الدّرر النجفيّة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢١

بعلمه ، ولأنه لو قامت عنده البيّنة فحكم بذلك وجب الرجوع إلى حكمه كغيره من الأحكام. والعلم أقوى من البيّنة ، ولأن المرجع في الاكتفاء بشهادة العدلين وما يتحقّق به العدالة).

إلى قوله : (فيكون مقبولا في جميع الموارد ، ويحتمل العدم ؛ لإطلاق قوله عليه‌السلام : «لا اجيز في رؤية الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين (١)» (٢)) (٣) انتهى.

وظاهر ما ذكره قدس‌سره من التعليل لكلام (الدروس) هو وجوب الرجوع إلى ما يثبت بالبيّنة عند الحاكم في كلّ أمر من الامور التي فصّلناها آنفا ـ ومنها محل البحث ـ ولم يتوقف إلّا في الاعتماد على قول الحاكم إذا كان هو الرائي ، فاحتمل عدم العمل بقوله ؛ نظرا إلى إطلاق الخبر الذي نقله. وبمضمونه أيضا عدة أخبار.

وظاهر المحقق الفاضل المولى محمد باقر الخراساني صاحب (الكفاية) (٤) و (الذخيرة) (٥) موافقة كلام (الدروس) في هذا المقام ، حيث علّل كلام (الدروس) بما ذكره السيد هنا وجمد عليه ، ولم يذكر احتمال العدم ولا دليله ، وكأنه مخصّص هذه الأخبار بغير الصورة المذكورة ، وكلامهما قدس‌سرهما كما ترى ظاهر الدلالة في وجوب الرجوع للحاكم متى ثبت عنده بالبينة.

ولعلّ مستندهما في ذلك الأخبار الدالة بعمومها أو إطلاقها على وجوب الرجوع إلى ما يحكم به الفقيه المنصوب من قبلهم عليهم‌السلام ، مثل قول الصادق عليه‌السلام في مقبولة عمر بن حنظلة : «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل (٦) منه ، فإنما استخفّ بحكم الله ،

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) الكافي ٤ : ٧٦ / ٢ ، باب الأهلّة والشهادة عليها ، الفقيه ٢ : ٧٧ / ٣٣٨ ، وسائل الشيعة ١٠ : ٢٨٦ ، أحكام شهر رمضان ، ب ١١ ، ح ١.

(٣) مدارك الأحكام ٦ : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٤) كفاية الأحكام : ٥٢.

(٥) ذخيرة المعاد : ٥٣١.

(٦) في المصدر : يقبله.

٢٠١

وعلينا ردّ والراد علينا الرادّ على الله» (١).

وقول صاحب الزمان عليه‌السلام في توقيع إسحاق بن يعقوب : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» (٢).

وأمثال ذلك ممّا يدلّ (٣) على وجوب الرجوع إلى نائبهم عليه‌السلام.

وخصوص صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الإمام بالإفطار» (٤) الحديث.

ويعضده أيضا الأخبار المطلقة بشهادة العدلين في الرؤية. وأنت خبير بأن للمناقشة في ذلك مجالا.

أما المقبولة المذكورة ونحوها فإن المتبادر منها بقرينة السياق إنما هو وجوب الرجوع فيما يتعلّق بالقضاء بين الخصوم أو الفتوى في الأحكام ، وهو ممّا لا نزاع فيه لاختصاص الحاكم به إجماعا نصّا وفتوى.

وأما صحيحة محمّد بن قيس فالظاهر من لفظ «الإمام» فيها إنّما هو إمام الأصل ، أو ما هو أعمّ منه ومن إمام الجور والخليفة المتولّي لأمر العامّة ، بمعنى أن الواجب على الإمام القائم بامور المسلمين ذلك ؛ فإن الإمام إنما يحتمل انصرافه إلى من عدا من ذكرنا في مثل إمامة الجماعة والجمعة حيث يشترط بالإمام. وأما في مثل هذا المقام فلا مجال لغير ما احتملناه بحيث يدخل فيه الفقيه.

__________________

(١) الكافي ١ / ٦٧ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٦ ـ ١٣٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ١.

(٢) كمال الدين : ٤٨٤ / ٤ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٤٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٩.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٦ ـ ١٥٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١.

(٤) الكافي ٤ : ١٦٩ / ١ ، باب ما يجب على الناس .. ، وسائل الشيعة ٧ : ٤٣٢ ـ ٤٣٣ ، أبواب صلاة العيد ، ب ١ ح ١.

٢٠٢

نعم ، للقائل أن يقول : إذا ثبت ذلك للإمام الأصل ثبت لنائبه بحق النيابة ، إلّا إنه لا يخلو من شوب الإشكال وقيام الاحتمال أيضا ؛ لعدم الوقوف على دليل لهذه الكلية ، وظهور وجود أفراد كثيرة يختصّ بها الإمام دون نائبه.

وأما باقي الأخبار الواردة في المسألة فهي وإن كانت مطلقة إلّا إنه يمكن حملها على المقيّد التي تقدّم بعضها.

