الدّرر النجفيّة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢١

واختيار في المسألة فإنما يشار إليه في عنوان الأبواب ، أو ينقل بما يخصه من الأخبار كما لا يخفى على من لاحظ (الكافي) و (الفقيه) ، ونحوهما من كتب الصدوق وغيره ، وكذلك أيضا فتاويهم المحفوظة عنهم لا تخرج عن موارد الأخبار.

وحينئذ ، فنقل الشيخ والسيد قدس‌سرهما إجماع الطائفة على الحكم ، مع كون عمل الطائفة قبلهما إنما هو على ما ذكرنا من الأخبار ، وكونهما على أثر اولئك الجماعة الذين هذه طريقتهم من غير فاصلة إنما يريدون به الإجماع في الرواية.

ألا ترى أن الشيخ في (الخلاف) ، والمرتضى في (الانتصار) إنما استندا إلى مجرد الإجماع ، وجعلوه هو الدليل المعتمد والمعتبر (١) ، مع كون الأخبار بمرأى منهما ومنظر ، وليس ذلك إلّا لرجوعه إليها وكونه عبارة عن الإجماع فيها؟ وهذه أحد الوجوه التي اعتذر بها شيخنا الشهيد في (الذكرى) (٢) عن اختلافهم في تلك الإجماعات ، وهو أوجهها وأظهرها وإن جعله آخرها.

__________________

(١) في «ح» : المعتبر والمعتمد.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٥٠ ـ ٥١.

٣٨١
٣٨٢

(٤١)

درّة نجفيّة

في مشروعية الاصول الخارجة عن غير الأئمّة عليهم‌السلام

روى الجليل أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي في كتاب (الجامع) على ما نقله عنه ابن إدريس في مستطرفات (السرائر) عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّما علينا أن نلقي إليكم الاصول ، وعليكم أن تفرعوا» (١).

وروى عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ـ بواسطة ـ قال : «علينا إلقاء الاصول ، وعليكم التفريع» (٢).

أقول : لا يخفى ما في الخبرين المذكورين ـ من حيث تقديم الظرف المؤذن بحصر ذلك فيهم ـ من الدلالة على بطلان الاصول الخارجة من غيرهم ، بمعنى حصر إلقاء الاصول فيهم عليهم‌السلام ، فكأنه عليه‌السلام قال : تأصيل الاصول الشرعية للأحكام علينا لا عليكم ، وإنما (٣) عليكم التفريع عليها.

وحينئذ ؛ فكل أصل لا يوجد له مستند ولا دليل من كلامهم عليهم‌السلام فهو بمقتضى الخبرين المذكورين ممّا (٤) لا يجوز الاعتماد عليه ولا الركون إليه. ثم إنه ممّا ينبغي أن يعلم أن خروج تلك الاصول والقواعد عنهم عليهم‌السلام قد تكون بالقضايا

__________________

(١) السرائر (المستطرفات) ٣ : ٥٧٥.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) في «ح» : يعني ، بدل : بمعنى حصر إلقاء الاصول .. لا عليكم وإنما.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : فمن.

٣٨٣

المستورة بالكلية ، وقد تكون بتتبّع الجزئيات الواردة عنهم عليهم‌السلام في أحكام المسألة ، كما في القواعد النحوية المستنبطة من تتبع كلام العرب ، كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.

ولنورد هنا جملة ممّا جرى في الخاطر الفاتر من تلك الاصول ، ونذيل (١) ما يحتاج إلى البحث والتحقيق ممّا هو جدير به وحقيق. وإن سمحت الأقضية والأقدار بالتوفيق ، ونامت عيون الدهر الغدّار عن التعويق ابرز (٢) لهذه الاصول رسالة شافية [اودعها] (٣) أبحاثا بحقّها وافية ، فأقول وبه سبحانه الثقة والإعانة لإدراك كلّ مأمول : منها الحكم بطهارة كل ما لم يعلم نجاسته حتى تعلم النجاسة.

ويدل على ذلك قول الصادق عليه‌السلام في موثقة عمار : «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم أنه قذر ، فإذا علمت فقد قذر» (٤). وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما رواه في (الفقيه) : «لا ابالي أبول أصابني أم ماء إذا لم أعلم» (٥).

ويدل على ذلك أيضا أخبار عديدة في جزئيّات المسائل ، وأصل الحكم المذكور ممّا لا خلاف فيه ولا شبهة تعتريه ، وإنما الخلاف في مواضع :

أحدها : في عموم هذا الحكم للجهل بالحكم الشرعي وعدمه. وتوضيح ذلك أنه لا خلاف في العمل بهذا الحكم على عمومه بالنسبة إلى الجهل بملاقاة النجاسة ، وإن كان مع ظن الملاقاة بمعنى أنه لو شك أو ظن الملاقاة (٦) ، فالواجب البناء على أصالة الطهارة حتى تعلم النجاسة. وكذا لا خلاف في ذلك بالنسبة إلى الشكّ أو الظن بنجاسة شي‌ء له أفراد متعدّدة غير محصورة ، بعضها معلوم الطهارة

__________________

(١) في «ح» بعدها : منها.

