الدّرر النجفيّة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢١

الشيخ أخبار عدم الصحة على ما إذا كان قصد المطلق بذلك الطلاق العدي ، فإنه لا يجوز له ذلك ولا يصحّ منه ولا يقع للعدّة لعدم المواقعة قبله ، وإنما يقع للسنة خاصّة ، هذا حاصل مراد الشيخ رحمه‌الله وصريح عبائره كما لا يخفى. وحينئذ ، فيتجه عليه ما تقدم إيراده ، ولا يندفع بما اعتذر عنه في (المسالك) فتدبّر وانصف.

الثاني : أن مقتضى ما ذكره الشيخ رحمه‌الله من الحمل ، هو صحّة الطلاق الثاني وإن كان لا يقع للعدة بزعمه ، بل يقع للسنة ، والمفهوم من الأخبار المانعة هو الابطال رأسا ، وعدم وقوع الطلاق مطلقا أما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، فللنهي عنه ، وما أجيب به من أن النهي إنّما يقتضي الفساد في العبادات (١). لا في المعاملات ليس على إطلاقه كما حققناه في موضع أليق.

ويؤيده ما صرّح به جملة من أصحابنا من أن النكاح أشبه شي‌ء بالعبادات (٢) ، وأما رواية المعلّى بن خنيس ، فإنها قد صرحت بأنه لا يقع الطلاق الثاني حتى يراجع ويجامع ، وهو صريح في فساده وبطلانه أصلا ورأسا. ومثل ذلك موثقة إسحاق بن عمار.

فهذه الأخبار دالة بإطلاقها على الإبطال رأسا ، وأما صحيحة زرارة فهي دالة على أن ما ليس للعدّة ولا للسنّة بالمعنى المذكور فيها ، فليس بشي‌ء ، وهو ظاهر في الإبطال أيضا ، فإن هذا القسم ليس داخلا في شي‌ء من الفردين المذكورين فيها. وأما صحيحة أبي بصير فهي أوضح في الدلالة على البطلان من أن تحتاج إلى البيان ، غير قابلة لما ذكر من التأويل بوجه ولا سبيل.

وبالجملة ، فالأخبار المذكورة آبية الانطباق على الحمل المذكور.

__________________

(١) مسالك الأفهام ٩ : ١٤٤.

(٢) مسالك الأفهام ٧ : ٨٦ ، جامع المقاصد ١٢ : ٦٩ ، ٨٦.

١٠١

الثاني : ما اختاره جماعة من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ منهم شيخنا الشهيد الثاني قدس‌سره في (المسالك) وسبطه صاحب (المدارك) ، في (شرح النافع) ، من حمل النهي على الكراهة ، بمعنى استحباب الجماع بين الطلاقين بعد الرجعة وأخبار الجواز على أصل الإباحة.

قال في (المسالك) : (ووجه أولوية الجماع ، البعد عن مذهب المخالفين المجوزين لتعدّد الطلاق كيف اتفق ، ليصير الأمران على طرف النقيض حيث إن ذلك معدود عند أصحابنا من طلاق البدعة كما سلف. ثم لو لم يظهر الوجه في الجمع لكان متعيّنا حذرا من اطراح أحدهما رأسا ، أو الجمع بما لا تقتضيه اصول المذهب كما جمع به الشيخ ، والحمل على الجواز والاستحباب سالم عن ذلك وموجب لإعمال الجميع) (١) انتهى.

وفيه أن ذلك وإن أمكن في بعض الأخبار إلّا إنه لا يجري في جميعها ، مثل رواية المعلّى الدالة على أنه لا يقع ، فإنها صريحة في الإبطال رأسا ، ومثل صحيحة زرارة ، وصحيحة أبي بصير ، فإنّهما صريحتان في الابطال. ولكن العذر لمثل شيخنا المشار إليه في ذلك واضح ، حيث إنهم لم يتعرضوا لرواية المعلى ولا للصحيحتين المذكورتين.

الثالث : ما ذهب إليه المحدث الكاشاني في كتاب (الوافي) (٢) و (المفاتيح) (٣) من أنه إن كان غرضه من الرجعة أن يطلقها تطليقة اخرى حتى تبين منه ، فلا يتم مراجعتها ولا يصح طلاقها بعد الرجعة ، ولا يحسب من الثلاث حتى يمسّها ، وإن كان غرضه من الرجعة أن تكون في حبالته وله فيها حاجة ، ثم بدا له أن يطلّقها ،

__________________

(١) مسالك الأفهام ٩ : ١٤١ ـ ١٤٢.

(٢) الوافي ٢٣ : ١٠٤٦.

(٣) مفاتيح الشرائع ٢ : ٣٢٠ / المفتاح : ٧٨٤.

١٠٢

فلا حاجة إلى المسّ ويصح طلاقها ويحسب من الثلاث.

