الدّرر النجفيّة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢١

(٣٩)

درّة نجفيّة

في نضح الماء للجهات الأربع لمن لم يجد ماء كافيا لغسله

روى الشيخ قدس‌سره في (التهذيب) في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية ، أو مستنقع أيغتسل منه للجنابة ، أو يتوضأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره ، والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ، ولا مدّا للوضوء ، وهو متفرق؟ فكيف يصنع به ، وهو يتخوف أن يكون السباع قد شربت منه؟ فقال : «إذا كانت يده نظيفة ، فليأخذ كفّا من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه ، وكفّا [عن] أمامه ، وكفّا عن يمينه وكفّا عن شماله ، فإن خشي ألّا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرات ، ثم مسح جلده بيده ، فإن ذلك يجزيه.

وإن كان الوضوء ، غسل وجهه ومسح يده على ذراعيه ورأسه ورجليه ، وإن كان الماء متفرّقا فقدر أن يجمعه ، وإلّا اغتسل من هذا وهذا ، فإن كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه فان ذلك يجزيه» (١).

أقول : هذا الخبر من مشكلات (٢) الأخبار ومعضلات الآثار ، وقد تكلم فيه جملة من علمائنا الأبرار ـ رفع الله أقدارهم في دار القرار ـ فرأينا في هذا الكتاب بسط (٣) الكلام فيه وإردافه بما يكشف عن باطنه وخافيه ، فنقول : الكلام

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٤١٦ ـ ٤١٧ / ١٣١٥.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : المشكلات.

(٣) قوله : الكتاب بسط ، من «ح».

٣٦١

فيه يقع في مواضع :

الموضع الأول : في موضع النضح

قد اختلف أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في أن النضح للجوانب الأربعة في الخبر المذكور هل هو للأرض أم البدن؟ وعلى أي منهما فما الغرض منه وما الحكمة فيه؟

القول بأنّ موضع النضح هو الأرض

فقيل (١) : إن محل النضح هو الأرض. وقد (٢) اختلف في وجه الحكمة على هذا القول ، فظاهر الخبر المشار إليه ـ وبه صرّح البعض (٣) ـ أن ذلك لدفع النجاسة الوهمية الناشئة من تخوف شرب السباع التي من جملتها الكلاب ونحوها ، مع قلّة الماء.

ولكن فيه أن تعداد النضح في الجهات الأربع لا يظهر له وجه ترتّب على ذلك ؛ إذ يكفي النضح إلى جهة واحدة. ولعل الأقرب كون ذلك لما ذكر (٤) ، مع منع رجوع الغسالة إلى الماء ، كما يشير إليه قوله عليه‌السلام في آخر الخبر : «وإن كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه» ، فإنه يشعر بكون النضح أولا لمنع رجوع الغسالة ، لكن مع قلة الماء على الوجه المذكور لا عليه أن يغتسل ، ويرجع الماء إلى مكانه.

ويؤيّد ذلك ويوضحه أن الذي صرّح به غير هذا الخبر من الأخبار الواردة في هذا المضمار هو أن العلة منع رجوع الغسالة ، ومنها رواية ابن مسكان قال :

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : فقل.

(٢) في «ح» : فقد.

(٣) بحار الأنوار ٧٧ : ١٣٨ / ذيل الحديث : ٨.

(٤) في «ح» بعدها : و.

٣٦٢

حدّثني صاحب لي ثقة أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل وليس معه إناء ، والماء في وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء ، كيف يصنع؟ قال : «ينضح بكفّ بين يديه وكفّا من خلفه وكفّا عن يمينه وكفّا عن شماله ، ثم يغتسل» (١).

وما رواه في (المعتبر) (٢) ، و (المنتهى) (٣) عن (جامع البزنطي) عن عبد الكريم عن محمد بن ميسر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الجنب ينتهي إلى الماء القليل والماء في وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء ، كيف يصنع؟ قال : «ينضح بكفّ بين يديه وكفّا خلفه وكفّا عن يمينه وكفّا عن شماله ، ويغتسل (٤)».

وبذلك أيضا صرّح شيخنا الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في (من لا يحضره الفقيه) حيث قال : (فإن (٥) اغتسل الرجل في وهدة ، وخشي أن يرجع ما ينصبّ عنه إلى الماء الذي يغتسل منه ، أخذ كفّا وصبّه أمامه ، وكفّا عن يمينه وكفّا عن يساره (٦) ، وكفّا من خلفه ، واغتسل منه) (٧).

وقال أيضا والده في رسالته إليه : (وإن اغتسلت من ماء في وهدة وخشيت أن يرجع ما ينصب عنك إلى المكان الذي تغتسل فيه ، أخذت له كفّا وصببته عن يمينك ، وكفّا عن يسارك ، وكفّا خلفك وكفّا أمامك ، واغتسلت) (٨).

والخبران المنقولان مع العبارتين المذكورتين وإن اشتركا في كون العلة منع رجوع الغسالة ، لكنها مجملة بالنسبة إلى كون المنضوح الأرض أو البدن.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٤١٧ ـ ٤١٨ / ١٣١٨ ، وسائل الشيعة ١ : ٢١٧ ـ ٢١٨ ، أبواب الماء المضاف ، ب ١٠ ، ح ٢.