(٢) في النسختين : أبرزت.

(٣) في النسختين : اودعتها.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٤ ، وفيه : نظيف ، بدل : طاهر.

(٥) الفقيه ١ : ٤٢ / ١٦٦ ، وفيه : ما ، بدل : لا.

(٦) بمعنى أنه لو شك أو ظن الملاقاة ، سقط في «ح».

٣٨٤

في حد ذاته ، وبعضها معلوم النجاسة كذلك ، وقد اشتبه بعضها ببعض ، كالبول الذي منه طاهر ومنه نجس ، والدم ونحوهما. والجهل هنا ليس في الحكم الشرعي ؛ إذ هو معلوم في تلك الأفراد في حد ذاتها ، وإنما الجهل في موضوعه ومتعلقه ، وهو ذلك الفرد المشكوك في اندراجه تحت أحد الطرفين.

أما بالنسبة إلى الجهل بالحكم الشرعي ، كالجهل بحكم نطفة الغنم ، هل هي نجسة أو طاهرة؟ فهل يحكم بطهارتها بالخبر المذكور ، أم لا؟ قولان : وبالثاني صرّح المحدّث الأمين الأسترآبادي في كتاب (الفوائد المدنية) (١) ، وبالأوّل صرّح جمع من متأخّري المتأخّرين (٢).

وأنت خبير بأن القدر المتيقن فهمه (٣) من الخبر المذكور هو (٤) ما وقع الاتفاق عليه ؛ إذا الظاهر ـ والله سبحانه وقائله أعلم ـ أن المراد من هذا الخبر وأمثاله إنّما هو دفع الوساوس الشيطانية والشكوك النفسانية بالنسبة إلى الجهل بملاقاة النجاسة ، وبيان سعة الحنفية السمحة السهلة بالنسبة إلى اشتباه بعض الأفراد الغير المحصورة ببعض ، فيحكم بطهارة الجميع حتى يعلم الفرد النجس بعينه. وأما إجراء ذلك في الجهل بالحكم الشرعي فلا يخلو من الإشكال المانع من الجرأة على الحكم به في هذا المجال.

وما ذكره بعض فضلاء متأخّري المتأخّرين من أن الجهل بوصول النجاسة يستلزم الجهل بالحكم الشرعي ، قال : (فإن المسلم إذا أعار ثوبه الذمي وهو

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٤٨ ، وفيه : أن بعضهم توهّم أن قولهم عليهم‌السلام : «كل شي‌ء طاهر ..» يعمّ صورة الجهل بحكم الله تعالى ، فإذا لم نعلم أن نطفة الغنم طاهرة أو نجسة نحكم بطهارتها. ومن المعلوم ان مرادهم عليهم‌السلام : كل صنف فيه طاهر وفيه نجس ..

(٢) انظر : الوافية في اصول الفقه : ٢١٥ ، الفوائد المدنيّة : ١٤٨.

(٣) في «ق» بعدها : هو ، وما أثبتناه وفق «ح».

(٤) في «ح» : وهو.

٣٨٥

يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، ثم ردّه عليه ، فهو جاهل بأن مثل هذا الثوب الذي هو مظنة النجاسة ، هل هو ممّا يجب التنزّه عنه في الصلاة وغيرها ممّا يشترط فيه الطهارة أو لا؟ فهو جاهل بالحكم الشرعي مع أنه عليه‌السلام قرر في الجواب قاعدة كلية ، بأنه ما لم تعلم النجاسة فهو طاهر) (١) ، مردود بأن الجهل بالحكم الشرعي في المثال المذكور ونحوه تابع للجهل بوصول النجاسة.

ولمّا دل الخبر المذكور وغيره على البناء على أصالة الطهارة وعدم الالتفات إلى احتمال ملاقاة النجاسة أو ظنها بإعارة الثوب مثلا علم منه قطعا جواز الصلاة فيه ؛ تحقيقا للتبعية. ومحلّ الإشكال والنزاع إنما هو الدلالة على الحكم الشرعي ابتداء ، كما لا يخفى.

الثاني : أن ظاهر هذا الخبر المذكور أنه لا تثبت النجاسة للأشياء ولا تتّصف بها إلّا بالنظر إلى علم المكلف ، لقوله عليه‌السلام : «فإذا علمت فقد قذر» ، بمعنى أنه ليس التنجيس عبارة عن (٢) مجرد ملاقاة عين النجاسة لشي‌ء واقعا بل ما كان كذلك وعلم به المكلّف ، وكذلك ثبوت النجاسة لشي‌ء (٣) ، إنّما هو عبارة عن حكم الشارع بأنه نجس وعلم المكلف بذلك.

