الدّرر النجفيّة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢١

واعطني نصف ما ترك فأبى عليه الآخر ، فسألوا أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك فقال : «ذاك له» (١).

والصدوق قدس‌سره جعل هذا الخبر منافيا للخبر الذي ذكره ؛ بناء على فهمه جواز القسمة باعتبار إرجاع الإشارة إلى القسمة. والذي فهمه منه الشيخ في (التهذيب) (٢) ، ورد على الصدوق فيما ظنّه من تنافي الخبرين ، واستصوبه أيضا المحدّث الكاشاني في كتاب (الوافي) (٣) ، هو دلالة الخبر على المنع من القسمة كالأوّل ؛ باعتبار إرجاع [متعلق] الإشارة لمن أبى عن القسمة وامتنع منها ، بمعنى أن لمن أبى القسمة الامتناع على صاحبه منها. والظاهر أنه الذي فهمه صاحب (الكافي) (٤) من الخبر المذكور حيث إنه أورد الخبرين المذكورين في كتابه ، ولم يتكلّم على أحدهما.

وللأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في الخبرين المذكورين احتمالات اخر.

وهذا كما ترى مما يؤيد ما قدّمنا لك ذكره من خفاء القرائن علينا الآن في استنباط بعض الأحكام من الأخبار مع وضوحها لمن خوطب بها في تلك الأيام.

التاسع : ما ذكره الصدوق أيضا في معنى حديث : «من لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا» (٥) ، حيث فسّره بمعنى الاستغناء به ، والذي عليه الأكثر منهم المحدّث الكاشاني في تفسيره (الصافي) (٦) أنه بمعنى تحسين الصوت به وتزيينه.

العاشر : ما ذكره صاحب الكتاب في معنى الأخبار الدالة على المنع من تفسير

__________________

(١) الفقيه ٤ : ١٥١ / ٥٢٤.

(٢) تهذيب الأحكام ٩ : ١٨٥ ـ ١٨٦ / ذيل الحديث : ٧٤٦.

(٣) الوافي ٢٤ : ١٧٢.

(٤) الكافي ٧ : ٤٦ ـ ٤٧ / ١ ـ ٢ ، باب من أوصى إلى اثنين ..

(٥) معاني الأخبار : ٢٧٩ / ١ ، باب معنى المحاقلة والمزابنة والعرايا .. ، باختلاف.

(٦) التفسير الصافي ١ : ٧٢.

٢١

(القرآن) بالرأي ، وأن المراد به التفسير بغير ما ورد عنهم عليهم‌السلام ، فإنه قد ذهب في كتابه المشار إليه إلى ذلك ، ومنع من الاستدلال بالظواهر القرآنية على الأحكام الشرعيّة من غير ورود تفسيرها عن أهل العصمة ، صلوات الله عليهم. وهذا المحدث الكاشاني قد ردّ عليه في ذلك وعرّض به في جملة من مصنّفاته ، ومنها رسالته الموسومة (بالاصول الأصيلة) (١) ، وتفسيره (الصافي). قال في المقدّمة الخامسة من المقدمات تفسير (الصافي) ـ بعد نقل الأخبار الدالة على المنع من تفسير (القرآن) بالرأي ، وتفسيرها وبيان معناها بما لا ينافي ما ذهب إليه من جواز التفسير بما يفهم من اللفظ ويتبادر منه ـ ما صورته : (ومن زعم أن لا معنى لـ (القرآن) إلّا ما ترجمه ظاهر التفسير ، فهو يخبر عن حدّ نفسه ، وهو مصيب في الإخبار عن نفسه ، ولكن مخطئ بردّ الخلق كافة إلى درجته) (٢) انتهى.

ولا يخفى ما فيه من التعريض العريض والتشنيع الشنيع.

الحادي عاشر : ما وقع له (٣) قدس‌سره في كتابه المذكور من تغليط جملة المجتهدين في تقدير البعد الثالث في أخبار الكر الواردة بتقديره بالمساحة ، مع أن الصدوق وجملة الأخباريّين فضلا عن المجتهدين على تقديره [بها] ، قال في (الفقيه) : (والكر ثلاثة أشبار طولا في عرض ثلاثة أشبار في عمق ثلاثة أشبار) (٤) ؛ استنادا إلى صحيحة إسماعيل بن جابر الناطقة بأن الكر ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار (٥) ، وما ذاك إلّا بتقدير البعد الثالث فيها ، وعلى ذلك جملة القمّيين الذين هم أساطين الأخباريّين.

__________________

(١) الاصول الأصيلة : ٤٢ ـ ٤٤.

(٢) التفسير الصافي ١ : ٣٥.

(٣) في «ح» بعدها : أيضا.

(٤) الفقيه ١ : ٦ / ذيل الحديث : ٢.

(٥) الكافي ٣ : ٣ / ٧ ، باب الماء الذي لا ينجسه شي‌ء ، وسائل الشيعة ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٩ ، ح ٧.

٢٢

إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبّع الخبير ويعرفها الناقد البصير.

وبالجملة ، فادعاء توافق الأفهام عند الأخباريّين خاصّة من بين الأنام أمر يكذبه العيان ، ويشهد ببطلانه الإنس والجان ، وبذلك يظهر لك ما في دعواه بقطعيّة دلالة الأخبار بمعونة القرائن التي ذكرها ؛ إذ لو كان الأمر كذلك لم يجز أن يكون محلّا للاختلاف ؛ لأن الاختلاف لا يقع في الامور المعلومة من حيث كونها معلومة (١) ، وإنما يقع في الامور المظنونة ؛ لاختلاف الأفهام والظنون.