وبالجملة ، فالمسألة عندي موضع توقف وإشكال ؛ لعدم الدليل الواضح في وجوب الأخذ بحكم الحاكم بحيث يشمل موضع النزاع. ثم أنت خبير أيضا بأنّه بمقتضى ما ذكروه من العموم أنه لو ثبت عند الحاكم بالبيّنة نجاسة الماء أو حرمة اللحم ، ولم يثبت عند المكلف لعدم سماعه من البيّنة مثلا ، فإن تنجيس الأول وتحريم الثاني بالنسبة إليه بناء على وجوب الأخذ عليه بحكم الحاكم ينافي الأخبار الدالة على : «أن كل شي‌ء طاهر حتى تعلم أنه قذر» (١) ، و «كل شي‌ء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه» (٢) ، حيث لم يجعلوا من طرق العلم في القاعدتين المذكورتين حكم الحاكم بذلك ، وإنما ذكروا أخبار المالك وشهادة الشاهدين. وعلى ذلك تدلّ الأخبار أيضا.

وظاهر كلامهم هو شهادتهما عند المكلف وسماعه منهما ؛ ولهذا أن بعضهم اكتفى هنا بالعدل الواحد كما تقدم بيانه في الدرة الأولى من درر هذا الكتاب (٣).

وممّا يدل على أن المدار إنما هو على سماع المكلف من الشاهدين ، قول

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٨٣٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٤ ، وفيهما : «نظيف» بدل : «طاهر».

(٢) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٢ ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

(٣) انظر الدرر ١ : ٦٣ ـ ٧٥.

٢٠٣

الصادق عليه‌السلام في بعض أخبار الجبن : «كلّ شي‌ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة» (١).

وبالجملة ، فإن غاية ما يستفاد من الأخبار وهو اختصاص الفتوى في الأحكام الشرعية والحكم بين الناس ، وكذا ما يتعلق بالحقوق الإلهية بالنائب عنهم عليه‌السلام ، وهو الفقيه الجامع لشرائط النيابة. وجملة من الأخبار ـ كما عرفت ـ قد دلّت على أنه يكفي في ثبوت الحكم عند المكلف فيما نحن فيه سماعه من الشاهدين من غير توقف على حكم الحاكم.

وحينئذ ، فلا يكون ذلك ممّا يختصّ بالحاكم ، فوجوب رجوعه إلى الحاكم فيما نحن فيه يحتاج إلى دليل. ومجرد نيابته عنهم عليهم‌السلام وأنهم لو حكموا بذلك وجب اتّباعهم ، فكذا نائبهم ؛ قضاء لحق النيابة ، قد عرفت ما فيه.

نعم ، ربما يشكل ممّا إذا كان المكلف جاهلا لا يعرف معنى العدالة ليحصل ثبوت الحكم عنده بشهادة العدلين كما يشير إليه كلام السيد السند فيما تقدم ، إلّا إن فيه أن الظاهر أن هذا ليس بعذر شرعي يسوغ له وجوب الرجوع إلى حكم الحاكم لاستناده إلى تقصيره بالبقاء على الجهل وعدم تحصيله العلم الذي استفاضت الأخبار بوجوبه عليه. ونظائره في الأحكام الشرعيّة كثيرة ، والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٣٣٩ / ٢ ، باب الجبن ، وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٨ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١ ، ح ٢.

٢٠٤

(٣٢)

درّة نجفيّة

في مراتب المعرفة

قد نقل غير واحد (١) من علمائنا ـ رضوان الله عليهم ـ منهم شيخنا البهائي قدس‌سره في كتاب (الأربعين) عن المحقّق الطوسي ـ عطر الله مرقده ـ أنه قال : (إن مراتب معرفة الله ، مثل مراتب معرفة النار مثلا ، فإن أدناها من سمع أن في الوجود شيئا يعدم كل شي‌ء يلاقيه ، ويظهر أثره في كلّ شي‌ء يحاذيه ، وأي شي‌ء أخذ منه لم ينقص منه شي‌ء. ويسمّى ذلك الموجود (٢) نارا. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله معرفة المقلّدين الذين صدّقوا بالدين من غير وقوف على الحجة.

وأعلى منها مرتبة من وصل إليه دخان النار ، وعلم أنه لا بدّ له من مؤثر ، فحكم بذات له أثر ، هو الدخان. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله سبحانه وتعالى معرفة أهل النظر والاستدلال الذين حكموا بالبراهين القاطعة على وجود الصانع.

وأعلى منها من أحس بحرارة النار بسبب مجاورتها ، وشاهد الموجودات بنورها وانتفع بذلك الأثر. ونظير هذه [المرتبة] (٣) في معرفة الله معرفة المؤمنين

__________________

(١) عين الحياة ١ : ٨٦ ـ ٨٧ ، الفوائد الطوسية : ٣٠٥ / الفائدة : ٧١ ، مجمع البحرين ٥ : ٩٦ ـ ٩٧ ـ عرف.

(٢) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : الوجود.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : المعرفة.

٢٠٥

الخلّص الذين اطمأنّت قلوبهم بالله ، وتيقنوا أن الله نور السماوات والأرض كما وصف به نفسه.

وأعلى منها مرتبة من احترق بالنار بكلّيته وتلاشى فيها بجملته. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل الشهود والفناء في الله ، وهي المرتبة العليا والدرجة القصوى. رزقنا الله الوصول إليها والوقوف عليها بمنه وكرمه (١)) (٢) انتهى كلامه زيد مقامه.

