الدّرر النجفيّة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢١

إلّا إن ما ذكره في سبب الرؤيا الصادقة (١) المحتاجة إلى تأويل وتعبير من إسدال أغشية الظلمات ـ إلى آخره ـ يشكل برؤيا يوسف ـ على نبينا وآله وعليه‌السلام ـ التي حكاها الله عزوجل في كتابه المجيد من سجود الشمس والقمر المؤوّل بالملك والسلطنة.

ورؤيا الإمام زين العابدين عليه‌السلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنه زوّجه بحوراء من حور (١) الجنة فجامعها وحملت فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يسميه زيدا ، وفي صبيحة ذلك اليوم كان يقص الرؤيا على أصحابه ، فإذا عند انتهاء كلامه قد ورد عليه رسول المختار ومعه الجارية التي أهداها إليه ، وكان قد اشتراها بمبلغ خطير وكانت فائقة في الجمال.

قال الراوي : فلما رأينا شغفه بالجارية انصرفنا عنه ، وفي العام القابل أتيته

__________________

(١) قال المحقق الشارح المازندراني في (شرح الاصول) بعد نقل جملة من أقوال الفلاسفة في هذا المقام ، وأقوال المتكلمين ما صورته : (ولا يبعد أن يقال : جميع ما كان وما يكون وما هو كائن في اللوح المحفوظ ، فإذا تعطلت الحواس بالنوم ، وفرغت النفس [عن الاشتغال] (٢) بها يعرض [عليها] ملك الرؤيا ما كان فيه بقدر استعدادها ، وما كان من هذا القبيل فهي الرؤيا الصادقة و [لذلك] (٣) قد يخبر النائم بما وقع في العالم وبما هو واقع وبما يقع بعد ، وتلك الرؤيا هي التي تعدّ جزءا من أجزاء النبوّة.

وقد تشتغل النفس بالصور والمعاني التي في الحسّ المشترك والخيال وتركبها على أنحاء مختلفة ، وقد يكون التركيب مطابقا لما في نفس الأمر وقد لا يكون ، وهذه قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة وأضغاث أحلام ، وقد يعرض عليها الشيطان و [يشوشه] (٤) ويفزعه ، وهذا من تسويله وتحذيره. وفي بعض الروايات تعليم دعاء للفرار من ذلك المكروه (١)) (٢). انتهى كلامه. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) ليست في «ح».

__________________

١ ـ من المصدر ، وفي الأصل : بالاشتعال.

٢ ـ من المصدر ، وفي الأصل : كذلك.

٣ ـ من المصدر ، وفي الأصل : يوسوسه.

٤ ـ فلاح السائل : ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

٥ ـ شرح الكافي ١١ : ٤٤٣ ـ ٤٤٤.

٢٦١

أزوره فخرج وعلى يده زيد ، وهو يقول (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) (١) الحديث (٢).

فإن الرؤيا في هذين الموضعين من قسم الرؤيا المحتاجة إلى تأويل ، مع أنه لا يجوز أن يكون السبب فيها ما ذكره لوقوعها في الموضعين من المعصوم.

وبالجملة ، فما ذكره قدس‌سره وإن تم بالنسبة إلى بعض الناس إلّا إنه لا يمكن الحكم به كليا ، لما عرفت. وها نحن نسوق لك (٣) ما وقفنا عليه من الأدلة في المقام ، ونوضحه إيضاحا يرفع عنه غشاوة الإبهام ، فنقول : ممّا يدل على ذلك الآية الشريفة ، وهي قوله عزوجل (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٤) وهي ـ كما ترى ـ صريحة في خروج النفس من البدن حال النوم كخروجها حال الموت على التفصيل الآتي بيانه.

قال أمين الإسلام الطبرسي قدس‌سره (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، والتي تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز ، فهي التي تفارق النائم فلا يعقل.

والتي تتوفى عند الموت هي نفس الحياة التي إذ زالت زال معها النفس ، والنائم يتنفس. والفرق بين قبض النوم وقبض الموت بأن قبض النوم يضاد اليقظة ، وقبض الموت يضاد الحياة. وقبض النوم يكون الروح معه ، وقبض الموت تخرج الروح من البدن.

ونقل عن ابن عباس أن في بني آدم نفسا وروحا وبينهما شعاع كشعاع (٥)

__________________

(١) يوسف : ١٠٠.

(٢) الأمالي (الصدوق) : ٤١٥ / ٥٤٥.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : ذلك.

(٤) الزمر : ٤٢.

(٥) في «ح» : مثل شعاع ، بدل : شعاع كشعاع.

٢٦٢

الشمس. والنفس التي بها العقل والتمييز ، والروح التي بها النفس والتحريك ، فإذا نام قبض الله نفسه ولم يقبض روحه ، وإذا مات قبض الله نفسه وروحه.

أقول (١) : ويؤيده ما رواه العياشي بإسناده عن الحسن بن محبوب عن عمرو (٢) ابن ثابت أبي المقدام عن أبيه عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء ، وبقيت روحه في بدنه ، وصار بينهما سبب كشعاع الشمس ، فإذا أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس ، وإن أذن الله في رد الروح أجاب النفس الروح ، وهو قوله سبحانه (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) الآية. فمهما رأت في ملكوت السماوات فهو ممّا له تأويل ، وما رأت فيما بين السماء والأرض فهو ممّا يخيله الشيطان ولا تأويل له») (٣).