وهو خلاف ما عليه جمهور أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ فإنهم حكموا بأن المتنجس إنما هو عبارة عمّا لاقته النجاسة واقعا وإن لم يعلم به المكلف ، وفرّعوا عليه بطلان صلاة المصلّي في النجاسة جاهلا وإن سقط الخطاب عنه ظاهرا ، كما نقله عنهم شيخنا الشهيد الثاني في (شرح الألفية). وأنت خبير بما فيه من العسر والحرج ، ومخالفة ظواهر الأخبار الواردة عن العترة الأبرار : أما أولا ، فلأن المعهود من الشارع عدم إناطة الأحكام بالواقع ونفس الأمر ؛

__________________

(١) الوافية في اصول الفقه : ٢١٥.

(٢) من «ح».

(٣) بل ما كان كذلك .. لشي‌ء ، سقط في «ح».

٣٨٦

لاستلزامه التكليف بما لا يطاق. وحينئذ ، فالمكلف إذا صلى في ثوب طاهر بحسب علمه ـ والطاهر شرعا إنّما هو ما لم يعلم المكلف بنجاسته لا ما علم بعدمها ـ فما الموجب لبطلان صلاته بعد امتثاله الأمر الذي هو مناط الصحة ومعيارها؟! وأما ثانيا ، فلما أورده شيخنا المشار إليه عليهم في الكتاب المذكور ، حيث قال ـ بعد نقل ذلك عنهم ـ : (ولا يخفى ما فيه من البلوى ، فإن ذلك يكاد يوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة ؛ لكثرة النجاسات في نفس الأمر وإن لم يحكم الشارع ظاهرا بفسادها. فعلى هذا لا يستحق عليها ثواب الصلاة وإن استحق أجر الذاكر المطيع بحركاته وسكناته إن لم يتفضل الله تعالى بجوده) (١) انتهى.

وأما ثالثا ، فلمخالفته ظواهر الأخبار ، ومنها الخبر المذكور ، ومنها رواية محمد ابن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي ، قال : «لا يؤذنه حتى ينصرف» (٢).

ورواية عبد الله بن بكير المرويّة في (قرب الإسناد) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلّى فيه وهو لا يصلّي فيه ، قال : «لا يعلمه». قلت : فإن أعلمه؟ قال : «يعيد» (٣).

وحينئذ ، فلو كان الأمر كما يدّعونه من كون وصف النجاسة إنما هو باعتبار الواقع ونفس الأمر ، وأن صلاة المصلي والحال كذلك باطلة واقعا ، فكيف يحسن

__________________

(١) المقاصد العليّة : ٢٩٢.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٦ / ٨ ، باب الرجل يصلّي في الثوب .. ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٨٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٤٧ ، ح ١.

(٣) قرب الاسناد : ١٦٩ / ٦٢٠ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٨٨ ، أبواب النجاسات ، ب ٤٧ ، ح ٣.

٣٨٧

من الإمام عليه‌السلام المنع من الإيذان والإخبار بالنجاسة في الصلاة كما في خبر محمد ابن مسلم ، أو قبلها كما في رواية ابن بكير؟ وهل هو ـ بناء على ما ذكروه ـ إلّا من قبيل التقرير له على تلك الصلاة الباطلة والمعاونة على الباطل ولا ريب في بطلانه؟

الثالث : أنّه لا خلاف في أنه مع الحكم بالطهارة (١) بأصالة الطهارة ، فإنه لا يجوز الخروج عنها إلّا ما يعلم بالنجاسة. لكن هذا العلم المذكور عبارة عن ما ذا؟

فهل هو (٢) عبارة عن القطع واليقين بملاقاة النجاسة ، أو عمّا هو أعم من اليقين والظن مطلقا فيشملهما معا ، أو عما هو أعم منها ، لكن بتقييد الظن بما استند إلى سبب شرعي؟ أقوال تقدم تحقيقها في الدرة الاولى (٣) من درر الكتاب.

ومنها حلية ما لم يعلم حرمته. ويدلّ عليه من الأخبار صحيحة عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كل شي‌ء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» (٤).

وصحيحة ضريس قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن السمن والجبن في أرض المشركين والروم ، أنأكله؟ فقال : «ما علمت أنه خلطه (٥) الحرام فلا تأكل ، وما لم تعلم فكله حتى تعلم أنه حرام» (٦).

وموثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون (٧) عليك قد

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) سقط في «ح».

(٣) انظر الدرر ١ : ٦٣ ـ ٧٥.

(٤) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٧ ـ ١١٨ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١ ، ح ١.

(٥) في «ح» : خلط.

(٦) تهذيب الأحكام ٩ : ٧٩ / ٣٣٦ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ٤ ، ح ١.

(٧) من المصدر ، وفي النسختين : فيكون.

٣٨٨

اشتريته وهو سرقة ، ومملوك عندك وهو حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك. والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» (١).

ورواية عبد الله بن سليمان قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقال : «سألتني عن طعام يعجبني». إلى أن قال : قلت (٢) : ما تقول في الجبن؟ فقال : «سأخبرك عن الجبن وغيره ، كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» (٣).