(٢) المعتبر ١ : ٨٨.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٢٣.

(٤) من «ح» والمصدر.

(٥) في «ق» قبلها : ويغتسل ، وما أثبتناه وفق «ح» والمصدر.

(٦) في «ق» شماله يساره ، وما أثبتناه وفق «ح» والمصدر.

(٧) الفقيه ١ : ١١ ـ ١٢ / ذيل الحديث : ٢٠.

(٨) انظر المقنع : ٤٦.

٣٦٣

وما ذكره في كتاب (المعالم) من أن (العبارة المحكية عن رسالة ابن بابويه ظاهرة في الأوّل حيث قال فيها : (أخذت له كفّا) إلى آخره ، والضمير في قوله : (له) عائد إلى المكان الذي يغتسل فيه ؛ لأنه المذكور قبله في العبارة. وليس المراد به : محل الماء ، كما وقع في عبارة ابنه ، حيث صرّح بالعود إلى الماء الذي يغتسل منه ، وكأن تركه للتصريح بذلك اتّكال على دلالة لفظ الرجوع عليه ، فالجار في قوله : (إلى المكان) متعلق بـ (ينصبّ) ، وصلة (يرجع) غير مذكورة لدلالة المقام عليها) (١) ـ انتهى ـ فظني (٢) أنه بعيد ؛ لاحتمال كون الضمير في (له) عائدا إلى ما يفهمه سوق الكلام من خوف رجوع ما ينصبّ عنه ، بمعنى أنك إذا خشيت ذلك أخذت لدفع ما تخشاه كفّا.

ويؤيّده السلامة من تقدير صلة لـ (يرجع) ، بل صلته هو قوله : (إلى المكان).

غاية الأمر أنه عبّر هنا عن الماء الذي يغترف منه ، كما وقع في عبارة ابنه بالمكان الذي يغتسل فيه ، وهو سهل.

وقيل (٣) : إن (٤) الحكمة فيه اجتماع أجزاء الأرض ، فيمتنع سرعة انحدار ما ينفصل عن البدن إلى الماء (٥) ، وردّه ابن إدريس وبالغ في ردّه بأن استعداد الأرض برشّ الجهات المذكورة موجب لسرعة نزول ماء الغسل (٦). والظاهر أن لكل من القولين وجها باعتبار اختلاف (٧) الآراض (٨) وأن بعضها بالابتلال يكون

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

(٢) خبر (ما) المتضمّنة للشرط في قوله المارّ : (وما ذكر في كتاب المعالم).

(٣) انظر وجوه الحكمة في ذلك في بحار الأنوار ٧٧ : ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٤) في «ح» : بان.

(٥) انظر المعتبر ١ : ٨٨.

(٦) السرائر ١ : ٩٤ ، عنه في مشارق الشموس : ٢٥١.

(٧) في «ح» : باختلاف ، بدل : باعتبار اختلاف.

(٨) في «ح» : الأرض.

٣٦٤

قبولها للابتلاع للماء (١) الكثير أكثر ، وبعضها بالعكس.

وقيل : إن الحكمة هي عدم عود ماء الغسل ، لكن لا من جهة كونه غسالة ، بل من جهة النجاسة الوهمية التي في الأرض. فالنضح إنما هو لإزالة النجاسة الوهمية منها (٢). والظاهر بعده ؛ لأنه لا إيناس في الخبر المذكور ولا في غيره من الأخبار التي قدمناها بذلك.

وقيل بأن الحكمة إنما هي رفع ما يستقذر منه الطبع من الكثافات بأن يأخذ من وجه الماء أربع أكفّ وينضح على الأرض. صرّح بذلك السيد السند صاحب (المدارك) في حواشي (الاستبصار (٣)) وأيّده بحسنة الكاهلي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إذا أتيت ماء وفيه قلة فانضح عن يمينك وعن يسارك وبين يديك وتوضأ» (٤).

ورواية أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنا نسافر ، فربما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية فيكون فيه العذرة ، ويبول فيه الصبي ، وتبول فيه الدابة ، فقال : «إن عرض في قلبك منه شي‌ء [فافعل] (٥) هكذا» (٦) ، يعني فرّج الماء بين يديك ، ثم توضأ. وفيه :

أولا : أنه يكفي على هذا مطلق النضح ، وإن كان إلى جهة واحدة ، مع أن الخبر قد تضمّن تفريقه في الجهات الأربع ، ومثله الخبران الآخران المتقدمان. وأما النضح إلى الجهات الثلاث في خبر الكاهلي ، فالظاهر أنه عبارة عن تفريج الماء ، كما في خبر أبي بصير.

__________________

(١) في «ح» : لابتلاع الماء ، بدل : للابتلاع للماء.

(٢) انظر مشارق الشموس : ٢٥١ ـ ٢٥٢.

(٣) في حواشي الاستبصار ، من «ح».

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٣.

(٥) من الاستبصار ، وفي النسختين : نقل.