وروي في كتاب (المناقب) لابن شهر آشوب في حديث أن نصرانيّين سألا أمير المؤمنين عليه‌السلام عن مسائل كان من جملتها السؤال عن الرؤيا الصادقة والكاذبة فقال عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى خلق الروح وجعل لها سلطانا فسلطانها النفس ، فإذا نام العبد خرج الروح وبقي سلطانه ، فيمر به جيل من الملائكة وجيل من الجن ، فمهما كان من الرؤيا الصادقة فمن الملائكة ، ومهما كان من الرؤيا الكاذبة فمن الجن» (٤).

وروى في كتاب (جامع الأخبار) أنه سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه‌السلام : الرجل النائم هنا (٥) والمرأة النائمة يريان أنهما بمكة أو بمصر من الأمصار ، أرواحهما (٦) خارج من أبدانهما؟ قال : «لا يا أبا بصير ، [فإن الروح] إذا فارقت البدن لم تعد إليه غير أنها بمنزلة عين الشمس ، هي (٧) مركوزة في السماء في كبدها وشعاعها في الدنيا» (٨).

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) من «ح» والمصدر ، وفي «ع» : عمر.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٦٤٥.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٩٨.

(٥) ليست في المصدر.

(٦) في المصدر : أو روحهما.

(٧) ليست في المصدر.

(٨) جامع الأخبار : ٤٨٨ ـ ٤٨٩ / ١٣٦٠.

٢٦٣

وروى فيه عن أبي جعفر عليه‌السلام : «إنّ العباد إذا ناموا خرجت أرواحهم إلى سماء الدنيا ، فما رأت الروح في سماء الدنيا فهو الحق ، وما رأت في الهواء فهو الأضغاث» (١).

وروى فيه عن أبي الحسن عليه‌السلام أنه قال : «إنّ المرء إذا نام (٢) فإنّ روح الحيوان باقية في البدن والذي يخرج منه روح العقل» (٣) الحديث.

وروى الصدوق في كتاب (العلل) (٤) و (الخصال) (٥) بسنده عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام قال (٦) : «لا ينام الرجل (٧) وهو جنب ولا ينام إلّا على طهور ، فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد ، فإن روح المؤمن ترفع إلى الله تبارك وتعالى فيصلها (٨) ويبارك عليها ، فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز (٩) رحمته ، وإن لم يكن أجلها قد حضرت بعث بها مع امناء ملائكته فيردونها في جسده».

وروى في كتاب (المجالس) بسنده عن معاوية بن عمار عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ العباد إذا ناموا خرجت أرواحهم إلى السماء ، فما رأت الروح في السماء فهو الحق ، وما رأت في الهواء فهو الأضغاث ، إلّا وإن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ، فإذا كانت الروح في السماء تعارفت وتباغضت ، فإذا تعارفت في السماء تعارفت في الأرض ، وإذا تباغضت في السماء تباغضت في الأرض» (١٠).

__________________

(١) جامع الأخبار : ٤٨٩ / ١٣٦١.

(٢) في المصدر بدلها : خرجت روحه.

(٣) جامع الأخبار : ٤٨٩ / ١٣٦٢.

(٤) علل الشرائع ١ : ٣٤٣ / ب ٢٣٠ ، ح ١. وفيه : عن أبي بصير.

(٥) الخصال ٢ : ٦١٣ / ١٠ ، حديث أربعمائة ، وفيه عن محمد بن مسلم.

(٦) من «ح».

(٧) في المصدر : المسلم.

(٨) في علل الشرائع : فيلقاها ، وفي الخصال : فيقبلها.

(٩) في المصدر : مكنون.

(١٠) الأمالي : ٢٠٩ / ٢٣٢.

٢٦٤

وروى ثقة الإسلام في (الكافي) بسنده عن عمرو (١) بن أبي المقدام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «والله ما من عبد من شيعتنا ينام إلّا صعد الله بروحه إلى السماء فيبارك عليها ، فإن كان قد أتى عليها أجلها جعلها في كنوز رحمته ورياض جنته (٢) وفي ظل عرشه ، وإن كان أجلها متأخرا بعث بها مع أمنته من الملائكة ليردها إلى الجسد الذي خرجت منه لتسكن فيه» (٣) الحديث (٤).

وروى (٥) الصدوق رحمه‌الله في كتاب (المجالس) بسنده عن محمد بن القاسم النوفلي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : المؤمن يرى الرؤيا فتكون كما رآها (٦) ، وربما رأى الرؤيا فلا تكون شيئا؟ فقال : «إنّ المؤمن إذا نام خرجت من روحه حركة ممدودة صاعدة إلى السماء ، فكل ما رآه روح المؤمن في ملكوت السماء في موضع التقدير والتدبير فهو الحق ، وكل ما رآه في الأرض فهو أضغاث أحلام». فقلت له : وهل تصعد روح المؤمن إلى السماء؟ قال : «نعم». قلت : حتى لا يبقى شي‌ء في بدنه؟

فقال : «لا ، لو خرجت كلّها حتى لا يبقى [منها شي‌ء] (٧) إذن لمات». قلت : فكيف تخرج؟ فقال : «أما ترى الشمس في السماء في موضعها وضوؤها وشعاعها في الأرض؟ فكذلك (٨) الروح أصلها في البدن وحركتها ممدودة» (٩).

__________________

(١) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : عمر.

(٢) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : رحمته.

(٣) الكافي ٨ : ١٨١ / ٢٥٩.

(٤) وفي الحديث : «الأرواح جنود مجندة» ، أقول : معناه الإخبار عن مبدأ كون الأرواح ، وتقدمها الأجساد ، أي أنها خلقت أوّل خلقها من ائتلاف واختلاف كالجنود المجموعة إذا تقابلت وتواجهت. ومعنى تقابل الأرواح : ما جبلها الله عليه من السعادة والشقاوة ، والاختلاف في مبدأ الخلق : أن الأجساد التي فيها الأرواح تبقى في الدنيا فتأتلف وتختلف على حسب ما خلقت عليه ، ولهذا ترى الخيّر يحب الخيار ويميل إليهم والشرير يحب الأشرار ويميل اليهم. (٢) ، (هامش «ح»).

