مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

ذلك أعظم [ من ] أن يأمر بصلتهما وحقهما على كل حال « وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ

______________________________________________________

الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما » (١) الثالثة : الآية التي في لقمان وهي : « وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ، وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً » (٢) فأما الآية الأولى فهي موافقة لما في المصاحف ، والآية المنسوبة إلى لقمان لا يوافق شيئا من الآيتين المذكورتين في لقمان والعنكبوت ، وأيضا تصريح الراوي أو لا بأن الكلام كان في قوله تعالى « بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » ، وجوابه عليه‌السلام بما لا يوافقه مما لا يكاد يستقيم ظاهرا ، وأما الإشكالات المعنوية وسائر الإشكالات اللفظية فسيظهر لك عند ذكر التوجيهات.

وقد ذكر فيها وجوه نكتفي بإيراد بعضها :

الأول : ما خطر في عنفوان شبابي ببالي وعرضتها على مشايخي العظام رضوان الله عليهم فاستحسنوها وهو أن قول الراوي : وبالوالدين إحسانا بناء على زعمه أن الآية التي أشار عليه‌السلام إليها هي التي في بني إسرائيل كما ذكره بعد ذلك ، ولم يذكر الإمام عليه‌السلام ذلك بل قال : أكد الله في موضع من القرآن تأكيدا عظيما في بر الوالدين ، فظننا أن مراده عليه‌السلام الآية التي في بني إسرائيل ، أو المراد في معنى هذه العبارة ومضمونها وإن لم يذكر بهذا اللفظ ، ويحتمل أن يكون عليه‌السلام قرأ هذه الآية صريحا وأشار إجمالا إلى تأكيد عظيم في برهما فظن الراوي أن المبالغة العظيمة في هذه العبارة فقال عليه‌السلام : لا بل أردت ما في لقمان وإنما نسب الراوي هذه العبارة إلى بني إسرائيل مع أنها قد تكررت في مواضع من القرآن المجيد ، منها في البقرة ، ومنها في الأنعام ، ومنها في النساء لأنه تعالى عقب هذه العبارة في بني إسرائيل بتفسير

__________________

(١) الآية : ٨.

(٢) الآية : ١٥.

٤٠١

تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ »؟ فقال لا بل يأمر بصلتهما وإن جاهداه على الشرك ما زاد

______________________________________________________

الإحسان ، وتفصيل رعاية حقهما ، حيث قال : « إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ » إلى آخر ما مر دون ما في سائر السور ، مع أنه يحتمل أن يكون الراوي سمع منه عليه‌السلام أن ما في سائر السور إنما هو في شأن الوالدين بحسب الإيمان والعلم أعني النبي والوصي صلى الله عليهما ، وما في الأسرى في شأن والدي النسب كما قال علي بن إبراهيم في تفسير آية الأنعام أن الوالدين رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وقد مضت الأخبار الكثيرة في ذلك ، لكن الظاهر أنه من بطون الآيات ، ولا ينافي ظواهرها.

وأما الإشكال الثاني فيمكن أن يكون « حسنا » مثبتا في قراءتهم عليهم‌السلام ، ونظيره في الأخبار كثير وقد مر بعضها ، وسائر الأجزاء موافق لما في المصاحف ، لكن قد أسقط من البين قوله : « حَمَلَتْهُ أُمُّهُ » إلى قوله : « إِلَيَّ الْمَصِيرُ » اختصارا لعدم الحاجة إليه في هذا المقام أو إحالة على ما في المصاحف ، كما أنه لم يذكر « وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً » مع شدة الحاجة إليه في هذا المقام ، أو يكون نقلا بالمعنى إشارة إلى الآيتين معا فذكر « حسنا » للإشارة إلى آية العنكبوت و « على أن تشرك » للإشارة إلى لقمان وكأنه لذلك أسقط عليه‌السلام الفاصلة والتتمة لعدمهما في العنكبوت ، فقوله : في لقمان للاختصار أي في لقمان وغيرها ، أو المراد به لقمان وما يقرب منها بالظرفية المجازية كما يقال سجدة لقمان للمجاورة ، وكأنه عليه‌السلام ذكر السورتين والآيتين معا فاختصر الرواة عمدا أو سهوا ومثله كثير.

« فقال » أي الإمام عليه‌السلام « هي التي » أي الآية التي أشرت إليها وذكرت أن فيها المبالغة العظيمة في برهما ، أو الآية التي فسرتها لعبد الواحد التي في لقمان ، « فقال إن ذلك » هذا كلام ابن مسكان يقول قال الراوي المجهول الذي كان حاضرا عند سؤال عبد الواحد ، وهذا شائع في الأخبار يقول راوي الراوي : قال ، مكان قول الراوي : قلت ، ولا يلزم إرجاع المستتر إلى عبد الواحد وتقدير أنه كان حاضرا عند هذا السؤال أيضا ليحكم ببعده ولا يستبعد ذلك من له أدنى أنس بالأخبار.

٤٠٢

حقهما إلا عظما.