(٦) تهذيب الأحكام ١ : ٤١٧ / ١٣١٦ ، الاستبصار ١ : ٢٢ / ٥٥ ، وسائل الشيعة ١ : ١٦٣ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٩ ، ح ١٤.

٣٦٥

وثانيا : أن ظاهر الخبرين اللذين قدمناهما ، وكذا كلام الصدوقين منع رجوع الغسالة ، وهذا الخبر وإن كان مجملا بالنسبة إلى ذلك إلّا إن الظاهر ـ كما قدمنا لك ـ أن ذلك ممّا استشعره الإمام عليه‌السلام من سؤال السائل كما يشعر به آخر الخبر ، ولا ينافي ذلك ظهور ما ادّعاه في حسنة الكاهلي ورواية أبي بصير ، فإن الظاهر أن هذا حكم آخر مرتب على علة اخرى غير ما تضمنته هذه الأخبار.

وثالثا : أن ظاهر الخبر ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ إنّما هو إزالة النجاسة الوهمية من الماء ، وربما احتمل بعضهم ـ بناء على ذلك ـ أن المنضوح (١) الماء. وأيده أيضا بحسنة الكاهلي ورواية أبي بصير. ولا يخفى بعده وإن قرب احتماله في الخبرين المذكورين.

القول بأنّ موضع النضح هو البدن

هذا كله بناء على أن محل النضح هو الأرض ، وقيل بأن محل النضح هو البدن (٢). وقد اختلف أيضا في وجه الحكمة على هذا (٣) القول على أقوال (٤) : منها أن الحكمة في ذلك ، هو ترطيب البدن قبل الغسل ؛ لئلّا ينفصل عنه ماء الغسل كثيرا ، فلا يفي بغسله لقلّة الماء (٥). وفيه :

أولا : أن ذلك وإن احتمل بالنسبة إلى الخبر المذكور ، لكنه لا يجري في خبري ابن مسكان وخبر جامع البزنطي المتقدّمين ؛ لظهورهما في كون العلة إنّما هي خوف (٦) رجوع الغسالة. والظاهر ـ كما قدمنا الإشارة إليه ـ كون مورد الأخبار الثلاثة أمرا واحدا.

__________________

(١) في «ح» بعدها : هو.

(٢) انظر المعتبر ١ : ٨٨.

(٣) في «ح» : ظاهر.

(٤) انظر وجوه الحكمة في ذلك في بحار الأنوار ٧٧ : ١٣٩ ـ ١٤٠.

(٥) انظر مرآة العقول ١٣ ـ ١٨.

(٦) من «ح».

٣٦٦

وثانيا : أنه يلزم من ذلك عدم جواب الإمام عليه‌السلام في الخبر المبحوث عنه عن إشكال السائل المتخوّف من ورود السباع.

ومنها أن الحكمة إزالة توهّم ورود الغسالة ؛ إما بحمل ما يرد على الماء على وروده ممّا نضح على البدن قبل الغسل الذي ليس من الغسالة ؛ وإما إنه مع الاكتفاء بالمسح بعد النضح لا يرجع إلى الماء شي‌ء. ولا يخلو أيضا من المناقشة.

ومنها أن الحكمة في ذلك ليجري ماء الغسل على البدن بسرعة ، ويكمل الغسل قبل وصول الغسالة إلى ذلك الماء.

واعترض عليه ، بأن سرعة جريان ماء الغسل على البدن مقتض لسرعة تلاحق أجزاء الغسالة وتواصلها ، وهو يعين على سرعة الوصول إلى الماء.

واجيب بأن انحدار الماء من أعالي البدن إلى أسافله أسرع من انحداره إلى الأرض المائلة إلى الانخفاض ؛ لأنه طالب للمركز على أقرب الطرق ، فيكون انفصاله عن البدن أسرع من اتصاله بالماء الذي يغترف منه. هذا إذا لم تكن المسافة بين مكان الغسل وبين الماء الذي يغترف منه قليلة جدا ، فلعله كان في كلام السائل ما يدل على ذلك ، كذا نقل عن شيخنا البهائي قدس‌سره (١).

الموضع الثاني : في اشتمال الخبر على بعض الأحكام الشاذة

أن هذا الخبر قد اشتمل على جملة من الأحكام المخالفة لما عليه علماؤنا الأعلام ، منها أمره عليه‌السلام بغسل رأسه ثلاث مرات ومسح بقية بدنه ، فإنه يدل على إجزاء المسح عن الغسل عند قلّة الماء. وهو غير معمول عليه عند جمهور الأصحاب عدا ابن الجنيد ، فإن المنقول عنه وجوب غسل الرأس ثلاثا والاجتزاء

__________________

(١) مشرق الشمسين : ٤٠٨.

٣٦٧

بالدهن في بقية البدن. إلّا (١) إن أخبار الدهن الواردة في الوضوء (٢) تساعده.

ومنها قوله عليه‌السلام : «فإن كان في مكان واحد ..» ـ إلى آخره ـ فإنه يدل على أن الجنب إذا لم يجد من الماء إلّا ما يكفيه لغسل بعض أعضائه ، غسل ذلك البعض به وغسل الآخر بغسالته ، وأنه لا يجوز ذلك إلّا مع قلة الماء ، كما يفيده مفهوم الشرط.

