مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

شاء إلى غيره وذلك أن ليلة القدر يكون فيها في عامه ذلك ما شاء الله أن يكون.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال أحب الأعمال إلى الله عز وجل ما داوم عليه العبد وإن قل.

٣ ـ أبو علي الأشعري ، عن عيسى بن أيوب ، عن علي بن مهزيار ، عن فضالة بن أيوب ، عن معاوية بن عمار ، عن نجبة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال ما من شيء أحب إلى الله عز وجل من عمل يداوم عليه وإن قل.

______________________________________________________

خبر أن و « فيها » خبر يكون ، والضمير راجع إلى الليلة وقوله : ما شاء الله أن يكون ، اسم يكون ، وقوله : في عامه متعلق بيكون أو حال عن الليلة ، والحاصل أنه إذا داوم سنة يصادف ليلة القدر التي يكون فيها ما شاء الله كونه من البركات والخيرات والمضاعفات ، فيصير له هذا العمل مضاعفا مقبولا ، ويحتمل أن يكون الكون بمعنى التقدير أو يقدر مضاف في ما شاء الله ، فالمعنى لما كان تقدير الأمور في ليلة القدر ، فإذا صادفها يصير سببا لتقدير الأمور العظيمة له ، وكون العمل في اليوم لا ينافي ذلك فإنه قد ورد أن يومها مثل الليلة في الفضل ، وقيل : المستتر في تكون لليلة القدر ، وضمير فيها للسنة ، وفي عامة بتشديد الميم متعلق بتكون أو بقوله فيها ، والمراد بالعامة المجموع ، والمشار إليه بذلك مصدر فليدم ، والمراد زمان الدوام ، وما شاء الله بدل بعض للعامة ، والحاصل أنه يكون فيه ليلة القدر ، سواء وقع أو له أو وسطه أو آخره ، وما ذكرنا أظهر.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح ، ويدل على أن العمل القليل الذي يداوم عليه خير من عمل كثير يفارقه ويتركه كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : قليل من عمل يدوم عليه خير من كثير من عمل مملول ، أي يمل منه.

الحديث الثالث : مجهول.

٨١

٤ ـ عنه ، عن فضالة بن أيوب ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال كان علي بن الحسين صلوات الله عليه يقول إني لأحب أن أداوم على العمل وإن قل.

٥ ـ عنه ، عن فضالة بن أيوب ، عن العلاء ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال كان علي بن الحسين صلوات الله عليه يقول إني لأحب أن أقدم على ربي وعملي مستو.

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن إسماعيل ، عن جعفر بن بشير ، عن عبد الكريم بن عمرو ، عن سليمان بن خالد قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إياك أن تفرض على نفسك فريضة فتفارقها اثني عشر هلالا.

______________________________________________________

الحديث الرابع : كالسابق.

الحديث الخامس : كالسابق.

« وعملي مستو » كان المراد بالاستواء الاشتراك في الكمال وعدم النقص ، فلا ينافي ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من استوى يوماه فهو مغبون ، ويمكن أن يكون المراد الاستواء في الترقي فإن من كان كل يوم منه أزيد من السابق فعمله مستو للاشتراك في هذا المعنى ، أو يكون المراد بأحدهما الكيفية وبالأخرى الكمية.

الحديث السادس : موثق.

« أن تفرض على نفسك » أي تقرر عليها أمرا من الطاعات لا على سبيل النذر فإنه لا تجوز مفارقته بعد السنة أيضا ، ويحتمل شموله للنذر القلبي أيضا فإن الوفاء به مستحب أيضا.

٨٢

باب

العبادة

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن عمر بن يزيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال في التوراة مكتوب يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى ولا أكلك إلى طلبك وعلي أن أسد فاقتك وأملأ قلبك خوفا مني وإن لا تفرغ لعبادتي أملأ قلبك شغلا بالدنيا ثم لا أسد فاقتك وأكلك إلى طلبك.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن أبي جميلة قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام قال الله تبارك وتعالى يا عبادي الصديقين تنعموا بعبادتي في الدنيا فإنكم

______________________________________________________

باب العبادة

الحديث الأول : صحيح.

« تفرغ لعبادتي » في القاموس تفرغ تخلى من الشغل ، أي اجعل نفسك وقلبك فارغا عن أشغال الدنيا وشهواتها وعلائقها ، واللام للتعليل أو للظرفية « أملأ قلبك غنى » أي عن الناس وعلي بتشديد الياء والجملة حالية ، وربما يقرأ بالتخفيف عطفا على أملأ بحسب المعنى لأنه في قوة على أن أملأ والأول أظهر « وإن لا تفرغ » إن للشرط ولا نافية وأكلك بالجزم.

الحديث الثاني : ضعيف.

« تنعموا بعبادتي » الظاهر أن الباء صلة فإن الصديقين والمقربين يلتذون بعبادة ربهم ويتقون بها وهي عندهم أعظم اللذات الروحانية ، وقيل : الباء سببية فإن العبادة سبب الرزق كما قال تعالى : « وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً » (١) وهو

__________________

(١) سورة الطلاق : ٢.

٨٣

تتنعمون بها في الآخرة.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن عمرو بن جميع ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها وأحبها بقلبه وباشرها بجسده وتفرغ لها فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عسر أم على يسر.

