مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

والمحب يختار رضا محبوبة ولا ينظر إلى ثواب ولا يحذر من عقاب ، وحبه تعالى إذا استولى على القلب يطهره عن حب ما سواه ، ولا يختار في شيء من الأمور إلا رضا مولاه ، كما روى الصدوق (ره) بإسناده عن الصادق عليه‌السلام أنه قال أن الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع ، وآخرون يعبدونه فرقا من النار فتلك عبادة العبيد وهي رهبة ، ولكني أعبده حباله عز وجل فتلك عبادة الكرام وهو الأمن ، لقوله عز وجل : « وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ » (١) ولقوله عز وجل : « قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ » (٢) فمن أحب الله أحبه الله ، ومن أحبه الله عز وجل كان من الآمنين.

وفي تفسير الإمام عليه‌السلام قال علي بن الحسين عليه‌السلام : إني أكره أن أعبد الله لأغراض لي ولثوابه ، فأكون كالعبد الطمع المطمع ، إن طمع عمل وإلا لم يعمل ، وأكره أن أعبده لخوف عباده فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل ، قيل : فلم تعبده؟ قال : لما هو أهله بأياديه على وإنعامه.

وقال محمد بن علي الباقر عليه‌السلام : لا يكون العبد عابد الله حق عبادته حتى ينقطع عن الخلق كله إليه ، فحينئذ يقول هذا خالص لي فيتقبله بكرمه.

وقال جعفر بن محمد عليه‌السلام : ما أنعم الله عز وجل على عبد أجل من أن لا يكون في قلبه مع الله غيره.

وقال موسى بن جعفر عليه‌السلام : أشرف الأعمال التقرب بعبادة الله عز وجل.

وقال علي الرضا عليه‌السلام : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ » (٣) قول لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله ، وخليفة محمد رسول الله حقا وخلفاؤه خلفاء الله « وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ

__________________

(١) سورة النمل : ٨٩.

(٢) سورة آل عمران : ٣١.

(٣) سورة فاطر : ١٠.

١٠١

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن العبد المؤمن الفقير ليقول يا رب ارزقني حتى أفعل كذا وكذا من البر ووجوه الخير فإذا علم الله عز وجل ذلك منه بصدق نية كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله إن الله واسع كريم.

______________________________________________________

يَرْفَعُهُ » علمه في قلبه بأن هذا صحيح كما قلته بلساني.

وأقول : لكل من النيات الفاسدة والصحيحة أفراد أخرى يعلم بالمقايسة بما ذكرنا ، وهي تابعة لأحواله وصفاته وملكاته الراسخة منبعثة عنها ، ومن هذا يظهر سر أن أهل الجنة يخلدون فيها بنياتهم لأن النية الحسنة تستلزم طينة طيبة وصفات حسنة وملكات جميلة ، تستحق الخلود بذلك ، إذ لم يكن مانع العمل من قبله ، فهو بتلك الحالة مهيئ للأعمال الحسنة والأفعال الجميلة ، والكافر مهيئ لضد ذلك ، وبتلك الصفات الخبيثة المستلزمة لتلك النية الرديئة استحق الخلود في النار.

وبما ذكرنا ظهر معنى قوله عليه‌السلام : وكل عامل يعمل على نيته ، أي عمل كل عامل يقع على وفق نيته في النقص والكمال والرد والقبول ، والمدار عليها كما عرفت ، وعلى بعض الاحتمالات المعنى أن النية سبب للفعل وباعث عليه ، ولا يتأتى العمل إلا بها كما مر.

الحديث الثالث : صحيح.

« ليقول » أي بلسانه أو بقلبه أو الأعم منهما « فإذا علم الله عز وجل ذلك » أي علم أنه إن رزقه يفي بما يعده من الخير فإن كثيرا من المتمنيات والمواعيد كاذبة لا يفي الإنسان به « إِنَّ اللهَ واسِعٌ » القدرة أو واسع العطاء « كريم » بالذات ، فالإثابة على نية الخير من سعة جوده وكرمه لا من استحقاقهم ذلك.

قال الشيخ البهائي قدس‌سره : هذا الحديث يمكن أن يجعل تفسيرا لقوله عليه‌السلام نية المؤمن خير من عمله ، فإن المؤمن ينوي كثيرا من هذه النيات فيثاب عليها ولا يتيسر العمل إلا قليلا ، انتهى.