قال : (وإنّما جاز هذا التأويل ، لأنه كان أكثر ما يكون غرض الناس من المراجعة الطلاق والبينونة ، كما يستفاد من كثير من الأخبار ، ويشار إليه بقوله عليه‌السلام : «وإلّا فإنما هي (١) واحدة» ، حتى إنه صدر ذلك عن الأئمَّة عليهم‌السلام ، كما مضى في حديث أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : «إنما فعلت ذلك بها لأنه لم يكن لي بها حاجة») انتهى كلامه رفع مقامه.

وأشار بحديث أبي جعفر عليه‌السلام إلى رواية أبي بصير قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الطلاق التي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فقال : «اخبرك بما صنعت أنا بامراة كانت عندي ، وأردت أن اطلقها ، فتركتها حتى إذا طمثت وطهرت ، طلقتها من غير جماع ، وأشهدت على ذلك شاهدين ، ثم طلقتها (٢) ، حتى إذا كادت أن تنقضي عدّتها راجعتها ودخلت بها ، وتركتها (٣) حتى إذا طمثت وطهرت ، ثم طلقتها على طهر من غير جماع بشاهدين ، ثم تركتها حتى إذا كان قبل أن تنقضي عدتها راجعتها ودخلت بها ، حتى إذا طمثت وطهرت ثم طلقتها على طهر (٤) بغير جماع بشهود ، وإنما فعلت ذلك بها لأنه لم يكن لي بها حاجة» (٥).

وما ذكره قدس‌سره من الجمع لا يخلو عندي من قرب ، ويؤيده ما ورد في تفسير قوله سبحانه (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (٦) من رواية الحلبي عن أبي

__________________

(١) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : فانها ، بدل : فإنما هي.

(٢) في «ح» : تركتها.

(٣) ليست في «ح».

(٤) من غير جماع بشاهدين .. على طهر ، سقط في «ح».

(٥) الكافي ٦ : ٧٥ ـ ٧٦ / ١ ، باب التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره ، وسائل الشيعة ٢ : ١١٩ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ٤ ، ح ٣.

(٦) البقرة : ٢٣١.

١٠٣

عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله عزوجل (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) ، قال : «الرجل يطلق حتى إذا كادت أن يخلو أجلها راجعها ، ثم طلقها يفعل ذلك ثلاث مرّات ، فنهى الله تعالى عن ذلك» (١).

ورواية الحسن بن زياد عنه عليه‌السلام قال : «لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأة ، ثم يراجعها ، وليس له فيها حاجة ، ثم يطلّقها ؛ فهذا الضرار الذي نهى الله عزوجل عنه إلّا أن يطلق ويراجع ، وهو ينوي الإمساك» (٢).

فإن هاتين الروايتين صريحتان في أنه (٣) متى كان قصده من المراجعة مجرد البينونة فلا يجوز له ذلك ، ولا يصحّ طلاقه الثاني لما فيه من الإضرار بها في مدة العدد الثلاث بعدم الجماع ، وقد يكون المدة تسعة أشهر ، مع أن غاية ما رخص به الشارع في ترك الجماع إذا كانت زوجة أربعة أشهر. وحينئذ ، فالزيادة على ذلك إضرار محض ، فنهى الله سبحانه عنه.

والظاهر أنه من أجل هذا النهي الموجب للتحريم ، بل وبطلان الطلاق كان الإمام صلوات الله عليه (٤) لما قصد بالمراجعة والطلاق بعدها البينونة لقوله : «وانما فعلت ذلك ..» ـ إلى آخره ـ يجامع بعد كل رجعة.

وبالجملة ، فهذا الوجه عندي ـ لما ذكرته ـ في غاية القوة ، وعليه تجتمع أكثر أخبار المسألة ، ولعل في قوله في موثقة إسحاق بن عمار الاولى (٥) : (ثم بدا له فراجعها) إشارة إلى ذلك ، بمعنى بدا له وظهر له إرادة المعاشرة فراجع. وعلى

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٣٢٣ / ١٥٦٧ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٧٢ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ٣٤ ، ح ٢.

(٢) الفقيه ٣ : ٣٢٣ ـ ٣٢٤ / ١٥٦٨ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٧١ ـ ١٧٢ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ٣٤ ، ح ١.

(٣) في «ح» : فإنه ، بدل : في أنه.

(٤) سقط في «ح».

(٥) انظر الدرر ٢ : ٩١.

١٠٤

هذا (١) يمكن تطبيق الروايات الثلاث الاول التي ذكرناها في أدلّة (٢) مذهب ابن أبي عقيل فإنها وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى ذلك إلّا إنها بالتأمّل في مضامينها والتعمق في معانيها ، يظهر أنها إنما خرجت من ذلك القبيل.

أما صحيحة عبد الرحمن فإنه إنما سأل عن الرجل إذا طلق ، فهل له أن يراجع أم لا ، فأجاب عليه‌السلام : «لا يطلق التطليقة الاخرى حتى يمسّها» (٣). وأنت خبير بأن هذا الجواب بحسب الظاهر غير منطبق على السؤال.