______________________________________________________

بعيد « فإنكم تتنعمون بها » أي بأصل العبادة فإنها أشهى عندهم من اللذات الجسمانية فهم يعبدون للذة لا للتكليف ، كما أن الملائكة طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس أو بسببها أو بقدرها أو بعوضها والأول أظهر.

الحديث الثالث : كالسابق.

وعشق من باب تعب ، والاسم العشق وهو الإفراط في المحبة أي أحبها حبا مفرطا من حيث كونه وسيلة إلى القرب الذي هو المطلوب الحقيقي وربما يتوهم أن العشق مخصوص بمحبة الأمور الباطلة فلا يستعمل في حبه سبحانه وما يتعلق به ، وهذا يدل على خلافه وإن كان الأحوط عدم إطلاق الأسماء المشتقة منه على الله تعالى بل الفعل المشتق منه أيضا بناء على التوقيف ، قيل : ذكرت الحكماء في كتبهم الطبية أن العشق ضرب من الماليخوليا والجنون والأمراض السوداوية وقرروا في كتبهم الإلهية أنه من أعظم الكمالات والسعادات وربما يظن أن بين الكلامين تخالفا وهو من واهي الظنون ، فإن المذموم هو العشق الجسماني الحيواني الشهواني والممدوح هو الروحاني الإنساني النفساني ، والأول يزول ويفنى بمجرد الوصال والاتصال ، والثاني يبقى ويستمر أبد الآباد ، وعلى كل حال.

« على ما أصبح » أي على أي حال دخل في الصباح ، أو صار « أم على يسر » فيه دلالة على أن اليسر والمال لا ينافي حبه تعالى وحب عبادته وتفريغ القلب عن غيرها لأجلها ، وإنما المنافي له تعلق القلب به.

٨٤

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن شاذان بن الخليل قال وكتبت من كتابه بإسناد له يرفعه إلى عيسى بن عبد الله قال قال عيسى بن عبد الله لأبي عبد الله عليه‌السلام جعلت فداك ما العبادة قال حسن النية بالطاعة من الوجوه التي يطاع الله منها أما إنك يا عيسى لا تكون مؤمنا حتى تعرف الناسخ من المنسوخ قال قلت جعلت فداك وما معرفة الناسخ من المنسوخ قال فقال أليس تكون مع الإمام موطنا نفسك على حسن النية في طاعته فيمضي ذلك الإمام ويأتي إمام آخر

______________________________________________________

الحديث الرابع : مرسل.

« حسن النية بالطاعة » كان المعنى أن العبادة الصحيحة المقبولة هي ما يكون مع النية الحسنة الخالصة من شوائب الرياء والسمعة وغيرها ، مع طاعة أئمة الحق عليهم‌السلام وتكون تلك العبادة مأخوذة من الوجوه التي يطاع الله منها أي لا تكون مبتدعة بل تكون مأخوذة عن الدلائل الحقة والآثار الصحيحة أو تكون تلك الطاعة مستندة إلى البراهين الواضحة ليخرج منها طاعة أئمة الضلالة أو المعنى شدة العزم في طاعة من تجب طاعته حال كون تلك الطاعة من الوجوه التي يطاع الله منها ، أي لم تكن مخلوطة ببدعة ولا رياء ولا سمعة وهذا أنسب بما بعده.

وقيل : يعني أن يكون له في طاعة من يعبده نية حسنة ، فإن تيسر له الإتيان بما وافق نيته وإلا فقد أدى ما عليه من العبادة بحسن نيته.

« أليس تكون » هذا المعنى للناسخ والمنسوخ موافق ومؤيد لما ورد في الأخبار في تفسير قوله تعالى : « ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها » (١) أن المراد به ذهاب إمام ونصب إمام بعده فهو خير منه أو مثله وقيل : لعل المراد بهذه الوجوه الأئمة واحد بعد واحد لأنهم الوجوه التي يطاع الله منها لإرشادهم وهدايتهم وبالطاعة الطاعة المعلومة بتعليمهم وإطاعتهم والانقياد لهم وبحسن النية تعلق القلب بها من

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠٦.

٨٥

فتوطن نفسك على حسن النية في طاعته قال قلت نعم قال هذا معرفة الناسخ من المنسوخ.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن جميل ، عن هارون بن خارجة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن العباد ثلاثة قوم عبدوا الله عز وجل خوفا فتلك عبادة العبيد وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء وقوم عبدوا الله عز وجل حبا له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة.

______________________________________________________

صميمه بلا منازعة ولا مخاطرة ، ويحتمل أن يراد بالوجوه وجوه العبادات وأنواعها وبحسن النية تخليصها عن شوائب النقص.

الحديث الخامس : حسن كالصحيح.

« العباد ثلاثة » في بعض النسخ هكذا فلا يحتاج إلى تقدير ، وفي بعضها : العبادة ، فيحتاج إلى تقدير إما في العبادة أو ذوو العبادة أو في الأقوام أي عبادة قوم ، وحاصل المعنى أن العبادة الصحيحة المترتبة عليها الثواب والكرامة في الجملة ثلاثة أقسام ، وأما غيرها كعبادة المرائين ونحوها فليست بعبادة ولا داخلة في المقسم « فتلك عبادة العبيد » إذا لعابد فيها شبيه بالعبيد في أنه يطيع السيد خوفا منه ، وتحرزا من عقوبته.