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وأقول : النية تطلق على النية المقارنة للفعل وعلى العزم المتقدم عليه ، سواء تيسر العمل أم لا ، وعلى التمني للفعل وإن علم عدم تمكنه منه ، والمراد هنا أحد المعنيين الأخيرين ، ويمكن أن يقال : إن النية لما كانت من الأفعال الاختيارية القلبية فلا محالة يترتب عليها ثواب ، وإذا فعل الفعل المنوي يترتب عليه ثواب آخر ، ولا ينافي اشتراط العمل بها تعدد الثواب كما أن الصلاة صحتها مشروطة بالوضوء ويترتب على كل منهما ثواب إذا اقترنا ، فإذا لم يتيسر الفعل لعدم دخوله تحت قدرته أو لمانع عرض له يثاب على العزم ، وترتب الثواب عليه غير مشروط بحصول الفعل ، بل بعدم تقصيره فيه فالثواب الوارد في الخبر يحتمل أن يكون هذا الثواب فله مع الفعل ثوابان ، وبدونه ثواب واحد ، فلا يلزم كون العمل لغوا ولا كون ثواب النية والعمل معا كثوابها فقط ، ويحتمل أن يكون ثواب النية كثوابها مع العمل بلا مضاعفة ومع العمل يضاعف عشر أمثالها أو أكثر.

ويؤيده ما سيأتي أن الله جعل لآدم أن من هم من ذريته بسيئة لم تكتب عليه ، وإن عملها كتبت عليه سيئة ، ومن هم منهم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة ، فإن هو عملها كتبت له عشرا ، وإن أمكن حمله على ما إذا لم يعملها مع القدرة عليها ، وعلى ما حققنا أن النية تابعة للشاكلة والحالة ، وأن كمالها لا يحصل إلا بكمال النفس واتصافها بالأخلاق الرضية الواقعية فلا استبعاد في تساوي ثواب من عزم على فعل على وجه خاص من الكمال ولم يتيسر له ، ومن فعله على هذا الوجه.

وقيل : أثابه المؤمن بنيته أمر خير متفق عليه بين الأمة ورواه الخاصة والعامة روى مسلم بإسناده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه ، وبإسناد آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ، قال المازري : وفيهما دلالة على أن من نوى شيئا من أعمال

١٠٣

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن علي بن أسباط ، عن محمد بن إسحاق بن الحسين ، عن عمرو ، عن حسن بن أبان ، عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن حد العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤديا فقال حسن النية بالطاعة.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد ، عن المنقري ، عن أحمد بن يونس ، عن أبي هاشم قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء ثم تلا قوله تعالى : « قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ » (١)

______________________________________________________

البر ولم يفعله لعذر كان بمنزلة من عمله ، وعلى استحباب طلب الشهادة ونية الخير وقد صرح بذلك جماعة من علمائهم حتى قال الآبي : لو لم ينوه كان حاله حال المنافق لا يفعل الخير ولا ينويه.

الحديث الرابع : مجهول وقد مضى الكلام فيه ، والحاصل أنه حد العبادة الصحيحة المقبولة بالنية الحسنة غير المشوبة مع طاعة الإمام لأنهما العمدة في الصحة والقبول ، فالحمل على المبالغة ، أو المراد بالطاعة الإتيان بالوجوه التي يطاع الله منها مطلقا.

الحديث الخامس : ضعيف.

وكان الاستشهاد بالآية مبني على ما حققنا سابقا أن المدار في الأعمال علي النية التابعة للحالة التي اتصفت النفس بها من العقائد والأخلاق الحسنة والسيئة فإذا كانت النفس على العقائد الثابتة والأخلاق الحسنة الراسخة التي لا يتخلف عنها الأعمال الصالحة الكاملة لو بقي في الدنيا أبدا فبتلك الشاكلة والحالة استحق الخلود في الجنة ، وإذا كانت على العقائد الباطلة والأخلاق الرديئة التي علم الله تعالى أنه لو بقي في الدنيا أبدا لعصى الله تعالى دائما فبتلك الشاكلة استحق الخلود في النار

__________________

(١) سورة الإسراء : ٨٤.

١٠٤

قال على نيته.