(٥) من «ح» ، وفي «ق» : ورواه.

(٦) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : يراها.

(٧) من المصدر ، وفي النسختين : منه.

(٨) في «ح» : وكذلك.

(٩) الأمالي : ٢٠٩ / ٢٣١.

٢٦٥

وروى الصدوق في (المجالس) بسنده عن الحسن بن راشد عن أبي عبد الله عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام قال : «قال لي (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ وساق الحديث إلى أن قال ـ : «يا علي ، إن أرواح شيعتك لتصعد إلى السماء في رقادهم ووفاتهم ، فتنظر الملائكة إليها كما ينظر الناس إلى الهلال ؛ شوقا إليهم ، ولما يرون من منزلتهم عند الله عزوجل» (٢) الحديث.

وروى في (المجالس) أيضا بسنده عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده (٣) علي عليه‌السلام قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الرجل ينام فيرى الرؤيا ، فربما كانت حقا وربما كانت باطلا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي ، ما من عبد ينام إلّا عرج بروحه إلى رب العالمين ، فما رأى عند رب العالمين فهو حق ثم [إذا] أمر الله العزيز الجبار برد روحه إلى جسده ، فصارت الروح بين السماء والأرض فما رأته فهو أضغاث أحلام» (٤).

وروى فيه (٥) أيضا بإسناده (٦) عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «إنّ لإبليس شيطانا يقال له هزع يملأ المشرق والمغرب في كل ليلة يأتي الناس في المنام» (٧).

وروى البرقي في (المحاسن) بسنده عن جميل بن درّاج قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ المؤمنين إذا أخذوا مضاجعهم صعد الله بأرواحهم إليه ، فمن (٨) قضى عليه الموت (٩) جعله في رياض الجنة بنور رحمته ونور عزته ، وإن لم يقدّر (١٠) عليه الموت

__________________

(١) من «ح» والمصدر.

(٢) الأمالي : ٦٥٧ ـ ٦٥٨ / ٨٩١.

(٣) في النسختين بعدها : عن.

(٤) الأمالي ٢٠٩ ـ ٢١٠ / ٢٣٣.

(٥) ليست في «ح».

(٦) من «ح» ، وفي «ق» : اسناده.

(٧) الأمالي : ٢١٠ / ٢٣٤.

(٨) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : فمنهم من.

(٩) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : بالموت.

(١٠) في «ح» : يقدم.

٢٦٦

بعث بها مع امنائه من الملائكة إلى الأبدان التي هي فيها» (١).

أقول : فهذه جملة من الأخبار ـ كما ترى ـ ظاهرة الدلالة متعاضدة المقالة في أن الروح حال النوم تخرج من البدن وتفارقه على الوجه (٢) المذكور فيها ، وأن الرؤيا صادقها وكاذبها عبارة عما تراه بعد خروجها من البدن. وفيها كما ترى أوضح رد على أقول المتكلّمين ومن قدمنا كلامه في المقام (٣) ، لكن يبقى الكلام فيها في مواضع :

الأول : أن المستفاد من جملة من الأخبار أن الرؤيا تقع على وجوه ؛ منها ما يكون على جهة البشرى للمؤمن من الله عزوجل.

ومنها ما يكون على جهة التخويف له والإنذار من المعاصي ليرجع إلى الله سبحانه ويتوب إليه.

ومنها ما يكون تحزينا من الشيطان.

ومنها ما يكون ناشئا عما يحدّث المرء به نفسه في اليقظة فيراه في منامه بصورته أو بما يشبهه (٤) ؛ ففي كتاب (النصرة (٥)) لعلي بن بابويه بسنده عن موسى ابن إسماعيل بن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الرؤيا على ثلاثة (٦) : بشرى من الله ، وتحزين من الشيطان ، والذي يحدث به الإنسان نفسه فيراه في منامه» (٧) الحديث.

وروى في (الكافي) بسنده عن سعد بن أبي خلف عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

__________________

(١) المحاسن ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٥٦٠.

(٢) في «ح» : وجه.

(٣) في «ح» : المنام.

(٤) في «ح» بعدها : ويدل عليه.

(٥) كذا في النسختين ، وما في البحار : (التبصرة) ، ولم يشر إليه في الذريعة ، والذي له كتاب الإمامة والتبصرة من الحيرة ، غير أن ابن النديم ذكر أن له أكثر من (٢٠٠) كتاب كما نقله عن خط ولده محمد الصدوق ، انظر الفهرست : ٢٤٦.

(٦) على ثلاثة من «ح» والمصدر.

(٧) عنه في بحار الأنوار ٥٨ : ١٩١ / ٥٨.

٢٦٧

«الرؤيا على ثلاثة : بشارة من الله للمؤمن ، وتحذير من الشيطان ، وأضغاث أحلام» (١).

قال بعض مشايخنا المحدّثين (٢) : الظاهر أن لفظ «تحذير» في هذا الخبر إنما هو تصحيف تحزين ، كما هو في الخبر الأول ليوافق الآية وهي قوله تعالى (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٣).