« فتلك عبادة الأجراء » فإنهم يعبدون للثواب كما أن الأجير يعمل للأجر « حبا له » أي لكونه محبا له ، والمحب يطلب رضا المحبوب أو يعبده ليصل إلى درجة المحبين ويفوز بمحبة رب العالمين والأول أظهر.

« فتلك عبادة الأحرار » أي الذين تحرروا من رق الشهوات ، وخلعوا من رقابهم طوق طاعة النفس الأمارة بالسوء الطالبة اللذات والشهوات فهم لا يقصدون في عبادتهم شيئا سوى رضا عالم الأسرار وتحصيل قرب الكريم الغفار ولا ينظرون إلى الجنة والنار ، وكونها أفضل العبادة لا يخفى على أولي الأبصار ، وفي صيغة التفضيل دلالة على أن كلا من الوجهين السابقين أيضا عبادة صحيحة ولها فضل في الجملة فهو حجة على من قال ببطلان عبادة من قصد التحرز عن العقاب أو الفوز بالثواب.

٨٦

٦ ـ علي ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أقبح الفقر بعد الغنى وأقبح الخطيئة بعد المسكنة وأقبح من ذلك العابد لله ثم يدع عبادته.

٧ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي حمزة ، عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال من عمل بما افترض الله عليه فهو من أعبد الناس.

______________________________________________________

الحديث السادس : ضعيف على المشهور.

« ما أقبح الفقر بعد الغناء » لعل المعنى قبحه عند الناس وإن كان ممدوحا عند الله ، أو يكون محمولا على من فعل ذلك باختياره بالإسراف والتبذير أو ترك الكسب وأشباهه ، أو يكون المراد التعيش بعيش الفقراء بعد حصول الغناء على سياق قوله عليه‌السلام : وأقبح الخطيئة بعد المسكنة ، فإن الظاهر أن المراد به بيان قبح ارتكاب الخطايا بعد حصول الفقر والمسكنة ، لضعف الدواعي وقلة الآلات والأدوات وإن احتمل أن يكون الغرض بيان قبح الذنوب بعد كونه مبتلى بالفقر والمسكنة فأغناه الله فارتكب بعد ذلك الخطايا لتضمنه كفران النعمة ونسيان الحالة السابقة ، ويحتمل أن يكون المراد بالمسكنة التذلل لله بترك المعصية فيكون أنسب بما قبله وما بعده ، وأقبح مبتدأ أو خبر فالعابد أيضا يحتملهما ، و « ثم يدع » عطف على العابد إذ اللام في اسم الفاعل بمعنى الذي فهو بتقدير الذي يعبد الله ثم يدع.

الحديث السابع : ضعيف على المشهور وقد مر مضمونه.

٨٧

باب

النية

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن مالك بن عطية ، عن أبي حمزة ، عن علي بن الحسين صلوات الله عليه قال لا عمل إلا بنية.

______________________________________________________

باب النية

الحديث الأول : حسن كالصحيح.

« لا عمل إلا بنية » أي لا عمل صحيحة كما فهمه الأكثر إلا بنية ، وخص بالعبادات لأنه لو كان المراد مطلق تصور الفعل وتصور فائدته والتصديق بترتب الغاية عليه وانبعاث العزم من النفس إليه فهذا لازم لكل فعل اختياري ، ومعلوم أنه ليس غرض الشارع بيان هذا المعنى بل لا بد أن يكون المراد بها نية خاصة خالصة بها يصير العمل كاملا أو صحيحا ، والصحة أقرب إلى نفي الحقيقة الذي هو الحقيقة في هذا التركيب فلا بد من تخصيصها بالعبادات لعدم القول باشتراط نية القربة وأمثالها في غيرها ، ولذا استدلوا به وبأمثاله على وجوب النية وتفصيله في كتب الفروع وقد حققناه في كتاب بحار الأنوار وغيره.

وقال المحقق الطوسي قدس‌سره في بعض رسائله : النية هي القصد إلى الفعل وهي واسطة بين العلم والعمل إذ ما لم يعلم الشيء لم يمكن قصده وما لم يقصده لم يصدر عنه ، ثم لما كان غرض السالك العامل الوصول إلى مقصد معين كامل على الإطلاق وهو الله تعالى لا بد من اشتماله على قصد التقرب به وقال بعض المحققين : يعني لا عمل يحسب من عبادة الله تعالى ويعد من طاعته بحيث يصح أن يترتب عليه الأجر في الآخرة إلا ما يراد به التقرب إلى الله تعالى والدار الآخرة أعني يقصد به وجه الله سبحانه أو التوصل إلى ثوابه أو الخلاص من عقابه ، وبالجملة امتثال أمر الله تعالى فيما ندب

٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

عباده إليه ووعدهم الأجر عليه وإنما يأجرهم على حسب أقدارهم ومنازلهم ونياتهم ، فمن عرف الله بجماله وجلاله ولطف فعاله فأحبه واشتاق إليه وأخلص عبادته له لكونه أهلا للعبادة ولمحبته له أحبه الله وأخلصه واجتباه وقربه إلى نفسه وأدناه قربا معنويا ودنوا روحانيا كما قال في حق بعض من هذه صفته : « وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ » (١) وقال أمير المؤمنين وسيد الموحدين صلوات الله عليه : ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ، ومن لم يعرف من الله سوى كونه إلها صانعا للعالم قادرا قاهرا عالما وأن له جنة ينعم بها المطيعين ونارا يعذب بها العاصين فعبده ليفوز بجنته أو يكون له النجاة من ناره أدخله الله تعالى بعبادته وطاعته الجنة وأنجاه من النار لا محالة كما أخبر عنه في غير موضع من كتابه ، فإنما لكل امرئ ما نوى.