اللهم (٢) إلّا أن يكون الأمر معلوما لواحد بوجوه من القرائن غير معلوم للآخر ، مع دعواه معلومية خلافه ، فدعواه المعلوميّة حينئذ باطلة ، إلّا إن ذلك يدّعي العلم بوجوه من القرائن أيضا.

وحينئذ ، فلا بدّ من حمل ما يدّعيانه على الظن الناشئ من اختلاف الأفهام في مبادئ الإدراك كما ندّعيه ، أو صدق أحدهما وكذب الآخر فيما يدّعيه. وحينئذ ، يصير دعواه للعلم كذبا وافتراء على الله سبحانه. وعلى هذا فيقع الأخباريّون فيما شنعوا به على المجتهدين من القول على الله من غير علم ولا يقين ، ولا سيّما هذين المحدّثين المتأخّرين : المحسن الكاشاني (٣) ، والأمين الأسترابادي (٤) اللذين

__________________

(١) وإنما قلنا : (من حيث كونها معلومة) ؛ لأن المعلوم ـ من حيث عدم العلم به يقع محلّا للاختلاف ؛ إما أن يعلمه واحد لحصول أسباب العلم له ولا يعلم آخر بعدم ذلك ، أو لظن محل الاختلاف ـ يجب أن يكون متفقا على معلوميته عند كل من تصوّره وعرفه. فالأخباريون حيث يدّعون المعلوميّة في الأحكام الشرعيّة لا يجوز منهم بمقتضى ذلك الاختلاف فيها ، والمشافهة منهم خلاف كما عرفت. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) اللهم : لفظ يؤتى به فيما في ثبوته ضعف ، وكأنه يستعان به تعالى في إثباته وتقويته. الفوائد العلية في شرح التحفة الدمستانية : ٦٨ / الهامش : ١.

(٣) مفاتيح الشرائع ١ : ٧٥.

(٤) الفوائد المدنيّة : ٤٠.

٢٣

ملأ كتابيهما من التشنيع على مجتهدي الأصحاب ، وأسهبوا في ذلك أيّ إسهاب.

وأنت خبير بأن الاختلاف الناشئ من هذا النوع لو أوجب قدحا وجرحا لكان ذلك مشتركا بين الفريقين ، فلا وجه لتشنيع أحدهما على الآخر بذلك في البين ، إلّا إن الحقّ أنه لا يوجب ذلك ؛ إذ لا يخفى أنه قد استفاضت الأخبار عن الأئمَّة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ أن مراتب الناس في الأفهام والعقول المفاضة من الملك العلام متفاوتة ، ودرجاتهم فيها متفاضلة ، وأنه تعالى إنما يحاسب الناس ويداقّهم على قدر ما آتاهم (١) من العقول والأفهام (٢) ، والتكليف الإلهي إنما وقع على حسب ما رزقهم منها.

وقد تقدّم شطر من تلك الأخبار ، ومن أوضح ما يدلّ على ذلك ما رواه في (الكافي) في كتاب العقل بسنده عن إسحاق بن عمار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل آتيه واكلّمه ببعض كلامي فيعرفه كلّه ، ومنهم من آتيه فاكلّمه بالكلام فيستوفي كلامي كلّه ، ومنهم من آتيه فاكلّمه فيقول : أعد عليّ. فقال : «يا إسحاق ، وما تدري لم هذا؟». قلت : لا. فقال : «الّذي تكلّمه ببعض كلامك فيعرفه كلّه فذاك من عجنت نطفته بعقله ، وأمّا الّذي يستوفي كلامك ثم يجيبك على كلامك ، فذاك الذي ركب عقله في بطن امّه ، وإما الذي تكلّمه بالكلام ، فيقول : أعد عليّ ، فذاك الّذي ركب عقله فيه بعد ما كبر ، فهو يقول لك : أعد عليّ» (٣).

وحينئذ ، فنقول : إن الفقيه إذا نظر في الدليل الوارد من (الكتاب) والسنّة على حكم من الأحكام ، وبذل وسعه في طلب ما يتعلّق به من مناف أو مخصّص أو مقيّد أو مؤيّد أو قرينة أو نحو ذلك مما يتعلق بالمقام ، وأدّاه نظره وفهمه إلى وجه

__________________

(١) في «ح» : اتاه.

(٢) انظر الكافي ١ : ١١ / ٧.

(٣) الكافي ١ : ٢٦ / ٢٧.

٢٤

من الوجوه فأخذ به وعمل عليه ، فلو فرض خطؤه واقعا ؛ لقصور فهمه مثلا ، أو لعذر آخر خارج عن وسعه وجهده ، فهو غير مؤاخذ ولا مستحقّ للذمّ والتأثيم ؛ إذ هو أقصى تكليفه من العليم الحكيم. وحديث العابد الذي كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر المشعر باعتقاده التجسيم كما رواه في كتاب العقل والجهل من (الكافي) (١) مؤيّد لما ذكرناه ومحقّق لما أسطرناه ؛ فإنه إذا استحقّ الثواب على عبادته مع دلالة ظاهر الخبر على ما ذكرنا من اعتقاده التجسيم من حيث إن هذا أقصى ما رزق من العقل ، فبطريق الأولى ما نحن فيه ، كما لم يخفى على الفطن النبيه.