وهو مؤيد لما ذهب إليه المانعون من استعمال الغسالة ثانيا (٣) ، ومؤذن بما أشرنا إليه سابقا من أن النضح المأمور به في صدر الخبر إنما هو للمنع من رجوع الغسالة ، إلّا إن الأكثر يحملون ذلك على الفضل والكمال.

الثالث ) : في دلالة الخبر على المنع من استعمال الماء ثانية

أنه على تقدير جعل متعلق النضح في الخبرين المذكورين (٥) الأرض ، وأن وجه الحكمة فيه هو عدم رجوع ماء الغسل إلى الماء الذي يغتسل منه ـ كما هو أظهر الاحتمالات المتقدّمة مع اعتضاده بخبري ابن مسكان ، ومحمد بن ميسر المتقدّمين ـ يكون ظاهر الدلالة على ما ذهب إليه المانعون من استعمال المستعمل ثانيا. وظاهر الأكثر حمل ذلك على الاستحباب ، كما صرّح به العلّامة في (المنتهى) (٦) مقربا له بحسنة الكاهلي (٧) المتقدمة.

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) انظر وسائل الشيعة ١ : ٢١٦ ، أبواب الماء المضاف والمستعمل ، ب ١٠ ، ح ١ ، و ٢ : ٢٤٠ ، أبواب الجنابة ، ب ٣١ ، ح ٦.

(٣) شرائع الإسلام ١ : ٨ ، المعتبر ١ : ٩١ ، إصباح الشيعة : ٢٥.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : الثاني.

(٥) في «ح» : الخبر المذكور ، بدل : الخبرين المذكورين.

(٦) منتهى المطلب ١ : ٢٣.

(٧) من «ح» ، وفي «ق» : الباهلي.

٣٦٨

وجه التقريب أن الاتفاق واقع على عدم المنع من المستعمل في الوضوء ، فالأمر بالنضح له في الحديث محمول على الاستحباب عند الكل ، فلا يبعد أن تكون تلك الأوامر الواردة في تلك الأخبار كذلك.

وأنت خبير بأنّه يأتي ـ بناء على ما حققناه في موضع آخر ـ ابتناء ذلك على ما هو الغالب من بقاء النجاسة إلى آن الغسل ، إلّا إنه يدفعه في الخبر المبحوث عنه قوله في آخره في صورة فرض قلة الماء : «فلا عليه أن يغتسل ويرجع فيه فإنه يجزيه».

الرابع : في المنع في رجوع الغسالة إلى الماء

روى في كتاب (الفقه الرضوي) قال عليه‌السلام : «إن اغتسلت من ماء في وهدة ، وخشيت أن يرجع ما تصب عليك أخذت كفّا فصببت على رأسك ، وعلى جانبيك كفّا كفّا ، ثم أمسح بيدك وتدلك (١) بدنك» (٢).

أقول : وهذا الخبر قد ورد بنوع آخر في منع رجوع الغسالة ، وهو أن تغتسل على الكيفية المذكورة في الخبر. والظاهر

تقييد ذلك بقلّة الماء ، كما دلّ عليه الخبر المبحوث عنه ؛ إذ الاجتزاء بالغسل المذكور مع كثرة الماء وإتيانه على الغسل الكامل لا يخلو من الإشكال إلّا على مذهب المانعين من استعمال الغسالة.

الخامس : في فساد الماء القليل بنزول الجنب إليه

قال الشيخ في (النهاية) : (متى حصل الإنسان عند غدير أو قليب ولم يكن معه ما يغترف به الماء لوضوئه ، فليدخل يده ويأخذ منه ما يحتاج إليه وليس عليه شي‌ء ، وإن أراد الغسل للجنابة وخاف إن نزل إليها فساد الماء ، فليرشّ عن

__________________

(١) في «ح» : وتدلك بيدك ، بدل : بيدك وتدلك.

(٢) الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه‌السلام : ٨٥.

٣٦٩

يمينه ويساره وأمامه وخلفه ، ثم ليأخذ كفّا كفّا من الماء فليغتسل به) (١) انتهى.

قال في (المعالم) ـ بعد نقل ذلك عنه ـ : (وهو لا يخلو من إشكال ؛ فإن ظاهره كون المحذور في الفرض المذكور هو فساد الماء بنزول الجنب إليه واغتساله فيه ، ولا ريب أن هذا يزول بالأخذ من الماء والاغتسال خارجه. وفرض إمكان الرش يقتضي إمكان الأخذ ، فلا يظهر لحكمة بالرشّ حينئذ وجه).

ثم نقل عن المحقق في (المعتبر) أنه تأوّله فقال : (إن عبارة الشيخ لا تنطبق على الرشّ إلّا أن يجعل في (نزل) ضمير ماء الغسل ، ويكون التقدير : وخشي إن نزل ماء الغسل فساد الماء. وإلّا بتقدير أن يكون في (نزل) ضمير المريد لا ينتظم المعنى ؛ لأنه إن أمكنه الرشّ لا مع النزول أمكنه الاغتسال من غير نزول) (٢).

