الدّرر النجفيّة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢١

والظاهر أنه أشار بقوله : (وقد روي) إلى رواية التوقيع المنقول في (التهذيب) (١) عن الحميري. ونقل (٢) عن أبي الصلاح القول بالتحريم ، وتردّد في الإبطال.

ومن الأخبار الدالة على ما ذهبوا إليه رواية معمر بن خلاد عن الرضا عليه‌السلام : «لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم تتّخذ قبلة» (٣).

ورواية أبي اليسع المنقولة في (الأمالي) قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا أسمع قال : إذا أتيت قبر الحسين عليه‌السلام أجعله قبلة إذا صليت؟ قال : «تنحّ هكذا ناحية» (٤).

وروى فيه بهذا المضمون خبرا آخر (٥) ، نقل (٦) ذلك شيخنا المجلسي رحمه‌الله في كتاب مزار (البحار) ، وصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : الصلاة بين القبور؟ قال : «صلّ بين (٧) خلالها ، ولا تتخذ شيئا منها قبلة ؛ فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن ذلك ، وقال : لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدا ، فإن الله عزوجل لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (٨).

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٢٨ / ٨٩٧ ، وسائل الشيعة ٥ : ١٦٠ ، أبواب مكان المصلّي ، ب ٢٦ ، ح ١.

(٢) انظر : مختلف الشيعة ٢ : ١٢٤ ـ ١٢٥ / المسألة : ٦٦ ، روض الجنان : ٢٢٨.

(٣) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٢٨ / ٨٩٧ ، الاستبصار ١ : ٣٩٧ / ١٥١٤ ، وسائل الشيعة ٥ : ١٥٩ ، أبواب مكان المصلي ، ب ٢٥ ، ح ٣.

(٤) لم نعثر عليه في الأمالي وهو موجود بنصّه في كامل الزيارات : ٤٢٥ / ٢ ، وعنه نقله كل من صاحب بحار الأنوار ٩٨ : ٢٨١ ، ووسائل الشيعة ١٤ : ٥٢٠ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٦٩ ، ح ٨.

(٥) بحار الأنوار ٩٨ : ٨١ ـ ٨٢ / ٥.

(٦) من «ق» ، وفي «ح» : نقله.

(٧) في علل الشرائع : في ، بدل : بين.

(٨) علل الشرائع ٢ : ٥٦ / ب ٧٥ ، ح ١ ، وسائل الشيعة ٥ : ١٦١ ، أبواب مكان المصلّي ، ب ٢٦ ، ح ٥.

٣٠١

وموثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يصلي بين القبور ، فقال : «لا يجوز ذلك إلّا أن يجعل بينه وبين القبر إذا صلى عشرة أذرع من بين يديه ، وعشرة أذرع من خلفه ، وعشرة أذرع عن يمينه ، وعشرة أذرع عن يساره ، ثم يصلي إن شاء» (١).

وروى الصدوق في (الفقيه) مرسلا قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدا ، فإن (٢) الله عزوجل لعن اليهود لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (٣).

فهذه جملة من الأخبار الواضحة في المنع من الصلاة خلف القبر ، المؤيّدة بعمل الأصحاب قديما وحديثا. ومتى امتنع الصلاة خلفه لم يبق بالنظر إلى الأخبار إلّا الصلاة عند الرأس ، لما عرفت من الأخبار المتقدّمة الناصّة على ذلك.

السادس : أن هذه الأخبار الدالة على المنع من الصلاة خلف القبر أكثر عددا وأوضح سندا من ذلك الخبر ، مع اعتضادها بعمل الأصحاب ، كما عرفت ؛ فهي أولى بالعمل عليها والأخذ بما فيها ، مع أن ذلك القائل لا يرتضيه ، فما باله قد اولع بالتشنيع والقول الفظيع على من خالف تلك الرواية بزعمه؟ وإلّا فقد عرفت أنه ليس من المخالفة في شي‌ء لما بيّناه في الوجه الثالث. وهو قد خالف هذه الأخبار التي عكف على العمل بها جملة علماء الأمصار في جميع الأعصار.

فإن اعتذر بأن هذه الأخبار قد ورد بإزائها ما يوجب تأويلها وإخراجها عن ظاهرها.

قلنا : لا مندوحة لك عن الكراهة البتة ، وهو وجه الجمع بين ما دل على الجواز وما دل على المنع ، فلتحمل تلك الرواية ـ مع إرخاء العنان وتسليم صحتها في

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٠ / ١٣ ، باب الصلاة في الكعبة وفوقها .. ، وسائل الشيعة ٥ : ١٦١ ، أبواب مكان المصلّي ، ب ٢٦ ، ح ٥.

(٢) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : وإن.

(٣) الفقيه ١ : ١١٤ / ٥٣٢ ، وسائل الشيعة ٥ : ١٦١ ، أبواب مكان المصلي ، ب ٢٦ ، ح ٣.

٣٠٢

المقام ـ على الكراهة جمعا بينها وبين ما عارضها.

فالكراهة حينئذ حاصلة في الموضعين ، فبأي وجه استحق العامل (١) بأحد المكروهين التشنيع دون الآخر مع أن الكراهة ثمة أشدّ لقوة دليلها ووضوح سبيلها؟

وإن أجاب : بأن الكراهة قد زالت بالحيلولة بهذا الصندوق الموضوع الآن.