أقول : ما نقله هؤلاء الفحول عن هذا المحقق المقدّم في المعقول والمنقول (٣) وتلقّوه منه بالتسليم والقبول ، مخدوش عندي ومدخول بمخالفته للمأثور عن أهل الذكر ـ صلوات الله عليهم ـ والمنقول ، الذين هم الاولى بالاتّباع في بديهة العقول. وها أنا اوضّح ذلك على وجه تشتاقه الطباع السليمة ، وتهش إليه القرائح المستقيمة ، فأقول : اعلم أن مراتب معرفة الله سبحانه على ما يستفاد من أخبارهم عليهم‌السلام ثلاث :

فالمرتبة الأولى جبلّية فطرية.

والثانية نظريّة تكليفية.

والثالثة إشراقيّة كشفية.

وكلّ من المرتبتين الأخيرتين يشتمل على مراتب أيضا ، كما سيأتي التنبيه عليه. وتفصيل هذا الإجمال أن يقال :

أما المرتبة الأولى ، فهي الإقرار بوجود الصانع ، وهو من أضرّ (٤) الضروريات اليقينية ، وأجلى الامور الفطرية كما ترادفت به الأدلة العقلية والنقليّة من الآيات

__________________

(١) رزقنا الله .. وكرمه ، من «ح» والمصدر.

(٢) الأربعون حديثا : ٨١ ـ ٨٢ / شرح الحديث : ٢.

(٣) ليست في «ح».

(٤) كذا في النسختين.

٢٠٦

القرآنية والسنّة النبويّة على الصادع بها وآله أفضل الصلاة والسلام والتحية : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) فلا ضرورة إلى ما دوّنه المتكلمون في (٢) مصنفاتهم ومقالاتهم ؛ فإن كل بالغ عاقل قد ظهر له من آثار القدرة الإلهية ما يدلّ على وجود مؤثر ولو لم ينظر إلّا إلى نفسه من كونه وجد بعد العدم ، وخلق من نطفة من ماء مهين ، ثم لم يزل ينمو ويكبر حتى ربما يبلغ الهرم ، فإنه يجزم بأنه لم يخلق نفسه ولا خلقه أبواه. ألا ترى إلى قوله سبحانه في الإخبار عن الكفار (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٣) ، (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (٤) ، وقال سبحانه حاكيا عن عبّاد الأصنام (ما نَعْبُدُهُمْ إِلّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٥) وقال (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (٦) ، وهو الفطرة (الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها) (٧) ، والصبغة التي أشار سبحانه إليها بقوله (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) (٨) ، كما استفاضت به الأخبار (٩) في تفسير الآيتين المذكورتين.

وفي الخبر المأثور عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كل مولود يولد على الفطرة ـ يعني المعرفة ـ وإنما يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه أبواه» (١٠).

__________________

(١) إبراهيم : ١٠.

(٢) في «ح» بعدها : مطوّلاتهم ، ولا ما أكثروا به في.

(٣) لقمان : ٢٥.

(٤) الأنعام : ٤٠ ـ ٤١.

(٥) الزمر : ٣.

(٦) النمل : ١٤.

(٧) الروم : ٣٠.

(٨) البقرة : ١٣٨.

(٩) مجمع البيان ١ : ٢٨١ ، ٨ : ٣٩١ ـ ٣٩٢.

(١٠) عوالي اللآلي ١ : ٣٥ / ١٨ ، وفيه : حتى يكون أبواه يهوّدانه .. ، بدل : وإنما يهودانه .. أبواه.

٢٠٧

وفي خبر آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تضربوا أطفالكم على بكائهم فإن بكاءهم أربعة أشهر لا إله إلّا الله» (١) الحديث.

وقد صرّح جملة من علمائنا بهذه المقالة ، ولا سيّما السيد الزاهد العابد المجاهد رضي الدين علي بن طاوس الحسني ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في وصاياه لابنه ؛ فإنه قد أطال في إيضاحها وضرب الأمثلة في انشراحها. وعسى ننقل بعض كلماته في ذيل الكلام في هذا المقام. وكذا شيخنا الصدوق في كتاب (التوحيد) وغيرهما ، ومما لا خلاف فيه بين العلماء الأعلام. وعليه تدلّ أخبار أهل الذكر عليهم الصلاة والسلام [من] أنّ من بلغ عاقلا ولم يقر بالصانع فإنّه يحكم بكفره ، ويجب قتله واستباحة ماله (٢).

ولو كانت المعرفة كما [ادعاها] (٣) نظريّة ، لوجب إمهاله مدة من السنين ، حتى يتعلم علم الكلام ويعرف الاستدلال.

قال بعض المحققين بعد ذكر جملة من الأخبار ما هذا لفظه : (وقد ظهر من هذه الكلمات أن كلّ مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجّسانه كما ورد في الحديث النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولهذا جعل الناس معذورين في تركهم لاكتساب المعرفة بالله ، متروكين على ما فطروا عليه ، مرضيا عنهم بمجرد الإقرار بالقول ، ولم يكلّفوا الاستدلالات العقلية في ذلك. قال نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله» (٤) ، وإنما التعمّق لزيادة البصيرة ، ولطائفة مخصوصة ، والردّ على أهل الضلال ؛ ولهذا أمرت الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ بقتل من أنكر

__________________

(١) التوحيد : ٣٣١ / ١٠ ، وسائل الشيعة ٢١ : ٤٤٧ ، أبواب أحكام الأولاد ، ب ٦٣ ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٨ : ٣٢٦ ، أبواب حد المرتدّ ، ب ٢.

(٣) في «ح» : من ادعاه ، وفي «ق» : ادعاه.