ثم قال بعده : (وهذا الكلام حسن وإن اقتضى كون المرجع غير مذكور صريحا ، فإن محذوره هين بالنظر إلى ما يلزم على التقدير الآخر خصوصا بعد ملاحظة كون الغرض بيان الحكم الذي وردت به النصوص ، فإنه لا ربط للعبارة به على ذلك التقدير.

وفي بعض نسخ (النهاية) : (وخاف أن ينزل إليها فساد الماء) ، على صيغة المضارع ، فالإشكال حينئذ مرتفع ؛ لأنّه مبني على كون العبارة عن النزول بصيغة الماضي ، وجعل (ان) مكسورة الهمزة شرطية ، وفساد الماء مفعول (خشي) ، وفاعل (نزل) ، الضمير العائد إلى المريد. وعلى النسخة التي ذكرناها يجعل (أن) مفتوحة الهمزة مصدرية ، وفساد الماء فاعل (ينزل) ، والمصدر المؤوّل من (أن ينزل) مفعول (خشي) (٣) ، وفاعله ضمير المريد.

__________________

(١) النهاية : ٨ ـ ٩.

(٢) المعتبر ١ : ٨٨.

(٣) كذا في المخطوط والمصدر ، وإلّا فالفعل (خاف) وليس (خشي) كما هي العبارة المذكورة في أوّل الفقرة.

٣٧٠

وحاصل المعنى أنه مع خشية نزول الماء المنفصل من بدن المغتسل إلى المياه التي يريد الاغتسال منها وذلك بعود الماء الذي اغتسل به إليها ، فإن المنع المتعلق به يتعدّى إليها بعوده فيها ، وهو معنى نزول الفساد إليها ، فيجب الرشّ حينئذ حذرا من ذلك الفساد. وهذا عين كلام باقي الجماعة ومدلول الأخبار ، فلعل الوهم في النسخة التي وقع فيها لفظ الماضي ، فإن حصول الاشتباه في مثله وقت الكتابة ليس بمستبعد) (١) انتهى كلامه زيد مقامه.

أقول : ما نقله عن بعض نسخ (النهاية) من التعبير في تلك اللفظة بلفظ المضارع هو الموجود في أصل النسخة التي عندي ، وهي معتمدة ، إلّا إن الياء قد حكّت ، وعلى الهامش مكتوب بخط شيخنا العلّامة أبي الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ : (نزل) بيانا لذلك. ولا ريب أنه على تقدير النسخة المذكورة يضعف الإشكال ، كما ذكره قدس‌سره ، إلّا إنه من المحتمل بل الظاهر أنه على تقدير نسخة الماضي أن المعنى : أنه إذا أراد الغسل للجنابة وخاف بنزوله في الماء للغسل ارتماسا فساد الماء ؛ إما باعتبار نجاسة بدنه أو باعتبار إثارة (٢) الحمأة أو نحو ذلك ، فإنه يغتسل ترتيبا خارج الماء ، ولكن يرش الأرض لأحد الوجوه المتقدمة التي أظهرها وأوفقها بمذهبه منع رجوع الغسالة.

ولا ريب أنه معنى صحيح لا غبار عليه ولا إشكال يتطرق إليه ، والله العالم بحقائق أحكامه ، ونوّابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ٣٤٨ ـ ٣٥٠.

(٢) شطب عنها في «ح».

٣٧١
٣٧٢

(٤٠)

درّة نجفيّة

في حجيّة الإجماع

قد عدّ جملة من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ من جملة الأدلة الشرعية الإجماع ، وردّه آخرون لعدم الدليل على ذلك. ومجمل الكلام في المقام ما أفاده المحقق طاب ثراه في (المعتبر) واقتفاه فيه جمع ممن تأخر (١) ، قال قدس‌سره : (وأما الإجماع ، فعندنا هو حجة بانضمام المعصوم ، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة ، لا باعتبار اتفاقهما ، بل باعتبار قوله. فلا تغتر إذن بمن يتحكّم فيدّعي الإجماع باتّفاق الخمسة والعشرة من الأصحاب مع جهالة قول الباقين) (٢) انتهى كلامه زيد مقامه.

وحينئذ ، فالحجة هو قوله عليه‌السلام ، لا مجرد الاتفاق ؛ فيرجع الكلام على تقدير ثبوت الإجماع المذكور إلى خبر منسوب إلى المعصوم إجمالا. وترجيحه على الأخبار المنسوبة إليه تفصيلا غير معقول ، وكأنهم زعموا أن انتسابه إليه في ضمن الإجماع قطعي ، وإلّا في ضمنه (٣) ظني وهو ممنوع. على أن تحقّق هذا الإجماع في زمن الغيبة متعذّر ، لتعذّر ظهوره عليه‌السلام ، وعسر ضبط العلماء على وجه يتحقّق

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٢٥١ ، معالم الاصول : ٢٤٠ ، وقريب منهما ما في مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ١٩٠.

(٢) المعتبر ١ : ٣١.

(٣) في «ح» : ولا فضمنه ، بدل : وإلّا في ضمنه.