______________________________________________________

والحاصل أنه قال الراوي له عليه‌السلام إن ذلك ، أي الأمر الذي في بني إسرائيل أعظم أن يأمر ، أي بأن يأمر أو هو بدل لقوله ذلك ، وغرضه أن الآية التي في بني إسرائيل والأمر بالإحسان فيها بإطلاقها شامل لجميع الأحوال حتى حال الشرك والآية التي في لقمان استثني فيها حال الشرك فتكون الأولى أبلغ وأتم في الأمر بالإحسان ، فإن في قوله : « وَإِنْ جاهَداكَ » وصلية وإن كانت في الآية شرطية ، فقال أي الإمام عليه‌السلام في جوابه : لا ، أي ليس الأمر في الآيتين كما ذكرت فإن آية بني إسرائيل ليس فيها تصريح بعموم الأحوال بل فيها دلالة ضعيفة باعتبار الإطلاق ، وليس في آية لقمان استثناء حال الشرك بل فيها تنصيص علي الإحسان في تلك الحال أيضا ، وإنما نهى عن الإطاعة في الشرك فقط ، وقال بعده : وصاحبهما في الدنيا معروفا ، فأمر بالمصاحبة بالمعروف التي هي أكمل مراتب الإحسان في تلك الحال أيضا فعلى تقدير شمول الإطلاق في الأولى لتلك الحالة التنصيص أقوى في ذلك ، مع أن الدعاء بالرحمة في آخر آيات الأسرى مشعر بكونهما مسلمين فقوله : بل يأمر ، أي بل يأمر الله في آية لقمان بصلتهما ، وإن جاهداه على الشرك ، وقوله : ما زاد حقهما جملة أخرى مؤكدة ، أي ما زاد حقهما بذلك إلا عظما برفع حقهما أو بنصبه ، فيكون زاد متعديا ، أي لم يزد ذلك حقهما إلا عظما ، ويحتمل أن يكون يأمر مبتدأ بتقدير إن وما زاد خبره.

الثاني : ما قال صاحب الوافي قدس‌سره حيث قال : إنما ظنوا أنها في بني إسرائيل لأن ذكر هذا المعنى بهذه العبارة إنما هو في بني إسرائيل دون لقمان ولعله عليه‌السلام إنما أراد ذكر المعنى أي الإحسان بالوالدين دون لفظ القرآن ، وقوله عليه‌السلام : أن يأمر بصلتهما بدل من قوله : ذلك ، يعني أن يأمر الله بصلتهما وحقهما على كل حال الذي من جملته حال مجاهدتهما على الإشراك بالله أعظم ، والمراد أنه ورد الأمر بصلتهما وإحقاق حقهما في تلك الحال أيضا وإن لم تجب طاعتهما في الشرك ، ولما

٤٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

استبان له عليه‌السلام من حال المخاطب أنه لا تجب صلتهما في حال مجاهدتهما على الشرك رد عليه ذلك بقوله : لا ، وأضرب عنه بإثبات الأمر بصلتهما حينئذ أيضا ، وقوله : ما زاد حقهما إلا عظما تأكيد لما سبق.

الثالث : ما ذكره بعض أفاضل المعاصرين أيضا وإن كان ماله إلى الثاني حيث قال : فلما كان بعد ، أي بعد انقضاء ذلك الزمان في وقت آخر سألته عن هذا ، يعني قلت : هل كان الكلام في هذه الآية التي في بني إسرائيل ، فقال هي ، يعني الآية التي كان كلامنا فيها هي التي في لقمان وبينها بقوله : « وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » من الآلهة التي يعبدها الكفرة يعني باستحقاقها الإشراك ، وقيل : المراد بنفي العلم به نفيه « فَلا تُطِعْهُما » وقوله : حسنا ، ليس مذكورا في الآية لكن ذكره عليه‌السلام بيانا للمقصود ، ولعل هذا منشأ للظن الذي ظنه السائل وغيره ، وقوله : « وَإِنْ جاهَداكَ » مفصول عن قوله : « وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ » لكن ذكره عليه‌السلام هيهنا لتعلق الغرض به ، « فقال » يعني الصادق عليه‌السلام : إن ذلك ، يعني الوارد في سورة لقمان أعظم دلالة على الأمر بإحسان الوالدين وأبلغ فيه من الوارد في سورة بني إسرائيل ، قوله عليه‌السلام : أن يأمر بصلتهما وحقهما أي رعاية حقهما على كل حال ، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم ، بدل من اسم الإشارة بدل الاشتمال ، يعني الأمر بصلتهما على جميع الأحوال وإن كانت حال المجاهدة على الكفر كما هو المستفاد من آية لقمان أعظم في بيان حق الوالدين مما يستفاد من آية بني إسرائيل لعدم دلالتها على عموم الأحوال.

بيان ذلك أن المستفاد من آية بني إسرائيل الأمر بالإحسان بالوالدين والأمر لا يدل على التكرار كما تحقق في محله ، فضلا عن عموم الأحوال ، إذ فرق بين المطلق والعام ، وما في الآية من النهي عن التأفيف والزجر الدال على العموم إنما يدل على عموم النهي عن الأذى ووجوب الكف عنه في جميع الأحوال ، ولا يدل على

٤٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب تعميم الإحسان ، على أن في قوله تعالى : « وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً » إشعار باختصاص الأمر بالإحسان ، وما ذكر في سياقه بالمسلمين منهما للنهي عن الدعاء للكافر ، وإن كان أحد الأبوين « وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ».

وأما دلالة آية لقمان على وجوب الإحسان بهما وإن كان في حال الكفر فلقوله تعالى : « وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما » حيث قال عز. شأنه « فَلا تُطِعْهُما » ، ولم يقل لا تحسن إليهما بعد الأمر بالإحسان ، ثم قوله : وصاحبهما في الدنيا معروفا ، كما لا يخفى على الفطن « فقال » يعني الصادق عليه‌السلام ، وإنما أعاد لفظ فقال هيهنا وفي السابق للتأكيد ، والفصل بين كلامه والآية ، لا نفيا لما عسى يتوهم في هذا المقام من أن غاية ما ثبت وجوب الإحسان بهما في حال الكفر وإن كان ناقصا بالنسبة إلى ما يجب في حال الإسلام أو مساويا بالنسبة إليه ، فإن المقام مظنة لهذا التوهم بناء علي أن شرف الإسلام يقتضي زيادة الإحسان أو توهمه السائل وفهم الإمام عليه‌السلام ذلك ، فنفاه يعني ليس الأمر كما يتوهم بل الله سبحانه يأمر بصلتهما وإن جاهداه على الشرك ما زاد حقهما إلا عظما فإن المبتلي الممتحن بالبلاء أحق بالترحم ولأن الإحسان بهما في حال الكفر يوجب ميلهما ورغبتهما إلى الإسلام كما في واقعة النصراني وأمه المذكورة في الحديث الذي يلي هذا الحديث.