قلنا : فما بال هذه الكراهة أو التحريم على القول به تزول بالحيلولة بذلك الصندوق ولا تزول الكراهة أو التحريم المدعى في المساواة بذلك؟ ولكن الإنصاف مفقود في هذا الزمان وإن كان من العلماء الأعيان.

إلحاق فيه إشفاق في الردع عن بعض العادات

هذا ومن العجب العجاب عند ذوي الألباب ـ وإن كان لا عجب في مثل هذا الزمان الذي عظم فيه الانقلاب ، وتغيرت فيه رسوم السنة و (الكتاب) ـ أنه قد بلغ بالمجاورين لهذا المشهد الشريف الكريم من قلّة الاحترام له والتعظيم والجرأة فيه بقلة الكمال في حقه والآداب إلى ما نسأل الله سبحانه العفو عن المؤاخذة به في الاولى والمآب ، وقد اتفق على ذلك الرعاع منهم والعلماء الأعلام الذين هم المرجع في تشريع الأحكام للأنام ، وتحليل الحلال وتحريم الحرام من التحدث في الروضة المقدّسة بالأحاديث الدنيوية ، والجلوس حلقا مجتمعين على تلك العادات الرديّة ، والجلوس في وقت الحر مكشّفي الرؤوس محلّلي الأزرار وفي أيديهم المراوح ، يروحون أنفسهم عن الحر حال الزيارة وحال الجلوس. وربما ترى أحدهم يخلع ثيابه كملا ويبقى في قميص واحدة مكشوف الرأس ، كأنه جالس في بيته مع زوجته.

__________________

(١) في «ح» : القائل.

٣٠٣

هذه عاداتهم القبيحة لا تناكر بينهم في ذلك ، ولا يزري أحد على أحد فيما هنالك ؛ لاتّفاق الجميع عليه من جاهل وعالم ، وصالح وظالم ، كأنهم لم يعوا ولم يسمعوا ما ورد في حق هذا المقام من مزيد التعظيم له والإكرام. أو لم يسمعوا ويحهم ما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن الزائرين له عليه‌السلام بمرأى ومنظر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن علي عليه‌السلام وفاطمة عليها‌السلام ومنه (١) عليهم جميعا أفضل الصلاة والسّلام ، وأنهم ينادون زوارهم ويخاطبونهم ويبشرونهم بما لهم عند الله سبحانه وعندهم ـ صلوات الله عليهم ـ من رفيع الدرجات ومزيد الأجر في أعلى قصور الجنات (٢)؟

وحينئذ ، فهل يجوز لمن كان بمرأى منهم ومنظر في هذا المكان أن يأتي بهذه (٣) الأفعال الغير اللائقة والامور الغير الموافقة لتعظيمهم ولا المطابقة؟ أو لم يعلموا ويحهم أن حرمته عليه‌السلام ميتا كحرمته حيا؟ أرأيت أنه لو كان جالسا في مجلس فهل يجوز لمؤمن بالله سبحانه وبهم ـ صلوات الله عليهم ـ أن يأتي بأقل قليل من هذه الأفعال في مجلسه بمحضره ومنظره ، وقد ورد أن حرمة المؤمن حيا كحرمته ميتا (٤)؟ فكيف بالمعصوم عليه‌السلام؟! وقد ورد في عدة أخبار أن أبا بصير دخل على الصادق عليه‌السلام وهو جنب قبل الغسل ، فنظر إليه الإمام عليه‌السلام شزرا وقال : «يا أبا بصير ، أهكذا (٥) تدخل بيوت الأنبياء؟» (٦).

وفي دعاء الاستئذان المروي عنهم عليهم‌السلام : «اللهم إني وقفت على باب من بيوت

__________________

(١) أي صاحب الضريح المقدّس إن لم يكن من غير المذكورين ، عليهم الصلاة والسّلام.

(٢) بحار الأنوار ٩٨ : ٥١ ـ ٦٨ ، ب ٩.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : بغير هذه.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٤٦٥ / ١٥٢٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٢١٩ ، أبواب الدفن ، ب ٥١ ، ح ١.

(٥) في المصدر : هكذا ، بدل : يا أبا بصير أهكذا.

(٦) اختيار معرفة الرجال : ١٧٠ / ٢٨٨ ، وسائل الشيعة ٢ : ٢١٢ ، أبواب الجنابة ، ب ١٦ ، ح ٥.

٣٠٤

نبيّك وآل نبيّك» (١) إلى آخره.

وحينئذ ، فهل يجوز في العقول السليمة والألباب القويمة أن يعمل في بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الأفعال الخارجة عن جادة الكمال والشاهد على صاحبها أنه من أجهل الجهال؟ ثم أرأيت أنه لم يقرع أسماعهم ما استفاض في الأخبار من الآداب في زيارته عليه‌السلام بأنه ينبغي أن يكون الزائر له أشعث أغبر مشغولا بالحزن والدعاء ، جائعا عطشان مشغولا مدة الكون في حضرته والجلوس في روضته بالحزن والبكاء أو الصلاة أو التلاوة والدعاء ونحو ذلك ، وأن يكون الزائر له على سكينة ووقار (٢)؟

هذا مع أن أحدهم لو دخل مجلس من لا يقاس بمقامه عليه‌السلام من سلطان أو أمير أو غني أو كبير لتأدب في مجلسه بالآداب الكاملة ، فكيف لا يرون له عليه‌السلام ما يرونه لسائر الناس ، ولكن العقول عن الطريق القويم ضالة ، والأقدام عن سواء الصراط زالّة.