الرابع : ما ذكره في القسم الثاني من قسم الاختلاف في الفتاوى من أن (سببه الاستنباطات الظنيّة ، ومن المعلوم أنه لم يرد إذن من الله في ذلك) ـ إلى آخره ـ وفيه بعد ما قدّمنا بيانه وشددنا أركانه من وقوع الاختلاف في الأحكام باختلاف الأنظار والأفهام ، أنه كان ذلك الاستنباط المشار إليه ناشئا عن شي‌ء من الأدلّة العقلية والقواعد الاصوليّة الخارجة عن (الكتاب العزيز) والسنّة النبويّة ، فما ذكره مسلّم ، وإلّا فهو ممنوع. وكيف لا ، وقد عرفت مما قدّمنا أن التكليفات الإلهيّة إنما وقعت منه سبحانه على قدر ما رزقه من العقول والأذهان ، وأن الناس فيها يختلفون بالزيادة والنقصان؟

وهذه الاستنباطات الظنيّة التي يكررها في غير مقام ويشنّع بها على سائر العلماء الأعلام ، ليست إلّا عبارة عمّا ذكرنا من النظر في الدليل بما رزقوه من العقول والأفهام ، والعمل بما فهموه من ذلك الدليل من نقض وإبرام.

نعم ، قد يدّعى أن ما يفهمه وكذا من حذا حذوه يسمى علما لا ظنا ، وسائر

__________________

(١) الكافي : ١ : ١١ ـ ١٢ / ٨.

٢٥

المجتهدين يطلقون عليه الظنّ ، وإلّا فالجمع مشتركون في استنباط من الدليل الشرعي ؛ فإنّا نرى الأخباريّين والمجتهدين مشتركين في استفادة جملة من الأحكام من (الكتاب) والسنّة ، ولكن أحدهما يدّعي كون ما فهمه واستفاده معلوما محققا ، ويسمّيه علما ، والآخر يسمّيه ظنّا. وحينئذ ، فقصارى غلط المجتهدين في التسمية خاصة ، وهو لا يوجب قدحا ولا تشنيعا.

نعم ، لو كان ذلك الاستنباط من غير أدلّة (الكتاب) والسنّة اتّجه ما ذكره ، إلّا إن كلامه فيما هو أعمّ من ذلك ، وأما ما ذكره من الأخبار الدالّة على أن المفتي ضامن ويلحقه وزر من عمل بفتياه (١) ، فالظاهر حمله على من تجاوز الأوامر الشرعيّة وتعدّى الحدود المقررة المرعية ؛ إما بعدم إعطاء الوسع حقه من التتبّع فيما ينضاف إلى ذلك الدليل من مقيّد ، أو مخصّص ، أو ناسخ ، أو نحو ذلك مما يدخل في هذا القبيل ، أو بأخذ الأحكام بطريق الرأي والقياس المنهيّ عنه في الأخبار (٢) ، أو البناء على بعض القواعد الاصولية والضوابط الخارجة عن أدلة (الكتاب) والسنّة وإلّا فمن أخذ الأحكام من (الكتاب) (٣) ، بعد بذل الجهد في الفحص والتتبّع لما يتعلّق بها ، وأدّاه فهمه إلى شي‌ء منها ، كيف يكون مؤاخذا لو فرض قصور فهمه ونقصان ذهنه عن معرفة الحكم الواقعي ، وقد أتى بما امر به وامتثل ما رسم له؟

ولعلّ المراد ـ والله سبحانه أعلم ـ من الآية المذكورة : أن من لم يحكم بما

__________________

(١) انظر : الكافي ١ : ٤٢ / ٣ ، باب النهي عن القول بغير علم ، و ٧ : ٤٠٩ / ٢ ، باب أن المفتي ضامن ، تهذيب الأحكام ٦ : ٢٢٣ / ٥٣١ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٢٠ ، أبواب آداب القاضي ، ب ٧ ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٥ ـ ٦٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦.

(٣) وإلّا فمن .. الكتاب ، سقط في «ح».

٢٦

أنزل الله ـ يعني من لم يستند في حكمه إلى ما أنزل الله تعالى من آية قرآنية أو سنّة نبويّة ـ فهو كذلك ، والمفروض أن هذا إنما استند إليهما ، وتصير الآية المذكورة تعريضا بالمخالفين المستندين إلى الأقيسة والآراء والاجتهاد في الدين. وقد تقدّم في الدرّة الموضوعة في شرح مقبولة عمر بن حنظلة (١) في الفائدة الخامسة عشرة ما فيه مريد بيان وإيضاح لهذا المقام.

وبالجملة ، فبعد ما قرّرنا من اشتراك الأمر في تفاوت الأفهام واختلافها في إدراك الأحكام بين الأخباريّين والمجتهدين من علمائنا الأعلام فكل ما يورده من الآيات والأخبار فهو مشترك بين الجميع ، ولا اختصاص له بالمجتهدين.

الخامس : قوله : (ومن المعلوم أن كل حكم تحتاج إليه الأمّة قد أنزله الله تعالى في كتابه) ـ إلى آخره ـ وفيه أنه لا خلاف ولا إشكال في أن كلّ حكم تحتاج إليه الامّة قد أنزله الله تعالى في كتابه كما استفاضت به الآيات ، لكن من المعلوم أن ذلك مخزون عند أهل بيته ـ صلوات الله عليهم ـ فمنه ما بقي في زاوية الخفاء ، ومنه ما خرج ، وفي بعض ما خرج ما قدّمنا لك شرحه وبيانه. ودعواه هنا أن كل ما أنزل الله تعالى في كتابه قد ظهر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمّته ، أو من الأئمّة المعصومين ـ صلوات الله عليهم ـ ينافي ما ذكره في غير موضع من كتابه المذكور من المنع من التمسك بالأحاديث النبويّة ما لم ترد من طريق أهل بيته عليهم‌السلام كظواهر الآيات القرآنية ، وينافي ما صرّح به أيضا من أن دعوى ظهور الأحكام كملا إنما يتجه على مذهب العامّة حيث قال في الفصل السادس من

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ـ ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، الفقيه ٣ : ٥ ـ ٦ / ١٨ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١ ـ ٣٠٣ / ٨٤٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

٢٧

كتابه المذكور : (وأما التمسك بأن عدم ظهور (١) مدرك شرعيّ تحكم عند المجتهد بعد تفتيشه مدرك شرعي لعدم الحكم في الواقع اجماعا ، فإنّما يتّجه على مذهب العامّة .. القائلين بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أظهر عند أصحابه كلّ ما جاء به وتوفرت الدواعي (٢) على أخذه ونشره ، وما خصّ أحدا بتعليم شي‌ء لم يظهر عند غيره ، ولم تقع بعده فتنة اقتضت إخفاء بعض ما جاء به) (٣) انتهى.