والظاهر أنه عليه‌السلام فهم من السائل بقرينة حالية أو مقالية وإن لم ينقل في الخبر أن مراده السؤال عن الرجعة لمجرد إيقاع الطلاق بعدها ، فأجاب عليه‌السلام بالنهي عن ذلك الطلاق على هذا النحو : «إلّا أن يمسها» ، كما فعله الباقر عليه‌السلام فيما تقدم من حديث أبي بصير ، ومعناها يرجع إلى معنى رواية أبي بصير كما أوضحناه سابقا.

وأما رواية المعلى فالظاهر أن غرض السائل أنه هل يصحّ الطلاق من غير رجعة ، بمعنى أنه يترتّب عليه ما يترتّب على الواقع بعد الرجعة من البينونة ونحوها؟ وغرضه من ذلك استعلام ما لو قصد البينونة بالطلاق على هذا النحو ، فإنه لا ثمرة للطلقة الثانية لو صحت إلّا قصد ذلك وحصوله ، فأجاب عليه‌السلام بأنه «لا يقع الطلاق الثاني على هذا الوجه ، إلّا مع الجماع بعد المراجعة».

وأما موثقة إسحاق بن عمار ، فهي صريحة في ذلك ، فإن إيقاع ذلك في يوم أو في طهر ، دليل على كون الباعث على تلك الرجعة ، هو مجرد قصد البينونة ؛ فلذا نسبه إلى مخالفة السنة.

__________________

(١) في «ح» بعدها : الوجه.

(٢) في أدلّة ، سقط في «ح».

(٣) الكافي ٦ : ٧٣ ـ ٧٤ / ٢ ، باب أن المراجعة لا تكون إلّا بالموافقة ، تهذيب الأحكام ٨ : ٤٤ / ١٣٤ ، الاستبصار ٣ : ٢٨٠ / ٩٩٣ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤١ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٧ ، ح ٢.

١٠٥

بقي هنا شي‌ء ، وهو أن هذا الوجه وإن اجتمعت عليه أدلّة القول المشهور ، وهذه الروايات الثلاث التي ذكرناها في الاستدلال لابن أبي عقيل ، لكن يبقى الإشكال في كلامه قدس‌سره من وجهين :

أحدهما : من قوله : (فلا يتم مراجعتها) ، فإن فيه دلالة على أن المراجعة بدون النكاح بعدها إذا كان قصده مجرد البينونة لا يقع ، وهو موافق لما صرّح به غيره من الأصحاب ، كما قدمنا ذكره حيث أوردوا في الاستدلال صحيحة عبد الحميد الطائي ، ورواية أبي بصير وقد أوضحنا لك ، أنه لا دليل على عدم وقوع الرّجعة ، وإنما غاية ما يستفاد من الأخبار عدم صحة الطلاق (١). وحينئذ ، فتبقى بعد الرجعة على حكم الزوجية إذا طلّقها ضرارا بغير جماع.

وثانيهما : من جهة صحيحة أبي بصير التي هي معتمد ابن أبي عقيل ، وصريح عبارته كما قدّمنا بيانه ، فإنها لا تندرج تحت هذا التأويل ؛ حيث إنه عليه‌السلام قد علّل فساد الطلاق الواقع على ذلك الوجه فيها بوجه آخر ، من كونه لم يقع في غير (٢) طهر الطلقة الاولى. وعلى هذا فيبقى الإشكال بحاله في المسألة ؛ لأن الظاهر أن معتمد ابن أبي عقيل في الاستدلال على ما ذهب إليه ، هو هذه الرواية كما أوضحناه آنفا ، وهي غير منطبقة على شي‌ء من هذه الوجوه الثلاثة التي نقلناها في الجمع بين أخبار المسألة وما عداها من الأخبار ، وإن دل بحسب الظاهر على مذهب ابن أبي عقيل ، إلّا إنه لم يستند إليه في الاستدلال ولم يصرّح به. ومع هذا ، فإنه يمكن تطبيقه كما ذكرناه.

وأما هذه الصحيحة ، فهي صريحة في مدّعاه وغير قابلة لذلك ، مع كونها مشتملة على ما عرفت من إطلاق الطهر ، على خلاف ما هو المعهود من معناه في

__________________

(١) في «ح» بعدها : خاصة.

(٢) سقط في «ح».

١٠٦

الأخبار وكلام الأصحاب ، ولم أر من تعرض للكلام فيها من المحدثين الذين نقلوها في كتب الأخبار ، ولم ينقلها أحد في كتب الفروع الاستدلالية ، بل لم يستوفوا الأخبار فيها بالكليّة ، ولا يحضرني الآن وجه يمكن حملها عليه سوى الردّ والتسليم وإرجاء الحكم فيها إلى العالم من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله العالم.