إلى غير ذلك من الأخبار.

وظاهر هذه الأخبار بل صريح جملة منها اختصاص الحكم المذكور بما فيه أفراد بعضها معلوم الحل وبعضها معلوم الحرمة ، ولم يميز الشارع بينها بعلامة ، واشتبه بعضها ببعض مع كونها غير محصورة ، فالجميع حلال حتى تعرف الحرام بعينه على الخصوص. فمورد الحكم حينئذ ، هو موضوع الحكم الشرعي دون الحكم الشرعي نفسه (٤) ، وبهذا التخصيص جزم المحدّث الأمين الأسترابادي قدس‌سره (٥).

وظاهر جمع ممن قدمنا نقل الخلاف عنهم في الموضع الأوّل في القاعدة المتقدمة إجراء ذلك في نفس الحكم الشرعي ، ومقتضى ذلك أنه لو وجد حيوان مجهول مغاير للأنواع المعلوم حلّها وحرمتها من الحيوانات ، فإنه يحكم بحله ، بناء على عموم القاعدة المذكورة ، وكذا يحكم بطهارته ، بناء على عموم القاعدة المتقدمة.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

(٢) سقط في «ح».

(٣) المحاسن ٢ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ / ١٩٧٥.

(٤) من «ح».

(٥) الفوائد المدنيّة : ١٤٨.

٣٨٩

إلّا إن شيخنا الشهيد الثاني في (تمهيد القواعد) صرّح في مثل ذلك بالطهارة والتحريم ، محتجّا بالأصل فيهما قال : (أمّا أصالة الطهارة فظاهر ؛ وأما أصالة التحريم ، فلأن المحرم غير منحصر لكثرته على وجه لا ينضبط) (١) وفيه مالا يخفى.

وأنت خبير بأن مقتضى (٢) العمل بأخبار التثليث ـ التي تقدمت الإشارة إليها في درّة البراءة الأصلية ـ التوقف في مثل ذلك ؛ إذ شمول هذه الأخبار التي ذكرناها لمثل ذلك ممّا يكاد يقطع بعدمه ، فإنها متشاركة الدلالة ـ تصريحا في بعض وتلويحا في آخر ـ في أن موردها إنما هو موضوع الحكم الشرعي ، والأفراد المعلومة الحكم مع اشتباه بعضها ببعض. والله ورسوله وأولياؤه عليهم‌السلام أعلم بحقائق الأحكام.

ومنها عدم نقض اليقين بالشكّ. والأخبار الدالة على هذه القاعدة الشريفة مستفيضة ، ومنها صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : «يا زرارة ، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء». قلت : فإن حرك إلى جنبه شي‌ء وهو لا يعلم به؟ قال : «لا ، حتى يستيقن أنه قد نام حتى تجي‌ء من ذلك أمر بين ، وإلّا فهو على يقين من وضوئه ، ولا ينقض الوضوء أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقين آخر» (٣).

ومثلها صحيحة اخرى له (٤) أيضا ، وصحيحة ثالثة له أيضا عن أحدهما عليهما‌السلام

__________________

(١) لم نعثر عليه بنصّه ، انظر تمهيد القواعد : ٢٧٠.

(٢) من «ح».

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٨ / ١١ ، وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ١٠٠ / ٢٦١ ، وسائل الشيعة ١ : ٤٦٩ ، أبواب الوضوء ، ب ٤٢ ، ح ١.

٣٩٠

قال : قلت له : من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين ، وقد أحرز الثنتين؟ قال : «يركع ركعتين».

إلى أن قال عليه‌السلام : «ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن ينقض الشكّ باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» (١).

والمراد بالشكّ هنا : ما هو أعم من الظن بحسنة الحلبي من (٢) أنه «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه ، وإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء» (٣). والنضح هنا للاستحباب بلا خلاف.

وقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة ـ لما قال له : قلت : فإن ظننت أنه أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ، ثم صليت فرأيته فيه بعد الصلاة؟ قال ـ : «تغسله ولا تعيد». قال : قلت : ولم ذاك؟ قال : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا» (٤).

وأنت خبير بأن العمل بهذه القاعدة الشريفة بالنسبة إلى الشكّ في حصول الرافع وعدمه ممّا لا خلاف فيه ولا إشكال يعتريه ، إنما الخلاف في شمولها للشك في فرديّة بعض الأشياء لذلك الرافع ، كما لو حصل الشكّ في فردية الخارج من غير الموضع الطبيعي للناقص. بمعنى أنه هل يكون من جملة النواقض أم لا؟ فهل يدخل تحت هذه القاعدة أم لا؟ ومرجعه إلى جريانها في نفس أحكامه تعالى ، أو اختصاصها بموضوعاته ، خاصة الذي اختاره المحدّث الأمين الأسترابادي قدس‌سره.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٥١ / ٣ ، باب السهو في الثلاث والأربع ، وسائل الشيعة ٨ : ٢١٦ ـ ٢١٧ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١٠ ، ح ٣.