فلا تصغ إلى قول من ذهب إلى بطلان العبادة إذا قصد بفعلها تحصيل الثواب أو الخلاص من العقاب زعما منه أن هذا القصد مناف للإخلاص الذي هو إرادة وجه الله سبحانه وحده وأن من قصد ذلك فإنما قصد جلب النفع إلى نفسه ودفع الضرر عنها لا وجه الله سبحانه ، فإن هذا قول من لا معرفة له بحقائق التكاليف ومراتب الناس فيها ، فإن أكثر الناس يتعذر منهم العبادة ابتغاء وجه الله بهذا المعنى ، لأنهم لا يعرفون من الله إلا المرجو والمخوف فغايتهم أن يتذكروا النار ويحذروا أنفسهم عقابها ويتذكروا الجنة ويرغبوا أنفسهم ثوابها وخصوصا من كان الغالب على قلبه الميل إلى الدنيا.

فإنه قلما ينبعث له داعية إلى فعل الخيرات لينال بها ثواب الآخرة فضلا عن عبادته على نية إجلال الله عز وجل لاستحقاقه الطاعة والعبودية فإنه قل من

__________________

(١) سورة ص : ٤٠.

٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

يفهمها فضلا عمن يتعاطاها والناس في نياتهم في العبادات على أقسام أدناهم من يكون عمله إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار ، ومنهم من يعمل إجابة لباعث الرجاء فإنه يرغب في الجنة وكل من القصدين وإن كان نازلا بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلالة لا لأمر سواه ، إلا أنه من جملة النيات الصحيحة لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة وإن كان من جنس المألوف في الدنيا.

وأما قول القائل إنه ينافي الإخلاص ، فجوابه أنك ما تريد بالإخلاص؟ إن أردت به أن يكون خالصا للآخرة لا يكون مشوبا بشوائب الدنيا والحظوظ العاجلة للنفس كمدح الناس والخلاص من النفقة بعتق العبد ونحو ذلك فظاهر أن إرادة الجنة والخلاص من النار لا ينافيان الإخلاص بهذا المعنى ، وإن أردت بالإخلاص أن لا يراد بالعمل سوى جمال الله وجلاله من غير شوب من حظوظ النفس وإن كان حظا أخرويا فاشتراطه في صحة العبادة متوقف على دليل شرعي وأنى لك به؟ بل الدلائل على ، خلافه أكثر من أن تذكر ، مع أنه تكليف بما لا يطاق بالنسبة إلى أكثر الخلائق لأنهم لا يعرفون الله بجماله وجلاله ، ولا تتأتى منهم العبادة إلا من خوف النار أو للطمع في الجنة.

وأيضا فإن الله سبحانه قد قال « ادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً » (١) « وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً » (٢) فرغب ورهب ووعد وأوعد ، فلو كان مثل هذه النيات مفسدا للعبادات لكان الترغيب والترهيب والوعد والوعيد عبثا بل مخلا بالمقصود.

وأيضا فإن أولياء الله قد يعملون بعض الأعمال للجنة وصرف النار لأن حبيبهم يحب ذلك أو لتعليم الناس إخلاص العمل للآخرة ، إذا كانوا أئمة يقتدى بهم.

هذا أمير المؤمنين سيد الأولياء قد كتب كتابا لبعض ما وقفه من أمواله فصدر

__________________

(١) سورة الأعراف : ٥٦.

(٢) سورة الأنبياء : ٩٠.

٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

كتابه بعد التسمية بهذا : هذا ما أوصى به وقضى به في ماله عبد الله على ابتغاء وجه الله تعالى ليولجني به الجنة ويصرفني به عن النار ، ويصرف النار عني يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.

فإن لم تكن العبادة بهذه النية صحيحة لم يصلح له أن يفعل ذلك ويلقن به غيره ويظهره في كلامه ، إن قيل : إن جنة الأولياء لقاء الله وقربه ، ونارهم فراقه وبعده ، فيجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه‌السلام أراد ذلك؟ قلنا : إرادة ذلك ترجع إلى طلب القرب المعنوي والدنو الروحاني ومثل هذه النية مختص بأولياء الله كما اعترفت به ، فغيرهم لما ذا يعبدون وليس في الآخرة إلا الله والجنة والنار ، فمن لم يكن من أهل الله وأوليائه لا يمكن له أن يطلب إلا الجنة أو يهرب إلا من النار المعهودتين إذ لا يعرف غير ذلك ، وكل يعمل على شاكلته ولما يحبه ويهواه ، غير هذا لا يكون أبدا.

ولعل هذا القائل لم يعرف معنى النية وحقيقتها وأن النية ليست مجرد قولك عند الصلاة ، والصوم أو التدريس أصلي أو أصوم أو أدرس قربة إلى الله تعالى ملاحظا معاني هذه الألفاظ بخاطرك ومتصورا لها بقلبك.