فإنه كما ترى ينادي : إن بعض الأحكام بقي في زوايا الاستناد ، فلذلك لا يمكن العمل بالقاعدة المذكورة.

السادس : قوله : (ومن القسم الثاني من الاختلاف ذهاب شيخنا المفيد قدس‌سره إلى جواز العمل بالاستصحاب) ـ إلى آخره ـ فإن فيه أنه وإن كرّر ذلك في غير موضع من هذا الكتاب وشنّع به على من عمل به من الأصحاب ، إلّا إنه قد وقع فيما شنّع به ، ومن عاب استعاب ، كما وقفت عليه من كلامه في حاشيته على (شرح المدارك) وإن تستّر ببعض التمويهات والتشبيهات التي هي أوهن من بيت العنكبوت ، وإنه لأوهن البيوت. وقد نقلنا كلامه المشار إليه في درّة الاستصحاب (٤) ، فارجع إليه يظهر لك ما فيه من العجب العجاب ، والله الهادي إلى جادّة الصواب.

السابع : قوله وذهابه إلى أن (من دخل في الصلاة بتيمّم ، ثم سبقه الحدث) ـ إلى آخره ـ فإن فيه :

أوّلا : أن دعوى تواتر الأخبار بأن الحدث في أثناء الصلاة ينقضها مجازفة.

__________________

(١) الأحكام كملا .. عدم ظهور ، سقط في «ح».

(٢) في «ح» : وتوافرت الدعاوي.

(٣) الفوائد المدنيّة : ١٤٠ ، ١٤١.

(٤) انظر الدرر ١ : ٢٠١ ـ ٢٢٢ / الدرّة : ٩.

٢٨

نعم ، ورد ذلك في جملة من الأخبار (١) ، إلّا إن بإزائها من الأخبار (٢) ما هو أوضح سندا وأكثر عددا ، وأظهر دلالة ، مما يدل على عدم النقض ، بل الطهارة والبناء. وباختلاف الأخبار في هذا المضمار اختلفت كلمة علمائنا الأبرار ، وممن تبع الشيخ المفيد (٣) قدس‌سره في هذه المسألة الشيخ في (النهاية) (٤) وابن حمزة (٥) والمحقّق في (المعتبر) (٦) والسيّد السند صاحب (المدارك) (٧) ، الذي هو أحد أساتيذ صاحب الكتاب ومشايخه ، والفاضل الملّا محمد باقر الخراساني في شرح (الإرشاد) (٨).

وممن ذهب إلى عدم النقض بالحدث سهوا استنادا إلى ما أشرنا إليه من الأخبار الشيخ (٩) والمرتضى (١٠) ـ رضي‌الله‌عنهما ـ وإليه يميل أيضا المحدّث الكاشاني (١١) ، واستشكل السيّد السند في (المدارك) (١٢) وتوقف في الحكم المذكور. وممّن ذهب أيضا إلى ذلك الصدوق في (الفقيه) ، لكنه خصّه بما إذا أحدث في الرابعة بعد السجود وقبل التشهد ، وصرّح بأنه قد مضت صلاته ويتوضأ ويتشهد (١٣) ؛ استنادا إلى موثقة ابن بكير الدالة على ذلك. وبذلك يظهر لك

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢٠٠ ـ ٢٠١ / ٧٦٩ ـ ٧٧٠ ، وسائل الشيعة ٧ : ٢٣٥ ، أبواب قواطع الصلاة ، ب ١ ، ح ٧ ، ٨.

(٢) الفقيه ١ : ٥٨ / ٢١٤ ، وسائل الشيعة ٧ : ٢٣٦ ، أبواب قواطع الصلاة ، ب ١ ، ح ١٠.

(٣) المقنعة (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٤ : ٦١.

(٤) النهاية : ٤٨.

(٥) عنه في الذكرى ٢ : ٢٨٠ ، ذخيرة المعاد : ١٠٩.

(٦) المعتبر ١ : ٤٠٧.

(٧) مدارك الأحكام ٣ : ٤٥٩.

(٨) ذخيرة المعاد : ١٠٩.

(٩) المبسوط ١ : ١١٧ ـ ١١٨.

(١٠) عنه في المعتبر ٢ : ٢٥٠ ، مدارك الأحكام ٣ : ٤٥٥.

(١١) مفاتيح الشرائع ١ : ١٧٠ / المفتاح : ١٩٢.

(١٢) مدارك الأحكام ٣ : ٤٥٨.

(١٣) الفقيه ١ : ٢٣٣.

٢٩

ما في كلامه من الإجمال بل الاهمال.

وثانيا : أن ما فهمه الشيخ المفيد قدس‌سره من الخبر المذكور ليس مختصّا به ، بل هو الذي فهمه كل من وقف على الخبر المذكور من عصر الأئمّة عليهم‌السلام إلى الآن من أخباري ومجتهد ما عداه ، وعدا المحدث الكاشاني ، حيث تبعه في ذلك واقتفاه.