ويمكن أن يقال : يستفاد من الآية عظم حقهما في حال الشرك بناء على أن الراجح أن يكون قوله عز شأنه « وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً » ، معطوفا على جزاء الشرط لا الجملة الشرطية لمرجح القرب ، وقوله : في الدنيا كما لا يخفى على

٤٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المتدبر ، وكذا قوله : واتبع سبيل من أناب إلى.

ويحتمل أن يكون المعنى قوله عليه‌السلام : لا ، ليست الآية التي فسرتها ما في بني إسرائيل فيكون تأكيدا للنفي المفهوم في الكلام السابق ، وعلى هذا يجري في قوله : بل يأمر بصلتهما الاحتمالان الآتيان في التفسير الثاني على هذا التفسير أيضا فتدبر.

وفي بعض نسخ الكافي فقال إن ذلك أعظم من أن يأمر بصلتهما ، بزيادة لفظة « من » ويمكن تفسير الحديث بناء على هذه النسخة بأن يقال : قوله عليه‌السلام : ذلك إشارة إلى ما في بني إسرائيل ، ويكون الكلام مسوقا على سبيل الاستفهام الإنكاري ، فيكون المراد ما في سورة بني إسرائيل أعظم في إفادة المراد من أن يأمر بصلتهما علي كل حال وإن كان حال الكفر كما في آية لقمان حتى يكون مقصودي ذلك ، ثم قال : لا ، تأكيدا للنفي المستفاد من الكلام السابق فقال : بل يأمر بصلتهما وإن جاهداه على الشرك ما زاد حقهما إلا عظما كما هو المستفاد من آية لقمان أعظم فالخبر محذوف للقرينة ، وعلى هذا « حقهما » مرفوع على أنه فاعل زاد فيكون حاصل الكلام أن يأمر بصلتهما وإن جاهداه على الشرك كما هو المستفاد من آية لقمان ما زاد حقهما إلا عظما ، فيكون هذا الكلام أي المذكور في سورة لقمان أعظم دلالة من ذلك ففي الكلام تقديران ، وعلى هذا الاحتمال الأخير لا يدل الحديث على زيادة حق الوالدين في حال الكفر ، ويمكن إجراء هذين المعنيين على النسخة الأولى.

الرابع : ما ذكره بعض المشايخ الكبار مد ظله قال : الذي يخطر بالبال أن فيه تقديما وتأخيرا في بعض كلماته وتحريفا في بعضها من النساخ أولا وأن قوله : « وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » بعد قوله : « أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ » والأصل والله أعلم :

قال وأنا عنده لعبد الواحد الأنصاري في بر الوالدين في قول الله عز وجل ، فظننا أنها الآية التي في بني إسرائيل : « وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً »

٤٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ومثل هذا يشتبه إذا كان في آخر سطر أنه من السطر الأول أو الثاني ونحو ذلك ، والبعد بينهما هنا نحو سطر ، وحاصل المعنى أنه عليه‌السلام ذكر لعبد الواحد بر الوالدين في قول الله عز وجل ، ولم يبين في أي موضع ، فظن أن مراده عليه‌السلام أنه في بني إسرائيل.

ويحتمل أن يكون : فقال إن ذلك « فقلت أن ذلك » بقرينة قوله بعد فقال : لا ، والمعنى على هذا أني قلت له عليه‌السلام إن هذا عظيم وهو أنه كيف يأمر بصلتهما وحقهما علي كل حال وإن حصلت المجاهدة منهما على الشرك والخطاب حينئذ حكاية للفظ الآية فقال عليه‌السلام : لا ، أي ليس بعظيم كما ظننت أن مجاهدتهما على الشرك تمنع من صلتهما وحقهما ، بل هو تعالى يأمر بصلتهما وإن حصلت منهما المجاهدة ، وحصول المجاهدة لا يسقط حقهما وصلتهما بل يزيده عظما فإن حق الوالدين إذا لم يسقط مع المجاهدة على الشرك كان أعظم منه مع عدم المجاهدة.

والظاهر من السياق على هذا كون إن في « وَإِنْ جاهَداكَ » وصلية في كلام الراوي وإن كانت في الآية شرطية ، وفي كلام الإمام عليه‌السلام يحتمل أن يكون وصلية وقوله : فلا تطعهما كلام مستقل متفرع على ما قبله ، وأن تكون شرطية وجواب الشرط فلا تطعهما ، ومع ملاحظة المحذوف من الآية لا يبعد الوصل باعتبار كون ما بينهما معترضا وإن كان الأظهر خلافه مع الذكر ولفظ « حسنا » إن لم يكن زائدا من النساخ أو الراوي سهوا فقد وقع مثله كثيرا في الأحاديث بما ليس في القرآن الموجود وهم عليهم‌السلام أعلم بحقيقة القرآن ، نعم هو في آية العنكبوت ولا يمكن إرادتهما بعد قوله عليه‌السلام في سورة لقمان باعتبار الظرفية بخلاف سجدة لقمان فإن الإضافة تصدق بأدنى ملابسة فأضيفت سجدة سورة السجدة إلى لقمان للقرب وعدم الفصل بسورة أو باعتبار إضافة السجدة بمعنى سورة السجدة إلى لقمان ثم توسعوا بإضافة السجدة التي في السورة إلى لقمان.