(٢) ليست في «ح».

(٣) الكافي ٣ : ٥٤ / ٤ ، باب المنيّ والمذي يصيبان الثوب والجسد ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٢٤ ، أبواب النجاسات ، ب ١٦ ، ح ٤.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٤٢١ / ١٣٣٥ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٧٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٤١ ، ح ١.

٣٩١

الثاني : وإليه يميل كلام الفاضل المحقق الملّا محمد باقر الخراساني في كتاب (شرح الإرشاد) المسمى (بالذخيرة) ، حيث قال في بحث الماء المضاف ـ بعد إيراد صحيحة زرارة المتقدمة الواردة في النوم ما صورته ـ : (الشك في رفع اليقين على أقسام :

الأول : إذا ثبت [أن] الشي‌ء الفلاني رافع لحكم لكن وقع الشكّ في وجود الرافع.

والثاني : أن الشي‌ء الفلاني رافع للحكم لكن معناه مجمل ، فوقع الشكّ في كون بعض الأشياء هل هو (١) فرد له أم لا.

الثالث : أن معناه معلوم ليس بمجمل لكن وقع الشكّ في اتّصاف بعض الأشياء به ، وكونه فردا له لعارض كتوقّفه على اعتبار معتذر أو غير ذلك.

الرابع : وقع الشكّ في كون الشي‌ء الفلاني هل هو رافع للحكم المذكور أم لا؟

والخبر المذكور إنما يدل على النهي عن النقض بالشكّ ، وإنما يعقل ذلك في الصورة الاولى من تلك الصور الأربع دون غيرها من الصور ؛ لأن في غيرها من الصور لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي شكّ في كونه رافعا لم يكن النقض بالشكّ ، بل إنما حصل النقض بوجود ما يشكّ في كونه رافعا أو باليقين بوجود ما يشك في استمرار الحكم معه لا بالشكّ ، فإن الشكّ في تلك الصور كان حاصلا من قبل ولم يكن بسببه نقض ، وإنما حصل النقض حين اليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا للحكم بسببه ، فإن الشكّ في تلك الصور كان حاصلا من قبل ولم يكن بسببه نقض ، وإنما حصل النقيض حين اليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا للحكم بسببه ؛ لأن الشي‌ء إنما يستند إلى العلّة التامة أو الجزء الأخير منها ، فلا يكون في تلك الصور نقض للحكم اليقيني بالشكّ ، وإنما يكون ذلك في

__________________

(١) كذا في المصدر ، والصحيح : هي.

٣٩٢

صورة خاصة غيرها فلا عموم في الخبر.

وممّا (١) يؤيد ذلك أن السابق على هذا الكلام في الرواية ، والذي جعل هذا الكلام دليلا عليه من قبيل الصورة الاولى ، فيمكن حمل المفرد المعرف باللام عليه ؛ إذ لا عموم له بحسب الموضع ، بل هو موضوع للعهد ، كما صرّح به بعض المحققين من علماء العربية ، وإنما دلالته على العموم ، بسبب أن الإجمال في مثل هذا الموضع ينافي الحكمة ، وتخصيصه بالبعض ترجيح من غير مرجح.

وظاهر أن الفساد المذكور إنما يكون (٢) حيث ينتفي ما يصلح بسببه الحمل على العهد ، وسبق الكلام في بعض أنواع الماهية سبب ظاهر لصحّة الحمل على العهد من غير لزوم فساد.

نعم ، يتجه ثبوت العموم في جميع أفراد النوع المعهود ، وليس هذا من قبيل تخصيص العام ببنائه على سبب خاص كما لا يخفى) (٣) انتهى كلامه ، زيد إكرامه.

أقول : ويمكن تطرق المناقشة إلى هذا الكلام بأن يقال : إنّه لا يخفى على المتأمل بعين التحقيق والاعتبار فيما أوردناه من الأخبار أن عدم نقض اليقين بالشكّ قاعدة كلية وضابطة جلية لا اختصاص لها بمادة دون مادة ولا فرد دون فرد ، وهو الذي اتفقت عليه كلمة الأصحاب كما لا يخفى على من تتبّع كلماتهم في هذا الباب.

والوجه فيه أن لامي اليقين والشك فيهما لام التحلية ؛ وهي وإن كانت لا تفيد العموم بحسب الوضع بناء على ما صرّح به جمع من علماء الاصول (٤) ـ وإن

__________________

(١) في «ح» : انما.

(٢) في «ق» بعدها : بسبب أن الإجمال ، وما أثبتنا وفق «ح» والمصدر.

(٣) ذخيرة المعاد : ١١٥ ـ ١١٦.

(٤) المحصول في علم الاصول ١ : ٣١٧ ، تمهيد القواعد : ١٦٦.

٣٩٣

أشعر كلام البعض بخلافه (١) ـ لكنهم اتفقوا أنها في المقامات الخطابية للعموم ؛ إذ هو الأوفق بمقتضى الحكمة.