وقال المحقق (٤) المازندراني في شرح الخبر من كتاب اصول (الكافي) : (إنما نسب الاولى إلى الله تعالى) ـ إلى أن قال ـ : (والرؤيا التي منه تعالى غير منحصرة في البشارة ؛ إذ قد تكون إنذارا منه ، لاعتنائه بعبده لئلا يأتي ما قدر عليه أو يتوب ويرجع عما فعله من المعاصي ، ويكون منه على حذر ، كما يقع ذلك في كثير من الصالحين. ونسب الثاني إلى الشيطان ؛ لأنها نشأت من تشويشاته وتدليساته تحذيرا من شي‌ء أو ترغيبا فيه ، ليشغل بال الرائي ويدخل الضرر والهم فيه) (٥) انتهى.

أقول : والأظهر عندي أن لفظ «تحذير» في الخبر واقع في محله لا تصحيف فيه ، وأنه ليس المراد منه : ما ذكره المحقق الشارح المشار إليه حتى يتم استدركه على عبارة الخبر المذكور بقوله : (والرؤيا التي منه تعالى غير منحصرة) إلى آخره ، بل المراد بالتحذير في الخبر إنما هو هذا المعنى الذي استدركه. وحينئذ ، فلفظ المصدر إنما اضيف إلى المفعول لا الفاعل كما ظنه قدس‌سره.

غاية الأمر أن المعنى الذي ذكره ـ وهو الذي اشير إليه في الخبر الأول بالتحذير (٦) من الشيطان ـ غير مذكور في الخبر ، ولعله ادرج في أضغاث الأحلام كما سيأتي بيانه. ويدل على هذا الفرد الذي ذكرناه ما رواه في كتاب

__________________

(١) الكافي ٨ : ٧٦ / ٦١.

(٢) بحار الأنوار ٥٨ : ١٨١ / ٣٢ ، بالمعنى.

(٣) المجادلة : ١٠.

(٤) في «ح» بعدها : الشارح.

(٥) شرح الكافي ١١ : ٤٤٧.

(٦) من «ح» وفي «ق» : بالتحزين.

٢٦٨

(الاختصاص) قال : قال الصادق عليه‌السلام : «إذا كان العبد على معصية الله عزوجل وأراد الله به خيرا ، أراه في منامه رؤيا تروّعه ، فينزجر بها عن تلك المعصية» (١).

وما رواه في كتاب (المحاسن) عن صفوان عن داود عن أخيه عبد الله قال : بعثني إنسان إلى أبي عبد الله عليه‌السلام زعم أنه يفزع في منامه من امرأة تأتيه ، قال : فصحت حتى سمع الجيران. قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «اذهب فقل : إنك لا تؤدّي الزكاة».

قال : بلى ، والله إني لأؤدّيها. قال عليه‌السلام : «قل له : إن كنت تؤدّيها لا تؤديها إلى أهلها» (٢).

ومثل هذا الخبر ورد في حق شهاب بن عبد ربه (١).

وأنت خبير بأن ما اشتملت عليه الأخبار المتقدمة من تقسيم الرؤيا إلى صادقة وكاذبة ، وأن الاولى هي ما تراه بعد الصعود إلى السماء ، والثانية ما تراه في الهواء لا ينافي هذه الأخبار ، بل يحقّقها ؛ لأن ما يكون من الله سبحانه على جهة البشارة أو الإنذار والتخويف هي الرؤيا الصادقة التي تراها في السماء ، وما عداها فهو من الرؤيا الكاذبة التي تراها في الهواء.

وحينئذ ، فما عبّر به في بعض الأخبار المتقدمة عما يراه في الهواء بأنه من

__________________

(١) وهو ما رواه في (الكافي) (١) وتهذيب الأحكام (٢) بسندهما إلى الوليد بن صبيح قال : قال لي شهاب بن عبد ربّه : أقرئ أبا عبد الله عليه‌السلام عني السّلام ، وأعلمه أنه يصيبني فزع في منامي.

قال : فقلت له : إن شهابا يقرئك السّلام ويقول لك : إنه يصيبني فزع في منامي. قال : «قل له فليزكّ ماله». قال فأبلغت شهابا ذلك فقال لي : فتبلغه عني؟ فقلت : نعم. فقال : قل له : إن الصبيان فضلا عن الرجال ليعلمون أني ازكّي. فابلغته فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «قل له : إنك تخرجها ولا تضعها مواضعها».

١ ـ الاختصاص (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٢ : ٢٤١.

٢ ـ المحاسن ١ : ١٦٨ / ٢٥١.

__________________

١ ـ الكافي ٣ : ٥٤٦ / ٤ ، باب الزكاة لا تعطى غير أهل الولاية.

٢ ـ تهذيب الأحكام ٤ : ٥٢ / ١٣٦.

٢٦٩

الأضغاث شامل لما يحصل على جهة التحزين من الشيطان ولما يحدث المرء به نفسه.

ولا يخفى أن ما اشتملت عليه هذه الأخبار من أقسام الرؤيا لا يدل على الانحصار ، لأنه كثيرا ما يرى الإنسان الرؤيا على غير هذه الوجوه فيقع أثرها وتكون صادقة ، أو لا يقع فتكون كاذبة.

هذا وقد تقدم في كلام شيخنا المفيد قدس‌سره أن بعض أقسام الرؤيا ما يكون ناشئا عن غلبة الطباع بعضها على بعض. ولم أقف له على مستند من الأخبار ، إلّا إن جملة من العلماء قد صرحوا به.

قال بعض فضلائنا المحققين نقلا عن بعض المعبّرين للرؤيا أنه قال : (الرؤيا ثمانية ؛ سبعة لا تعبّر ، ومن السبعة أربعة نشأت من الخلط الغالب على مزاج الرائي : فمن غلب على مزاجه الصفراء رأى الألوان الصفر والطعوم المرة والسموم والصواعق ؛ لأن الصفراء مسخنة مرة.

ومن غلب عليه الدم رأى الألوان الحمر والطعوم الحلوة وأنواع الطرب ؛ لأن الدم مفرح حلو.