هيهات إنما هذا تحريك لسان وحديث نفس وإنما النية المعتبرة انبعاث النفس وميلها وتوجهها إلى ما فيه غرضها ومطلبها إما عاجلا وإما آجلا ، وهذا الانبعاث والميل إذا لم يكن حاصلا لها لا يمكنها اختراعه واكتسابه بمجرد النطق بتلك الألفاظ وتصور تلك المعاني وما ذلك إلا كقول الشبعان : أشتهي الطعام وأميل إليه قاصدا حصول الميل والاشتهاء ، وكقول الفارغ : أعشق فلانا وأحبه وانقاد إليه وأطيعه ، بل لا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشيء وميلة إليه وإقباله عليه إلا بتحصيل الأسباب الموجبة لذلك الميل والانبعاث واجتناب الأمور المنافية لذلك المضادة له فإن النفس

٩١

٢ ـ علي ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله وكل

______________________________________________________

إنما تنبعث إلى الفعل أو تقصده وتميل إليه تحصيلا للغرض الملائم لها بحسب ما يغلب عليها من الصفات.

فإذا غلب على قلب المدرس مثلا حب الشهرة وإظهار الفضيلة وإقبال الطلبة إليه فلا يتمكن من التدريس بنية القربة إلى الله سبحانه. بنشر العلم وإرشاد الجاهلين بل لا يكون تدريسه إلا لتحصيل تلك المقاصد الواهية والأغراض الفاسدة وإن قال بلسانه أدرس قربة إلى الله وتصور ذلك بقلبه وأثبته في ضميره ، وما دام لم يقلع تلك الصفات الذميمة عن قلبه لا عبرة بنيته أصلا.

وكذلك إذا كان قلبك عند نية الصلاة منهمكا في أمور الدنيا والتهالك عليها والانبعاث في طلبها فلا يتيسر لك توجيهه بكليته ، وتحصيل الميل الصادق إليها والإقبال الحقيقي عليها ، بل لا يكون دخولك فيها دخول متكلف لها متبرم بها ويكون قولك أصلي قربة إلى الله كقول الشبعان أشتهي الطعام ، وقول الفارغ : أعشق فلانا مثلا.

والحاصل أنه لا يحصل لك النية الكاملة المعتد بها في العبادات من دون ذلك الميل والإقبال ، وقمع ما يضاده من الصوارف والأشغال ، وهو لا يتيسر إلا إذا صرفت قلبك عن الأمور الدنيوية وطهرت نفسك عن الصفات الذميمة الدنية وقطعت نظرك عن حظوظك العاجلة بالكلية.

وأقول : أمر النية قد اشتبه على كثير من علمائنا رضوان الله عليهم لاشتباهه على المخالفين ولم يحققوا ذلك على الحق واليقين ، وقد حقق شيخنا البهائي قدس‌سره شيئا من ذلك في شرح الأربعين ، وحققنا كثيرا من غوامض إسرارها في كتاب عين الحياة ورسالة العقائد فمن أراد تحقيق ذلك فليرجع إليهما.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

« نية المؤمن خير من عمله ، ونية الكافر شر من عمله » هذا الحديث من الأخبار

٩٢

عامل يعمل على نيته.

______________________________________________________

المشهورة بين الخاصة والعامة وقد قيل فيه وجوه :

الأول : أن المراد بنية المؤمن اعتقاده الحق ولا ريب أنه خير من أعماله إذ ثمرته الخلود في الجنة وعدمه يوجب الخلود في النار بخلاف العمل.

الثاني : أن المراد أن النية بدون العمل خير من العمل بدون النية ، ورد بأن العمل بدون نية لا خير فيه أصلا ، وحقيقة التفضيل تقتضي المشاركة ولو في الجملة.

الثالث : ما نقل عن ابن دريد وهو أن المؤمن ينوي خيرات كثيرة لا يساعده الزمان على عملها فكان الثواب المترتب على نياته أكثر من الثواب المترتب على أعماله.

الرابع : ما ذكره بعض المحققين وهو أن المؤمن ينوي أن يوقع عباداته على أحسن الوجوه لأن إيمانه يقتضي ذلك ثم إذا كان يشتغل بها لا يتيسر له ذلك ، ولا يتأتى كما يريد فلا يأتي بها كما ينبغي ، فالذي ينوي دائما خير من الذي يعمل في كل عبادة ، وهذا قريب من المعنى الأول ويمكن الجمع بينهما ويؤيدهما الخبر الثالث والخامس ، وما رواه الصدوق في علل الشرائع بإسناده عن أبي جعفر أنه كان يقول نية المؤمن خير من عمله وذلك لأنه ينوي من الخير ما لا يدركه ، ونية الكافر شر من عمله وذلك لأن الكافر ينوي الشر ويأمل من الشر ما لا يدركه ، ونية الكافر شر من عمله وذلك لأن الكافر ينوي الشر ويأمل من الشر ما لا يدركه ، وبإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال له زيد الشحام : إني سمعتك تقول : نية المؤمن خير من عمله فكيف تكون النية خيرا من العمل؟ قال : لأن العمل إنما كان رياء للمخلوقين والنية خالصة لرب العالمين ، فيعطي عز وجل على النية ما لا يعطي على العمل ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام إن العبد لينوي من نهاره أن يصلي بالليل فتغلبه عينه فينام فيثبت الله له صلاته ويكتب نفسه تسبيحا ويجعل نومه صدقة.