(٤) كنز العمّال ١ : ٨٨ / ٣٧٥.

٢٠٨

وجود الصانع فجأة بلا استتابة ولا عقاب ، لأنّه ينكر ما هو من ضروريات الامور) (١) انتهى.

ومن الأخبار الواردة في المقام ما رواه شيخنا الصدوق قدس‌سره في كتاب (التوحيد) بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله تعالى (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها) (٢) ، قال «التوحيد» (٣).

وروى بهذا المضمون روايات عديدة (٤).

وفي بعضها قال : «التوحيد ، ومحمد رسول الله ، وعلي أمير المؤمنين» (٥).

وفي بعض آخر قال : «فطرهم على التوحيد عند الميثاق على معرفته أنه ربّهم».

قلت : وخاطبوه؟ قال : فطأطأ رأسه ثم قال : «لو لا ذلك لم يعلموا من ربّهم ولا من رازقهم» (٦).

وروى أحمد بن أبي عبد الله البرقي رحمه‌الله في كتاب (المحاسن) بسنده عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله تبارك وتعالى (حُنَفاءَ لِلّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) (٧) ما الحنفيّة؟ قال : «هي الفطرة التي فطر الناس عليها. فطر [الله] الخلق على معرفته» (٨).

وروى فيه عن زرارة أيضا قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله تبارك وتعالى (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها)؟ قال : «فطرهم على معرفة أنه ربّهم ، ولو لا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ولا من رازقهم» (٩).

__________________

(١) علم اليقين ١ : ٣١.

(٢) الروم : ٣٠.

(٣) التوحيد : ٣٢٨ ـ ٣٢٩ / ١ ـ ٢.

(٤) التوحيد : ٣٢٩ / ٣ ـ ٦.

(٥) التوحيد : ٣٢٩ / ٧.

(٦) التوحيد : ٣٣٠ / ٨.

(٧) الحجّ : ٣١.

(٨) المحاسن ١ : ٣٧٥ / ٨٢٤.

(٩) المحاسن ١ : ٣٧٥ / ٨٢٥.

٢٠٩

وروى فيه بسنده عن زرارة قال (١) : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٢) ، قال : «ثبت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف وسيذكرونه يوما ، ولو لا ذلك لم يدر أحد من خالفه ولا من رازقه» (٣).

وروى فيه عن صفوان قال : قلت لعبد صالح عليه‌السلام : في الناس استطاعة يتعاطون بها المعرفة؟ قال : «لا ، إنما هو تطوّل من الله» (٤) الحديث.

وروى فيه (٥) بسنده إلى عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لم يكلّف الله العباد المعرفة ، ولم يجعل لهم إليها سبيلا» (٦).

وروى فيه بسنده إلى أبي العباس البقباق قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٧) ، هل لهم في ذلك صنع؟ قال : «لا» (٨).

وروى فيه بسنده قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الإيمان ، هل للعباد فيه صنع؟ قال : «لا ولا كرامة ، بل هو من الله وفضله» (٩).

وفي كتاب (التوحيد) أيضا بسنده إلى بريد (١٠) بن معاوية العجلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «ليس لله على خلقه أن يعرفوا قبل أن يعرّفهم ، ولله على الخلق إذا عرّفهم أن يقبلوا» (١١).

وروى الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره عن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام عن أبيه عن جدّه عن أبيه محمد بن علي بن الحسين ـ صلوات الله

__________________

(١) سألت أبا جعفر عن قول الله تبارك وتعالى (فطرة ...) قال ، من «ح».

(٢) الأعراف : ١٧٢.

(٣) المحاسن ١ : ٣٧٦ / ٨٢٦.

(٤) المحاسن ١ : ٤٣٧ ـ ٤٣٨ / ١٠١٤.

(٥) ليست في «ح».

(٦) المحاسن ١ : ٣١٥ / ٦٢٤.

(٧) المجادلة : ٢٢.

(٨) المحاسن ١ : ٣١٥ ـ ٣١٦ / ٦٢٥.

(٩) المحاسن ١ : ٣١٦ / ٦٢٦.

(١٠) في «ح» : يزيد.

(١١) التوحيد : ٤١٢ / ٧.

٢١٠

عليهم ـ في قوله (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها) (١) قال : «هو لا إله إلّا الله محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي أمير المؤمنين [ولي الله] ، إلى هاهنا التوحيد» (٢).

إلى غير ذلك من الأخبار المستفيضة ، بل المتواترة معنى (٣) كما لا يخفى على من أحاط بها خبرا.

قال المحدّث الأمين الأسترآبادي قدس‌سره في كتاب (الفوائد المدنية) : (قد تواترت الأخبار عن أهل بيت النبوة متّصلة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن معرفة الله تعالى بعنوان أنه خالق العالم ، وأن له رضا وسخطا ، وأنه لا بدّ (٤) من معلم من جهته فيعلم الخلق ما يرضيه وما يسخطه ، من الامور الفطرية التي وقعت في القلوب بإلهام فطري الهي.

وتوضيح ذلك أنه تعالى ألهمهم تلك القضايا ـ أي خلقها في قلوبهم ـ وألهمهم دلالات واضحة على تلك القضايا. ثم أرسل إليهم الرسول ، وأنزل عليه (الكتاب) ، وأمر فيه ونهى ، وكل من بلغته دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقع في قلبه من الله يقين بصدقه ، فإنه قد تواترت الأخبار عنهم عليه‌السلام بأنه ما من أحد إلّا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه ؛ قبله أو تركه (٥)) (٦) انتهى.