٤٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ويمكن أن يكون على هذا ، الآية في الواقع كما ذكره عليه‌السلام من غير الزيادة التي في لقمان وهي « حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً » إلخ إن ثبت هذا وتكون في محل آخر إلا أن يكون المقصود ذكر ما يتعلق بالمقام فقط مع حذف غيره ، والتنبيه على كون « وَإِنْ جاهَداكَ » وصليا للكلام الأول ، ولفظ يأمر الثاني يحتمل أن يكون أصله يؤمر فهو من قبيل ما تقدم من التحريف.

هذا ما يتعلق بالحديث على تقدير المذكور وعلى ما في الحديث من قوله « فقال » يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون ضميره راجعا إلى عبد الواحد ، وفيه أن عبد الواحد لم يذكر إلا في الكلام الأول ، وقوله : فلما كان بعد سألته ، كلام آخر فرجوعه إلى عبد الواحد يحتاج إلى تكلف تقدير حضور عبد الواحد وقت سؤال غيره في وقت آخر فإرجاع الضمير إليه مع عدم قرينة تدل على ذلك فهو كما ترى.

الثاني : أن يكون معطوفا على « فقال » السابق ، والقائل حينئذ الإمام عليه‌السلام والمعنى فقال بعد ذكر الآية إن هذه الآية أمر الوالدين فيها أعظم من أمرهما في آية بني إسرائيل لفهمه عليه‌السلام ما ظنه السائل فإن في هذه الوصية وإن حصلت المجاهدة على الشرك ، فالمجاهدة لا تسقط حقهما بل يترتب عليهما عدم الإطاعة في ذلك ، وهو أن يأمر تعالى بصلتهما وحقهما على كل حال حتى مع المجاهدة.

وعلى هذا فقوله : فقال لا ، ضميره يحتمل أن يرجع إليه تعالى بمعنى أنه تعالى قال بعد ما ذكر مفسرا من الإمام عليه‌السلام لا ، أي لا تطعهما بل هو تعالى يأمره بصلتهما وإن جاهداه على الشرك ، وليس هذا تكرارا لما تقدمه فإنه يفيد أن عدم الإطاعة لهما ليس في كل شيء فيه برهما بل في الشرك فقط ، وكلما فيه صلة لا يترك بسبب المجاهدة على الشرك ، ويحتمل بعيدا أن تكون إن في قوله : وإن جاهداه على الشرك شرطية ، وجواب الشرط ما زاد حقهما إلا عظما ، والمعنى حينئذ أن

٤٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المجاهدة على الشرك لا تسقط حقهما بل تزيده عظما والله تعالى أعلم بمقاصد أوليائه انتهى كلامه زيد فضله.

الخامس : ما ذكره بعض الشارحين فاقتفى أثر الفضلاء المتقدم ذكرهم في جعل ضمير قال في الموضعين راجعا إلى الإمام عليه‌السلام إلا أنه حمل الوالدين على والدي العلم والحكمة ، وقال : « ذلك » في قوله : « إن ذلك أعظم » إشارة إلى قوله تعالى : « وَإِنْ جاهَداكَ » و « أعظم » فعل ماض تقول أعظمته وعظمته بالتشديد إذا جعلته عظيما ، و « إن يأمر » مفعوله بتأويل المصدر والمراد بالأمر بالصلة الأمر السابق على هذا القول واللاحق له أعني قوله : اشكر لي ولوالديك ، وقوله : وصاحبهما واتبع ، فأفاد عليه‌السلام بعد قراءة قوله تعالى : « وَإِنْ جاهَداكَ » أن هذا القول أعظم الأمر بصلة الوالدين وحقهما علي كل حال ، حيث يفيد أنه تجب صلتهما وطاعتهما مع الزجر والمنع منهما فكيف بدونه « وَإِنْ جاهَداكَ » إلخ ثم قرأ هذا القول وهو قوله تعالى : « وَإِنْ جاهَداكَ » وأفاد بقوله : لا ، أنه ليس المراد منه ظاهره وهو مجاهدة الوالدين على الشرك ونهى الولد عن إطاعتهما عليه بل يأمر الولد بصلة الوالدين وإن منعه المانعان أي أبو بكر وعمر عنهما وما زاد هذا القول حقهما إلا عظما وفخامة.

واستشهد لذلك برواية أصبغ المتقدمة في باب نكت التنزيل في تأويل تلك الآيات ذاهلا عن أنه تأويل لبطن الآية ولا ينافي تفسير ظهرها بوجه آخر.

لكن يؤيده ما رواه مؤلف كتاب تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة نقلا من تفسير محمد بن العباس بن ماهيار بسنده الصحيح عن عبد الله بن سليمان قال : شهدت جابر الجعفي عند أبي جعفر عليه‌السلام وهو يحدث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليا عليه‌السلام الوالدان ، قال عبد الله بن سليمان : وسمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : منا الذي أحل له الخمس ، ومنا الذي جاء بالصدق ، ومنا الذي صدق به ، ولنا

٤٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المودة في كتاب الله عز وجل ، وعلى ورسول الله صلوات الله عليهما الوالدان وأمر الله ذريتهما بالشكر لهما.

وروي أيضا بسند صحيح آخر عن ابن مسكان عن زرارة عن عبد الواحد بن مختار ، قال : دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام فقال : أما علمت أن عليا أحد الوالدين قال الله تعالى : « أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ » قال زرارة : فكنت لا أدري أي آية هي التي في بني إسرائيل أو التي في لقمان قال : فقضي لي أن حججت فدخلت على أبي جعفر عليه‌السلام فخلوت به فقلت : جعلت فداك حديث جاء به عبد الواحد؟ قال : نعم ، قلت : أي آية هي؟ التي في لقمان أو التي في بني إسرائيل؟ فقال : التي في لقمان.

وروي أيضا بسند آخر عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ » رسول الله وعلي صلوات الله عليهما.