١٠٧
١٠٨

(٢٣)

درة نجفية

في انتقال ما في ذمّة المقتول ظلما إلى ذمّة القاتل

قد وجدت في جملة من المواضع نقلا عن بعض أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ وربما أسند في بعض المواضع إلى شيخنا الشهيد ـ عطر الله مرقده ـ أنه متى قتل أحد أحدا ظلما انتقل ما في ذمة المقتول من الحقوق المالية وغيرها الآدمية والإلهية إلى ذمة القاتل. واستشكل ذلك جملة ممّن وقف عليه ممن اطلعت على كلامه ، وردّوه بعدم الدليل ، بل ربما رموا قائله بالتجهيل. وقد وقفت في بعض الأجوبة المنسوبة إلى السيد العلّامة السيد ماجد البحراني قدس‌سره المقبور في شيراز في جوار السيد أحمد ابن مولانا الكاظم عليه‌السلام المشهور بـ (شاه چراغ) على الجواب عن هذه المسألة بما صورته ، حيث قال السائل : (سيدنا ، ما قولكم فيمن قتل شخصا ، هل ينتقل كل ما على ذمة المقتول إلى القاتل من الإلهية والآدمية ؛ مالية وغيرها ، أم لا؟).

فقال السيد قدس‌سره في الجواب : (أما انتقال ما على المقتول إلى ذمّة القاتل من الحقوق الماليّة والإلهية ، فلا نعرف له وجها وإن وجد في بعض الفوائد منقولا عن بعض الأعيان) انتهى.

أقول : وقد وقفت في بعض الأخبار على ما يؤيّد هذا القول المذكور ويدلّ

١٠٩

عليه ، وهو ما رواه المحدث الكاشاني في تفسيره (الصافي) (١) ، عن شيخنا الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (عقاب الأعمال) (٢) بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : «من قتل مؤمنا أثبت الله على قاتله جميع الذنوب وبرئ المقتول منها» ، وذلك قول الله عزوجل (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النّارِ) (٣) ، وهو كما ترى صريح في الدلالة على انتقال الحقوق الإلهية من ذمة المقتول إلى ذمة القاتل.

والكتاب المذكور لا يحضرني الآن لألاحظ سند الرواية المذكورة ، إلّا إن الأمر على ما نذهب إليه من صحة أخبارنا المروية في كتب أصحابنا المشهورة ، وعدم العمل على الاصطلاح المحدث بين متأخري أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ من تنويع الأخبار إلى الأنواع الأربعة عار عن الإشكال ، وبه يتم الاستدلال.

وأنت خبير بأنه مع قطع النظر عن ورود هذا الخبر ، فظاهر الآية المذكورة دال على ذلك ؛ إذ ظاهر الإضافة في قوله (بِإِثْمِي) هو العموم لكل إثم للمقتول ، وما تأوله المفسرون من تقدير مضاف ، أي (بإثم قتلي إن قتلتني ، وإثمك الذي كان منك قبل قتلي) ، أو المراد : (إثمي لو بسطت يدي إليك وإثمك ببسط يدك إليّ) (٤) ، فتكلف مخالف للظاهر كما لا يخفى. والظاهر أن الحامل عليه هو عدم الوقوف على القائل بمقتضى ظاهر الآية ، وعدم الاطلاع على الدليل الدال على ذلك.

ويدلّ على ذلك أيضا ـ بالنسبة إلى الحقوق المالية الآدمية ـ ما رواه في (الكافي) بسند حسن عن الوليد بن صبيح قال : جاء رجل إلى أبي عبد الله عليه‌السلام يدعي على المعلّى بن خنيس دينا ، فقال : ذهب بحقي ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام :

__________________

(١) التفسير الصافي ٢ : ٢٧.

(٢) عقاب الأعمال (في ذيل ثواب الأعمال) : ٣٢٨ / ٩.

(٣) المائدة : ٢٩.

(٤) من «ح».

١١٠

«ذهب بحقك الذي قتله». ثم قال للوليد : «قم إلى الرّجل فاقضه من حقه ، فإني اريد أن أبرّد عليه جلده [الذي] (١) كان باردا» (٢).

فإن ظاهر قوله عليه‌السلام : «ذهب بحقّك الذي قتله» ، يعطي انتقال الدين إلى ذمة القاتل وأنه هو المطالب به. واحتمال التجوّز باعتبار حيلولة القاتل بينه وبين وفاء الدين بسبب قتله ، فكأنه ذهب به ينافيه قوله عليه‌السلام : «أريد أن أبرد جلده [الذي] (٣) كان باردا» فإنه يقتضي براءة ذمته من الدّين كما هو ظاهر. وإن إعطاء الإمام عليه‌السلام عنه ذلك إنما هو تفضل وتكريم للمعلّى ، وإلّا فذمّته خلية وعهدته برّية.

وبالجملة ، فظاهر الخبر ، الدلالة على ما قلنا إلا بتكلف وإخراج عن الظاهر ، وارتكاب التأويلات وإن بعدت ، والتكلّفات وإن غمضت غير عسير ، إلّا إن الاستدلال إنما يبنى على ظاهر المقال ، وارتكاب التأويل إنما يكون عند معارض أقوى في ذلك المجال ، وهو هنا مفقود كما لا يخفي على ذوي الكمال.