ومن غلب عليه البلغم رأى الألوان البيض والمياه والأمطار والثلج.

ومن غلب عليه السواد رأى الألوان السود والأشياء المحرقة والطعوم الحامضة ؛ لأنه طعام السوداء. ويعرف ذلك بالأدلة الطبية الدالة على غلبة ذلك الخلط على الرائي.

والخامس (١) : ما كان عن حديث النفس ، ويعرف ذلك بجولانه في اليقظة ،

__________________

(١) من أنواع المنامات الثمانية.

٢٧٠

فيستولي على النفس فيتكلف به ، فيراه في النوم.

والسادس : ما هو من الشيطان ، ويعرف ذلك بكونه فيه حض على أمر تنكره الشريعة ، أو يأمره بجائز يؤول إلى منكر ، كأمره بالحج مثلا ، ويؤدّي إلى تضييع ماله أو عياله أو نفسه.

والسابع : ما كان فيه احتلام.

والثامن : هو الذي يجوز تعبيره ، وهو ما خرج عن هذه السبعة ، و (١) هو ما ينقله ملك الرؤيا من اللوح المحفوظ من أمر الدنيا والآخرة من كل خير وشر ، فإن الله تعالى وكّل ملكا باللوح المحفوظ ينقل لكل واحد من اللوح ما يبيّن ذلك ، علمه من علمه وجهله من جهله) (٢) انتهى.

الثاني : أن ما دل عليه حديث أبي المقداد (٣) المروي من (تفسير العياشي) من خروج النفس حالة النوم وبقاء الروح في البدن ، وكذا حديث ابن عباس وأمثالهما يتوقف بيانه على بيان هذين الفردين المذكورين.

وتحقيق ذلك ما ذكره الإمام الغزالي في كتاب (الأربعين) حيث قال : (الروح هي نفسك وحقيقتك ، وهي أخفى الأشياء عليك .. وأعني بـ (نفسك) : روحك التي [هي] خاصة (٤) الإنسان المضافة إلى الله بقوله (٥) (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٦) ، وقوله (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (٧) دون الروح الجسماني اللطيف الذي هو حامل قوة الحس والحركة التي تنبعث من القلب ، وتنتشر (٨) في جملة البدن

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) شرح الكافي (المازندراني) ١١ : ٤٤٧ ـ ٤٤٨.

(٣) في «ح» : المقدام.

(٤) في الأربعين : خاصية.

(٥) في الأربعين : في قوله ، بدل : بقوله.

(٦) الإسراء : ٨٥.

(٧) الحجر : ٢٩ ، ص : ٧٢.

(٨) في «ح» : تنشر.

٢٧١

في تجويف العروق الضوارب ، فيفيض منها نور حس البصر على العين ، ونور السمع على الأذن ، وكذلك سائر القوى والحركات والحواس ، كما يفيض من السراج نور على حيطان البيت إذا ادير في جوانبه.

فإن هذه الروح تتشارك البهائم فيها ، وتنمحق بالموت ؛ لأنه بخار اعتدل نضجه عند اعتدال مزاج الأخلاط ، فإذا انحلّ المزاج بطل كما يبطل النور الفائض من السراج عند انطفاء السراج بانقطاع الدهن عنه أو بالنفخ فيه ، وانقطاع الغذاء عن الحيوان يفسد هذه الروح ؛ لأن الغذاء له كالدهن للسراج ، والقتل له كالنفخ في السراج.

وهذه الروح هي التي يتصرّف في تقويمها وتغذيتها علم الطب. ولا تحمل هذه الروح المعرفة والأمانة ، بل الحامل للأمانة الروح الخاصة للإنسان. ونعني بـ (الأمانة) : تقلد عهدة التكليف بأن يتعرّض لخطر الثواب والعقاب) (١) انتهى.

غاية الأمر أنه عليه‌السلام في هذا الخبر سمى الخارجة نفسا ، والباقية روحا ، ولكن في خبر (المناقب) (٢) قد عكس فسمى الخارجة روحا ، والباقية نفسا.

وفي الخبر المروي عن أبي الحسن عليه‌السلام من كتاب (جامع الأخبار) ، قد أطلق على كل من الخارجة والباقية : الروح ، ولا منافاة.

بقي الكلام في الجمع بين هذه الأخبار وبين باقي الأخبار الدالة على أنها روح واحدة أصلها في البدن ، كرواية (٣) محمد بن القاسم النوفلي (٤) ، ورواية أبي بصير (٥) المنقولة في كتاب (جامع الأخبار) ، حيث دلتا على أنها روح واحدة أصلها في البدن كالشمس المركوزة في الفلك وضياؤها وشعاعها في أقطار

__________________

(١) الأربعين في اصول الدين : ١٦٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٩٨.

(٣) في «ح» : كروايات.

(٤) انظر جامع الأخبار : ٤٩٨ / ١٣٦٧.

(٥) انظر جامع الأخبار : ٤٨٨ ـ ٤٨٩ / ١٣٦٠.

٢٧٢

الأرض ، وهو ظاهر إطلاق جملة من أخبار (١) الباب.

ولعل اعتبار الاتحاد مبني على زيادة العلاقة وشدة الاتّصال ، وإن كانت الروح الباقية في البدن مركبا للخارجة وقت النوم ، وهي سلطانها المشار إليه في رواية (المناقب) بمعنى ما به تسلّطها واقتدارها على ما تريده ، فهي بمنزلة أصلها الباقي في البدن وقت النوم ، وتلك الخارجة كالشعاع الخارج من جرم الشمس. وهذا هو الأنسب ممّا نقلناه عن الإمام الغزالي.