٣٧٣

دخول قوله في جملة أقوالهم ، إلّا أن ينقل ذلك بطريق التواتر أو الآحاد المشابه له نقلا مستندا إلى الحسّ بمعاينة أعمال جميع من يتوقف انعقاد الإجماع عليه ، أو سماع أقوالهم على وجه لا يمكن حمل القول والعمل على التقية ونحوها ، ودونه خرط القتاد (١) ؛ لما يعلم يقينا من تشتت العلماء وتفرّقهم في أقطار الأرض ، بل انزوائهم في بلدان المخالفين وحرصهم على ألّا يطّلع على عقائدهم ومذاهبهم.

وما يقال من أنه إذا وقع إجماع الرعيّة على الباطل يجب على الإمام أن يظهر ويباحثهم حتى يردّهم إلى الحقّ ؛ لئلا يضل الناس ، أو أنه يجوز أن تكون هذه الأقوال المنقولة في كتب الفقهاء التي لا يعرف قائلها قولا للإمام عليه‌السلام ألقاه بين أقوال العلماء ، حتى لا يجمعوا على الخطأ كما ذهب إليه بعض المتأخّرين ، حتى إنه قدس‌سره كان يذهب إلى اعتبار تلك الأقوال المجهولة القائل ؛ لذلك ، فهو ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ، ولا يعرّج في مقام التحقيق عليه :

أما الأوّل منهما ، فلما هو ظاهر لكل ناظر من تعطيل الأحكام جلها ، بل كلّها في زمن الغيبة ، ولا سيما في مثل زماننا هذا الذي قد انطمست فيه معالم الدين ، وصار جملة أهله شبه المرتدّين ، وقد صار المعروف فيهم منكرا والمنكر معروفا ، وصارت الكبائر لهم إلفا مألوفا.

وأما الثاني منهما ، فكيف يكفي في الحجية مجرد احتمال كون ذلك هو المعصوم مع أنهم في الأخبار يبالغون في تنقية أسانيدها والطعن في رواتها ، ولا يحتجون إلّا بصحيح السند منها ، ولا يكتفون بمجرد الاحتمال هناك مع توفر

__________________

(١) إشارة إلى المثل المشهور : (دون ذلك خرط القتاد) ، يضرب للأمر دونه مانع. مجمع الأمثال ١ : ٤٦٧ / ١٣٩٥.

٣٧٤

القرائن على الصحة كما قدمناه في بعض الدرر المتقدمة (١)؟ فكيف يتم ما ذكروه هنا؟ ما هذا إلّا تخريص في الدين وجمود على مجرد التخمين ، وهو ممّا قد نهت عنه شريعة سيد المرسلين (٢) ، واستفاضت برده آيات (٣) (الذكر) المبين (٤).

وعلى هذا فليس في عد الإجماع في الأدلة الشرعية إلّا مجرّد تكثير العدد وإطالة الطريق ؛ لأنه علم دخوله عليه‌السلام فلا بحث ولا مشاحّة في إطلاق اسم الإجماع عليه ، وإسناده الحجية إليه ولو تجوّزا ، وإلّا فإن ظنّ ـ ولو بمعاضدة خبر واحد ـ فكذلك ، وإلّا فليس نقل الإجماع بمجرده موجبا لظن دخول المعصوم ولا كاشفا عنه كما ذكروه.

نعم ، لو انحصر جملة الحديث في قوم معروفين أو بلد محصورة في وقت ظهوره عليه‌السلام كما في وقت الأئمّة الماضين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ اتّجه القول بالحجية ؛ إذ من المعلوم الذي لا يداخله الشكّ والريب أنه كان في عصرهم ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ جماعة كثيرة (٥) من العلماء الأتقياء ونقله الحديث وحفّاظ الرواية قرنا بعد قرن وخلفا بعد سلف في مدة كثيرة (٦) تقرب من ثلاثمائة سنة ، وكانوا مشهورين بالعلم والتقوى ، ومنصوبين للإفادة عنهم والفتوى ، يختلفون إلى مجالسهم ، ويأخذون الأحكام عنهم مشافهة إن أمكن أو بوسائط.

وقد صنّفوا عنهم الاصول الأربعمائة المشهورة ، وخرجت المدائح والأثنية البالغة عنهم عليهم‌السلام في جمع كثير منهم ، فكانوا (٧) من الفائزين بأخذ العلوم منهم

__________________

(١) انظر الدرر ٢ : ٣٢٣ ـ ٣٣٧ / الدرّة : ٣٧.

(٢) مجمع البيان ٩ : ١٧٤ ، كنز الدقائق ٩ : ٦٠٧.

(٣) انظر : الآية : ٣٦ من سورة يونس ، والآية : ٢٨ من سورة النجم ، والآية : ١٢ من سورة الحجرات.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : الحكيم.

(٥) من «ح».

(٦) ليست في «ح».

(٧) في «ح» بعدها : فيه.

٣٧٥

بطريق العلم واليقين دون الظن والتخمين والعمل (١) على الأقيسة والآراء ، والظنون والأهواء.

ومن المعلوم أنهم إذا اتّفقوا كملا ، أو علم اتفاق جمع منهم وإن لم يعلم حال الباقين (٢) على الحكم من الأحكام ، علم بذلك أنه مذهب الأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ إذ من المعلوم عادة أنه يمتنع اتفاقهم على الباطل ؛ لما ذكرنا مع تمكّنهم من العلم.