وأمّا ما ورد من الآيات القرآنية الدالة بظاهرها على الاستدلال على هذا المطلب بآثار القدرة الإلهية كقوله عزوجل في غير موضع (وَمِنْ آياتِهِ) (٧) ، وقوله في غير مقام بعد تعداد جمل من المحدثات وآثار الصنع

__________________

(١) الروم : ٣٠.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٥٤.

(٣) انظر : المحاسن ١ : ٣١٤ ـ ٣١٧ ، باب المعرفة ، التوحيد : ٤١٠ ـ ٤١٧ ، ب ٦٤.

(٤) في «ق» بعدها : له ، وما أثبتناه وفق «ح» والمصدر.

(٥) في «ح» وتركبه ، بدل : أو تركه ، وقد شطب عن (قبله) والهمزة من (أو) في «ح».

(٦) الفوائد المدنية : ٢٠٢.

(٧) الروم : ٢٠ ، وغيرها.

٢١١

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) (١) ونحو ذلك ، فهو محمول على قصد إزالة الشبهة عمن غطّت على بصر بصيرته غشاوة الشبهات ؛ فإن عروض الشبهة لا يقدح في بداهة البديهي كما صرّح به جملة من العلماء الأعلام وأرباب النقض والإبرام. وخفاء التصديق على بعض الأذهان لخفاء تصوّرات بعض أطرافه غير قادح في ضرورية الضروري ؛ ولهذا إنه يزول بأدنى تنبيه عند طالب الحقّ الفطن النبيه.

ويدل على ذلك أيضا (٢) ما حكاه العلّامة القطب الشيرازي في كتاب (درة التاج) من (أن بعض الملوك كان له شك في الصانع جل شأنه ، فعلم بذلك وزيره ، وكان حكيما عاقلا ، فعمد إلى أرض خربة موات وأجرى إليها أنهارا جارية ، وأحدث فيها عمارات عالية ومجالس فاخرة ، وعمل فيها بساتين رائقة ، وغرس فيها أشجارا ، فلمّا تمّ ما حاوله ، وفرغ ممّا دبره ، أشار إلى الملك ليخرج يوما إلى النزهة ، ثم تعمد المرور به على تلك العمارات والبساتين ، ولم يكن الملك يدري بإحداثه لها ، فسأله عمّن أحدثها وعمرها؟ فقال الوزير : حدثت بنفسها. فغضب الملك ، وقال : تخاطبني بهذا الكلام الذي يخاطب به المجانين ، أيحدث الشي‌ء بنفسه؟ فقال الوزير : إذا جاز حدوث السماوات والأرض والمواليد وغيرها بأنفسها ، فكيف لا يجوز حدوث هذه بأنفسها؟ فتفطن الملك ورجع إلى الجزم بالتوحيد) (٣).

ونقل سيدنا المرتضى علم الهدى رضي‌الله‌عنه في كتاب (الفصول) الذي جمعه من إملاء شيخنا مفيد الطائفة المحقّة ، وهو المشهور بكتاب (العيون والمحاسن) قال : (أخبرني الشيخ ـ أدام الله عزه ـ أيضا قال : دخل أبو الحسن علي بن ميثم رحمه‌الله على

__________________

(١) يونس : ٦٧ ، وغيرها.

(٢) ليست في «ح».

(٣) عنه في زهر الرياض : ٦٥٤ ـ ٦٥٥.

٢١٢

الحسن بن سهل وإلى جانبه ملحد قد عظمه ، والناس حوله ، فقال : لقد رأيت ببابك عجبا. قال : وما هو؟ قال : رأيت سفينة تعبّر الناس من جانب إلى جانب بلا ملّاح ولا ماصر (١)! قال : فقال له صاحبه الملحد ـ وكان بحضرته ـ : إن هذا أصلحك الله لمجنون! قال : قلت : وكيف ذاك؟ قال : خشب جماد لا حيلة له ولا قوة ولا حياة فيه ولا عقل كيف يعبر بالناس؟! قال : فقال أبو الحسن : وأيما أعجب هذا أو هذا الماء الذي يجري على وجه الأرض يمنة ويسرة بلا روح ولا حيلة ولا قوى ، وهذا النبات الذي يخرج من الأرض والمطر الذي ينزل من السماء؟ تزعم أنت أنه لا مدبر لهذا كله ، وتنكر أن تكون سفينة تتحرك بلا مدبر وتعبر بالناس؟ فبهت الملحد) (٢) انتهى.

وفي (تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام) أنه سئل مولانا الصادق عليه‌السلام عن الله ، «فقال للسائل : يا عبد الله ، هل ركبت سفينة قط؟ قال : بلى. قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال : بلى. قال : فهل تعلق قلبك هناك أن شيئا قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال : بلى. قال الصادق عليه‌السلام فذلك الشي‌ء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث» (٣).

وبما حقّقناه يظهر لك ما في كلام هذا المحقق من الغفلة في المرتبة الاولى من المراتب التي ذكرها حيث ادّعى التقليد فيها ؛ فإنه (٤) لا يلائم البداهة والضرورة

__________________

(١) الماصر : حبل يلقى في الماء ليمنع السفن عن السير حتى يؤدي صاحبها ما عليه من الحق للسلطان. لسان العرب ١٣ : ١٢٢ ـ مصر.