أو نقول : إن الروح واحدة ، إلّا إن لها قوتين :

إحداهما : ما [بها] الحركة والتنفس ، وهذه هي الباقية في البدن حال النوم.

والثانية : ما [بها] (٢) العقل (٣) والتمييز ، وهي الخارجة في تلك الحال ، والله العالم.

الثالث : ظاهر الآية المتقدمة وأكثر الأخبار ، أن جميع الأرواح وقت النوم مؤمنها وكافرها ترفع إلى السماء ، ويحصل لها الاطلاع على الوجه المتقدم.

إلّا إن أرواح الشيعة والمؤمنين هي المخصوصة بالقرب والبشرى من رب العالمين ، كما صرّح به في حديث أبي بصير (٤) ، ومحمد بن مسلم (٥) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وحديث عمرو بن أبي المقدام المروي في (الكافي) (٦) ، وحديث الحسن بن راشد (٧). ويؤيده ما ورد في عدة أخبار في تفسير قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (٨) ، حيث قالوا عليهم‌السلام : «أما البشرى في الحياة الدنيا فهي الرؤيا الحسنة يراها المؤمن فيبشّر بها في الدنيا ،

__________________

(١) انظر بحار الأنوار ٥٨ : ١٥٨ ـ ١٩٣.

(٢) في النسختين : به.

(٣) في «ح» : العقد.

(٤) علل الشرائع ١ : ٣٤٣ / ب ٢٣٠ ، ح ١.

(٥) الخصال ٢ : ٦١٣ / ١٠ ، حديث أربعمائة.

(٦) الكافي ٨ : ١٨١ / ٢٥٩.

(٧) الأمالي (الصدوق) : ٦٥٧ / ٨٩١.

(٨) يونس : ٦٣ ـ ٦٤.

٢٧٣

وأما قوله (فِي الْآخِرَةِ) فإنها بشارة المؤمن عند الموت يبشر بها عند موته ، أن الله قد غفر لك ولمن يحملك إلى قبرك» (١).

وعلى هذا فالرؤيا الصادقة كما تحصل للمؤمن تحصل للكافر أيضا ، كرؤيا ملك مصر التي حكاها الله سبحانه في كتابه (سَبْعَ بَقَراتٍ) و (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ) (٢) ، ورؤيا الفتيين في السجن (٣) ، إلّا إنها في غير المؤمن على جهة الندرة ، لما دلّ عليه بعض الأخبار من اشتراط الصلاح والتقوى في صحة الرؤيا ، ففي كتاب (جامع الأخبار) قال : وفي كتاب (التعبير) عن الأئمّة عليهم‌السلام : «إنّ رؤيا المؤمن صحيحة ؛ لأن نفسه طيبة ويقينه صحيح ، وتخرج [روحه] فتتلقى من الملائكة ، فهي وحي من الله العزيز الجبار» (٤).

وقال عليه‌السلام : «انقطع الوحي وبقي المبشرات ، ألا وهي نوم الصالحين والصالحات» الحديث (٥).

وقد تقدم في الخبر المذكور وكذا في غيره من : «إن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة» (٦) ورؤيا غير المؤمن لا تكون كذلك كما سيأتي بيانه في المقام [الرابع] إن شاء الله تعالى.

المقام الثاني : في معنى رؤيتهم عليهم‌السلام

قال شيخنا المفيد ـ عطر الله مرقده ـ في تتمة الكلام المنقول عنه آنفا : (أمّا رؤية الإنسان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو لأحد من الأئمّة عليهم‌السلام في المنام ، فإن ذلك عندي على ثلاثة أقسام : قسم أقطع على صحته ، وقسم أقطع على بطلانه ، وقسم أجوّز فيه الصحة والبطلان :

__________________

(١) البرهان ٢ : ١٩٠ / ٤.

(٢) يوسف : ٤٣.

(٣) إشارة إلى الآية : ٣٦ ، من سورة يوسف.

(٤) جامع الأخبار : ٤٩٠ / ١٣٦٤.

(٥) جامع الأخبار : ٤٩٠ / ١٣٦٥.

(٦) جامع الأخبار ٤٩٠ ـ ٤٩١ / ١٣٦٦.

٢٧٤

فأما الذي أقطع على صحته (١) فهو كل منام رؤي فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد الأئمّة عليهم‌السلام ، وهو فاعل لطاعة أو آمر بها ، وناه عن معصية أو مبيّن لقبحها ، وقائل بالحق أو داع إليه ، وزاجر عن باطل أو ذامّ لمن هو عليه.

وأما الذي أقطع على بطلانه ، فهو كل ما كان بضد ذلك ؛ لعلمنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام صاحبا حقّ ، وصاحب الحقّ بعيد عن الباطل.

وأما الذي يجوز منه الصحة والبطلان ، فهو المنام الذي يرى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام وليس هو آمرا ولا ناهيا ولا على حال يختصّ بالديانات ، مثل أن يراه راكبا أو ماشيا أو جالسا ، أو نحو ذلك.

فأمّا الخبر الذي روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «من رآني ، فإن الشيطان لا يتشبّه بي» ، فإنه إذا كان المراد به المنام يحمل على التخصيص دون أن يكون في كل حال ، ويكون المراد به القسم الأول من الثلاثة الأقسام ؛ لأن الشيطان لا يتشبه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في شي‌ء من الحقّ والطاعات.

وأما ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «من رآني نائما فكأنما رآني يقظان» فإنه يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون المراد به رؤية المنام ، فيكون (٢) خاصا كالخبر الأول على القسم الذي قدمناه.

والثاني : أن يكون أراد به رؤية اليقظة دون المنام ، ويكون قوله : «نائما» حالا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليست حالا لمن رآه ، فكأنّه قال : من رآني وأنا نائم فكأنما رآني وأنا منتبه.

