتنا ، ولا سيما كتاب (المسائل الشيرازية) وكتاب (الحدائق الناضرة) (١).

وثانيها : الثوب الطاهر المشتبه بثوب آخر نجس ، فإنه لا خلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ ممن منع الصلاة عاريا في أنه يجب الصلاة فيهما على جهة البدلية حتى من هؤلاء الفضلاء المنازعين في هذه المسألة ، ولم يجوّز أحد منهم الصلاة في واحد منهما خاصة ، مع أن مقتضى ما قالوه في مسألة الإناءين جواز ذلك.

ويدل على الحكم المذكور من النصوص حسنة صفوان بن يحيى عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه كتب إليه يسأله عن رجل كان معه ثوبان ، فأصاب أحدهما بول ، ولم يدر أيهما هو ، وحضرت الصلاة وخاف فوتها ، وليس عنده ماء ، كيف يصنع؟

قال : «يصلي فيهما» (٢).

قال شيخنا الصدوق رضي‌الله‌عنه في (الفقيه) بعد نقل الرواية : (يعني على الانفراد) (٣).

قال في (المدارك) ـ بعد أن نقل القول بذلك عن الشيخ (٤) وأكثر الأصحاب ، وقال : إنّه المعتمد ، ونقل عن بعض الأصحاب أنه يطرحهما ويصلي عريانا (٥) ـ ما صورته : (ومتى امتنع الصلاة عاريا ثبت وجوب الصلاة في أحدهما ، أو كلّ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٥٠٢ ـ ٥٠٤.

(٢) الفقيه ١ : ١٦١ / ٧٥٧ ، وسائل الشيعة ٣ : ٥٠٥ ، أبواب النجاسات ، ب ٦٤ ، ح ١ ، وفيهما : يصلي فيهما جميعا.

(٣) الفقيه ١ : ١٦١ / ذيل الحديث : ٧٥٧.

(٤) الخلاف ١ : ١٩٦ / المسألة : ١٥٣ ، المبسوط ١ : ٣٩ ، النهاية : ٥٥.

(٥) انظر السرائر ١ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

١٣٣

منهما ؛ إذ المفروض انتفاء غيرهما ، والأول منتف ؛ إذ لا قائل به ، فيثبت (١) الثاني ، ويدلّ عليه ما رواه صفوان) (٢) ، ثم ساق الرواية.

وأنت خبير بما فيه ؛ فإن مقتضى ما ذكره في مسألة الإناءين واختاره فيها ، وما ذكره أيضا في مسألة السجود مع حصول النجاسة في المواضع المتسعة ـ حيث قال بعد البحث في المسألة : (والذي يقتضيه النظر عدم الفرق بين المحصور وغيره ، وأنه لا مانع من الانتفاع بالمشتبه فيما يفتقر إلى الطهارة إذا لم يستوعب المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه (٣) ـ أنه يجزي هنا الصلاة في ثوب واحد ، وتوقّف القول به على وجود القائل جار في الموضعين الآخرين ، فإنه لم يخالف في تينك (٤) المسألتين أحد سواه ومن حذا حذوه واقتفاه.

والجواب عنه بوجود النص المعتمد في الثوب النجس ، وعدم وجوده ثمة ؛ لضعف النص في مسألة الإناءين عنده ، وعدم النص في مسألة السجود ضعيف :

أولا : بأنّه بالتأمل في النصوص الواردة في الأحكام المتفرقة ، وضم بعضها إلى بعض ـ كما سنوضحه إن شاء الله تعالى ـ يعلم أن ذلك حكم كلي.

وثانيا : أن ما ذكره من التعليل في الموضعين يعطي كون الحكم عنده كليا في مسألة الطاهر المشتبه بالنجس مطلقا لا بخصوص تينك (٥) المسألتين ، ولا ريب أن وجود الرواية في هذا الجزئي ممّا يبطل دعوى كون الحكم كليا.

وثالثها : الثوب النجس بعضه مع وقوع الاشتباه في جميع أجزاء الثوب ، فإنه لا خلاف بين الأصحاب حتى من هذا الفاضل ومن تبعه ، وقال بمقالته أنه لا يحكم بطهارة الثوب إلّا بغسله كملا ، وبه استفاضت الأخبار ، ففي صحيحة محمد بن

__________________

(١) في «ح» : فثبت.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ٣٥٦.