نعم ، الحكم المذكور غريب ؛ لعدم تصريح أحد من معتبريهم به ، بل ربما كان فيه نوع مخالفة لمقتضى القواعد المقررة عندهم من عدم عدّ القتل في النوافل الشرعية إلّا إن مثله في الأحكام الشرعية غير عزيز ؛ فإنه قد دلت الأخبار وصرّح به الأصحاب على انه لو أوصى شخص إلى آخر ومات قبل بلوغ الخبر الوصي ، وجب على الوصي القبول والقيام بما أوصى بما الميت إليه. وفيه ـ كما ترى ـ إثبات حق وإيجابه على الغير من غير موجب ، سوى تعيين الميّت وجعله وصيّا ، وهو مخالف لمقتضى قواعدهم أيضا ، فإنه لم يعهد في الأحكام الشرعية اشتغال ذمة شخص بمجرد قول شخص آخر ، وإثبات يد وتسلط على من لا سبيل عليه بوجه شرعي.

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : وإن.

(٢) الكافي ٥ : ٩٤ / ٨ ، باب الدين.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : وإن.

١١١

وبالجملة ، فمع وجود الدليل على الحكم ـ كما ذكرنا ـ لا ينبغي الاستبعاد وتخصيص ما يدّعى من القواعد الشرعية الدالة على خلاف ذلك ممكن ، كما هو متفق عليه بينهم في غير مقام.

فإن قيل : إن قوله سبحانه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) ينافي ذلك.

قلنا : مقتضى قوله سبحانه (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً) (٢).

وما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن «من سنّ سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (٣) الدالة على أنه بالدلالة والتسبيب الذي هو وزره يكون مستوجبا لحمل وزر من تبعه في ذلك ، يخصص الآية المذكورة إذ كما خصّت بالآية والخبر ، فلا مانع من تخصيصها بظاهر الآية المتقدّمة والخبرين السابقين. هذا غاية ما يمكن الاستدلال به في هذا المجال وبه يعلم أن المسألة لا تخلو من شوب الإشكال ، والله تعالى وأولياؤه أعلم بحقيقة الحال.

__________________

(١) الأنعام : ١٦٤.

(٢) المائدة : ٣٢.

(٣) بحار الأنوار ٧١ : ٢٠٤ ، ، النهاية في غريب الحديث والأثر ١ : ١٠٦ ، المعجم الكبير ٢ : ٣٤٤ ـ ٣٤٦ / ٢٤٣٩ ـ ٢٤٤٨.

١١٢

(٢٤)

درة نجفية

في مشروعية العمل بالاحتياط وعدمها

اختلف علماؤنا ـ رضوان الله عليهم ـ في الاحتياط وجوبا واستحبابا ؛ فالمجتهدون منهم على الثاني مطلقا ، والأخباريون على الأول في بعض المواضع ، وربما ظهر من كلام بعض متأخري المجتهدين ، عدم مشروعيته.

قال المحقق قدس‌سره في كتاب (الاصول) على ما نقله عنه غير واحد من علمائنا الفحول : (العمل بالاحتياط غير لازم ، وصار آخرون إلى وجوبه ، وقال آخرون : مع اشتغال الذمّة يكون العمل بالاحتياط واجبا ، ومع عدمه لا يجب. مثال ذلك : إذا ولغ الكلب في الإناء نجس ، واختلفوا ؛ هل يطهر بغسلة واحدة ، أم لا بدّ من سبع؟ وفيما (١) عدا الولوغ هل يطهر بغسلة ، أم لا بدّ من ثلاث؟

احتج القائلون بالاحتياط بقوله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٢) ، وبأن الثابت اشتغال الذمّة بيقين فيجب ألّا يحكم ببراءتها إلّا بيقين ، ولا يكون هذا إلّا مع الاحتياط.

والجواب عن الحديث أنه خبر واحد لا يعمل بمثله في مسائل الاصول.

__________________

(١) في «ح» : في غير ، بدل : فيما.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٣٩٤ / ٤٠ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٣ ، الجامع الصحيح ٤ : ٦٦٨ / ٢٥١٨ ، المستدرك على الصحيحين ٢ : ٢١٦٩ / ٢١٧٠.

١١٣

سلمناه ، لكن إلزام المكلف بالأثقل مظنة الريبة ؛ لأنه إلزام مشقة لم يدلّ الشرع عليها ، فيجب اطّراحها بموجب الخبر.

والجواب عن الثاني أن نقول : البراءة الأصلية مع عدم الدلالة الناقلة حجة ، وإذا كان التقدير عدم الدلالة الشرعية على الزيادة في المثال المذكور كان العمل بالأصل أولى. وحينئذ لا نسلم اشتغالها مطلقا ، بل لا نسلم اشتغالها إلا بما حصل الاتفاق عليه ، أو اشتغالها بأحد الأمرين. ويمكن أن يقال : قد أجمعنا على الحكم بنجاسة الإناء ، واختلفنا فيما به يطهر ، فيجب أن نأخذ بما حصل الإجماع عليه في الطهارة ، ليزول ما أجمعنا عليه من النجاسة بما أجمعنا عليه من الحكم بالطهارة) (١) انتهى كلامه زيد مقامه. وفيه نظر من وجوه :

أحدها : أن ما جعله موضوعا (٢) للنزاع من مسألة إناء الولوغ ونحوها ليس كذلك على إطلاقه ؛ لأنّه مع تعارض الأدلة ، فللناظر الترجيح بينها والعمل بما ترجّح في نظره من أدلّة أي الطرفين. وحينئذ ، فلا مجال هنا للقول بوجوب الاحتياط. وأما الاحتياط (٣) ، فيمكن إذا ترجح عنده الأقل ، فإنّه يمكن حمل الزائد على الاستحباب كما هو المعروف عندهم في أمثال ذلك.