وأما ما ذكره قدس‌سره بالنسبة إلى الرواية التي أوردها ، من أن اللام ثمة إنما تحمل على العموم مع عدم القرينة ، وقرينة العهد به حاصلة بالنسبة إلى الفرد المسؤول عنه ، ففيه :

أولا : أن ظاهر قوله عليه‌السلام في تلك الرواية : «ولا تنقض اليقين بالشكّ» إنّما هو العموم ، فإنه عليه‌السلام استدل على أن الوضوء اليقيني لا ينتقض بحدث النوم لقوله : «لا ، حتى يستيقن أنه قد نام».

إلى قوله : «وإلّا فهو على يقين من وضوئه» ، ثم أردفه بتلك القاعدة الكلية تأكيدا للاستدلال ، وإيذانا بعموم الحكم في جميع الأحوال. ولو كان مراده بها إنما هو عدم نقض الوضوء بالنوم على تلك الحال ، لكان أعاده للأوّل بعينه ، وهو خارج عن قانون الاستدلال.

وثانيا : ما ذكرنا من دلالة غير هذه الرواية صريحا على كون ذلك قاعدة كلية ، كصحيحة زرارة الواردة في الشكّ بين الأربع والثنتين ، فإنها ـ كما ترى ـ صريحة الدلالة واضحة المقالة على المراد ، غير قابلة للتأويل والإيراد. وحينئذ ، فللقائل أن يقول : إن الشكّ الذي لا ينتقض به اليقين أعم من أن يكون شكّا في وجود الناقض أو شكا بأحد المعاني الثلاثة الأخيرة ، فإنّها ترجع بالآخرة إلى الشكّ في وجود الناقض ؛ إذ متى شك في كون هذا الفرد من أفراد ذلك الكلّي المتيقن نقضه ، فقد شك في وجود الكلّي في ضمنه.

وقوله : (إن الناقض في هذه الصور إنما هو اليقين) ممنوع ، بل الشكّ الحاصل

__________________

(١) المستصفى من علم الاصول ٢ : ٨٩ ، الإحكام في اصول الأحكام ٢ : ٤٢١.

٣٩٤

في ضمن (١) اليقين بوجود ذلك الفرد المشكوك في فرديته ، أو المشكوك في اتّصافه بالعنوان أو في رفعه.

وقوله : (إن الشكّ في تلك الصور كان حاصلا [من] قبل) إن أراد به (٢) : حصوله واقعا ممنوع ، ولكن لا يترتب عليه حكم ، وإن أراد بحسب الوجود فممنوع ؛ إذ هو لا يحصل إلّا في ضمن وجود ما يشكّ في كونه فردا للناقض ، أو نحو ذلك من الأقسام الباقية. هذا ما يقتضيه النظر في المقام ، إلّا إن المسألة لا تخلو من شوب الإشكال ، والاحتياط ممّا ينبغي المحافظة عليه على كل حال.

ومنها أن كل ذي عمل مؤتمن في عمله ما لم يظهر خلافه. ويدل على ذلك جملة من الأخبار المتفرقة في جزئيّات المسائل ، ففي صحيحة الفضلاء أنهم سألوا أبا جعفر عليه‌السلام عن شراء اللحم من الأسواق ، ولا يدرون ما صنع القصابون ، قال : «كل ذلك (٣) إذا كان في سوق المسلمين ولا تسأل عنه» (٤).

وفي رواية سماعة قال : سألته عن أكل الجبن ، وتقليد السيف والكيمخت والغراء؟ فقال : «لا بأس ما لم نعلم أنه ميتة» (٥).

وفي صحيحة إبراهيم بن أبي محمود أنه قال للرضا عليه‌السلام : الخياط يكون يهوديا أو نصرانيا وأنت تعلم أنه يبول ولا يتوضّأ ، ما تقول في عمله؟ قال : «لا بأس» (٦).

ورواية ميسر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني ولا (٧) تبالغ في غسله ، فاصلّي فيه. فإذا هو يابس؟ فقال : «أعد صلاتك ، أما إنك لو

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) ليست في «ح».

(٣) ليست في المصدر.

(٤) الكافي ٦ : ٢٣٧ / ٢ ، الفقيه ٣ : ٢١١ / ٩٧٦ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٠ ، أبواب الذبائح ، ب ٢٩ ، ح ١.

(٥) تهذيب الأحكام ٩ : ٧٨ / ٣٣١ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٩٠ ، أبواب الذبائح ، ب ٣٨ ، ح ١.

(٦) تهذيب الأحكام ٦ : ٣٨٥ / ١١٤٢.

(٧) في «ح» : فلا.

٣٩٥

كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي‌ء» (١).

وربما يتوهم من هذا الخبر الدلالة على خلاف المراد ، وليس بذاك ؛ وذلك لأن الظاهر أن أمره عليه‌السلام بإعادة الصلاة إنّما هو لوجود عين النجاسة ، لا لكون الجارية أزالتها عن الثوب ، حتى لو فرض أنها أزالتها عن الثوب ، ولم تجدها فيه ، كان يجب عليه غسل الثوب وإعادة الصلاة. ومن ذلك الحديث الدال على أن الحجّام مؤتمن في تطهير موضع الحجامة (٢) ، إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع.