ومن أعجب العجاب أنه بعد هذه الامور التي حكيناها عنهم يقومون ويقفون حول شباكه عليه‌السلام ويخاطبونه ويلتمسون منه المطالب ويلجئون إليه فيما يريدونه من المآرب ، فيما ذوي العقول الضعيفة والألباب السخيفة إن كان معتقدكم أنه عليه‌السلام حاضر يسمع من يناديه ويرى من يناجيه ، فما لكم تأتون بهذه الأفعال الناشئة عن قلّة الأدب والاحترام والمنافية للتعظيم والإكرام؟! وإن كان معتقدكم أنه ليس بحاضر ولا ناظر ، فلمن تناجون؟ ولمن تخاطبون؟

فانظر ـ أيدك الله تعالى ـ بتأييده إلى هؤلاء العاكفين على هذه الامور الموجبة

__________________

(١) المزار الكبير : ٥٥ ، مصباح الزائر : ٤٤ ، بحار الأنوار ٩٧ : ١٦٠ / ٤١.

(٢) كامل الزيارات : ٢٥٠ ـ ٢٥٢ / ٣٧٤ ـ ٣٧٧ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٥٢٧ ـ ٥٢٨ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٧١.

٣٠٥

لضيق الصدور ، لا تناكر فيها بينهم في ورود ولا صدور ، وقد صارت سنة مستحسنة جارية بينهم ، ومع هذا يذمون ويزرون على من يصلّي في الموضع المشار إليه آنفا ، وهو ـ كما عرفت من الأخبار وكلام الأصحاب ـ من وظائف السنن. فانظر إلى ما يأتي به هذا الدهر المعكوس والزمن المنكوس من جعل السنن بدعا ، والبدع القبيحة سننا :

يا ناعي الإسلام قم فانعه

قد مات عرف وأتى منكر

أقول : وقد نقل بعض علماء الرجال أن عبد الله بن مسكان هو (١) أحد أجلاء أصحاب الصادق عليه‌السلام كان يمتنع من الدخول عليه خوفا ألّا يوفيه حقه من الإجلال والإعظام ، وإنما يروي عنه بالواسطة (٢). فانظر إلى من عرف حقوقهم عليهم‌السلام كيف بلغت بهم المراقبة لهم والتعظيم لحقوقهم إلى أي مبلغ ، فما ظنك بمن يفعل هذه الحقارات في بيوتهم بمحضرهم. ولكن أين القلوب المستضيئة بمصابيح النصائح ، والألباب المستنيرة بذلك والقرائح؟ ومن تدبر في الروايات الواردة في كيفية زيارته عليه‌السلام وما ينبغي أن يفعله الزائر من حين خروجه من بيته إلى أن يأتي لزيارته (٣) ، ظهر له صحة ما ذكرناه وحقية ما سطرناه.

ولعل السر فيما ورد في بعض الأخبار (٤) من الأمر للزائر بالانصراف بعد الزيارة وعدم اتخاذه وطنا ، هو الخوف من الوقوع في أمثال هذه الحقارات الغير المناسبة ، والجراءات التي تصير بها الأعمال ذاهبة ، بحصول القسوة في القلب الموجبة لقلة الاحترام ، كما وقع لهؤلاء ، وإن كانوا من العلماء الأعلام.

__________________

(١) في «ح» : الذي.

(٢) خلاصة الأقوال : ١٩٤ / ٦٠٧.

(٣) ثواب الأعمال : ١١٤ / ٢١ ، كامل الزيارات : ٢٥٢ / ٣٧٦ ، بحار ٩٨ : ١٤٠ / ٢.

(٤) كامل الزيارات : ٢٥٢ / ٣٧٦ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٥٢٨ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٧١ ، ح ٢ ، ب ٧٧ ، ح ١ ـ ٥.

٣٠٦

ولا يبعد أيضا أن يكون ما يقع من هؤلاء هو السبب الحامل لما يفعله بعض حكام هذه المشاهد في بعض الأوقات من طردهم من الروضة ومنعهم من الصلاة فيها وتقصدهم بالأذى بأنواعه ؛ فإنه لا يبعد أن يكون من آثار هذه الامور المنكرة والأفعال المستنكرة ، وإن كانت في نظر صاحبها مستحسنة نضرة.

تأييد سديد في بعض آداب الزيارة

قال شيخنا المجلسي ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب مزار (البحار) في باب آداب الزيارات وأحكام الروضات بعد ذكر جملة من الآيات : (أقول : الآية الاولى (١) تومئ إلى إكرام الروضات المقدسة ، وخلع النعل فيها عند القرب منها ، لا سيما الطف والغريّ ؛ لما روي أن الشجرة كانت في كربلاء (٢) ، وأن الغريّ قطعة من الطور (٣). والثانية (٤) تدلّ على لزوم غضّ الصوت عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدم جهر الصوت [لا] بالزيارة ولا بغيرها ؛ لما روي أن حرمتهم بعد موتهم كحرمتهم في حياتهم ، وكذا عند قبور سائر الأئمّة عليهم‌السلام ، لما ورد أن حرمتهم كحرمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويؤيّد ما ذكرناه ما رواه الكليني بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام في خبر طويل يذكر فيه وفاة الحسن عليه‌السلام قال : «فلما أن صلّي عليه»).