نعم ، مع عدم الترجيح ، فالمتّجه ـ كما سيأتي تحقيقه ـ وجوب الاحتياط في العمل والتوقّف في الحكم.

وثانيها : ما أجاب به أولا عن الخبر المذكور ، فإنه مبنيّ على اشتراط القطع في الاصول ، أو عدم العمل بالآحاد مطلقا. وكلاهما محل نظر.

أما الأول ، فلعدم الدليل عليه ، ومن تأمل اختلافاتهم في الاصول ، وتكثر أقوالهم وادعاء كل منهم التبادر على خلاف ما يدعيه الآخر ، علم أن البناء على

__________________

(١) معارج الاصول : ٢١٦ ـ ٢١٧ ، باختلاف يسير.

(٢) سقط في «ح».

(٣) في «ح» : الاستحباب.

١١٤

غير أساس ، ومن ثم وقع الإشكال في جلّ مسائله والالتباس ، ولو كانت أدلته مما يفيد القطع ـ كما يدّعونه ـ لما انتشر فيه الخلاف كما لا يخفى على ذوي الإنصاف ، على أنه لو ثبت دليل شرعي على اشتراط القطع في الاصول لوجب تخصيصه بالاصول الكلامية والعقائد الدينية ؛ إذ هي المطلوب فيها ذلك بلا خلاف دون هذه التي لم يرد لها أصل في الشريعة ، وإنما هي من محدثات العامة ومخترعاتهم ، كما حقّقناه في محل أليق.

وأما الثاني ، فلما صرّح به جمّ غفير من علمائنا ـ رضوان الله عليهم ـ متقدّميهم ومتأخريهم ، ولا سيّما هذا القائل نفسه في كتاب (المعتبر) (١) وكذا في كتابه في (الاصول) (٢) ، بل الظاهر أنه إجماعي كما أدّعاه غير واحد (٣) منهم من حجيّة خبر الواحد والاعتماد عليه. وعلى ذلك يدلّ من الأخبار ما يضيق عن نشره نطاق البيان ، وما سبق إلى بعض الأوهام من تناقض كلام الشيخ رحمه‌الله في العمل بخبر الواحد ، ودعوى المرتضى الاجماع على عدم (٤) جواز العمل به ، فهو توهّم نشأ عن قصور التتبع في كلامهم والتطلّع في نقضهم ، وابرامهم كدلالة كلام الشيخ رضي‌الله‌عنه في غير موضع من كتبه على صحّة أخبارنا واعتضادها بالقرائن الملحقة لها بالمتواتر.

وأن المراد بالخبر الواحد الممنوع من جواز التعبّد به : هو ما كان من طريق المخالفين مما لم تشتمل عليه اصولنا التي عليها مدار شريعتنا قديما وحديثا.

وكلامه قدس‌سره في كتاب (العدة) (٥) طافح الدلالة ظاهر المقالة فيما ذكرناه.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٢٩.

(٢) معارج الاصول : ١٤١.

(٣) في «ح» : غيره ، بدل : غير واحد.

(٤) من «ح».

(٥) العدّة في اصول الفقه ١ : ١٢٦.

١١٥

ولتصريح المرتضى رضي‌الله‌عنه (١) على ما نقله عنه جمع ، منهم صاحب (المعالم) : (بأن أكثر أخبارنا المروية في كتبنا معلومة مقطوع [بصحتها] (٢) إما بالتواتر ، أو بأمارة وعلامة دلّت على صحتها وصدق رواتها ، فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص من طرق الآحاد) (٣) انتهى.

ونقل الشيخ قطب الدين أبو الحسين سعيد بن هبة الله بن الحسين الراوندي قدس‌سره في كتاب (فقه القرآن) عن المرتضى رضي‌الله‌عنه في بعض مسائله (الطبرستانية) أنه قال : (إن فروع الدين كأصوله في أن على كل واحد منها أدلّة قاطعة واضحة لائحة ، وأن التوصل بكل واحد من الأمرين ـ يعني الاصول والفروع ـ ممكن صحيح ، وأن الظن لا مجال له في شي‌ء من ذلك ، ولا الاجتهاد المفضي إلى الظن دون العلم) (٤) إلى آخر كلامه قدس‌سره ، وحينئذ (٥) فيرجع كلامه إلى كلام الشيخ في معنى الخبر الواحد الممنوع من جواز التعبد به ، وصحة أخبارنا كما ادعيناه.