وأيضا فإن مذهب كل إمام لا يعلم إلّا بنقل أتباعه وشيعته ومقلديه ، فإنه لا يعلم مذهب أبي حنيفة في الفروع والاصول إلّا بنقل أتباع مذهبه ، وهكذا الشافعي وباقي المذاهب أصولا وفروعا.

ويقرب من هذا أيضا ما لو أفتى جماعة من الصدر الذي يقرب منهم (٣) ـ عصر الصدوق وثقة الإسلام الكليني ونحوهما ، عطر الله مراقدهم ـ من أرباب النصوص بفتوى لم نقف فيها على خبر ولا مخالف منهم ، فإنه أيضا ممّا يقطع بحسب العلم العادي فيها بالحجية ، وأن ذلك قول المعصوم عليه‌السلام ؛ لوصول نص لهم في ذلك. ومن هنا نقل جمع من أصحابنا ـ رضي‌الله‌عنهم ـ أن المتقدّمين كانوا إذا أعوزتهم النصوص يرجعون إلى فتاوى علي بن الحسين بن بابويه رضي‌الله‌عنه (٤).

وأنت خبير بأن جملة من متأخري أصحابنا المحققين وأن عدوا الإجماع في جملة الأدلة في كتبهم الاصولية واستسلفوه أيضا في مواضع من الكتب الفروعية إلّا إنهم في مقام الترجيح والتحقيق يتكلمون فيه ويمزّقونه تمزيقا لا يبقي له عينا ولا أثرا كما لا يخفى على من طالع كتبهم الاستدلالية كـ (المسالك) (٥) ،

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : التعلم.

(٢) في هامش «ح» بعدها : منهم.

(٣) من «ح».

(٤) انظر ذكرى الشيعة ١ : ٥١.

(٥) مسالك الأفهام ٦ : ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

٣٧٦

و (المدارك) (١) ، و (الذكرى) (٢) ونحوها.

قال المحقق الشيخ في (المعالم) في بيان تحقق امتناع الإجماع المذكور في زمن الغيبة : (الحق امتناع الاطّلاع عادة على حصول الإجماع في زماننا هذا وما ضاهاه من غير جهة النقل ؛ إذ لا سبيل إلى العلم بقول الإمام ، كيف ، وهو موقوف على وجود المجتهدين من المجهولين ليدخل في جملتهم ، ويكون قوله مستورا بين أقوالهم؟ وهذا ممّا يقطع بانتفائه.

فكل إجماع في كلام الأصحاب ممّا يقرب من عصر الشيخ إلى زماننا هذا ، وليس مستندا إلى نقل متواتر أو آحاد حيث يعتبر ، أو مع القرائن المفيدة للعلم فلا بدّ أن يراد به ما ذكره الشهيد من الشهرة.

وأما الزمان السابق على ما ذكرناه ، المقارب لعصر ظهور الأئمّة عليهم‌السلام ، وإمكان العلم بأقوالهم ، فيمكن فيه حصول الإجماع والعلم به بطريق التتبّع. وإلى مثل هذا نظر بعض علماء أهل الخلاف ، حيث قال (٣) : الإنصاف أنه لا طريق إلى معرفة حصول الإجماع ، إلّا في زمان الصحابة ، حيث كان المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم (٤) على التفصيل) (٥) انتهى كلام المحقق المذكور. ومن أراد زيادة كشف في المقام ، فليرجع إلى كلام الشهيد في أول كتابه (الذكرى) (٦).

وبالجملة ، فالتحقيق أن أساطين الإجماع كالشيخ والمرتضى وابن إدريس وأضرابهم قد كفونا مؤنة القدح فيه وإبطاله بمناقضة بعضهم بعضا في دعوى الإجماع المذكور ، بل مناقضة الواحد منهم نفسه في ذلك كما لا يخفى على المتتبع البصير ، ولا ينبّئك مثل خبير.

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٢٧٥.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٤٩ ـ ٥٢.

(٣) المحصول في علم الاصول ٢ : ٨.

(٤) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : أصلهم.

(٥) معالم الاصول : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

(٦) ذكرى الشيعة ١ : ٤٩ ـ ٥٢.

٣٧٧

ولقد كان عندي رسالة ، الظاهر أنها من تصانيف شيخنا الشهيد الثاني قدس‌سره ، كتبها في الإجماعات التي ناقض الشيخ رحمه‌الله نفسه فيها ، وقد ذهبت في بعض الحوادث التي جرت على جزيرتنا (البحرين).

فإن قيل : إن بعض الأخبار ممّا يدل على حجية الإجماع واعتباره ، فيكون لذلك دليلا شرعيا ، كمقبولة عمر بن حنظلة ، حيث قال عليه‌السلام في جواب السائل لما قال : فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا ، فقال عليه‌السلام : «ينظر إلى ما كان من روايتهما في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ [به] من حكمنا ، ويترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» (١) الحديث.