__________________

(١) وقسم أقطع على بطلانه .. أقطع على صحته ، سقط في «ح».

(٢) في «ح» : ويكون.

٢٧٥

والفائدة في هذا المقال أن يعلمهم بأنه يدرك في الحالين إدراكا واحدا ، فيمنعهم ذلك إذا حضروا عنده وهو نائم أن يفيضوا فيما لا يحسن أن يذكر بحضرته وهو منتبه. وقد روي عنه عليه‌السلام أنه غفا ثم قام يصلي من غير تجديد وضوء ، فسئل عن ذلك فقال : «إني لست كأحدكم تنام عيناي ولا ينام قلبي». وجميع هذه الروايات أخبار آحاد ، فإن سلمت فعلى هذا المنهاج.

وقد كان شيخي رحمه‌الله يقول : إذا جاز من بشر أن يدعي في اليقظة أنه إله كفرعون ومن جرى مجراه مع قلة حيلة البشر وزوال اللبس في اليقظة ، فما المانع من أن يدعي إبليس عند النائم بوسوسته له أنه نبي مع تمكن إبليس ممّا لا يتمكن منه البشر وكثرة اللبس المعترض في المنام؟! وممّا يوضح لك أن من المنامات التي يتخيل للإنسان أنه قد رأى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام [منها] ما هو حق و [منها] ما هو باطل ، أنك ترى الشيعي يقول : رأيت في المنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهو يأمرني بالاقتداء به دون غيره ، ويعلمني أنه خليفته من بعده ، وأن أبا بكر وعمر وعثمان هم ظالموه وأعداؤه ، وينهاني عن موالاتهم ، ويأمرني بالبراءة منهم ، ونحو ذلك مما يختص بمذهب الشيعة. ثم ترى الناصبي يقول رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في النوم ، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ، وهو يأمرني بمحبتهم وينهاني عن بغضهم ويعلمني أنهم أصحابه في الدنيا والآخرة ، وأنهم معه في الجنة ، ونحو ذلك ممّا يختص بمذهب الناصبة. فتعلم لا محالة أن أحد المنامين حق والآخر باطل.

فأولى الأشياء أن يكون الحق منهما ما ثبت بالدليل في اليقظة على صحة ما تضمّنه ، والباطل ما أوضحت الحجة عن فساده وبطلانه ، وليس يمكن الشيعي أن يقول للناصبي : إنك تكذب في قولك إنك رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنه يقدر أن يقول له مثل هذا بعينه.

٢٧٦

وقد شاهدنا ناصبيا تشيّع وأخبرنا في حال تشيعه أنه يرى منامات بالضدّ ممّا كان يراه في حال نصبه. فبان بذلك أن أحد المنامين باطل وأنه من نتيجة حديث النفس أو من وسوسة إبليس ، ونحو ذلك. وإن المنام الصحيح هو لطف من الله تعالى بعبده على المعنى المتقدم وصفه.

وقولنا في المنام الصحيح : إن الإنسان إذا رأى في نومه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما معناه : أنه كان قد رآه ، وليس المراد به التحقيق في اتّصال شعاع بصره بجسد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأيّ بصر يدرك به في حال نومه؟ وإنما هي معان تصوّرت في نفسه يخيل له فيها أمر لطف الله تعالى له به قام مقام العلم ، وليس هذا بمناف للخبر الذي روي من قوله : «من رآني فقد رآني ..» ؛ لأن معناه : فكأنما رآني) (١) انتهى كلامه زيد مقامه.

وقال السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه في تتمة ما قدمنا نقله عنه في المقام (٢) الأول : (فإن قيل : فما تأويل ما يروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتخيل بي» ، وقد علمنا أن المحق والمبطل والمؤمن والكافر قد يرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في النوم ويخبر كل واحد منهم عنه بضد ما يخبر الآخر؟ فكيف يكون رائيا له في الحقيقة مع هذا؟

قلنا : هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد ، ولا معوّل على مثل ذلك. على أنه يمكن مع تسليم صحته أن يكون المراد به : من رآني في اليقظة فقد رآني على الحقيقة ؛ لأن الشيطان لا يتمثل بي لليقظان ، فقد قيل : إن الشياطين ربما تمثلت بصور البشر. وهذا التشبيه أشبه بظاهر ألفاظ الخبر ؛ لأنه قال : «من رآني فقد رآني ..» ، فأثبت غيره رائيا له ، ونفسه مرئية ، وفي النوم لا رائي له في

__________________

(١) عنه في كنز الفوائد ٢ : ٦٤ ـ ٦٥.

(٢) ليست في «ح».

٢٧٧

الحقيقة ولا مرئي ، وإنما ذلك في اليقظة.

ولو حملناه على النوم لكان تقدير الكلام : من اعتقد أنه يراني في منامه ـ وإن كان غير راء له على الحقيقة ـ فهو في الحكم كأنه قد رآني ، وهذا عدول عن ظاهر لفظ (١) الخبر وتبديل (٢) لصيغته) (٣) انتهى.

أقول : أنت خبير بما في كلام هذين العمدتين قدس‌سرهما ، ولكنه مبنيّ على ما تقدم نقله عنها في المقام الأول من منع صحة الرؤية في المنام ، وسيأتيك إن شاء الله تعالى في المقام ما يظهر به ما فيه ، ويكشف عن باطنه وخافيه.