(٢) الفصول المختارة من العيون والمحاسن (ضمن مؤلّفات الشيخ المفيد) ٢ : ٧٦.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٢ / ٦.

(٤) في «ح» : فإنه فيها.

٢١٣

الوجدانية ؛ إذ التقليد إنما يكون في الامور النظرية. وكذا في المرتبة الثانية المتضمنة للاستدلال بالأثر على المؤثر ، فإنه متى كان وجوده عزوجل بديهيا ضروريا فإنه لا يحتاج إلى استدلال. وتوهم ذلك من الآيات التي أشرنا إليها قد عرفت ما فيه.

ولا بأس بنقل شي‌ء من كلمات السيد رضي الدين بن طاوس عليه الرحمة في المقام وإن طال به زمام الكلام فإنه من أهم المهام ، وخصوصا أن الكتاب المذكور فيه قليل الوجود والدوران في أيدي الإخوان ، فأقول : قال ـ قدس الله تعالى نفسه ، وطيب رمسه ـ في كتاب (كشف المحجة لثمرة المهجة) : (واعلم يا ولدي يا محمد ، وجميع ذريتي وذوي مودتي أنني وجدت كثيرا ممن رأيته وسمعت به من علماء الإسلام قد ضيقوا على الأنام ما كان سهّله الله جل جلاله ، ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من معرفة مولاهم ومالك دنياهم واخراهم ؛ فإنك تجد كتب الله جل جلاله السالفة و (القرآن) الشريف مملوءة من التنبيهات بالدلالات على معرفة محدث الحادثات ومغيّر المغيرات ومقلّب الأوقات. وترى علوم سيدنا خاتم الأنبياء وعلوم من سلف من الأنبياء ـ صلوات الله عليه وآله وعليهم ـ على سبيل كتب الله جل جلاله المنزلة عليهم في التنبيه اللطيف والتشريف بالتكليف ، ومضى على ذلك الصدر الأول من علماء المسلمين وإلى أواخر من كان ظاهرا من الأئمَّة المعصومين عليهم‌السلام أجمعين ، فإنّك تجد من نفسك بغير إشكال أنك لم تخلق جسدك ولا روحك ولا حياتك ولا عقلك ولا ما خرج عن اختيارك من الآمال والأحوال والآجال ، ولا خلق ذلك أبوك ولا امّك ولا من تقلبت بينهم من الآباء والامهات ، ولأنك تعلم يقينا أنهم كانوا عاجزين عن هذه المقامات. ولو كان لهم قدرة على تلك المهمات ، ما كان قد حيل بينهم وبين المرادات وصاروا من الأموات ، فلم يبق مندوحة أبدا عن واحد منزّه عن إمكان المتجدّدات خلق هذه

٢١٤

الموجودات ، وإنما تحتاج إلى أن تعلم ما هو عليه جل جلاله من الصفات.

أقول : ولأجل شهادة العقول الصريحة والأفهام الصحيحة بالتصديق بالصانع أطبقوا جميعا على فاطر وخالق ، وإنما اختلفوا في ماهيته وحقيقة ذاته وفي صفاته بحسب اختلاف الطريق.

أقول (١) وإني وجدت قد جعل الله جل جلاله في جملتي حكما أدركته عقول العقلاء ، فجعلني من جواهر وأعراض ، وعقل روحاني ، ونفس وروح. ولو سألت بلسان الحال الجواهر التي في صورتي ، هل كان لها نصيب من خلقي وفطرتي؟

لوجدتها تشهد بالعجز والافتقار وأنها لو كانت قادرة على هذا المقدار ما اختلفت عليها الحادثات والتغييرات والتقلبات ، ووجدتها معترفة (٢) أنها ما كان لها حديث في تلك التدبيرات ، وأنها ما تعلم كيفية ما فيها من التركيبات ولا عدد ولا وزن ما جمع فيها من المفردات.

ولو سألت بلسان الحال الأعراض ، لقالت : أنا أضعف من الجواهر ، لأنني فرع عليها فأنا أفقر منها لحاجتي إليها.

ولو سألت بلسان الحال عقلي وروحي ونفسي لقالوا جميعا : أنت تعلم أن الضعف يدخل بعضنا بالنسيان وبعضنا بالموت وبعضنا بالذل والهوان ، وأنّنا تحت غيرنا ممن ينقلنا كما يريد من نقص إلى تمام ، ومن تمام إلى نقصان ، وينقلنا كما يشاء مع تقلبات الأزمان) (٣).

إلى أن قال : (إياك وما عقده المعتزلة ومن تابعهم على طريقتهم البعيدة من اليقين ، فإنني اعتبرتها فوجدتها كثيرة الاحتمالات لشبهات المعترضين إلّا قليلا

__________________

(١) من «ح» والمصدر.

(٢) في «ح» : معرفة.

(٣) كشف المحجة لثمرة المهجة : ٤٨ ـ ٥٠.

٢١٥

منها سلكه أهل الدين. وبيان ذلك أنّك تجد ابن آدم إذا كان له نحو من سبع سنين وإلى قبل بلوغه إلى مقام المكلّفين لو كان جالسا مع جماعة فالتفت إلى ورائه فجعل واحد منهم بين يديه شيئا مأكولا أو غيره من الأشياء ، فإنه إذا رآه سبق إلى تصوّره وإلهامه أن ذلك المأكول أو غيره ما حضر بذاته وإنما أحضره غيره ، ويعلم ذلك على غاية عظيمة من التحقيق والكشف والضياء والجلاء.