______________________________________________________

لا بالأعمال التي لم يعملها.

فلا يرد أنه ينافي الأخبار الواردة في أنه إذا أراد السيئة ولم يعملها لم تكتب عليه ، مع أنه يمكن حمله على ما إذا لم تصر شاكلة له ، ولم تكن بحيث علم الله أنه لو بقي لأتى بها ، أو يحمل عدم كتابة السيئة على المؤمنين ، وهذا إنما هو في الكفار وقد يستدل بهذا الخبر على أن كل كافر يمكن في حقه التوبة والإيمان لا يموت على الكفر.

أقول : ويمكن أن يستدل به على أن بالعزم على المعصية يستحق العقاب وإن عفا الله عن المؤمنين تفضلا.

وما ذكره المحقق الطوسي (ره) في التجريد في مسألة خلق الأعمال حيث قال : وإرادة القبيح قبيحة يدل على أنه بعد إرادة العباد للحرام فعلا قبيحا محرما وهو الظاهر من كلام أكثر الأصحاب سواء كان تاما مستتبعا للقبيح أو عزما ناقصا غير مستتبع لكن قد تقرر عندهم أن إرادة القبيح إذا كانت غير مقارنة لفعل قبيح يتعلق بها العفو كما دلت عليه الروايات وسيأتي بعضها ، وأما إذا كانت مقارنة فلعله أيضا كذلك وادعى بعضهم الإجماع على أن فعل المعصية لا تتعلق به إلا أثم واحد ، ومن البعيد أن يتعلق به إثمان أحدهما بإرادته والآخر بإيقاعه.

قال بعض المحققين من المعاصرين في شرح هذه الفقرة المنقولة من التجريد بعد إيراد نحو مما ذكرنا : فيندفع حينئذ التدافع بين ما ذكره المصنف (ره) من قبح إرادة القبيح وبين ما هو المشهور من أن الله تعالى لا يعاقب بإرادة الحرام وإنما يعاقب بفعله ، وما أوله به بعضهم من أن المراد أنه لا يعاقب العقوبة الخاصة بفعل المعصية بمجرد إرادتها ويثيب الثواب الخاص بفعل الطاعة بمجرد إرادتها ، ففيه أن شيئا من ذلك غير صحيح ، فإن الظاهر من النصوص أنه تعالى لا يعاقب ولا يؤاخذ على إرادة المعصية أصلا وأن الإجماع قائم على أن ثواب الطاعة لا يترتب على إرادتها

١٠٥

باب

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن الأحول ، عن سلام بن المستنير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألا إن لكل عبادة شرة ثم تصير إلى فترة فمن صارت شرة عبادته إلى سنتي فقد اهتدى ومن

______________________________________________________

بل المترتب عليها نوع آخر من الثواب يختلف باختلاف الأحوال المقارنة لها من خلوص النية وشدة الجد فيها ، والاستمرار عليها إلى غير ذلك ، ولا مانع من أن يصير في بعض الأحوال أعظم من ثواب نفس الفعل الذي لم يكن لصاحبه تلك الإرادة البالغة الجامعة لهذه الخصوصيات وكان تتبع الآثار المأثورة يغني عن الإطالة في هذا الباب.

وأقول : قد عرفت بعض ما حققنا في ذلك وسيأتي إنشاء الله تمام الكلام عند شرح بعض الأخبار في أواخر هذا المجلد ، وقد مر بعض القول فيه في باب أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن.

باب

إنما لم يعنون الباب لأنه يمكن إدخاله في عنوان الباب الآتي ، ولعله لو ذكر بعده كان أولى ، وأما مناسبته للباب السابق كما توهم فهي ضعيفة.

الحديث الأول : مجهول.

« إن لكل عبادة شرة » الشره بكسر الشين وتشديد الراء شدة الرغبة ، قال في النهاية فيه : إن لهذا القرآن شرة ، ثم إن للناس عنه فترة ، الشره : النشاط والرغبة ، ومنه الحديث الآخر : لكل عابد شرة ، وقال في حديث ابن مسعود : أنه مرض فبكى فقال : إنما أبكي لأنه أصابني على حال فترة ، ولم يصبني على حال اجتهاد ، أي في حال سكون وتقليل من العبادات والمجاهدات ، انتهى.