وحينئذ ، فالتشنيع بالحمل على المعنى المذكور لا يختص بالشيخ المفيد ، بل بجملة العلماء الأعلام ، وكفى به شناعة في المقام.

وثالثا : أن ما فهمه الشيخ المشار إليه وجملة الأصحاب ليس من قبيل الاستنباطات الظنّية كما زعمه ؛ إذ هو المعنى المتبادر من اللفظ شرعا وعرفا ولغة ، ولو كان حمل اللفظ على معناه المتبادر منه كذلك من قبيل الاستنباطات الظنّية لكان هو أيضا من جملة العاملين (١) بتلك الاستنباطات. اللهم إلّا أن يدّعى إلهاما روحانيّا ، كما يعطيه بعض تلك المقامات التي أوردها في ذلك الكتاب ، بل الخرافات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب.

نعم ، الذي [يستفاد] من الاستنباطات الظنّيّة ، إنّما هو المعنى الّذي ذهب إليه واعتمد في المقام عليه.

ورابعا : أن من الجائز خروج هذا الخبر مخرج التقيّة كما صرّح به في آخر كلامه واستصوبه ، وهو مؤذن بحمل الحديث فيه على المعنى الّذي فهمه الأصحاب ، فلم لا يحمل كلام الشيخ المفيد على هذا المحمل العاري عن الريب ، ويكف لسان قلمه وفهمه عن الطعن عليه (٢) والعيب؟ ولكنه قد أولع في هذا الكتاب بما لا يليق بمثله من العلماء الأنجاب ، وقد خلط حقّه بباطله ومزج جيّده بعاطله.

__________________

(١) في «ح» : القائلين.

(٢) سقط في «ح».

٣٠

الثامن : قوله : (وذهابه إلى أن ماء الأواني) ـ إلى آخره ـ فإن فيه أنه وإن لم يصل إليه دليل في ذلك ، ولم يقف على خبر يدلّ على ما هنالك ، فالأولى بمثله ـ ومثل شيخنا المشار إليه الذي قد بلغ في الرفعة وعلوّ الشأن والمكان بمنزلة أوجبت له خروج التوقيعات والمراسلات من صاحب العصر والزمان ـ صلوات الله عليه ، وعجّل الله فرجه ـ وخطابه فيها بما يدلّ على مزيد التعظيم والتبجيل (١) والدرجة العالية عنده والمحلّ الجليل ، كما نقله الطبرسي قدس‌سره في آخر كتاب (الاحتجاج) (٢) ـ الحمل على محمل السّداد : «احمل أخاك المؤمن على سبعين محملا من الخير» كما ورد عن السادة الأمجاد.

ولعل الشيخ ـ طاب ثراه ـ اطّلع على دليل لم يصل إلينا في ذلك ، فإن عصره لا كهذه الأعصار التي فقدت فيها الأمارات ، وأشكلت فيها الدلالات ، وتفرقت فيها الأخبار. وهذا الشيخ علي بن الحسين بن بابويه والد الصدوق ـ طاب ثراهما ـ قد ذهب إلى مذاهب شاذّة نادرة لم يوجد لها دليل ، ولم تنقل عن غيره من العلماء جيلا بعد جيل ، مع أنه لم يطعن عليه أحد بذلك ، بل كانوا يعدون فتاواه عداد النصوص متى أعوزهم الوقوف عليها بالعموم أو الخصوص ، وشيخنا المفيد ليس ببعيد من عصر الشيخ المشار إليه ، فكيف لا يحسن الظنّ به في ذلك حسبما ذكرنا في الشيخ المذكور ، ولكنه قدس‌سره قد أولع بالتشنيع والطعن في هذا الكتاب على من تسمّى بالاجتهاد من الأصحاب ، وقد مزج فيه الغثّ بالسمين ، والعاطل بالثمين.

التاسع : قوله : (وذهب ابن أبي (٣) عقيل (٤) إلى عدم انفعال الماء القليل (٥) بورود

__________________

(١) في «ح» : التبجيل والتعظيم.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٥٩٦ ـ ٥٥٩ / ٣٠٦.

(٣) سقط في «ح».

(٤) عنه في مختلف الشيعة ١ : ١٣ / المسألة : ١.

(٥) سقط في «ح».

٣١

النجاسة) ، فإن فيه أن جملة ممن حذا حذوه ونسج على منواله ، وتبعه في تشنيعه وسوء مقاله من متأخري المتأخّرين من الأخباريين ، ومنهم المحدّث الكاشاني في (الوافي) (١) و (المفاتيح) (٢) قد ذهبوا إلى ذلك كما أشرنا إليه آنفا ، وحينئذ فالطعن هنا أيضا لا يختص بالمجتهدين ، بل هو شامل لمن كان من قبله من الأخباريّين ، إلّا إن الحقّ أن هذا إنّما هو من قبيل اختلاف الأفهام والأنظار في فهم معاني الأخبار ، فلا يوجب طعنا في العلماء الأبرار ، كما لا يخفى على ذوي الأبصار والأفكار ، والله العالم.

__________________

(١) انظر الدرر ٢ : ١٩ / الهامش : ٣.

(٢) انظر الهامش السابق.

٣٢

(٢٠)

درّة نجفيّة

في تكليف الكافر بالفروع

المشهور بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بل كاد يكون إجماعا أن الكافر في حال كفره مكلف بالفروع الشرعيّة ، ولم ينقلوا في ذلك خلافا حتّى عن علماء العامّة ، إلّا عن أبي حنيفة (١) ، قالوا : لكن لا تصحّ منه في حال كفره ؛ لاشتراط الصحّة بالإسلام ، وصرّحوا بأنه لا يجبّ الإسلام ما عدا الصلاة من تلك الأحكام ؛ لبقاء السبب الموجب للتكليف وخروجها بنصّ خاصّ ، فلو أجنب في حال كفره مثلا ، وجب عليه الغسل بتلك الجنابة ، بعد دخوله في الإسلام.