ثم ساق قدس‌سره الخبر بما يدل على حمل الحسن عليه‌السلام إلى قبر جده ، وخروج عائشة ومنعها من دفنه ، وكلام الحسين عليه‌السلام معها وقوله لها : «ولعمري لقد أدخل أبوك وفاروقه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقربهما منه الأذى وما رعيا من حقه ما أمرهما الله به على

__________________

(١) قوله تعالى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً). طه : ١٢.

(٢) مختصر بصائر الدرجات : ١٨٦ ، بحار الأنوار ١٣ : ٢٥ / ١.

(٣) تهذيب الأحكام ٦ : ٢٣ / ٥١ ، كامل الزيارات : ٩٠ / ٩١ ، بحار الأنوار ٩٧ : ٢٥٨ / ٤ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٣٨٥ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٢٧ ، ح ١.

(٤) قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...) الحجرات : ٢.

٣٠٧

لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله حرم من المؤمنين أمواتا ما حرم منهم أحياء» (١).

إلى أن قال قدس‌سره : (أقول : هذا الخبر يدل على أنه ينبغي يراعى في روضاتهم ما كان ينبغي أن يراعي في حياتهم من الآداب والتعظيم والإكرام) ثم نقل حديث أبي بصير ودخوله على (٢) الصادق عليه‌السلام جنبا كما قدمنا الإشارة إليه (٣) ، انتهى.

وقال شيخنا الشهيد في مزار كتاب (الدروس) : (للزيارة آداب : أحدهما : الغسل) ـ إلى أن قال ـ : (وثانيها : الوقوف على بابه ، والدعاء ، والاستئذان [بالمأثور] (٤) ، فإن وجد خشوعا ورقّة دخل ، وإلّا فالأفضل له تحرّي زمان الرقة ؛ لأن الغرض الأهمّ حضور القلب ؛ ليلقى الرحمة النازلة من الرب).

إلى أن قال : (وثالث عشرها : تعجيل الخروج عند قضاء الوطر من الزيارة لتعظم (٥) الحرمة ، ويشتد الشوق ، وروي أن الخارج يشمي القهقرى حتى يتوارى (٦)) (٧) انتهى.

وأنت خبير بأنّه لا يبعد أن ما ورد من الترغيب في ثواب الصلاة في روضته عليه‌السلام ، وأن صلاة الفريضة تعدل ثواب حجة ، وصلاة النافلة تعدل ثواب عمرة ، وأمثال ذلك إنما هو لمن أتى بالآداب المروية ، وقام بالسنن المرعية وراعى الحرمة (٨) النبوية ، لا بمثل هؤلاء الذين حكينا عنهم ما تقدم من سوء الأدب وقلة الاحترام والجرأة عليهم ، بل على الملك العلّام ، نسأل الله عزوجل لنا ولهم العفو والمغفرة عن زلّات الأقدام ومحيطات الأجرام.

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٠٣ / ٣ ، باب الإشارة والنص على الحسين عليه‌السلام ..

(٢) من «ق» ، وفي «ح» : دخول ، بدل : دخوله على.

(٣) بحار الأنوار ٩٧ : ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٤) من المصدر ، وفي النسختين : المأمور.

(٥) في «ح» : لتعظيم.

(٦) المزار الكبير : ٤٣٤ / ٣ ، بحار الأنوار ٩٨ : ٢٦٢ / ٤١.

(٧) الدروس ٢ : ٢٢ ـ ٢٤.

(٨) سقط في «ح».

٣٠٨

هذا وإني قد تشرفت بتقبيل أعتاب هذا المقام النير الأعلام قبل هذه الأيام بما يقرب من خمسة عشر أو أزيد من السنين والأعوام ، وذلك قبل أن تحدث هذه العمارة التي في ظهر القبر الشريف ، وكان أكثر الناس إنما يتنافسون في الصلاة مما يلي الرأس. وكان شيخنا العلّامة الأفخر الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن (١) جعفر ـ أيده الله تعالى بتأييده ـ مجاورا تلك السنة في هذا المكان ، وكان أكثر أوقاته إنما يصلي صلاة الظهرين في هذا المكان الذي قد اشتهر المنع عنه الآن ، والطعن على من يصلي فيه هذا الزمان.

وكان في البلد جملة من العلماء من العرب والعجم من سكنة البلد وغيرهم ، ولم (٢) نسمع لهذه المسألة صيتا ولا ذكرا بالكلية ، ولا رأينا أحدا أنكر على شيخنا المشار إليه ، ولا اعترض لا طعن بهذا الفعل عليه ، والله سبحانه العالم بحقائق أحكامه.

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : لا.

٣٠٩
٣١٠

(٣٦)

درّة نجفيّة

في أن الأئمّة عليهم‌السلام يوقعون الاختلاف بين شيعتهم

المشهور بين أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ تخصيص الحمل على التقية في الأخبار بوجود قائل من العامة بذلك. والذي يظهر لي من الأخبار خلاف ما هنالك ، وهو أنهم عليهم‌السلام يوقعون الاختلاف بين الشيعة وإن لم يكن ثمة قول للعامة (١). فمن الأخبار في ذلك ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) في الموثق عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن مسألة ، فأجابني فيها ، ثم جاء رجل آخر

__________________

(١) يقول الفقير إلى الله الغني محمد علي بن علي بن غانم القطري البحراني : إن ما ذكره شيخنا المصنّف ـ أفاض الله ـ عليه شآبيب رحمته ـ من جواز حمل بعض الأخبار على التقية وإن لم يوجد بها قائل من العامّة ، فيه نظر : أما أوّلا ، فلأن الأخبار التي استدل بها وما ضاهاها لا دلالة فيها على مدّعاه بوجه.