الخامس : أن طبيعة النية خير من طبيعة العمل لأنه لا يترتب عليها عقاب أصلا بل إن كانت خيرا أثيب عليها وإن كانت شرا كان وجودها كعدمها بخلاف

٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

العمل فإن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فصح أن النية بهذا الاعتبار خير من العمل. وأقول : يمكن أن يقال هذا في الشر أيضا بناء على أن الكافر يعاقب على نيات الشر وإنما العفو عن المؤمنين.

السادس : أن النية من أعمال القلب وهو أفضل من الجوارح فعمله أفضل من عملها ألا ترى إلى قوله تعالى : « أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي » (١) جعل سبحانه الصلاة وسيلة إلى الذكر والمقصود أشرف من الوسيلة ، وأيضا فأعمال القلب مستورة عن الخلق لا يتطرق إليها الرياء وغيره بخلاف أعمال الجوارح.

السابع : أن المراد أن نية بعض الأعمال الشاقة كالحج والجهاد خير من بعض الأعمال الخفية كتلاوة آية من القرآن والصدقة بدرهم مثلا.

الثامن : ما ذكره السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه في الغرر أن لفظة خير ليست اسم تفضيل بل المراد أن نية المؤمن عمل خير من جملة أعماله ، و « من » تبعيضية وبه دفع التنافي بين هذا الحديث وبين ما يروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفضل الأعمال أحمزها ، ويجري هذا الوجه في قوله : ونية الكافر شر من عمله فإن المعنى فيه ليس معنى التفضيل بل المعنى شر من جملة أعماله ، فإن قيل : كيف يصح هذا مع ما ورد في الحديث من أن ابن آدم إذا هم بالحسنة ، كتبت له حسنة وإذا هم بالسيئة لم يكتب عليه شيء حتى يعمل؟ قلنا : قد ذكرنا سابقا أن ظاهر بعض الأخبار أن ذلك مخصوص بالمؤمنين.

التاسع : أن المراد بالنية تأثر القلب عند العمل وانقياده إلى الطاعة وإقباله على الآخرة وانصرافه عن الدنيا وذلك يشتد بشغل الجوارح في الطاعات وكفها عن المعاصي فإن بين الجوارح والقلب علاقة شديدة يتأثر كل منهما بالآخر كما إذا حصل للأعضاء آفة سرى أثرها إلى القلب فاضطرب وإذا تألم القلب بخوف مثلا سرى أثره

__________________

(١) سورة طه : ١٤.

٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى الجوارح فارتعدت والقلب هو الأمير المتبوع والجوارح كالرعايا والأتباع ، والمقصود من أعمالها حصول ثمرة للقلب فلا تظن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضا من حيث أنه جمع بين الجبهة والأرض بل من حيث أنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب فإن من يجد في نفسه تواضعا فإذا استعان بأعضائه وصورها بصورة التواضع تأكد بذلك تواضعه ، وأما من يسجد غافلا عن التواضع وهو مشغول القلب بأغراض الدنيا فلا يصل من وضع جبهته على الأرض أثر إلى قلبه بل سجوده كعدمه نظرا إلى الغرض المطلوب منه فكانت النية روح العمل وثمرته والمقصد الأصلي من التكليف به فكانت أفضل ، وهذا الوجه قريب مما ذكره الغزالي في إحيائه وهو أن كل طاعة تنتظم بنية وعمل ، وكل منهما من جملة الخيرات إلا أن النية من الطاعتين خير من العمل ، لأن أثر النية في المقصود أكثر من أثر العمل ، لأن صلاح القلب هو المقصود من التكليف ، والأعضاء آلات موصلة إلى المقصود ، والغرض من حركات الجوارح أن يعتاد القلب إرادة الخير ويؤكد الميل إليه ليتفرغ عن شهوات الدنيا ويقبل على الذكر والفكر ، فبالضرورة يكون خيرا بالإضافة إلى الغرض ، قال الله تعالى : « لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ » (١) والتقوى صفة القلب ، وفي الحديث : أن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد.

العاشر : أن نية المؤمن هي الباعثة له على عمل الخير فهي أصل العمل وعلته والعمل فرعها ، لأنه لا يحصل العمل ولا يوجد إلا بتصور المقصود الحقيقي والتصديق بحصوله وانبعاث النفس إليه حتى يشتد العزم ويوجد الفعل فبهذه الجهة هي أشرف وكذا نية الكافر سبب لعمله الخبيث فهي شر منه.

الحادي عشر : أن النية روح العمل ، والعمل بمثابة البدن لها فخيريته وشريته

__________________

(١) سورة الحجّ : ٣٧.

٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

تابعتان لخيرية النية وشريتها كما أن شرافة البدن وخباثته تابعتان لشرافة الروح وخباثته ، فبهذا الاعتبار نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله.

الثاني عشر : أن نية المؤمن وقصده أو لا هو الله ، وثانيا العمل لأنه يوصل إليه ، ونية الكافر وقصده غيره تعالى وعمله يوصله إليه ، وبهذا الاعتبار صح ما ذكر ، وهذا الوجه وما تقدمه مستفادان من كلام المحقق الطوسي قدس‌سره ، والوجوه المذكورة ربما يرجع بعضها إلى بعض.