وما ذكروه ـ رضوان الله عليهم ـ من وجوب التكليف على الوجه المذكور لم أقف لهم فيه على دليل يشفي العليل ، ويبرد (٢) الغليل ، بل ربّما كان الدليل على خلافه واضح السبيل وإن اتّفقوا على ذلك جيلا بعد جيل. وما استدل به العلّامة ـ طاب ثراه ـ في كتاب (المنتهى) (٣) سيظهر لك ما فيه ، وسنكشف عن باطنه وخافيه.

والذي يظهر لي مما وقفت عليه من الأخبار (٤) التي عليها المعوّل والمدار ،

__________________

(١) عنه في منتهى المطلب ٢ : ١٨٨ ، فواتح الرحموت (في هامش المستصفى في علم الاصول) ١ : ١٢٨.

(٢) في النسختين : ولا يبرد.

(٣) منتهى المطلب ٢ : ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٤) ستأتي في الوجه الرابع.

٣٣

وعليه أيضا يدلّ الدليل العقلي المسلّم بين كافة العلماء الأبرار هو خلاف ما ذكروه ، نوّر الله تعالى مراقدهم ، وأعلى في الخلد مقاعدهم. ولنا على ذلك وجوه :

الأوّل : عدم الدليل على التكليف المذكور ، وهو دليل العدم كما هو المسلّم بينهم ، والمشهور ، وما استدلّ به العلّامة رحمه‌الله مما سيأتي نقله وإيراده سيظهر لك بطلانه وفساده.

الثاني : أنه لا ريب أن التكليف بالأحكام موقوف على معرفة المكلّف بها والمبلّغ لها والتصديق بهما (١) ؛ إذ متى كان جاهلا بهما كيف يتصوّر عقلا تكليفه بالأخذ بأوامرهما ونواهيهما؟ وبعبارة اخرى : ومتى لم يعرفهما ولم يصدق بهما ، فكيف يجب عليه العمل بشي‌ء لا يعرف الأمر به ، ولا المبلغ له؟

الثالث : أنه قد اتّفقت الأدلّة العقليّة والنقليّة على معذوريّة الجاهل بالحكم الشرعي جهلا ساذجا ، كما تقدّم لك بيانه بأوضح بيان ، وإيضاحه بالدليل الساطع البرهان في الدرّة الثانية (٢) من درر هذا الكتاب ، فارجع إليه إن شئت لترى ما هو العجب العجاب. ولا ريب أن ما نحن فيه من هذا الباب.

نعم ، هو مكلّف بالبحث والنظر كغيره من سائر الجهّال إذا علم وجوبهما بالعقل والشرع ، وإلى ما ذكرنا في هذا الوجه يشير كلام الفاضل الملّا محمّد باقر الخراساني قدس‌سره في كتاب (ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد) في مسألة الصلاة في النجاسة عامدا ، حيث نقل عن الأصحاب عدم الفرق في الحكم بالإعادة وقتا وخارجا في المسألة المذكورة ، بين العالم بالحكم الشرعي أو الجاهل ، قال : (بل

__________________

(١) في «ح» : لهما.

(٢) انظر الدرر ١ : ٧٧ ـ ١١٩.

٣٤

صرّح العلّامة (١) وغيره (٢) بأن جاهل الحكم عامد ؛ لأن العلم ليس شرطا في التكليف).

ثم نقل عن بعضهم ، أنه استشكل ذلك لقبيح تكليف الغافل. ثم قال بعد نقل كلام ذلك البعض بطوله ما صورته : (وبالجملة ، الظاهر أن التكليف متعلّق بمقدمات الفعل ، كالنظر والسعي والتعلّم ، وإلّا لزم تكليف الغافل والتكليف بما لا يطاق ، والعقاب يترتّب على ترك النظر ، لكن لا يبعد أن يكون متضمّنا لعقاب التارك مع العلم. ولا يخفى أنه يلزم على هذا ألّا يكون الكفّار مخاطبين بالأحكام ، وإنما يكونون مخاطبين بمقدمات الأحكام ، وهذا خلاف ما قرّره الأصحاب وتحقيق هذا المقام من المشكلات) (٣) انتهى كلامه ، زيد مقامه.

أقول : والظاهر أن وجه الإشكال (٤) عنده من حيث مصادمة الدليل العقلي لما قرّره الأصحاب في هذا الباب ، فخروجه عما عليه الأصحاب سيّما مع ظاهر اتفاق كلمتهم في هذا الباب مشكل ، ومخالفته لمقتضى الدليل العقلي أشكل. ولا يخفى ما فيه عن الفطن النبيه ، فإن متابعة الشهرة من غير دليل واضح في المقام ، ولا سيّما مع قيام الدليل على خلاف ما ذكروه من الأحكام لا يخلو عن مجازفة والتساهل في أحكام الملك العلّام.

على أنه لو كان الجمود (٥) على الشهرة معمولا عليه بين الأصحاب لما انتشر صيت هذا الخلاف بينهم في باب من الأبواب. وأنت ترى أنه لم يبق جزئي من جزئيّات الأحكام إلّا وقد أكثروا فيه النقض والإبرام ، وانتشرت فيه الأقوال ، وبسطوا فيه الاستدلال وإن تقدّمهم (٦) شهرة ، بل إجماع في ذلك المجال ، فكلّ

__________________

(١) منتهى المطلب ٤ : ٢٣٠.