وأمّا ثانيا ، فلتصريح ما رواه الشيخ في كتاب الخلع من (تهذيب الأحكام) موثقا عن الحسن بن أيوب عن أبي بكير عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما سمعت مني يشبه قول الناس فيه التقيّة ، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية» (١) بأن (٢) ما ورد من الأحكام الغير المشابهة لقول العامّة فليس فيه التقيّة ، بل هو الحق الذي لا مرية فيه ، فتأمّل.

(هامش «ع»).

__________________

١ـ تهذيب الأحكام ٨ : ٩٨ / ٣٣٠ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ٢٨٥ ، أبواب الخلع والمباراة ، ب ٣ ، ح ٧.

٢ـ متعلّق قوله : لتصريح.

٣١١

فسأله عنها ، فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثم جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلما خرج الرجلان قلت : يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلان من العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فأجبت كل واحد منهما بخلاف (١) ما أجبت به صاحبه؟ فقال : «يا زرارة ، إن هذا خير لنا ولكم ، فلو اجتمعتم على أمر لصدقكم الناس علينا ، ولكان أقل لبقائنا وبقائكم».

قال : ثم قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الألسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين؟ قال : فأجابني بمثل جواب أبيه (٢).

أقول : انظر إلى صراحة هذا الخبر في اختلاف أجوبته عليه‌السلام في مسألة واحدة في مجلس واحد وتعجب زرارة. ولو كان الاختلاف إنما وقع لموافقة العامة لكفى جوابا واحدا بما هم عليه يومئذ ، ولما تعجب زرارة من ذلك ؛ لعلمه بفتواهم عليهم‌السلام أحيانا بما يوافق العامة تقية.

وانظر إلى صراحة جوابه عليه‌السلام في تعليل الاختلاف بما يؤيد ما قلنا من أنّهم إنما خالفوا بين الشيعة لئلّا يصدّقهم العامة عليهم ، بل يكذبوهم في روايتهم ذلك عنهم عليه‌السلام (٣).

ولعل السر في ذلك أن الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين ؛ كل ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله الآخر ، سخف مذهبهم في نظر العامة ، وكذبوهم في نقلهم ، ونسبوهم إلى الجهل وعدم الدين ، وهانوا في نظرهم ، بخلاف ما إذا اتّفقت كلمتهم ، وتعاضدت مقالتهم ؛ فإنّهم يصدقونهم ويشتدّ بغضهم لهم ولإمامهم

__________________

(١) في «ح» : بغير.

(٢) الكافي ١ : ٦٥ / ٥ ، باب اختلاف الحديث.

(٣) أحيانا بما يوافق العامة تقيّة .. ذلك عنهم عليهم‌السلام ، من «ح».

٣١٢

ومذهبهم ، فيصير ذلك سببا لثوران العداوة.

ومن ذلك أيضا ما رواه الشيخ في (التهذيب) في الصحيح على الظاهر عن سالم بن (١) أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سأله إنسان وأنا حاضر فقال : ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلّي العصر وبعضهم يصلّي الظهر ، فقال : «أنا أمرتهم بهذا ، لو صلوا على وقت واحد لعرفوا ، فاخذوا برقابهم» (٢).

وهو أيضا صريح في المطلوب ؛ إذ لا يخفى أنه لا تطرق للجهل هنا على موافقة العامة ، لاتفاقهم على التفريق بين وقتي (٣) الظهر والعصر ومواظبتهم على ذلك.

وما رواه الشيخ في (العدّة) مرسلا عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن اختلاف أصحابنا في المواقيت ، فقال : «أنا (٤) خالفت بينهم» (٥).

وما رواه في (الاحتجاج) بسنده فيه عن حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : إنّه ليس شي‌ء أشد عليّ من اختلاف أصحابنا. قال : «ذلك من قبلي».

وما رواه في كتاب (معاني الأخبار) عن الخزّاز. عمن حدثه عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «اختلاف أصحابي لكم رحمة». وقال : «إذا كان ذلك جمعتكم على أمر واحد». وسئل عن اختلاف أصحابنا؟ فقال عليه‌السلام : «أنا فعلت ذلك بكم ، ولو اجتمعتم على أمر واحد لأخذ برقابكم».

وما رواه في (الكافي) بسنده فيه عن موسى بن أشيم قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فسأله رجل عن آية من (كتاب الله) ، فأخبره بها ، ثم دخل عليه داخل فسأله عن ذلك ، فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول ، فدخلني من ذلك ما شاء الله.

__________________

(١) من «ح».

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٥٢ / ١٠٠٠.

(٣) في «ح» : وقت.

(٤) في «ح» : إذا.

(٥) العدّة في اصول الفقه ١ : ١٣.

٣١٣

إلى أن قال : فبينما أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية ، فأخبره بخلاف ما أخبرني (١) وأخبر صاحبي ، فسكنت نفسي وعلمت أن ذلك منه تقية.