وقد نقل المحدّث الأمين الأسترآبادي في كتاب (الفوائد المدنية) (٣) ، والمحدث السيد نعمة الله الجزائري قدس‌سرهما عن جملة ممن كان في عصرهم ، أنّهم كانوا لأجل هذه الشبهة يهبون ثيابهم للقصّارين ، أو يبيعونها عليهم ، ثم يشترونها بعد الغسل منهم ؛ مستندين إلى أن الثوب متيقّن النجاسة ، ولا يرتفع حكم يقين النجاسة إلّا بيقين الطهارة ، أو ما قام مقامه من شهادة العدلين ، أو إخبار ذي اليد.

وفيه ـ زيادة على ما عرفت ـ أنه لا ريب أن الحكم المذكور ممّا يعم به البلوى ، فلو كان مضيّقا كما ذكروه ، لظهر فيه أثر عنهم عليهم‌السلام. وقد ذكر غير واحد من محققي أصحابنا النافين للبراءة الأصلية أنها في مثل هذا الموضع ممّا يعتمد عليها في الاستدلال كما قدّمنا ذلك في درة البراءة الأصلية (٤) ، بل الظاهر من الأخبار (٥) ما يدل على التوسعة ، والله العالم.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٣ / ٢ ، باب المني والمذي يصيبان الثوب والجسد ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٢٨ ، أبواب النجاسات ، ب ١٨ ، ح ١.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٣٤٩ / ١٠٣١ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٩٩ أبواب النجاسات ، ب ٥٦ ، ح ١.

(٣) الفوائد المدنيّة : ١٤٩.

(٤) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.

(٥) الكافي ٦ : ٢٩٧ / ٢ ، باب نوادر الأطعمة ، تهذيب الأحكام ٩ : ١٠٠ / ٤٣٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٩٣ ، أبواب النجاسات والأواني والجلود ، ب ٥٠ ، ح ٢.

٣٩٦

ومنها الحكم بطهارة ما اشتبه بنجس ، وحلّية ما اشتبه بمحرم مع عدم الحصر والتمييز ، ونجاسة الجميع وحرمته إذا كان محصورا. وقد تقدم الكلام على هذه القاعدة مستوفى في الدرّة (١) المشتملة على البحث مع صاحب (المدارك) والمحدث الكاشاني ، والفاضل الخراساني ـ عطر الله مراقدهم ـ في هذه المسألة.

ومنها تلافي الفعل المشكوك فيه قبل تجاوزه ، والمضي في الشكّ بعد الخروج عنه ؛ لقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «إذا خرجت من شي‌ء ثم دخلت في غيره فشككت [فشكّك] ليس بشي‌ء» (٢).

وقوله عليه‌السلام في موثقة محمد بن مسلم : «كل ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو» (٣).

وقوله عليه‌السلام في رواية أبي بصير : «كلّ شي‌ء شك فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه».

إلى غير ذلك من الأخبار.

وفي هذه القاعدة الشريفة أبحاث منيفة ذكرناها في أحكام الوضوء من كتابنا (الحدائق الناضرة) (٤) ، وفّق الله تعالى لإتامه.

ومنها رفع الحرج لقوله سبحانه (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٥) ، (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٦) ، (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها) (٧) ،

__________________

(١) انظر الدرر ٢ : ١٢٩ ـ ١٦٥ / الدرّة : ٢٥.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٥٢ / ١٤٥٩ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٢٣ ، ح ١.

(٣) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٤٤ / ١٤٢٦ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٢٣ ، ح ٣.

(٤) الحدائق الناضرة ٢ : ٣٩١ ـ ٤٠٨.

(٥) الحجّ : ٧٨.

(٦) البقرة : ١٨٥.

(٧) البقرة : ٢٨٦.

٣٩٧

والوسع دون الطاقة (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (١). ويدل على ذلك من الأخبار حسنة عبد الأعلى قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : عثرت فانقطع ظفري ؛ فجعلت على إصبعي مرارة ؛ فكيف أصنع بالوضوء؟ فقال : «تعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزوجل (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» (٢).

وفي رواية أبي بصير في الجنب يجعل يده في الكوز أو الركوة؟ قال : «إن كانت يده قذرة فليهرقه ، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه ، هذا ممّا قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» (٣).

وفي صحيحة الفضيل في الجنب يغتسل فينتضح الماء من الأرض في (٤) الإناء ، فقال : «لا بأس ، هذا ممّا قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» (٥).