ثم إذا التفت مرة اخرى إلى ورائه فأخذ بعض الحاضرين ذلك من بين يديه ، فإنه إذا آنها التفت إليه ولم يره موجودا فإنه لا يشكّ أنه أخذه أحد سواه ، ولو حلف له كل من حضر أنه حضر ذلك الطعام بذاته وذهب بذاته كذب الحالف ورد عليه دعواه.

فهذا يدلك على أن فطرة ابن آدم ملهمة معلّمة من الله تعالى جل جلاله ، بأن ذلك الأثر دل دلالة بديهية على مؤثره بغير ارتياب ، والحادث دل على محدث بدون حكم الألباب).

إلى ان قال : (ومما يدلك يا ولدي ـ جملك الله جل جلاله بإلهامك وإكرامك ، وجعلك من أعيان دار دنياك ودار مقامك ـ أن المعرفة محكوم بحصولها للإنسان دون ما ذكره أصحاب اللسان ؛ لأنهم لو عرفوا من مكلف ولد على الفطرة حر عاقل عقيب بلوغ رشده بأحد أسباب الرشاد أنه قد ارتد بردّة يحكم فيها ظاهر الشرع بأحكام الارتداد ، وأشاروا بقتله ، وقالوا : قد ارتدّ عن فطرة الإسلام ، وتقلدوا إباحة دمه وماله ، وشهدوا أنه كفر بعد إسلام.

فلو لا أن العقول قاضية بالاكتفاء والغناء (١) بإيمان الفطرة دون ما ذكروه من طول الفكرة ، كيف كان يحكم على هذا بالردة وقد عرفوا أنه ما يعلم حقيقة من

__________________

(١) من «ح» : والمصدر.

٢١٦

حقائقهم ولا سلك طريقا من طرائقهم ولا تردّد إلى معلّم من علماء المسلمين ولا فهم شيئا من ألفاظ المتكلمين؟ ولو اعتذر إليهم عن معرفة الدليل بالأعذار التي أوجبوها عليه من النظر الطويل ما قبلوها منه ونقضوا ما كانوا أوجبوه وخرجوا عنه) (١) انتهى كلامه زيد مقامه ، واقتصرنا منه على قليل من كثير.

وأمّا المرتبة الثانية ، فهي معرفته عزوجل بصفات كماله ونعوت جلاله التي ورد بها (القرآن) العزيز والسنّة النبوية على الصادع بها وآله أفضل صلاة وتحية. وهذه المرتبة هي التي تعبّد الله عزوجل بها خلقه ، وكلّفهم العمل عليها ، وردع جملة من العقول القاصرة والأوهام الحائرة عن تجاوزها والارتقاء إلى ما فوقها. وهذه المرتبة كما أشرنا إليها آنفا مشتملة على مراتب متعدّدة متفاوتة بتفاوت أفهام الناس وعقولهم في المعرفة قوة وضعفا ، وحصول الاطمئنان كمّا وكيفا ، وسرعة وبطء ما رزقوه ووفّقوا له. وأعلى مراتب هذه المرتبة ربما قرب من المرتبة الآتية.

وفي الخبر عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الله وضع الإيمان على سبعة أسهم : على البرّ والصدق (٢) واليقين والرضا والوفاء والعلم والحلم. ثم قسم ذلك بين الناس ، فمن جعل فيه السبعة الأسهم فهو كامل محتمل ، وقسم لبعض الناس السهم ولبعض السهمين ولبعض الثلاثة حتى انتهوا إلى سبعة».

ثم قال : «لا تحملوا على صاحب السهم سهمين ، وعلى صاحب السهمين ثلاثة فتبهظوهم».

ثم قال : «كذلك حتى [ينتهي] (٣) إلى سبعة» (٤).

وروى في الكتاب المذكور عن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «يا

__________________

(١) كشف المحجّة لثمرة المهجة : ٥١ ـ ٥٤.

(٢) في «ح» : التقوى.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : انتهى.

(٤) الكافي ٢ : ٤٢ / ١ ، باب درجات الإيمان.

٢١٧

عمر ، لا تحملوا على شيعتنا وارفقوا بهم ، فإنّ الناس لا يحتملون ما تحملون» (١).

وروى في الكتاب المذكور بسنده عن شهاب قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعالى هذا الخلق لم يلم أحد أحدا».

فقلت : أصلحك الله ، فكيف ذلك؟ فقال : «إنّ الله خلق أجزاء بلغ بها تسعة وأربعين جزءا ، ثم جعل الأجزاء أعشارا فجعل الجزء عشرة أعشار ، ثم قسمه بين الخلق فجعل في رجل عشر جزء وفي آخر (٢) عشري جزء حتى بلغ به جزءا تامّا ، وفي آخر جزءا وعشر جزء وفي آخر جزءا وعشري جزء [وآخر جزءا] وثلاثة أعشار جزء حتى بلغ به جزءين تامّين. ثم بحساب ذلك حتى بلغ بأرفعهم تسعة وأربعين جزءا ، فمن لم يجعل فيه إلّا عشر جزء لم يقدر أن يكون مثل العشرين ، وكذلك صاحب العشرين لا يكون مثل صاحب الثلاثة الأعشار ، وكذلك من تمّ له جزء لا يقدر على أن يكون مثل صاحب الجزءين. ولو علم الناس أن الله عزوجل خلق هذا الخلق على هذا لم يلم أحد أحدا» (٣).