وبعد ما أحطت خبرا بما ذكرنا نذكر ما هو أقوى عندنا بعد الإعراض عن الفضول وهو الحق الحقيق بالقبول ، فاعلم أن الإشكالات الناشئة من هذا الخبر إنما هو لعدم تحقيق معنى النية وتوهم أنها تصور الغرض والغاية وإخطارها بالبال ، وإذا حققتها كما أومأنا إليها سابقا عرفت أن تصحيح النية من أشق الأعمال وأحمزها وأنها تابعة للحالة التي النفس متصفة بها ، وكمال الأعمال وقبولها وفضلها منوط. بها ، ولا يتيسر تصحيحها إلا بإخراج حب الدنيا وفخرها وعزها من القلب برياضات شاقة وتفكرات صحيحة ومجاهدات كثيرة ، فإن القلب سلطان البدن وكل ما استولى عليه يتبعه سائر الجوارح ، بل هو الحصن الذي كل حب استولى عليه وتصرف فيه يستخدم سائر الجوارح والقوي ، ويحكم عليها ولا تستقر فيه محبتان غالبتان كما قال الله عز وجل : يا عيسى لا يصلح لسانان في فم واحد ولا قلبان في صدر واحد ، وكذلك الأذهان ، وقال سبحانه : « ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ » (١) فالدنيا والآخرة ضرتان لا يجتمع حبهما في قلب.

فمن استولى على قلبه حب المال لا يذهب فكره وخياله وقواه وجوارحه إلا إليه ولا يعمل عملا إلا ومقصوده الحقيقي فيه تحصيله وإن ادعى غيره كان كاذبا

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٤.

٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ولذا يطلب الأعمال التي وعد فيها كثرة المال ولا يتوجه إلى الطاعات التي وعد فيها قرب ذي الجلال ، وكذا من استولى عليه حب الجاه ليس مقصوده في أعماله إلا ما يوجب حصوله ، وكذا سائر الأغراض الباطلة الدنيوية فلا يخلص العمل لله سبحانه وللآخرة إلا بإخراج حب هذه الأمور من القلب وتصفيته عما يوجب البعد عن الحق.

فللناس في نياتهم مراتب شتى بل غير متناهية بحسب حالاتهم ، فمنها ما يوجب فساد العمل وبطلانه ، ومنها ما يوجب صحته ، ومنها ما يوجب كما له ، ومراتب كما له أيضا كثيرة فأما ما يوجب بطلانه فلا ريب في أنه إذا قصد الرياء المحض أو الغالب بحيث لو لم يكن رؤية الغير له لا يعمل هذا العمل أنه باطل لا يستحق الثواب عليه بل يستحق العقاب كما دلت عليه الآيات والأخبار الكثيرة ، وأما إذا ضم إلى القربة غيرها بحيث كان الغالب القربة ولو لم تكن الضميمة يأتي بها ففيه إشكال ولا تبعد الصحة ، ولو تعلق الرياء ببعض صفاته المندوبة كإسباغ الوضوء وتطويل الصلاة فأشد إشكالا ، ولو ضم إليها غير الرياء كالتبريد ففيه أقوال ثالثها التفصيل بالصحة مع كون القربة مقصودة بالذات ، والبطلان مع العكس.

قال في الذكرى : لو ضم إلى النية منافيا فالأقرب البطلان كالرياء والندب في الواجب ، لأن تنافي المرادات يستلزم تنافي الإرادات ، وظاهر المرتضى الصحة بمنى عدم الإعادة لا بمعنى حصول الثواب ، ذكر ذلك في الصلاة المنوي بها الرياء وهو يستلزم الصحة فيها وفي غيرها ، مع ضم الرياء إلى التقرب ، ولو ضم اللازم كالتبرد قطع الشيخ وصاحب المعتبر بالصحة لأنه فعل الواجب وزيادة غير منافية ، ويمكن البطلان لعدم الإخلاص الذي هو شرط الصحة ، وكذا التسخن والنظافة ، انتهى.

وأقول : لو ضم إلى القربة بعض المطالب المباحة الدنيوية فهل تبطل عبادته؟

٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ظاهر جماعة من الأصحاب البطلان ، ويشكل بأن صلوات الحاجة والاستخارة وتلاوة القرآن والأذكار والدعوات المأثورة للمقاصد الدنيوية عبادات بلا ريب ، مع أن تكليف خلو القصد عنها تكليف بالمحال ، والجمع بين الضدين كان يقول أحد : ائت الموضع الفلاني لرؤية الأسد من غير أن يكون غرضك رؤيته ، أو اذهب إلى السوق واشتر المتاع من غير أن تقصد شراء المتاع ، وقد ورد في الأخبار الكثيرة منافع دنيوية للطاعات ككون صلاة الليل سببا لوسعة الرزق ، وكون الحج موجبا للغناء وأمثال ذلك كثيرة ، فلو كانت هذه مخلة بالقربة لكان ذكرها إغراء بالقبيح ، إذ بعد السماع ربما يمتنع تخلية القصد عنها.