ثم إنه يظهر من هذه الأخبار أن في رواية الكافي تصحيفا وتحريفا وأن قوله عمن رواه تصحيف عن زرارة ، وبه يرتفع بعض الإشكالات ، لكن تطبيقه على الآية في غاية (١) وقد مرت الوجوه في ذلك في الباب المذكور.

وإنما أطنبت الكلام في هذا الخبر لتعرف ما ذهب إليه أوهام أقوام وتختار ما هو الحق بحسب فهمك منها والله الموفق.

ثم لنذكر تفسير آية لقمان مشيرا إلى بعض الدقائق المستنبطة منها :

فمن ذلك قوله تعالى : « وَوَصَّيْنَا » فإن فيه تأكيدا ومبالغة من جهة أن التعبير بالتوصية إنما يكون في الأمور العظيمة المهتم لها كما هو الظاهر في المقامات المستعملة فيها من الآيات والأخبار وعرف سائر الناس ، ومن جهة أن فيها إشعارا بأن الموصى به مما فيه صلاح وقربة ، فإن أصل التوصية التقدم إلى الغير بما فيه صلاح ، ففيه دلالة على أن هذا الأمر مما فيه صلاح الحال أو إصلاح المال فيجب

__________________

(١) كذا في النسخ والظاهر سقوط لفظة « الإشكال » أو غيرها.

٤١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الإقدام عليه ، فيكون أدل على المقصود وكان بمنزلة نصب الدليل على الدعوى ، مع ما في هذه الصيغة من الدلالة على المبالغة والتكثير.

ولعل قوله تعالى « وَصَّيْنَا » دون وصيت باعتبار التعظيم أو باعتبار شركة الأنبياء والرسل والملائكة وحملة الوحي والأوصياء المبلغين للأحكام في هذه التوصية مع مشاركة العقول المستقيمة فيها ، فإن الحكم بذلك ليس بشرعي صرف ، فيكون فيه مبالغة من هذه الجهة ، على أنه على تقدير التعظيم أيضا لا يخلو عن نوع مبالغة كما لا يخفى.

ومنها قوله جل وعز : « الإنسان » حيث لم يخاطب بصيغة الجمع كما في الآية الأخرى فإنه يدل على عموم المأمورين بهذا الحكم صريحا ، وأما الخطابات القرآنية علي سبيل المشافهة ، فالتحقيق فيها أنها متوجهة إلى الموجودين في وقت الخطاب ، ومشاركة حكم باقي الأمة لحكمهم إنما استفيدت بدليل من خارج ، لا من نفس الآية وإلى هذا ذهب المحققون من الأصوليين ومن حيث لم يقل « الناس » فإنه يستفاد من هذا أن الحكم كأنه متوجه إلى كل واحد واحد من أفراد الإنسان يستفاد من هذا أن الحكم كأنه متوجه إلى كل واحد واحد من أفراد الإنسان بانفراده بخلاف ذلك ، ولا يخفى ما في ذلك من المبالغة.

ومنها عدم ذكر قوله : « إحسانا » كما في الآية الأخرى لما فيه من الإشعار بكون ذلك متعينا لا يتوهم غيره أو للتعميم وذهاب الذهن كل مذهب ، وفيهما من المبالغة ما لا يخفى.

ومنها إيراد الضمير المجرور في قوله تعالى شأنه : « بِوالِدَيْهِ » ولم يقل بالوالدين كما في الأخرى لأن في الاختصاص المستفاد من الإضافة استعطافا واسترحاما وإشارة إلى الانتساب الخاص والرحم الماس وتهييجا للعلاقة الطبيعية من جهة تذكير النسبة الخاصة ، وفيه إشارة إلى التعليل وإلى أن تكون اهتمامهم بذلك حيث كان مصلحة

٤١١

.................................................................................................

______________________________________________________

لهم وللمختصين بهم اختصاصا فوق كل اختصاص بحيث لا يحتاج إلى التوصية والموعظة من غيرهم إلى أن هذا من مهمات أمورهم ، ولا يرجع إلى مصلحة للموصي.

ومنها قوله : « حَمَلَتْهُ أُمُّهُ » لأن فيه دلالة على علة الحكم وتذكير ما احتملته من الأعباء الثقيلة والمشاق الشديدة التي قاستها في حال الحمل ، من الحمل الثقيل في جميع الحالات من غير استراحة وتغير المزاج عن الحالة الطبيعية وتطرق الفتور إلى أكثر القوي والأمراض والأعراض التي حلت بها حال الحمل بسبب إحساس الطمث وارتفاع الأبخرة الرديئة إلى الدماغ من الكرب والكسل ، وثقل البدن وخبث النفس والغشيان والقشعريرة والصداع والدوار وظلمة العين والخفقان وغور العين واسترخاء جفنها ، والشهوات الرديئة وتغير اللون وحدوث آثار خارجة عن الطبيعة والعوارض النفسانية التي تعرض لها ، مثل الخوف من شدائد الطلق وتبعاته ، وعروض الآلام والأوجاع التي تتحملها في حال الوضع ، إلى غير ذلك وفي ضمير قوله : أمه ، من المبالغة ما ذكر في قوله : والديه.

ومنها قوله عز شأنه : « وَهْناً » أي ذات وهن ، أو تهن وهنا أي تضعف ضعفا فوق ضعف بالحمل الثقيل الذي يتزايد في الثقل يوما فيوما بسبب أنه يعظم الولد ويكبر ويزداد أعضاءها وقواها ضعفا وو هنا على طول الأيام بسبب دوام الثقل والآفات والعوارض الحادثة بسبب العلوق ، وكل حامل لشيء ثقيل إذا تعب وأعيى يضع حمله ليستريح ويستقوي ، ثم يرجع إلى الحمل بعد رجوع القوة وزوال الإعياء إن تعلق به الغرض ، بخلاف المرأة الحاملة فإنها ليست لها استراحة في الأثناء مع أن المحمول دائما في ازدياد الثقل والنمو ، والعامل في انحطاط القوة وغلبة الضعف وإن أمكن لها دفع ثقل ووضعه بالإسقاط لا تفعل.