ولا يخفى على المتأمّل في الأحكام الشرعية والتكليفات الربانية ما بلغت إليه العناية السبحانية بالعباد من الرأفة والرحمة والشفقة في (٦) الإصدار والإيراد ، حيث أوجب سبحانه رعاية الأبدان [وجعلها] مقدّمة على الأديان ، فأوجب على من تضرر باستعمال الماء غسلا أو وضوء الانتقال إلى التيمم ، وأوجب على من تضرر بالصيام الإفطار ، وأوجب على من تضرر بالصلاة قائما القعود ثم النوم ، وأوجب على المسافر التقصير في الصلاة ، إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع البصير.

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٣٦٣ / ١٠٩٧ ، الاستبصار ١ : ٧٧ ـ ٧٨ / ٢٤٠ ، وسائل الشيعة ١ : ٤٦٤ ، أبواب الوضوء ، ب ٣٩ ، ح ٥.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٣٨ / ١٠٣ ، وسائل الشيعة ١ : ١٥٤ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٨ ، ح ١١.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : و.

(٥) تهذيب الأحكام ١ : ٨٦ / ٢٢٥ ، وسائل الشيعة ١ : ٢١١ ، أبواب الماء المضاف والمستعمل ، ب ٩ ، ح ١.

(٦) في «ح» : و.

٣٩٨

ومنها العذر فيما غلب الله عليه لحسنة حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول في المغمى عليه قال : «ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر» (١).

وبمضمونها في حكم المغمى عليه أخبار عديدة (٢) ، وفي بعضها : «كل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر» (٣).

وزاد في بعض الأخبار المروية في ذلك من (قرب الإسناد) و (بصائر الدرجات) (٤) : (وهذا من الأبواب التي يفتح الله منها الف باب).

وفي رواية مرازم في المريض الذي لا يقدر على الصلاة : «كل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر» (٥).

ومنها القواعد المنصوصة في الترجيح بين الأخبار. وقد تقدم الكلام عليها مفصلا في الدرة (٦) التي في شرح مقبولة عمر بن حنظلة.

ومنها الاحتياط في مواضعه على التفصيل المتقدم في درّة البراءة الأصليّة (٧) ودرّة الاحتياط (٨) وغيرهما.

ومنها الجهل بالأحكام الشرعية على التفصيل المتقدّم في الدرة المتضمنة لتحقيق المسألة.

ومنها دفع الضرر والضرار ، فروى في (الكافي) في الموثق عن زرارة عن أبي

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٣ : ٣٠٢ / ٩٢٣ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٦١ ، أبواب قضاء الصلوات ، ب ٣ ، ح ١٣.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٢٥٨ ـ ٢٦٤ ، أبواب قضاء الصلوات ، ب ٣.

(٣) انظر هامش رواية مرازم في المريض أدناه.

(٤) بصائر الدرجات : ٣٠٦ ـ ٣٠٧ / ب ١٦ ، ح ١٦.

(٥) الكافي ٣ : ٤١٢ / ١ ، باب صلاة المغمى عليه والمريض .. ، تهذيب الأحكام ٣ : ٣٠٢ / ٩٢٥ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٦١ ، أبواب قضاء الصلوات ، ب ٣ ، ح ١٦.

(٦) انظر الدرر ١ : ٢٤٩ ـ ٣٣٦ / الدرّة : ١٢.

(٧) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.

(٨) انظر الدرر ٢ : ١١٣ ـ ١٢٧ / الدرّة : ٢٤.

٣٩٩

جعفر عليه‌السلام : «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة ، فلما أبى سمرة (١) جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فشكا إليه وخبّره الخبر. فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخبره بقول الأنصاري وما شكا وقال : إذا أردت الدخول فاستأذن. فأبى ، فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيع ، فقال : لك بها عذق مذلل (٢) في الجنة. فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للأنصاري : اذهب ، فاقطعها وارم بها إليه فإنه لا ضرار» (٣).

ورواه في (الكافي) أيضا في موضع آخر عن زرارة عنه عليه‌السلام مثله ، وزاد : «فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن» (٤).

وروى في (الكافي) أيضا بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نفع الشي‌ء ، وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء. وقال : لا ضرر ولا ضرار» (٥).

والأخبار بذلك كثيرة.

وما ذكره المحدّث الأمين (٦) الأسترابادي قدس‌سره في كتاب (الفوائد المدنيّة) (٧) ـ من المنع من الاستدلال بأمثال ذلك لظنية الدلالة ، والنهي عن اتّباع الظنون ـ فيه أنه قد استدل به في غير موضع من كتابه المذكور كما لا يخفى على من راجعه.

ومنها وجوب الوفاء بالشرط في العقد إلّا ما أحلّ حراما أو حرّم حلالا.

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) في «ح» : بذلك ، وفي المصدر : يمدّ لك.

(٣) الكافي ٥ : ٢٩٢ / ٢ ، باب الضرار.

(٤) الكافي ٥ : ٢٩٤ / ٨ ، باب الضرار.

(٥) الكافي ٥ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ / ٦ ، باب الضرار.

(٦) ليست في «ح».

(٧) الفوائد المدنيّة : ٩٠.

٤٠٠