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ٢٥٣.

(٤) من «ق» وفي النسختين : تلك.

(٥) من «ق» ، وفي النسختين : تلك.

١٣٤

مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام أنه قال في المني يصيب الثوب : «فإن عرفت مكانه فاغسله ، وإن خفي عليك فاغسل الثوب كله» (١).

ومثلها صحيحة زرارة (٢) وحسنة محمد بن مسلم (٣) ورواية ابن أبي يعفور (٤) وغيرها (٥).

قال السيد في (المدارك) بعد نقل عبارة المصنف (٦) في ذلك : (هذا قول علمائنا ، وأكثر العامة ـ قاله في (المعتبر (٧)) (٨) ـ واستدل عليه بأن النجاسة موجودة بيقين ، ولا يحصل اليقين بزوالها إلّا بغسل جميع ما وقع فيه الاشتباه.

ويشكل بأن يقين النجاسة يرتفع بغسل جزء ممّا وقع فيه الاشتباه يساوي قدر النجاسة ، وإن لم يحصل القطع بغسل ذلك المحل بعينه) (٩) انتهى ، وفيه :

أولا : أن الظاهر أن ما ذكره المحقق رحمه‌الله من التعليل هنا وفي مسألة الإناءين ، بل في سائر المواضع المنصوصة إنما هو على جهة التوجيه للنص وبيان حكمة الأمر فيه ؛ لأنّه مع وجود النص فلا ضرورة تلجئ إلى التعليل بالوجوه العقلية.

على أن أحكام الشرع توقيفية لا تعلل بالعقول ، كما أطال به المحقق الكلام في أوّل كتاب (المعتبر) (١٠) ، وغيره في غيره. وحينئذ ، فلا إشكال.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٦٧ / ٧٨٤ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٢٣ ، أبواب النجاسات ، ب ١٦ ، ح ١.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٤٢١ / ١٣٣٥ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٠٢ ، أبواب النجاسات ، ب ٧ ، ح ٢.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٥١ / ٧٣٠ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٢٤ ، أبواب النجاسات ، ب ١٦ ، ح ٢.

(٤) الكافي ٣ : ١٥٣ / ١ ، باب المنهي والمذي يصيبان الثوب والجسد ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٢٥ ، أبواب النجاسات ، ب ١٦ ، ح ٦.

(٥) الكافي ٣ : ٥٤ / ٤ ، باب المني والمذي يصيبان الثوب والجسد ، تهذيب الأحكام ١ : ٢٥٢ / ٧٢٨ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٠٣ ، أبواب النجاسات ، ب ٧ ، ح ٥.

(٦) شرائع الإسلام ١ : ٤٦.

(٧) في «ح» : قتلهم الله ، بدل : قاله في المعتبر.

(٨) المعتبر ١ : ٤٣٧.

(٩) مدارك الأحكام ٢ : ٣٣٤.

(١٠) المعتبر ١ : ٢٨ ـ ٣٣.

١٣٥

نعم ، هذا الإشكال موافق لما اختاره في ذينك الموضعين ، ولكنه وارد عليه في هذا الموضع ، حيث إن مقتضى ما اختاره ثمة الاكتفاء بغسل جزء من الثوب ، كما ذكره ولكن النصوص تدفعه ، وهو دليل على ما ادّعيناه وصريح فيما قلناه من القاعدة المقرّرة والضابطة المعتبرة ، وأن كلامه قدس‌سره ثمة مجرد استبعاد عقلي وخيال وهمي.

وثانيا : أنه متى كان يقين النجاسة هنا يرتفع بغسل جزء ممّا وقع فيه من الاشتباه ـ بمعنى (١) أنا لا نقطع حينئذ ببقاء النجاسة ؛ لجواز كونها في ذلك الجزء الذي قد غسل ـ فإنا نقول أيضا مثله في مسألة الإناءين : إنه بعد وقوع النجاسة في واحد منهما لا على التعيين ، فقد زال يقين الطهارة الحاصل أولا من كل ذينك الإناءين. وهكذا في الثوب والمكان المحصورين ، فإنه قد يتساوى (٢) احتمال الملاقاة وعدم الملاقاة في كل جزء جزء من تلك (٣) الأجزاء المشكوك فيها. وهذا القدر يكفي في زوال ذلك اليقين الحاصل قبل الملاقاة والخروج عن مقتضاه.