ثم إنه قد اختلف العلماء من الخاصة والعامة في أن المراد : رؤيتهم عليهم‌السلام في صورهم الأصلية ، أو بأي صورة كانت. وظاهر الأكثر من الطرفين هو الرؤية بأيّ صورة كانت. والأخبار الواردة في المقام محتملة للأمرين. وكيف كان فالكلام هنا يقع في موضعين :

أحدهما : في كون هذه الرؤية هل هي على سبيل الحقيقة ، بمعنى أن الرائي له صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام مثل الرائي له (٤) في اليقظة؟

ظاهر الأخبار ذلك ؛ لأن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من رآني فقد رآني ..» معناه في حال نومه فقد رآني حقيقة كما أنا عليه في اليقظة. قال في (النهاية) : (الحق ضد الباطل ، ومنه الحديث : «من رآني فقد رأى الحق ..» ، أي رؤيا صادقة ، ليست من أضغاث الأحلام. وقيل : فقد رآني حقيقة غير مشبّه) (٥) انتهى.

__________________

(١) في «ح» : لفظه.

(٢) ليست في «ح».

(٣) لم نعثر عليه في الغرر والدرر ، بل هو موجود بنصّه في رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثانية) : ١٢ ـ ١٣ ، ونقله عنه في الغرر والدرر المجلسي في مرآة العقول ٢٥ : ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٤) ليست في «ح».

(٥) النهاية في غريب الحديث والأثر ١ : ٤١٣ ـ حقق.

٢٧٨

وقد عرفت في كلام الشيخ المفيد من تأويله الخبر بقوله : (فكأنما رآني) ، وحمله الرؤية على تخيّل صورته في نفس الرائي.

وقال شيخنا المجلسي ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (البحار) بعد نقل جملة من كلمات العامة الدالة على حمل الرؤية على الحقيقة ما صورته : (والظاهر أنها ليست رؤية بالحقيقة ، وإنّما هو بحصول الصورة في الحس المشترك أو غيره بقدرة الله تعالى.

والغرض من هذه العبارة بيان حقيّة (١) الرؤيا ، وأنها من الله لا من الشيطان.

وهذا المعنى هو الشائع في مثل هذه العبارة ، كأن يقول رجل : من أراد أن يراني فلير فلان ، أو من رأى فلان فقد رآني ، أو من وصل فلان فقد وصلني. فإن كل هذه محمولة على التجوز والمبالغة ، ولم يرد بها معناها حقيقة) (٢) انتهى.

ولا يخفى بعده :

أما أولا ، فلما رواه في كتاب (كمال الدين) من أنه روى في الأخبار الصحيحة ، عن أئمّتنا عليهم‌السلام : أن من رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحدا من الأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ قد دخل مدينة أو قرية في منامه ، فإنه أمن لأهل المدينة أو القرية ممّا يخافون ويحذرون ، وبلوغ لما يأملون ويرجون. فإن ترتّب هذه الامور على مجرد وجود الصورة في الحس المشترك ونحوه بعيد غاية البعد.

وأمّا ثانيا ، فلما تقدم من أن الرؤيا الصادقة عبارة عما تراه الروح بعد خروجها من الجسد حال النوم وصعودها إلى الملكوت ، فكل ما رأته (٣) فهو حق. وهذا القائل قد اعترف بذلك في الكتاب المشار إليه ، فما المانع من أن تتّصل بأحد

__________________

(١) في «ح» : حقيقة.

(٢) بحار الأنوار ٥٨ : ٢٣٧.

(٣) في «ح» بعدها : ثمّة.

٢٧٩

منهم ـ صلوات الله عليهم ـ وهم في ذلك العالم بلا ريب؟

ولما (١) ورد في الأخبار من أنهم ـ صلوات الله عليهم ـ ينقلون بعد الدفن بأجسادهم الشريفة إلى السماء (٢) ، وأن الزائر إنما يزور مواضع قبورهم ، فهم أحياء في السماء منعّمون كما كانوا في الدنيا ، فأيّ مانع من اتّصال الروح بهم هناك حينئذ (٣)؟

وأما ثالثا ، فلا ريب أن الأخبار قد استفاضت بأنه ما من ميت يموت في شرق الأرض ولا غربها إلّا ويرى حال موته النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وليست هذه الرؤية بحاسة البصر ؛ لشمول ذلك للأعمى ، ومن تعطل بصره في تلك الحال ، بل الرؤية إنما هي بهذه الروح التي تصعد وقت النوم ، وهذه الرؤية حال النوم على حسب تلك الرؤية حال الموت. ولا أظن هذا القائل يلتزم التجوز في رؤيتهما ـ صلوات الله عليهما ـ حال الموت ، لاستفاضة الأخبار وصحّتها وصراحتها بكون الرؤية حقيقة.

غاية الأمر أن في المقام إشكالا مذكورا في محله من أنه كيف يمكن القول بحضورهم عليهم‌السلام على جهة الحقيقة مع جواز أن يموت في ساعة واحدة ألوف من الناس في أطراف الأرض من شرقها وغربها وشمالها وجنوبها؟

وهذا مجرد استبعاد عقلي ، فإنا لمّا قام لنا الدليل على ذلك ، وجب علينا القول به ، وبيان كيفية ذلك غير واجب علينا ، فإن ذواتهم المقدّسة عليها مسحة من الذات الإلهية التي تاهت في بيداء معرفتها العقول ، وضلّت في الوصول إلى حقيقتها ألباب الفحول ، ونورهم الذي خلقوا منه منشعب من نور ذاته السبحانية ،

__________________

(١) عطف على قوله : فلما تقدّم المارّ في أوّل الفقرة السابقة.

(٢) بصائر الدرجات : ٤٤٥ / ب ١٣ ، ح ٩ ، بحار الأنوار ٢٧ : ٢٩٩ / ٣.

(٣) ليست في «ح».

٢٨٠