ثم التفت إلى فقال : «يا بن أشيم ، إن الله فوّض إلى سليمان بن داود ، فقال (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢) ، وفوض إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٣) ، فما فوض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد فوض إلينا» (٤).

ولعلك بمعونة ذلك تعلم أن الترجيح بين الأخبار بالتقية بعد العرض على (الكتاب) العزيز أقوى المرجحات ، فإن جل الاختلاف الواقع في أخبارنا بل كله عند التأمل والتحقيق إنما نشأ من التقية. ومن هنا دخلت الشبهة على جمهور متأخري أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ فظنوا أن هذا الاختلاف إنما نشأ من دس أخبار الكذب في أخبارنا ، فوضعوا الاصطلاح المشهور في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة ؛ ليتميز به صحيحها من سقيمها ، وغثّها من سمينها. وقوّى الشبهة فيما ذهبوا إليه شيئان :

أحدهما : رواية مخالف المذهب وظاهر الفسق والمشهور بالكذب من فطحي وواقفي وزيدي وعامي وكذاب وغال ونحوهم.

وثانيهما : ما ورد عنهم عليه‌السلام من أن «لكل رجل منا رجل يكذب عليه» (٥) ، وأمثاله (٦) ممّا يدل على دس بعض الأخبار الكاذبة في أحاديثهم عليهم‌السلام.

__________________

(١) كذا في المصدر ، مع أن المتكلّم وهو موسى بن أشيم لم يسأل الإمام عليه‌السلام.

(٢) ص : ٣٩.

(٣) الحشر : ٧.

(٤) الكافي ١ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ / ٢ ، باب التفويض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ..

(٥) اختيار معرفة الرجال : ١٠٤ / ١٧٤.

(٦) بحار الأنوار ٢ : ٢١٧ ـ ٢١٨ / ١١ ، ١٣ ـ ١٤.

٣١٤

ولم يتفطنوا ـ نوّر الله تعالى ضرائحهم ـ إلى أن هذه الأحاديث التي بأيدينا إنما وصلت لنا بعد أن سهرت العيون في تصحيحها وذابت الأبدان في تنقيحها ، وقطعوا في تحصيلها من معادنها البلدان ، وهجروا في تنقيتها الأولاد والنسوان ، كما لا يخفى على من تتبع السير والأخبار ، وطالع الكتب المدونة في تلك الآثار.

فإن المستفاد منها على وجه لا يزاحمه الريب ولا يداخله القدح والعيب أنه كان دأب قدماء أصحابنا المعاصرين لهم عليهم‌السلام إلى وقت المحمدين الثلاثة في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة ضبط الأحاديث وتدوينها في مجالس الأئمّة عليهم‌السلام ، والمسارعة إلى إثبات ما يسمعونه ، خوفا من تطرق السهو والنسيان ، وعرض ذلك عليهم.

وقد صنفوا تلك الاصول الأربعمائة المنقولة كلّها من أجوبتهم عليهم‌السلام ، ولهم ما كانوا يستحلّون رواية ما لم يجزموا بصحته.

وقد روي أنه عرض على الصادق عليه‌السلام (كتاب عبيد الله بن علي الحلبي) فاستحسنه وصحّحه (١) ، وعلى العسكري عليه‌السلام (كتاب يونس بن عبد الرحمن) (٢) ، و (كتاب الفضل بن شاذان) (٣) فأثنى عليهما.

وكانوا عليهم‌السلام يوقفون شيعتهم على أحوال أولئك الكذابين ، ويأمرونهم بمجانبتهم ، وعرض ما يرد من جهتهم على (الكتاب) العزيز والسنة النبوية ، وترك ما خالفهما. فروى الثقة الجليل أبو عمرو الكشي في كتاب (الرجال) : (بإسناده عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن أن بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر فقال : يا أبا محمد ، ما أشدّك في الحديث ، وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا! فما الذي يحملك على رد الحديث؟ فقال : حدثني هشام بن الحكم أنه

__________________

(١) الفهرست : ١٧٤ / ٤٦٦ ، خلاصة الأقوال : ٢٠٣ / ٦٤٤.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٨٤ ـ ٤٨٥ / ٩١٥.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٥٣٧ ـ ٥٣٨ / ١٠٢٣.

٣١٥

سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لا تقبلوا علينا حديثا إلّا ما وافق القرآن والسنة أو تجدوا معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد ـ لعنه الله ـ دس في كتب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي ، فاتقوا الله ، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قال يونس : وافيت العراق ، فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام ، ووجدت أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام متوافرين ، فسمعت منهم وأخذت كتبهم وعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام وقال : «إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله عليه‌السلام ، لعن الله أبا الخطاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطاب ؛ يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة ، إنا عن الله وعن رسوله نحدّث ، ولا نقول : قال فلان وفلان فنناقض (١) كلامنا ، إن كلام آخرنا مثل كلام أولنا ، وكلام أولنا مصداق لكلام آخرنا ، فإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه عليه وقولوا : أنت أعلم وما جئت به. فإن لكلامنا (٢) حقيقة وعليه نورا ، فما لا حقيقة له ولا نور عليه فذلك قول الشيطان») (٣).