ففي ذكر هذا مبالغة في وجوب الإحسان بناء على تحمل مثل هذه المشاق

٤١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

التي لا يتحملها غيرها ، فكيف يمكن الإهمال والتساهل في رعاية حقها ، وفيه تمهيد لكون الإحسان لهما هو الشكر للنعمة الذي تطابق العقل والنقل على وجوب رعايته ، وفي قوله : على ، دون (١) في زيادة المبالغة وإشعار بأن الوهن اللاحق أشد من السابق لما في معناها من تضمن معنى العلو والاستيلاء.

وقيل : قوله وهنا على وهن ، حال من الضمير المنصوب فيكون المراد وهن الولد ، ويكون إشارة إلى ضعف الولد وعجزه وعدم فوته وانتهاضه بتحصيل مصالحه وسقوطه عن مرتبة مكافأة الإحسان ومجازاة الامتنان في مراتب تنقلاته في الأطوار المختلفة وتحولاته في الصور والأحوال المتعاقبة من كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم ظهور نقوش الأعضاء وصورها إلى غير ذلك من أحواله فإن الجنين بل الرضيع قبل استوائه وبلوغ أشده في وهن على وهن ، ولعل الوهن التالي أشد من السالف لانضمام ازدياد الحاجة مع العجز عن الكفاية إلى ضعف القوة ففي مثل تلك الأحوال حملته الأم حملا ثقيلا وأتعب نفسها في حفظه ووقته بذاتها وأعضاء جسدها وأسكنته في صميم بدنها فكيف يسوغ للعاقل التكاسل في أداء حقها.

ففيه مبالغة وتذكير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ومنها قوله تعالى : « وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ » أي فصاله في انقضاء عامين ، وفيه بيان لقسط أخرى من حقوق الأم فإنه بعد انقضاء أيام الحمل وتحملها آلامها لم تفرغ للراحة بل كانت ممنوة بتعب الإرضاع في تلك المدة الطويلة فاختارته وآثرته على نفسها في مطعمه ومشربه وملبسه ونومه وراحته مقترة علي نفسها في توسعته ، فهجرت النوم والراحة وقاست التعب الشديد في حفظه ورعايته وضبطه وكفايته حيث عجز من تفقد حاله وجذب المنافع ودفع الآلام عن نفسه ، فكانت

__________________

(١) كذا في الأصل وفيما عندي من المخطوطة ولا يخلو من التصحيف قطعا.

٤١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بمنزلة حواسه وجوارحه وأعضائه في طلب مصالحه ودفع مضاره نائبة مناب تلك الآلات الجليلة في الآثار التي يترتب عليها وكثيرا ما يبتلي بشدة الاحتماء وترك الملاذ وشرب الأدوية الكريهة البشعة والفصد والحجامة من غير مرض وعلة لمداواة المرض الذي حل به.

والأب لا يخلو عن كثير من ذلك في تلك المدة لاهتمامه واشتغاله بحال الولد وشدة عنايته بتربيته فهو مشغول بحاله بالجنان والأركان ، ففيه إشارة وتذكير إلى عظم منتهما وقدم نعمتهما تحريصا علي الإحسان وحثا على الثبات في هذا الشأن.

ومنها قوله عز شأنه : « أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ » حيث جعلهما تلوا له جل إحسانه في وجوب الشكر وحيث عبر عن الإحسان بهما بالشكر الذي تطابقت العقول وتوافقت الشرائع على وجوب أدائه ولزوم رعايته تذكيرا لأنعمهما ثانيا وتحريصا على مراعاة الإحسان ومبالغة في الغرض المسوق له بالكلام ، وأبلغ من ذلك أنه جعل الإحسان إليهما شكرا له تعالى فإن قوله تعالى : « أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ » تفسير لوصينا أو علة له ، أو بدل من والديه بدل الاشتمال.

ومما يزيد في ذلك استعظامه تعالى أمر الشكر فيما قبل هذا المقام من غير فصل يعتد به حيث قال تعالى : حيث قال « وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ « أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ » أي لأن أشكر أو أي اشكر ، حيث جعل الشكر تفسيرا وغاية للحكمة التي من بها على لقمان ، وآل إبراهيم حيث قال جل شأنه : « فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ » (١) وهي النعمة التي من يؤتها فقد أوتي خيرا كثيرا ، وقد جعل تعليم الحكمة في غير واحد من الآيات غاية لبعث الأنبياء وإرسالهم إلى الخلق ووصف بها ذاته سبحانه

__________________

(١) سورة النساء : ٥٤.

٤١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

في غير موضع ، ثم قال : « وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ » لأن نفعه عائد إليها وهو دوام النعمة واستحقاق مزيدها ، تحريصا على الإتيان بالشكر لأن الإنسان حريص علي تحصيل مصالحه ، ثم قال : « وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ » أي حقيق بالحمد وإن لم يحمد ، أو محمود في السماوات والأرضين يحمده كل مخلوق بلسان الحال وإن عجز أو أبي عن المقال ، ففيه تعبير عن ترك الشكر بالكفر ، وإشارة إلى أن أمره بالشكر ليس لحاجة له إليه وأنه يحمده الصامت والناطق ، فكيف يسوغ لأحد أن يترك شكر ربه.

ففي ذلك من المبالغة الشديدة ما لا يخفى على اللبيب ، والتلون والالتفات الذي في قوله تعالى : « أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ » لا يخلو عن مبالغة ، إذ فيه تنشيط للسامع وتطرية لنشاطه وإيقاظ للإصغاء إليه وإشعار بزيادة الاهتمام.