وثالثها : ما أجاب به عن الدليل الثاني من الاستناد إلى حجية البراءة الأصلية ، وفيه ما صرح به قدس‌سره في كتاب (المعتبر) من أن الاعتماد على البراءة الأصلية إنما يتّجه فيما يعلم أنه لو كان هناك دليل لعثر عليه ، أما لا مع ذلك فإنه يجب التوقّف.

والدليل في الجملة هنا موجود ، ووجود المعارض لا يخرجه عن كونه دليلا ، ولو عورض بمرجوحية في مقابلة المعارض ، فلا يصلح للدلالة. فالدليل العام على وجوب الاحتياط كاف في الخروج عن قضيّة الأصل ووجوب الزيادة (٦).

ورابعها : قوله : (ويمكن أن يقال قد أجمعنا) ـ إلى آخره ـ فإن فيه أن ثبوت

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الاولى) : ٢٦.

(٢) في النسختين : على صحّتها.

(٣) معالم الاصول : ٢٧٤.

(٤) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الاولى) : ١٥٤.

(٥) ليست في «ح».

(٦) المعتبر ١ : ٣٢.

١١٦

الإجماع إنما هو قبل الغسل بالمرة ، وأما بعد الغسلة الواحدة فليس ثمة إجماع ؛ فالاستصحاب غير ثابت. على أن في الاستدلال ما قد عرفت آنفا.

نعم ، يمكن أن يقال : إن مقتضى صحاح الأخبار أن يقين كل من الطهارة والنجاسة لا يزول إلا بيقين مثله ، فالنجاسة هنا ثابتة بيقين قبل الغسل بالكليّة ، ولا تزول إلا بيقين ، وهو الغسل بالأكثر ، وزوالها بالأقل مشكوك فيه ، وهو لا يرفع يقين النجاسة. والاستصحاب هذا مما لا خلاف في حجيته لدلالة صحاح الأخبار عليه ، كما سبق تحقيقه في الدرّة المتقدمة في مسألة الاستصحاب.

هذا ، والتحقيق في المقام على ما أدى إليه النظر القاصر [في] (١) أخبار أهل الذكر عليهم‌السلام هو أن يقال : إنه لا ريب في رجحان الاحتياط شرعا واستفاضة الأمر به كما سيمر بك شطر من أخباره ؛ وهو عبارة عما يخرج به المكلّف من عهدة التكليف على جميع الاحتمالات ، ومنه ما يكون واجبا ، ومنه ما يكون مستحبّا.

فالأول كما إذا تردد المكلّف في الحكم إما لتعارض أدلته ، أو لتشابهها وعدم وضوح دلالتها ، أو لعدم الدليل بالكليّة بناء على نفي البراءة الأصلية ، أو لحصول الشك في اندراج بعض الأفراد تحت بعض الكليات المعلومة الحكم ، أو نحو ذلك.

والثاني كما إذا حصل الشكّ باحتمال وجود النقيض لما قدم عليه الدليل الشرعي احتمالا مستندا إلى بعض الأسباب المجوزة ، كما إذا كان مقتضى الدليل إباحة شي‌ء وحلّيته ، لكن يحتمل قريبا بسبب بعض الأسباب أنه مما حرمه الشارع وإن لم يعلم به المكلف مثل جوائز الظالم ، ونكاح امراة بلغك أنها ارضعتك ، أو أرضعت معك الرضاع المحرّم ، إلّا إنه لم يثبت ذلك شرعا. ومنه أيضا الدليل المرجوح في نظر الفقيه.

__________________

(١) في النسختين : من.

١١٧

أما إذا لم يحصل له ما يوجب الشك والريبة في ذلك ، فإنه يعمل على ما ظهر له من الدّليل وإن احتمل النقيض في الواقع ، ولا يستحب له الاحتياط هنا ، بل ربما كان مرجوحا لاستفاضة الأخبار بالنهي عن السؤال عند الشراء من سوق المسلمين ما يحتمل تطرق النجاسة أو الحرمة إليه ، كاخبار الجبن وأخبار الفراء ؛ عملا بمقتضى سعة الحنفيّة كما أشار إليه عليه‌السلام في صحيحة البزنطي الواردة في السؤال عن شراء جبة خزّ ، لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة ليصلي فيها ، حيث قال : «ليس عليكم المسألة إن أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : إنّ الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، وإنّ الدين أوسع من ذلك» (١).

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أن الاحتياط قد يكون متعلّقا بنفس الحكم الشرعي ، وقد يكون متعلّقا بأفراد موضوعه ، وكيف كان ، فقد يكون متعلّقا بالفعل ، وقد يكون بالترك ، وقد يكون بالجمع بين الافراد المشكوك فيها.