أقول : انظر ـ أيّدك الله ـ إلى ما دل عليه هذا الخبر من توقّف يونس في الأحاديث واحتياطه فيها ـ وهذا شأن غيره أيضا كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى ـ وأمرهم عليه‌السلام بعرض ما يأتي من الأخبار برواية غير المؤتمنين على (الكتاب) والسنة تحرّزا من تلك الأحاديث المكذوبة. فهل يجوز في العقول السليمة والطباع المستقيمة أن مثل هؤلاء الثقات العدول إذا سمعوا من

__________________

(١) في «ح» : متناقض.

(٢) في المصدر : مع كل قول منّا ، بدل : لكلامنا.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ / ٤٠١.

٣١٦

أئمّتهم عليهم‌السلام مثل هذا الكلام أن يستحلّوا بعد ذلك نقل ما لا يثقون بصحته ، ولا يعتمدون على حقيقته؟! بل من المقطوع والمعلوم عادة من أمثالهم أنهم لا يروون ولا يذكرون في مصنفاتهم إلّا ما اتضح لهم فيه الحال أنه في الصدق والاشتهار كالشمس في دائرة النهار ، كما سمعت من حال يونس.

وهذا كان دأبهم عليهم‌السلام في الهداية لشيعتهم ، يوقفونهم على جميع ما وقع وما عسى أن يقع في الشريعة من تغيير وتبديل ؛ لأنهم ـ صلوات الله عليهم ـ حفّاظ الشريعة وحملتها وضبّاطها وحرسها ، ولهم نوّاب فيها من ثقات أصحابهم وخوّاص رواتهم ، يوحون إليهم أسرار الأحكام ، ويوقفونهم على غوامض الحلال والحرام ، كما قد روي ذلك بأسانيد عديدة (١).

على أن المفهوم من جملة من الأخبار أن تلك الأحاديث المكذوبة كلّها كانت من أحاديث الكفر والزندقة والغلوّ والإخبار بالغرائب ، فمن ذلك ما رواه في الكتاب المتقدم عن يونس عن هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ، ويسندها إلى أبي (٢) عليه‌السلام ، ثم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يثبتوها في الشيعة ، وكل ما كان في كتب أصحاب أبي (٣) عليه‌السلام من الغلو ؛ فذاك ممّا دسّه (٤) المغيرة بن سعيد في كتبهم» (٥).

وبإسناده عن حماد عن حريز قال : قال ـ يعني أبا عبد الله عليه‌السلام ـ : «إنّ أهل

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٦ ـ ١٥٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١.

(٢) في «ح» بعدها : عبد الله.

(٣) في «ح» بعدها : عبد الله.

(٤) في «ح» : لممارسة.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٥ / ٤٠٢.

٣١٧

الكوفة [قد نزل] (١) فيهم كذاب ، أما المغيرة فإنه يكذب على أبي ـ يعني أبا جعفر عليه‌السلام ـ قال : حدّثني (٢) أن نساء آل محمد إذا حضن قضين الصلاة ، وكذب والله ـ عليه لعنة الله ـ ما كان من ذلك شي‌ء ولا حدّثه. وأما أبو الخطاب فكذب عليّ وقال إني أمرته هو وأصحابه ألا يصلّي المغرب حتى يروا الكواكب (٣)» (٤) الحديث.

على أن مقتضى الحكمة الربانية وشفقة الأئمّة عليهم‌السلام على من في أصلاب الرجال من شيعتهم تمنع من أن يتركوهم هملا يمشون على غير طريق واضح ولا منار لائح ، فلا يميزون لهم الغثّ من السمين ، ولا يهدونهم إلى جادة الحق المبين ، ولا يوقفونهم على ما وقع في الشريعة من تغيير وتبديل ، وما يحدثه الكفار (٥) المغترّون من البدع والضلال والتضليل! كلّا ثم كلّا ، بل أوضحوا الدين المبين غاية الإيضاح ، وصفّوه عن شوب كل كدر ، حتى أسفر كضوء الصباح.

ألا ترى إلى (٦) ما ورد عنهم من حثّ الشيعة على الكتابة لما يسمعونه منهم ، وأمرهم بحفظ الكتب لمن يأتي بعدهم ، كما ورد في جملة من الأخبار التي رواها ثقة الإسلام في جامعه (الكافي) (٧) وغيره في غيره (٨) ، وإلى تحذيرهم الشيعة عن مداخلة كل من أظهر البدع ، وأمرهم بمجانبتهم وتعريفهم لهم بأعيانهم (٩) ، كما عرفت فيما تلوناه من الأخبار المتقدمة.

ومثله ما خرج من الأئمّة المتأخّرين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ في لعن

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : لم يزل.

(٢) في المصدر : حدّثه.

(٣) في المصدر : كوكب كذا يقال له القنداني ، والله إن ذلك لكوكب ما أعرفه.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٨ / ٤٠٧.

(٥) في «ح» : الكذابون.

(٦) ليست في «ح».

(٧) الكافي ١ : ٥٢ ـ ٥٣ / ٨ ، ٩ ، ١٠ ، ١١ ، ١٥ ، باب رواية الكتب والحديث ..

(٨) عوالي اللآلي ١ : ٦٨ / ١١٩ ، منية المريد : ٣٤٠ ـ ٣٤١ ، بحار الأنوار ٢ : ١٥١ ـ ١٥٣ / ٣٥ ، ٣٦ ، ٣٧ ، ٣٨ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤٦ ، ٤٧.

(٩) الكافي ١ : ٥٤ ، باب البدع والرأي المقاييس.