ومنها قوله سبحانه بعد ما سبق : « إِلَيَّ الْمَصِيرُ » ففيه دلالة على أن المصير والمرجع إلى الله الذي بيده ملكوت السماوات والأرض ، وهو على كل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، فيجازي ويثيب أحسن الجزاء أن أحسنتم بهما وشكرتم ، ويعاقب أشد العقوبة والعذاب إن خالفتم وأسأتم ، وإنما قال تعالى : « إلى » لا إلينا ، مثل وصينا لئلا يتوهم الشركة هيهنا.

ومنها قوله تعالى بعد ذلك : « وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما » فإن فيه دلالة على لزوم الإحسان في حال الكفر أيضا كما مر ، وفي التعبير بقوله : جاهداك الدال على زيادة الجهد والمبالغة فيه الدالة على التوغل في الكفر زيادة مبالغة في الغرض المطلوب.

ومنها قوله بعد ذلك : « وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً » أي صحابا معروفا يقتضيه الشرع ويقتضيه الكرم.

ومنها قوله بعد ذلك : « وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ » إشارة إلى أن هذا طريق

٤١٥

٧ ـ عنه ، عن محمد بن علي ، عن الحكم بن مسكين ، عن محمد بن مروان قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين وميتين يصلي

______________________________________________________

الموحدين المخلصين.

ومنها قوله تعالى بعد ذلك تأكيدا وتكريرا : « ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ » فأوفي الظالم والمظلوم والمحسن والمسيء ما يستحقون.

ومنها قوله سبحانه بعد ذلك : « فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » تصريحا بمجازاة الأعمال ومكافأة الأفعال ، وإشارة إلى أن الكل حيث يجازون بأعمالهم لا يضره كفرهما.

ومنها قوله تعالى بعد ذلك : « يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ » الآية على إحاطة علمه سبحانه بكل شيء وأنه يأتي بكل شيء جليل وحقير فيحاسب عليها وهو مناسب للغرض السابق.

ومنها تخلل الآيتين في أثناء مواعظ لقمان واعتراضهما في تضاعيف وصاياه فإنه ورد ذلك تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك كأنه قال وقد وصينا بمثل ما وصى به ، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما مع أنهما تلوا الباري تعالى في استحقاق الطاعة والتعظيم لا يجوز أن يستحقا الطاعة في الشرك فما ظنك بغيرهما ، فكأنه تعالى بعد ما ذكر أن الشرك لظلم عظيم ، وبالغ في استعظام الشرك بأنه لا يجوز متابعة الوالدين فيه فبلغ عظم أمره إلى حيث لا يطاع الوالدان فيه ، وإن جاهدا عليه ، وفيه من المبالغة في استعظام أمر الوالدين ما لا يخفى على المتدبر الفطن.

وإنما أطنبنا الكلام في ذلك ليظهر لك أنه عليه الصلاة والسلام لم خص آية لقمان بالذكر من بين سائر الآيات لما فيه من التأكيدات والمبالغات.

الحديث السابع : ضعيف.

« يصلي عنهما » بيان للبر بعد الوفاة فكأنه قيل : كيف يبرهما بعد موتهما؟ قال

٤١٦

عنهما ويتصدق عنهما ويحج عنهما ويصوم عنهما فيكون الذي صنع لهما وله مثل ذلك فيزيده الله عز وجل ببره وصلته خيرا كثيرا.

٨ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن معمر بن خلاد قال قلت

______________________________________________________

يصلي عنهما قضاء ونافلة ، وكذا الحج والصوم ، ويمكن شموله لاستيجارها من مال الميت أو من ماله ، وتجب قضاء الصلاة والصوم على أكبر الأولاد وستأتي تفاصيل ذلك إنشاء الله في محله.

ويدل على أن ثواب هذه الأعمال وغيرها يصل إلى الميت وهو مذهب علمائنا ، وأما العامة فقد اتفقوا على أن ثواب الصدقة يصل إليه ، واختلفوا في عمل الأبدان فقيل : يصل قياسا على الصدقة ، وقيل : لا يصل لقوله تعالى : « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى » (١) إلا الحج لأن فيه شائبة عمل البدن وإنفاق المال ، فغلب المال.

قوله : فيزيده الله ، أي يعطي ثوابان ، ثواب لأصل العمل ، وثواب آخر كثير للبر في الدنيا والآخرة.

الحديث الثامن : صحيح.

ويدل على جواز الدعاء والتصدق للوالدين المخالفين للحق بعد موتهما والمداراة معهما في حياتهما ، والثاني قد مر الكلام فيه ، وأما الأول فيمكن انتفاعهما بتخفيف عذابهما ، وقد ورد الحج عن الوالد إن كان ناصبا وعمل به أكثر الأصحاب بحمل الناصب على المخالف ، وأنكر ابن إدريس النيابة عن الأب أيضا.

ويمكن حمل الخبر على المستضعف ، لأن الناصب المعلن لعداوة أهل البيت عليهم‌السلام كافر بلا ريب ، والمخالف غير المستضعف أيضا مخلد في النار أطلق عليه الكافر والمشرك في الأخبار المستفيضة ، واسم النفاق في كثير منها ، وقد قال سبحانه في شأن المنافقين : « لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَ

__________________

(١) سورة النجم : ٣٩.

٤١٧

لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام أدعو لوالدي إذا كانا لا يعرفان الحق قال ادع لهما وتصدق عنهما وإن كانا حيين لا يعرفان الحق فدارهما فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال

______________________________________________________

رَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ » (١) وقال المفسرون « وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ » ، أي لا تقف على قبره للدعاء وقال في شأن المشركين : « ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ، وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ » (٢) فإن التعليل بقوله : من بعد ما تبين ، يدل على عدم جواز الاستغفار لمن علم أنه من أهل النار وإن لم يطلق عليهم المشرك ، وكون المخالفين من أهل النار معلوم بتواتر الأخبار ، وكذا قوله : فلما تبين له أنه عدو لله ، يدل على عدم جواز الاستغفار لهم ، لأنه لا شك أنهم أعداء الله.