وما رواه في (الكافي) في باب إبطال الروية في الصحيح عن صفوان قال : سألني أبو قرّة المحدّث أن ادخله على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ـ إلى أن قال ـ فقال أبو قرة : فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ، وما أجمع عليه المسلمون ، أنه لا يحاط به علما ولا تدركه الأبصار» (٢) الحديث.

وما رواه في (الكافي) أيضا في الباب المذكور ، عن محمد بن عبيدة قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أسأله عن الرؤية ، وما ترويه العامة والخاصة ، وسألته أن يشرح لي ذلك ، فكتب عليه‌السلام بخطه : «اتفق الجميع لا تمانع بينهم أن المعرفة من جهة الرؤية» (٣) الحديث.

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

(٢) الكافي ١ : ٩٦ / ٢ ، باب في إبطال الرؤية.

(٣) الكافي ١ : ٩٦ / ٣ ، باب في إبطال الرؤية.

٣٧٨

فالجواب عن ذلك ممكن إجمالا وتفصيلا :

أما الأول ، فلأن المسألة من الاصول المنوطة بالقطع والعلم عندهم دون الظن ، والأخبار المذكورة لا تخرج عن حيز الآحاد الذي قصاراه الظن عندهم ، فلا يتم الاستدلال.

وأما الثاني ، فأما عن الخبر الأول :

فأوّلا : أن غاية ما يستفاد منه كون الإجماع مرجّحا لأحد الخبرين على الخبر عند التعارض ، وهو ممّا لا نزاع فيه ، إنما النزاع في كونه دليلا مستقلا برأسه ، والخبر لا يدل عليه.

وثانيا : فإن ظاهره بل صريحه كون الإجماع في الرواية ، وهو ممّا لا نزاع فيه لا في الفتوى ، كما هو المطلوب بالاستدلال ، والذي فيه الدعوى.

وأما عن الأخيرين فيمكن :

أولا : الحمل على كون الاستدلال جدليا إلزاميا للخصم القائل بجواز الرؤية بالإجماع الذي يعتقد حجيته على ما ينافي مدّعاه من جوازها.

وثانيا : بأنه على تقدير دلالتهما على الحجية في الجملة فلا دلالة لهما على العموم في الامور العقلية والنقلية ؛ إذ متعلق الاستدلال هنا الامور العقلية.

والجواب أنه (لا قائل بالفرق) مردود بأن اللازم من ذلك الاستدلال بفرع من فروع الحجية : الإجماع قبل ثبوت أصل حجيّته. على أن المفهوم من رسالة الصادق عليه‌السلام التي كتبها لشيعته وأمرهم بتعاهدها والعمل بما فيها ، المروية في أول روضة (الكافي) بأسانيد ثلاثة أن أصل الإجماع من مخترعات العامة ، حيث قال عليه‌السلام : «وقد عهد إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل موته فقالوا : نحن بعد ما قبض الله تعالى رسوله ليسعنا أن نأخذ ما أجمع عليه رأي الناس بعد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

٣٧٩

إلى أن قال عليه‌السلام : «فما أحد أجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممّن يأخذ بذلك ، وزعم أن ذلك يسعه» (١) الحديث.

وبالجملة ، فإنه لا شبهة ولا ريب في أنه لا مستند لهذا الإجماع من (كتاب) ولا سنة ، وإنما يجري ذلك على مذاق العامة ومخترعاتهم. ولكن جملة من أصحابنا تبعوهم فيه غفلة ، كما جروا على جملة من اصولهم في مواضع عديدة مع مخالفتها لما هو المستفاد من الأخبار ، كما لا يخفى على المتتبع البصير ، ولا ينبئك مثل خبير.

هذا وقد نقل المحدّث السيد نعمة الله الجزائري قدس‌سره عن بعض مشايخه في بيان وجه العذر لمشايخنا المتقدّمين في اختلاف الإجماعات المنقولة عنهم ما ملخصه أن الاصول التي كان عليها المدار وهي التي انتخبوا منها كتب الحديث المشهورة الآن كانت بأيديهم ، وإنما حدث فيها التلف والاضمحلال من زمان ابن إدريس لأسباب ذكرها ، وكانوا بملاحظة ما اشتملت عليه جميعها أو أكثرها من الأحكام يدّعون عليه الإجماع ، وربما اختلفت الأخبار في ذلك الحكم بالتقية وعدمها ، والجواز والكراهة ونحوها ، فيدّعي كل منهم الإجماع على ما يؤدي إليه نظره وفهمه من تلك الأخبار بعد اشتمال تلك الاصول أو كلّها على الأخبار المتعلّقة بما يختاره ويؤدّي إليه نظره.

أقول : وعندي أن (٢) هذا الاحتمال غير بعيد عند التأمل الدقيق والرجوع إلى التحقيق ؛ وذلك فإن الظاهر أن مبدأ التفريع في الأحكام والاستنباط إنما هو من زمن الشيخ والمرتضى ـ رضوان الله عليهما ـ فإن كتب من تقدمهما من المشايخ إنما اشتملت على جمع الأخبار وتأليفها ، وإن كان بعضها قد اشتمل على مذهب

__________________

(١) الكافي ٨ : ٥.

(٢) من «ح».

٣٨٠