٣١٨

جماعة ممن كانوا كذلك ، مثل فارس بن حاتم القزويني (١) ، والحسن بن محمد بن بابا (٢) ، ومحمد بن نصير النميري (٣) ، وأبي طاهر محمد بن علي بن هلال (٤) ، وأحمد بن هلال (٥) ، والحسين بن منصور الحلاج (٦) ، وابن أبي العزاقر (٧) ، وأبي دلف (٨) ، وجمع كثير (٩) ممن يتستر بالشيعة ، ويظهر المقالات الشنيعة من الغلو والإباحات ، والقول بالحلول والاتحاد والتناسخ ونحو ذلك.

وقد خرجت بلعنهم التوقيعات عنهم عليهم‌السلام في جميع الأماكن ، والأمر بالبراءة منهم ، وقد ذكر الشيخ قدس‌سره في كتاب (الغيبة) (١٠) جمعا من هؤلاء ، وأورد الكشي أخبارا فيما أحدثوه ، وما خرج فيهم من التوقيعات (١١) ، لذلك من أحب الوقوف عليها ؛ فليرجع إليه.

وقد شدد أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام (١٢) في ذلك ، حتى ربما تجاوزوا المقام ، حتى إنهم كانوا يجانبون الرجل بمجرد التهمة بذلك ، كما وقع لأحمد بن محمد بن عيسى مع أحمد بن محمد بن خالد من إخراجه من برقة قم لمّا طعن عليه

__________________

(١) الغيبة (الطوسي) : ٣٥٢ / ٣١٢.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٥٢٠ / ٩٩٩.

(٣) خلاصة الأقوال : ٤٠١ / ١٦١٤.

(٤) الغيبة (الطوسي) : ٣٥٣ ، وفيه : بلال ، بدل : هلال.

(٥) الغيبة (الطوسي) : ٣٥٣ / ٣١٣.

(٦) الغيبة (الطوسي) : ٤٠٢ / ٣٧٧ ، ونسب اللعن فيه للأصحاب.

(٧) رجال النجاشي : ٣٧٨ / ١٠٢٩.

(٨) الغيبة (الطوسي) : ٤١٢ / ٣٨٥ ، ونسب اللعن فيه للأصحاب.

(٩) انظر الهامش التالي.

(١٠) الغيبة : ٦٣ ـ ٧٠ / ٦٥ ـ ٧٥ ، و ٣٥١ ـ ٣٥٣ / ٣١١ ـ ٣١٣.

(١١) اختيار معرفة الرجال : ٥٢٠ / ٩٩٩ ، وقد ذكر الحسن بن محمّد المعروف بابن بابا ومحمد ابن نصير النميري وفارس بن حاتم القزويني.

(١٢) في «ح» بعدها : الأمر.

٣١٩

القمّيون ، ثم إعادته إليها لما ظهرت له براءته ، ومشى في جنازته حافيا ؛ إظهارا لنزاهته ممّا رمي (١) به. وكما أخرج سهل بن زياد الآدمي وأظهر البراءة منه (٢).

ومنع الناس من السماع عنه. وكما استثنى محمد بن الحسن بن الوليد شيخ القميين جملة من الرواة منهم جماعة ممن روى عنهم محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري (٣) وغيرهم (٤) ، ونسبوهم إلى الكذب والافتراء.

ومنهم من خرجت فيه التوقيعات ، ومنهم من اطلعوا على حاله الموجب لضعفه ، وقد عدوا من ذلك جماعة ، منهم محمد بن علي الصيرفي أبو سمينة (٥) ، ومحمد بن سنان (٦) ويونس بن ظبيان (٧) ، ويزيد الصائغ (٨) وغيرهم (٩).

وذلك ظاهر لمن تصفّح كتب الرجال واطّلع على ما فيها من الأحوال ، ومن الظاهر البين الظهور أنه مع شهرة الأمر في هؤلاء المعدودين وأمثالهم ، فإنه لا يعتمد أحد ممن اطلع على أحوالهم على رواياتهم ، ولا يدونونها في اصولهم إلّا مع اقترانها بما يوجب صحّتها ويعلن بثبوتها ، كما صرّح به شيخنا البهائي في كتاب (مشرق الشمسين) (١٠).

وها نحن ننقل لك انموذجا يعتمد عليه ممّا ذكره شيخنا الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في كتبه ؛ قال في كتاب (عيون أخبار الرضا عليه‌السلام) ـ بعد نقل حديث في سنده محمد بن عبد الله المسمعي ـ ما هذا لفظه : (قال مصنف هذا الكتاب : كان شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد سيئ الرأي في محمد بن عبد الله المسمعي

__________________

(١) خلاصة الأقوال : ٦٣ / ٧٢.

(٢) خلاصة الأقوال : ٣٥٦ / ١٤١١.

(٣) نقد الرجال ٤ : ١٢٨ / ٤٤٥٩.

(٤) الفهرست : ٢٢٣ / ٦٢٦.

(٥) الفهرست : ٢٢٣ / ٦٢٤.

(٦) الفهرست : ٢١٩ / ٦١٩.

(٧) خلاصة الأقوال : ٤١٩ / ١٧٠١.

(٨) رجال النجاشي : ٤٤٨ / ١٣١٠.

(٩) اختيار معرفة الرجال : ٥٤٦ / ١٠٣٣.

(١٠) مشرق الشمسين : ٢٦ ـ ٢٧.

٣٢٠