ورابعها : اللحم المختلط ذكيه بميّته ، فقد ذهب الأصحاب إلى تحريم الجميع من غير خلاف يعرف وعليه دلّت الأخبار ، ومنها حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن رجل كانت له غنم وبقر ، وكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة ، ثم إن الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع؟ قال : «يبيعه ممّن يستحلّ الميتة ويأكل ثمنه» (٤).

__________________

(١) من «ح».

(٢) في «ح» : تساوي.

(٣) من «ح».

(٤) الكافي ٦ : ٢٦٠ / ٢ ، باب اختلاط الميتة بالذكي ، وسائل الشيعة ١٧ : ٩٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٧ ، ح ٢.

١٣٦

ومثلها حسنته الاخرى أيضا (١).

ويأتي بمقتضى ما ذكره السيد ومن تبعه أن كل قطعة لاحظناها من هذا اللحم فهي حلال لا يحكم بنجاستها ولا يحرم أكلها ؛ لأن الواجب إنما هو اجتناب ما تحقق تحريمه بعينه لا ما اشتبه بالحرام (٢). والنصوص كما عرفت تدفعه.

ولو قيل : إنه ربما يتمسّك هنا بأصالة عدم التذكية.

قلنا : يعارضه التمسّك بأصالة الطهارة وأصالة الحليّة.

وأما ما ورد في غير المحصور فهو في مواضع ، منها الأخبار الدالة على أن :«كلّ شي‌ء طاهر حتى تعلم أنه قذر» (٣).

ومنها الأخبار الدالة على أن كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه (٤). وحيث كان هذا الفرد غير محلّ النزاع في المقام ، فلا فائدة في التطويل (٥) والكلام. وسيأتي في المقام الثاني إن شاء الله تعالى من البسط في البحث ما يتقشع به غياهب الظلام.

هذا ، وأما ما أورده في (المعالم) (٦) على المحقق ، فيندفع بما أشرنا إليه آنفا من أنه قد حصل لنا اليقين بنجاسة أحد الإناءين لا (٧) على التعيين ، وهذا اليقين

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦٠ / ١ ، باب اختلاط الميتة بالذكي ، وسائل الشيعة ١٧ : ٩٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٧ ، ح ١.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : التحريم.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٤ ، وفيهما : نظيف ، بدل : طاهر.

(٤) انظر : الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ـ ٤٠ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٢ ، تهذيب الأحكام ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٨ ، و ٩ : ٧٩ / ٣٣٧ ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

(٥) في «ح» : تطويل البحث فيه.

(٦) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ٣٧٨.

(٧) من «ح».

١٣٧

أوجب حدوث حالة متوسطة بين الطهارة والنجاسة في كل واحد من ذينك الإناءين على حدة ، فهو ليس بمتيقن الطهارة ولا متيقن النجاسة ، وحينئذ فهو من باب نقض اليقين بيقين مثله.

وأما ما ذكره السيد قدس‌سره من أن اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلّا مع تحققه بعينه (١) فمردود بأن الأخبار ـ كما عرفت ـ ممّا قدمنا في الصور المعدودة وغيرها ممّا سيأتي في المقام الآتي إن شاء الله تعالى ، كما أنها دلّت على وجوب الاجتناب مع اليقين دلّت على وجوب الاجتناب مع الاشتباه بمحصور. وقياس هذه المسألة على مسألة واجدي المني في الثوب المشترك قياس مع الفارق ؛ لوجود النصوص الدالة على الاجتناب في هذه المسألة ونظائرها ـ كما عرفت ـ وعدم النص في تلك المسألة على ما ذكره الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ فيها من الأحكام.

فإن قيل : كلام الأصحاب وإن كان من غير نص في الباب ليعترض به هنا ، فينبغي أن يقبل ما ذكروه في هذه المسألة مع اعتضاده بالنصوص والنظائر المذكورة بالإجمال والخصوص ، وإلّا فلا معنى للإيراد بكلامهم.

على أنا نقول : إنه حيث لا نص عندهم في تلك المسألة فمن الجائز أن يكون حكمها شرعا هو الدخول تحت هذه الكلية المعتضدة بالنصوص الجلية (٢) ، وإيجاب الغسل على كل من الواجدين للمني.