نعم يمكن أن تؤول هذه القصود بالأخرة إلى القربة ، كان يكون غرض طالب الرزق صرفه في وجوه البر والتقوى به على الطاعة ، ومن يكون مقصوده من طول العمر تحصيل رضا الرب تعالى ، لكن هذا القصد لا يتحقق واقعا وحقيقة إلا لآحاد المقربين ولا يتيسر لأكثر الناس هذه النية وهذا الغرض إلا بالانتحال والدعاوي الكاذبة ، وتوهم أن الإخطار بالبال نية واقعية وبينهما بعد المشرقين فالظاهر أنه يكفي لكونه طاعة وقربة كونه بأمره سبحانه ، وموافقا لرضاه ومتضمنا لذكره والتوسل إليه وإن كان المقصود تحصيل بعض الأمور المباحة لنيل اللذات المحللة ، وأما النيات الكاملة والأغراض العرية عن المطالب الدنية الدنيوية فهي تختلف بحسب الأشخاص والأحوال ، ولكل منهم نية تابعة لشاكلته وطريقته وحالته ، بل لكل شخص في كل حالة نية تتبع تلك الحالة ، ولنذكر بعض منازلها ودرجاتها :

فالأولى : نية من تنبه وتفكر في شديد عذاب الله وأليم عقابه ، فصار ذلك موجبا لحط الدنيا ولذاتها عن نظره ، فهو يعمل كلما أراد من الأعمال الحسنة ويترك ما ينتهي عنه من الأعمال السيئة خوفا من عذابه.

٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الثانية : نية من غلب عليه الشوق إلى ما أعد الله للمحسنين في الجنة من نعيمها وحورها وقصورها فهو يعبد الله لتحصيل تلك الأمور.

وهاتان نيتان صحيحتان على الأظهر وإن توهم الأكثر بطلان العبادة بهما ، لغفلتهم عن معنى النية كما عرفت.

والعجب أن العلامة (ره) ادعى اتفاق العدلية على أن من فعل فعلا لطلب الثواب أو خوف العقاب فإنه لا يستحق بذلك ثوابا.

وأقول : لهاتين النيتين أيضا مراتب شتى بحسب اختلاف أحوال الناس ، فإن من الناس من يطلب الجنة لحصول مشتهياته الجسمانية فيه ، ومنهم من يطلبها لكونها دار كرامة الله ومحل قرب الله ، وكذا منهم من يهرب من النار لألمها ، ومنهم من يهرب منها لكونها دار البعد والهجران والحرمان ، ومحل سخط الله كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في الدعاء الذي علمه كميل بن زياد النخعي : فلئن صيرتني في العقوبات مع أعدائك ، وجمعت بيني وبين أهل بلائك ، وفرقت بيني وبين أحبائك وأوليائك فهبني يا إلهي وسيدي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك ، وهبني صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك ، إلى آخر ما ذكر في هذا الدعاء المشتمل على جميع منازل المحبين ودرجات العارفين.

فظهر أن هاتين الغايتين وطلبهما لا تنافيان درجات المقربين.

الثالثة : نية من يعبد الله تعالى شكرا له فإنه يتفكر في نعم الله التي لا تحصى عليه ، فيحكم عقله بأن شكر المنعم واجب فيعبده لذلك ، كما هو طريقة المتكلمين ، وقد قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : أن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار ، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار.

٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الرابعة : نية من يعبده حياءا فإنه يحكم عقله بحسن الحسنات وقبح السيئات ويتذكر أن الرب الجليل مطلع عليه في جميع أحواله فيعبده ويترك معاصيه لذلك وإليه يشير قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

الخامسة : نية من يعبده تقربا إليه تعالى تشبيها للقرب المعنوي بالقرب المكاني ، وهذا هو الذي ذكره أكثر الفقهاء ولم أر في كلامهم تحقيق القرب المعنوي ، فالمراد إما القرب بحسب الدرجة والكمال إذ العبد لا مكانه في غاية النقص عار عن جميع الكمالات ، والرب سبحانه متصف بجميع الصفات الكمالية فبينهما غاية البعد فكلما رفع عن نفسه شيئا من النقائص واتصف بشيء من الكمالات حصل له قرب ما بذلك الجناب ، أو القرب بحسب التذكر والمصاحبة المعنوية ، فإن من كان دائما في ذكر أحد ومشغولا بخدماته فكأنه معه وإن كان بينهما غاية البعد بحسب المكان ، وفي قوة هذه النية إيقاع الفعل امتثالا لأمره تعالى أو موافقة لإرادته أو انقيادا وإجابة لدعوته ، أو ابتغاء لمرضاته ، فهذه النيات التي ذكرها أكثر الأصحاب وقالوا لو قصد الله مجردا عن جميع ذلك كان مجزيا فإنه تعالى غاية كل مقصد وإن كان يرجع إلى بعض الأمور السالفة.

السادسة : نية من عبد الله لكونه أهلا للعبادة وهذه نية الصديقين كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ، ولا تسمع هذه الدعوى من غيرهم ، وإنما يقبل ممن يعلم منه أنه لو لم يكن لله جنة ولا نار بل لو كان على الفرض المحال يدخل العاصي الجنة والمطيع النار لاختار العبادة لكونه أهلا لها ، كما أنهم في الدنيا اختاروا النار لذلك فجعلها الله عليهم بردا وسلاما ، وعقوبة الأشرار فجعلها الله عندهم لذة وراحة ونعيما.

السابعة : نية من عبد الله حبا له ، ودرجة المحبة أعلى درجات المقربين ،

١٠٠