وروى فيه عن عبد العزيز القراطيسي قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا عبد العزيز ، إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة ، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد : لست على شي‌ء حتى ينتهي إلى العاشرة. فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك. وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره ، فإنّ من كسر مؤمنا فعليه جبره» (٤).

وروى هذا الخبر الصدوق رحمه‌الله في (الخصال) بطريقين ، وزاد فيه في الروايتين :

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣٣٤ / ٥٢٢.

(٢) من «ح» والمصدر.

(٣) الكافي ٢ : ٤٤ / ١ ، باب آخر من درجات الإيمان.

(٤) الكافي ٢ : ٤٤ ـ ٤٥ / ٢ ، باب آخر من درجات الإيمان.

٢١٨

«وكان المقداد في الثامنة ، وأبو ذر في التاسعة ، وسلمان في العاشرة» (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على هذا المضمون.

وتفصيل ذلك وبيانه أن الإيمان إنما يكون بقدر العلم بالله عزوجل الذي هو حياة القلوب ، وهو نور يحصل في القلب ، كما ورد : «ليس العلم بكثرة التعلم ، وإنما هو نور يقذفه الله عزوجل في قلب من يريد هدايته» (٢).

وهذا النور قابل للشدة والضعف ؛ بسبب صقل مزايا القلوب بالطاعات والعبادات والرياضات والمجاهدات ، وإزالة ما تراكم عليها من الصدأ والخبث بقاذورات المعاصي والشهوات وعدم ذلك.

وكلما ازداد صقلها بما ذكرناه ازدادت نورانية القلب ، وبه يزداد صاحبه في المعرفة ، ويرتفع من درجة من تلك الدرجات

إلى ما فوقها حتى يصل إلى ما وفّق له ، وكتب له (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٣).

وفي الحديث النبوي : «من علم وعمل بما علم ، ورّثه الله علم ما لم يعلم» (٤).

وبذلك يظهر لك ما في كلام المحقق المذكور قدس‌سره في المرتبة الثالثة المخصوصة بالخلّص من المؤمنين ، فإنه بناء على ما قدّمنا تحقيقه من سقوط المرتبتين الاوليين من كلامه يلزم أن يكون ما عدا خلّص المؤمنين ممّن نقص درجة عنهم غير موجود في المراتب المذكورة.

وبالجملة ، فكلامه قدس‌سره وإن تلقّاه جملة من علمائنا ـ رضوان الله عليهم ـ بالقبول ، إلّا إنه لا ينطبق كما عرفت على أخبار آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، التي هي المعتمد في كل معقول ومنقول. وهذه المرتبة الثالثة التي ذكرها قدس‌سره هي من أعلى درجات

__________________

(١) الخصال ٢ : ٤٤٧ ـ ٤٤٨ / ٤٨ ـ ٤٩ ، باب العشرة.

(٢) علم اليقين : ٨.

(٣) العنكبوت : ٦٩.

(٤) حلية الأولياء ١٠ : ١٥ ، وفيه : عمل ، بدل : علم وعمل.

٢١٩

هذه المرتبة التي نحن في الكلام عليها.

ومن الأخبار الواردة في أصحاب هذه المرتبة ما رواه في (الكافي) عن الفتح ابن يزيد قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن أدنى المعرفة فقال : «الإقرار بالله لا إله غيره ، ولا شبه له ولا نظير ، وأنه قديم مثبت موجود غير فقيد ، وأنه ليس كمثله شي‌ء» (١).

وروى فيه بسنده عن علي بن الحسين عليه‌السلام أنه سئل عن التوحيد فقال : «إن الله عزوجل علم أنه يكون في آخر الزمان قوم متعمقون ، فأنزل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٢) ، والآيات من سورة الحديد إلى قوله (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣)» (٤).

ورواه الصدوق في كتاب (التوحيد) وزاد فيه : «فمن رام ما وراء ذلك فقد هلك» (٥).

وما توهمه المحدّث الكاشاني في (الوافي) من إنزال السورة المذكورة والآيات المزبورة إنما هو لأجل التعمّق ، وأن في الخبر دلالة على مدح التعمق ، فهو من جملة خطرات أوهامه الجارية على مذاق الصوفية التي يميل إليها ، والخبر الآتي أظهر دليل على ذلك. والأخبار مستفيضة بالنهي عن التعمق في الكلام إلّا على ما علم من جهتهم عليهم‌السلام.

وروى في الكتاب المذكور بسنده عن الرضا عليه‌السلام أنه سئل عن التوحيد فقال : «كل من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وآمن بها فقد عرف التوحيد». قلت : كيف يقرؤها؟

قال : «كما يقرأ الناس» (٦).

وروى فيه بسنده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام في جواب كتاب من كتب إليه يسأله عن التوحيد : «واعلم يرحمك الله أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من

__________________

(١) الكافي ١ : ٨٦ / ١ ، باب أدنى المعرفة.

(٢) الإخلاص : ١.

(٣) الحديد : ١ ـ ٦.

(٤) الكافي ١ : ٩١ / ٣ ، باب النسبة.

(٥) التوحيد : ٢٨٣ ـ ٢٨٤ / ٢.

(٦) الكافي ١ : ٩١ / ٤ ، باب النسبة.

٢٢٠