وبالجملة ، فالإيراد بالمسألة المذكورة إنما يتم لو اعتضد ما ذكروه فيها بالنص ليدافع ما أوردناه من النصوص. وأما قوله : (والفرق بين غير المحصور والمحصور غير واضح) ، ففيه أنا قد أشرنا في صدر الكلام إلى وجه الفرق بينهما ،

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) من «ح».

١٣٨

ويزيده بيانا ما يأتي في المقام الثاني إن شاء الله تعالى من البيان الواضح البرهان.

المقام الثاني : في الحلال المختلط بالحرام إذا كان محصورا

فإن الحكم فيه بمقتضى القاعدة المتقدّمة المعتضدة بالأخبار وإجماع الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ هو التحريم في الجميع كما عرفت. والمفهوم من كلام الفاضل المولى محمد باقر الخراساني في (الكفاية) والمحدث الكاشاني في (المفاتيح) هو حلّ الجميع.

قال الفاضل المشار إليه في الكتاب المذكور في مسألة اللحم المختلط ذكيّه بميّته ما لفظه : (والمشهور بين المتأخّرين أنه إذا اختلط ولم يعلم وجب الاجتناب من الجميع حتى يعلم الذكي بعينه ، ومستند ذلك عندهم قاعدة معروفة عندهم ، هي أن الحرام يغلب الحلال في المشتبه ، وبعض الروايات العاميّة ، وبعض الاعتبارات العقلية. وفي الكل نظر.

وقول الصادق عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان : «كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» (١) يدل على الحلّ وكذلك غيرها من الأخبار) (٢) انتهى.

وقال المحدّث الكاشاني في (المفاتيح) في مسألة اللحم المختلط أيضا : (وإذا اختلط الذكيّ بالميت وجب الامتناع منه حتى يعلم الذكي بعينه ، لوجوب اجتناب الميت ، ولا يتم إلّا بذلك ، كذا قالوه. وفي الصحيحين : «إذا اختلط الذكي

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، تهذيب الأحكام ٩ : ٧٩ / ٣٣٩ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٦ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ٦٤ ، ح ٢.

(٢) كفاية الأحكام : ٢٥١.

١٣٩

والميتة باعه ممن يستحلّ الميتة ويأكل ثمنه» (١)) (٢) انتهى.

وقال في مسألة ما يحلّ ويحرم بالعارض : (وإذا اختلط الحلال بالحرام ، فهو له حلال حتى يعرف الحرام بعينه للصحيح وغيره ، حتى يعرف أنه حرام بعينه كما مرّ) (٣) انتهى.

واستدل (٤) في شرح (المفاتيح) لهذا القول نصرة لعمه قدس‌سرهما بصحيحة عبد الله بن سنان المتقدّمة في كلام الفاضل الخراساني ، وموثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل ثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ وقد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك. والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البينة» (٥).

وموثقة سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب مالا من عمل بني امية ، وهو يتصدّق منه ، ويصل قرابته ، ويحجّ ليغفر له ما اكتسب ، وهو يقول : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٦). فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة ، ولكن الحسنة تحطّ الخطيئة». ثم قال : «إن كان خلط الحلال بالحرام فاختلطا جميعا ،

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦٠ / ١ ، ٢ ، باب اختلاط الميتة بالذكي ، تهذيب الأحكام ٩ : ٤٧ ـ ٤٨ / ١٩٨ ـ ١٩٩ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ١٨٧ ، أبواب الأطعمة المحرمة ، ب ٣٦ ، ح ١ ، ٢.

(٢) مفاتيح الشرائع ٢ : ١٩٢ / المفتاح : ٦٤٦.

(٣) مفاتيح الشرائع ٢ : ٢٢٤ / المفتاح ٦٨٠.

(٤) هو المولى محمد هادي ابن المولى مرتضى بن محمد المؤمن ، ومحمد المؤمن هذا أخو الفيض الكاشاني ، فيكون عم أبي الشارح. انظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١٤ : ٧٩ / ١٨١٦.

(٥) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤ ، وفيهما : تعلم ، بدل : تعرف.

(٦) إشارة إلى الآية : ١١٤ من سورة هود.

١٤٠