(٢) الدروس ١ : ١٢٧.

(٣) ذخيرة المعاد : ١٦٧.

(٤) في «ح» بعدها : المذكور.

(٥) في «ح» : الجمهور.

(٦) في «ح» : تقدم منهم.

٣٥

متأخّر منهم يذهب إلى ما ظهر له من الدليل ويردّ على من تقدّمه وخالفه في ذلك السبيل ، وهذه طريقتهم وعملهم عليها (١) جيلا بعد جيل.

الرابع : الأخبار الدالة على ما ذكرنا ، ومنها ما رواه ثقة الإسلام قدس‌سره في (الكافي) بسند صحيح عن زرارة قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أخبرني عن معرفة الإمام منكم ، واجبة على جميع الخلق؟ فقال : «إن الله تعالى بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الناس أجمعين رسولا وحجّة (٢) على خلقه في أرضه ، فمن آمن بالله وبمحمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واتّبعه وصدّقه ، فإن معرفة الإمام منا واجبة عليه ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله ، ولم يتبعه ولم يصدّقه ولم (٣) يعرف حقهما ، فكيف يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقّهما؟!» (٤) الحديث.

والحديث صحيح السند (٥) ـ فلا مجال للطّعن فيه من هذه الجهة ـ واضح الدلالة صريح المقالة.

وحينئذ ، فمتى تجب معرفة الإمام في هذا المقام الذي منه تؤخذ الأحكام ، وعليه الاعتماد في النقض والإبرام ، فبطريق الأولى لا تجب معرفة سائر الفروع ، كما لا يخفى على من له إلى الإنصاف أدنى رجوع.

ومنها ما رواه الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمّي ـ طاب ثراه ـ في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٦) ، قال : «أترى أن الله تعالى طلب من المشركين زكاة أموالهم وهم يشركون به ، حيث يقول (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ

__________________

(١) في «ح» : عليها عملهم ، بدل : عملهم عليها.

(٢) في «ح» بعدها : لله له.

(٣) ليست في «ح».

(٤) الكافي ١ : ١٨٠ ـ ١٨١ / ٣ ، باب معرفة الإمام والردّ عليه.

(٥) مرآة العقول ٢ : ٣٠٢.

(٦) فصّلت : ٦ ـ ٧.

٣٦

وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) إنّما دعا الله العباد للإيمان به فإذا آمنوا بالله ورسوله افترض عليهم [الفرائض] (١)؟» (٢).

وهو كما ترى صريح فيما قلناه ، والظاهر ـ والله سبحانه أعلم ـ أن الإمام عليه‌السلام فسر المشركين في الآية بالمخالفين ، حيث إنه بعد نفي المعنى (٣) الظاهر الذي ذكره عليه‌السلام لا مجال لحمل اللفظ إلّا على هؤلاء. وقد دلّت الأخبار المستفيضة على كفرهم وشركهم كما أوضحناه في رسالة (الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وما يترتب عليه من المطالب) (٤).

ومنها ما رواه الثقة الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب (الاحتجاج) في حديث الزنديق الذي جاء إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام مستدلا بآي من (القرآن) على تناقضه واختلافه حيث قال عليه‌السلام : «وكان أوّل ما قيدهم به الإقرار (٥) بالوحدانية والربوبية والشهادة أن لا إله إلّا الله ، فلمّا أقرّوا بذلك تلاه بالإقرار لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوّة والشهادة [له] بالرسالة ، فلمّا انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة ثمّ الصوم ثم الحجّ» (٦) الحديث.

ولم أطّلع على ما ذهب إلى ما قلناه ورجّح ما اخترناه ، سوى المحدّث الكاشاني ـ عطّر الله مرقده ـ فإنه في كتاب (الوافي) قال بعد نقل الحديث الأوّل ما صورته : (وفي هذا الحديث دلالة على أن الكفار ليسوا بمكلّفين بشرائع الإسلام كما هو الحق ، خلافا لما اشتهر بين متأخّري أصحابنا) (٧).

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : الفرض.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٣) سقط في «ح».

(٤) انظر الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب : ٨٤ ، ١٥٣ ـ ١٦٠ ، ١٦٧ ـ ٢٠١ ، ٢٣٢ ـ ٢٦٧.

(٥) في «ح» : بالإقرار ، بدل : به الإقرار.

(٦) الاحتجاج ١ : ٦٠١ / ١٣٧.

(٧) الوافي ٢ : ٨٢.

٣٧

وقال في تفسير (الصافي) بعد نقل الحديث الثاني ما لفظه : (أقول : هذا الحديث يدلّ على ما هو التحقيق عندي من أن الكفار غير مكلّفين بالأحكام الشرعيّة ما داموا باقين على الكفر) (١) انتهى.

وإلى ذلك أيضا يشير كلام المحدّث الأمين الأسترابادي ـ طيّب الله تعالى مرقده ـ في مواضع من كتابه (الفوائد المدنيّة) حيث صرّح في بعض المواضع منه بأن حكمته تعالى اقتضت أن يكون تعلّق التكاليف بالناس على التدريج بأن يكلّفوا أولا بالإقرار بالشهادتين ، ثم بعد صدور الإقرار عنهم يكلّفون بسائر ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : (ومن الأحاديث الدالة على ذلك صحيحة زرارة المذكورة في (الكافي) ..).