ولنذكر جملة من الأمثلة ليتضح بها ما أجملناه ، ويظهر منها ما قلناه ، فمن الاحتياط الواجب في الحكم الشرعي المتعلّق بالفعل إذا اشتبه الحكم من الدليل بأن تردد بين احتمال الوجوب والاستحباب ، فالواجب هو التوقف في الحكم ، والاحتياط بالإتيان بذلك الفعل ، ومن يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجحة للاستحباب. وفيه :

أولا : ما عرفت من عدم الاعتماد على البراءة الأصلية في الأحكام الشرعية ، كما تقدّم في الدرة التي في المسألة.

وثانيا : أن ما ذكروه يرجع إلى أن الله تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة الأصلية ، ومن المعلوم أن أحكامه تعالى تابعة للحكم والمصالح المنظورة له تعالى ، وهو أعلم بها. ولا يمكن أن يقال : مقتضى المصلحة البراءة الأصلية ؛ فإنه

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٦٨ / ١٥٢٩ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٩١ ، أبواب النجاسات ، ب ٥ ، ح ٣.

١١٨

رجم بالغيب ، وجرأة بلا ريب.

ومن هذا القسم أيضا ما تعارضت فيه الأخبار على وجه يتعذّر الترجيح بينها بالمرجّحات المنصوصة ، فإن مقتضى الاحتياط التوقف عن الحكم ، ووجوب الإتيان بالفعل ، متى كان مقتضى الاحتياط ذلك.

فإن قيل : إن الأخبار في الصورة المذكورة قد دلّ بعضها على الإرجاء ، وبعضها على العمل من باب التسليم.

قلنا : هذا أيضا من ذلك ، فإن التعارض المذكور مع عدم ظهور مرجح لأحد الطرفين ، ولا وجه يمكن الجمع به في البين مما يوجب دخول الحكم المذكور في المتشابهات المأمور فيها بالاحتياط.

ومن هذا القسم أيضا ما لم يرد فيه نص من الأحكام التي يعمّ بها البلوى عند من لم يعتمد على البراءة الأصلية ، فإن الحكم فيه ما ذكر كما سلف بيانه في درّة البراءة الأصلية (١) ، ومن الاحتياط الواجب في الحكم الشرعي ، لكن في الترك ما لو تردّد الفعل بين كونه واجبا أو محرما ، فإن المستفاد من الأخبار أن الاحتياط هنا بالترك ، كما تدلّ عليه موثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه : أحدهما يأمر بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال : «يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه» (٢).

وموثقة زرارة في اناس حجّوا بامرأة ، فقدموا إلى الوقت وهي لا تصلي ، وجهلوا أن مثلها ينبغي أن يحرم ، فمضوا بها كما هي ، حتى قدموا مكة ، وهي

__________________

(١) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.

(٢) الكافي ١ : ٦٦ / ٧ ، باب اختلاف الحديث ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٥.

١١٩

طامث حلال ، فسألوا الناس ، فقالوا : تخرج إلى بعض المواقيت فتحرم منه ، وكانت إذا فعلت لم تدرك الحج ، فسألوا أبا جعفر عليه‌السلام ، فقال : «تحرم من مكانها ، فقد علم الله نيتها» (١).

وجه الدلالة أن المرأة المذكورة قد تركت واجبا لاحتمال حرمته شرعا ، والإمام عليه‌السلام قرّرها على ذلك ولم ينكره عليها ، بل استحسن ذلك من فعلها بقوله : «فقد علم الله نيتها» ، أي علم أن تركها للإحرام إنما نشأ من حيث اعتقادها تحريمه ، فهو يشعر بأن الحكم فيما لو كان كذلك هو الترك. وما توهّمه بعض مشايخنا المعاصرين ـ رضوان الله عليهم ـ من دلالة هذه الرواية على عدم الاحتياط حتى نظمها في سلك أخبار زعم أنها تدلّ على عدم الاحتياط ، وجعلها معارضة لأخبار الاحتياط غفلة ناشئة عن عدم إعطاء التأمل حقه من التحقيق ، وعدم النظر في الأخبار بعين التدقيق.

ومن الاحتياط المستحب في الحكم الشرعي بالفعل أو الترك ما إذا تعارضت الأدلّة في حكم بين فعله وجوبا أو استحبابا ، وترجح في نظر الفقيه الثاني بأحد القرائن أو المرجّحات الشرعية ، فإنّ الإتيان بالفعل أحوط ؛ ولذا ترى الفقهاء في مثل هذا الموضع يحملون الدليل المرجوح على الاستحباب ، تفاديا من طرحه ، كأخبار غسل الجمعة المتعارضة وجوبا واستحبابا عند من يرجح أخبار الاستحباب ، أو تعارضت الأخبار بين الحرمة والكراهة مع ترجيح الثاني ، فإنّ الاحتياط هنا بالترك. وعلى هذا أيضا جرى الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ في غير موضع.

ومن الاحتياط الواجب في جزئيات موضوع الحكم الشرعي بالإتيان بالفعل

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٢٤ / ٥ ، باب من جاوز ميقات أرضه بغير إحرام .. ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٣٠ ، أبواب المواقيت ، ب ١٤ ، ح ٦.

١٢٠