فإن قيل : استغفار إبراهيم لأبيه يدل على استثناء الأب؟ قلت : المشهور بين المفسرين أن استغفار إبراهيم عليه‌السلام كان بشرط الإيمان لأنه كان وعده أن يسلم ، فلما مات على الكفر وتبين عداوته لله تبرأ منه ، وقيل : الموعدة كان من إبراهيم لأبيه قال له : إني سأستغفر لك ما دمت حيا ، وكان يستغفر له مقيدا بشرط الإيمان فلما آيس من إيمانه تبرأ منه.

وأما قوله عليه‌السلام في سورة مريم : « سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي » (٣) فقال الطبرسي (ره) سلام توديع وهجر على ألطف الوجوه ، وهو سلام متاركة ومباعدة منه ، وقيل سلام إكرام وبر تأدية لحق الأبوة.

وقال في « سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ » فيه أقوال : أحدها : أنه إنما وعده الاستغفار على مقتضى العقل ولم يكن قد استقر بعد قبح الاستغفار للمشركين « وثانيها » أنه قال سأستغفر لك علي ما يصح ويجوز من تركك عبادة الأوثان وإخلاص العبادة لله

__________________

(١) سورة التوبة : ٨٤.

(٢) سورة التوبة : ١١٤.

(٣) الآية : ٤٧.

٤١٨

إن الله بعثني بالرحمة لا بالعقوق.

٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا رسول الله من أبر قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أباك

______________________________________________________

« وثالثها » أن معناه سأدعو الله أن لا يعذبك في الدنيا ، انتهى.

وأقول : لو تمت دلالة الآية لدلت على جواز الاستغفار والدعاء لغير الأب أيضا من الأقارب لأنه على المشهور بين الإمامية لم يكن آزر أباه عليه‌السلام بل كان عمه ، والأخبار تدل على ذلك.

ثم إن من جوز الصلاة على المخالف من أصحابنا صرح بأنه يلعنه في الرابعة أو يترك ولم يذكروا الدعاء للوالدين ، وقال الصدوق رضي‌الله‌عنه : إن كان المستضعف منك بسبيل فاستغفر له على وجه الشفاعة لا على وجه الولاية ، لرواية الحلبي عن الصادق عليه‌السلام ، وفي مرسل ابن فضال عنه الترحم على جهة الولاية والشفاعة كذا قال في الذكرى.

وأقول : هذا يؤيد الحمل على المستضعف وأما الاستدلال بالآية المتقدمة على جواز السلام على الأب إذا كان مشركا فلا يخفى ما فيه ، أما أولا فلما عرفت أنه لم يكن أبا إلا أن يستدل بالطريق الأولى ، فيدل على الأعم من الوالدين ، وأما ثانيا فلما عرفت من أن بعضهم بل أكثرهم حملوه على سلام المتاركة والمهاجرة ، نعم يمكن إدخاله في المصاحبة بالمعروف ، مع ورود تجويز السلام على الكافر مطلقا كما سيأتي في بابه إنشاء الله تعالى.

الحديث التاسع : حسن كالصحيح.

واستدل به علي أن للأم ثلاثة أرباع البر ، وقيل : لا يفهم منه إلا المبالغة في بر الأم ولا يظهر منه مقدار الفضل ، ووجه الفضل ظاهر لكثرة مشقتها وزيادة تعبها وآية لقمان أيضا تشعر بذلك كما عرفت ، واختلفت العامة في ذلك فالمشهور

٤١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

عن مالك أن الأم والأب سواء في ذلك ، وقال بعضهم : تفضيل الأم مجمع عليه ، وقال بعضهم : للأم ثلاثا البر لما رواه مسلم أنه قال رجل : يا رسول الله من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أبوك.

وقال الشهيد طيب الله رمسه بعد إيراد مضمون الروايتين فقال بعض العلماء : هذا يدل على أن للأم إما ثلثي الأب على الرواية الأولى أو ثلاثة أرباعه على الثانية وللأب أما الثلث أو الربع ، فاعترض بعض المستطيعين بأن هنا سؤالات :

الأول : أن السؤال بأحق عن أعلى رتب البر فعرف الرتبة العالية ، ثم سأل عن الرتبة التي تليها بصيغة « ثم » التي هي للتراخي الدالة على نقص رتبة الفريق الثاني عن الفريق الأول في البر ، فلا بد أن تكون الرتبة الثانية أخفض من الأولى ، وكذا الثالثة أخفض من الثانية فلا تكون رتبة الأب مشتملة على ثلث البر ، وإلا لكانت الرتب مستوية ، وقد ثبت أنها مختلفة فتصيب الأب أقل من الثلث قطعا أو أقل من الربع قطعا ، فلا يكون ذلك الحكم صوابا.

الثاني : أن حرف العطف تقتضي المغايرة لامتناع عطف الشيء على نفسه ، وقد عطف الأم علي الأم.

الثالث : أن السائل إنما سأل ثانيا عن غير الأم فكيف يجاب بالأم والجواب يشترط فيه المطابقة؟

وأجاب عن هذين بأن العطف هنا محمول على المعنى كأنه لما أجيب أولا بالأم قال : فلمن أتوجه ببري بعد فراغي منها؟ فقيل له : للأم وهي مرتبة ثانية دون الأولى كما ذكرنا أولا ، فالأم المذكورة ثانيا هي المذكورة أولا بحسب الذات وإن كانت غيرها بحسب الغرض وهو كونها في الرتبة الثانية من البر ، فإذا

٤٢٠