ثمّ أورد الرواية المتقدّمة بتمامها ، وقال أيضا بعد نقل جملة من أخبار الميثاق المأخوذ على العباد في عالم الذر بالتوحيد والنبوّة والإمامة ، وجملة من أخبار فطرة الله تعالى الناس على التوحيد وأن المعرفة من صنع الله تعالى ، ما لفظه : (أقول : هنا فوائد ـ إلى أن قال ـ : الثالثة : أنه يستفاد منها أن ما زعمه الأشاعرة من أن مجرد تصوّر الخطاب من غير سبق معرفة إلهامية بخالق العالم ، وأن له رضا وسخطا ، وأن لا بدّ من معلّم من جهته تعالى ليعلم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم ، كاف في تعلق التكليف بهم ليس بصحيح) (٢).

وقال في موضع آخر ـ بعد نقل قول الصادق عليه‌السلام : «إن من قولنا أن الله تعالى يحتج على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ثم أرسل إليهم رسولا ، وأنزل عليهم الكتاب ، فأمر فيه ونهى» (٣) : ما لفظه ـ : (وجه التأييد أن هذا الحديث الشريف يدل على أنه لم

__________________

(١) التفسير الصافي ٤ : ٣٥٣.

(٢) الفوائد المدنيّة : ٢٢٦.

(٣) الكافي ١ : ١٦٤ / ٤ ، باب حجج الله على خلقه.

٣٨

يتعلق بأحد تكليف إلّا بعد بلوغ الخطاب إليه.

وأما قوله عليه‌السلام : «بما آتاهم وعرّفهم» ، فيحتمل أن يكون إشارة إلى ما تواترت به الأخبار (١) عن الأئمَّة الأطهار عليهم‌السلام ، من أنه تعالى أخذ الإقرار بالربوبية من الأرواح في يوم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (٢) أو إلى ما يفهم من بعض الروايات (٣) من أنه إذا أراد الله تعالى تعلّق التكليف بأحد أفهمه أنه موجود ، وأن له رضا وسخطا بدلالات واضحة على ذلك ، وبأن مقتضى حكمته تعالى أن يعيّن أحدا لتعليم الناس ما يرضيه وما يسخطه ، ثمّ يبلّغه دعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعجزة على وفقها ، وما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الواجبات والمحرمات وحينئذ يتعلّق به التكليف لا قبله) (٤) انتهى.

الخامس : الأخبار الدالّة على وجوب طلب العلم كقولهم : «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» (٥) ؛ فإن موردها المسلم دون مطلق المكلّف أو البالغ العاقل.

والوجه في ذلك ما دل عليه الخبر المتقدّم نقله من كتاب (الاحتجاج) صريحا ، ودل عليه الخبران الآخران تلويحا من أن المطلوب من العباد أوّلا هو الإقرار بالشهادتين ، فإذا انقادوا إلى ذلك كلّفوا بالعبادات ، وإليه يشير أيضا قول الصادق عليه‌السلام المتقدّم نقله : «إن من قولنا : إن الله يحتج على العباد ..» ـ إلى آخره ـ حيث إنه عليه‌السلام قدم أشياء على الأمر والنهي ، فتلك الأشياء هي المعارف المأمور بها أوّلا.

وما يستفاد من الأمر والنهي هو العلم المأمور بتحصيله ثانيا ، فهذا هو السبب

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٤٠ ـ ٤٤ / ١٠٣ ـ ١١٧.

(٢) الأعراف : ١٧٢.

(٣) المحاسن ١ : ٣٢٠ ـ ٣٢٢ / ٦٣٧ ـ ٦٤٥.

(٤) الفوائد المدنيّة : ١٦١.

(٥) الكافي ١ : ٣٠ / ١ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه.

٣٩

في إيجاب طلب العلم على المسلم دون مطلق المكلف كما لا يخفى.

السادس : أنه لم يعلم منه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه أمر أحدا ممن دخل في الإسلام في زمانه بالغسل من الجنابة ، مع أنه لم ينفك أحد منهم في تلك الأزمنة المتطاولة منها ، ولو أمر بذلك لنقل وصار معلوما. وأما ما رواه العلامة رحمه‌الله في (المنتهى) (١) عن قيس ابن عاصم ، وأسيد بن حصين مما يدل على أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالغسل (٢) لمن أراد أن يدخل في الإسلام ، فليس في كتب أخبارنا ، والظاهر أنه عامّي فلا ينهض حجة.

السابع : اختصاص الخطابات القرآنية بالذين آمنوا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (٣) (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (٤) ، وورود (يا أَيُّهَا النّاسُ) (٥) في بعض ، وهو أقل قليل يحمل على المؤمنين حمل المطلق على المقيد ، والعام على الخاص ، كما هو القاعدة المتفق عليها بينهم. ويؤيد ذلك الأخبار التي قدّمناها بالتقريب الذي ذكرناه في سابق هذا الوجه.

والمراد بالمؤمنين المخاطبين هنا هم المسلمون وإن كانوا منافقين أو مخالفين كما دلت عليه أخبار العترة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ لا المؤمنين بالمعنى الخاص.

ومن تلك الأخبار ما رواه ثقة الإسلام قدس‌سره في روضة (الكافي) عن جميل بن دراج عن الصادق عليه‌السلام في حديث قال فيه : فدخل عليه الطيار وسأله وأنا عنده ، فقال له : جعلت فداك ، رأيت قوله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في غير مكان من مخاطبة المؤمنين ، أيدخل في هذا المنافقون؟ قال : «نعم ، يدخل في هذا المنافقون والضّلال ، وكل من أقر بالدعوة الظاهرة» (٦).

__________________

(١) منتهى المطلب ٢ : ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) في «ح» : الغسل.

(٣) الأنفال : ١٥ ، وغيرها كثير.

(٤) الأنعام : ٧٢ ، وغيرها كثير.

(٥) البقرة : ٢١ ، وغيرها كثير.

(٦) الكافي ٨ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠ / ٤١٣.

٤٠