١٠٦

خالف سنتي فقد ضل وكان عمله في تباب أما إني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأضحك وأبكي فمن رغب عن منهاجي وسنتي فليس مني وقال كفى بالموت موعظة وكفى باليقين غنى وكفى بالعبادة شغلا.

______________________________________________________

« إلى سنتي » أي منتهيا إليها ، أو إلى بمعنى مع ، أي لا تدعوه كثرة الرغبة في العبادة إلى ارتكاب البدع كالرياضات المبتدعة للمتصوفة ، بل يعمل بالسنن والتطوعات الواردة في السنة ، ويحتمل أن يكون المراد بانتهاء الشره أن يكون ترك الشره بالاقتصاد والاكتفاء بالسنن وترك بعض التطوعات لا بترك السنن أيضا ، ويؤيده الخبر الآتي.

« في تباب » أي تباب العمل أو صاحبه ، والتباب الخسران والهلاك ، وفي بعض النسخ في تبار بالراء وهو أيضا الهلاك.

« كفى بالموت موعظة » الباء زائدة والموعظة ما يتعظ الإنسان به ، ويصير سببا لانزجار النفس عن الخطايا والميل إلى الدنيا والركون إليها وأعظمها الموت ، إذ العاقل إذا تفكر فيه وفي غمراته وما يعقبه من أحوال البرزخ والقيامة وأهوالها وما فعله بأهل الدنيا من قطع أيديهم عنها وإخراجهم منها طوعا أو كرها فجأة من غير اطلاع منهم على وقت نزوله وكيفية حلوله ، هانت عنده الدنيا وما فيها ، وشرع في التهيئة له إن أعطاه الله تعالى بصيرة في ذلك.

« وكفى باليقين غنى » أي كفى اليقين بأن الله رازق العباد ، وأنه يوسع على من يشاء ويقتر على من يشاء بحسب المصالح سببا لغني النفس وعدم الحرص وترك التوسل بالمخلوقين ، وهو من اليقين بالقضاء والقدر ، وقد مر في باب اليقين أنه يطلق غالبا عليه « وكفى بالعبادة شغلا » كان المقصود أن النفس يطلب شغلا يشتغل به ، فإذا شغلها المرء بالعبادة تحيط بجميع أوقاته فلا يكون له فراغ يصرفه في الملاهي ، وإذا لم يشتغل بالعبادة يدعوه الفراغ إلى البطر واللهو وصرف العمر في المعاصي والملاهي

١٠٧

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن الحجال ، عن ثعلبة قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام لكل أحد شرة ولكل شرة فترة فطوبى لمن كانت فترته إلى خير.

باب

الاقتصاد في العبادة

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن هذا الدين متين فأوغلوا

______________________________________________________

والأمور الباطلة ، كسماع القصص الكاذبة وأمثالها ، والغرض الترغيب في العبادة وبيان عمدة ثمراتها ، والظاهر أن هذه الفقرات الأخيرة مواعظ آخر لا ارتباط لها بما تقدمها ، وقد يتكلف بجعلها مربوطة بها بأن المراد بالأولى كفى الموت موعظة في عدم مخالفته السنة ، وكفى اليقين غنى لئلا يطلب الدنيا بالرياء وارتكاب البدع ، وكفت العبادة المقررة الشرعية شغلا ، فلا يلزم الاشتغال بالبدع.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور وقد مر مضمونه.

والحاصل أن لكل أحد شوقا ونشاطا في العبادة في أول الأمر ، ثم يعرض له فترة وسكون ، فمن كانت فترته بالاكتفاء بالسنن وترك البدع أو ترك التطوعات الزائدة فطوبى له ، ومن كانت فترته بترك السنن أيضا أو بترك الطاعات رأسا وارتكاب المعاصي ، أو بالاقتصار على البدع فويل له ، وقد مر في آخر كتاب العقل بسند آخر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ما من أحد إلا وله شرة وفترة فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى بدعة فقد غوى ، وهو يؤيد ما ذكرنا.

باب الاقتصاد في العبادة

الحديث الأول : ضعيف بسنديه.

وقال في النهاية المتين الشديد القوي ، وقال فيه : إن هذا الدين متين فأوغل

١٠٨

فيه برفق ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى.

محمد بن سنان ، عن مقرن ، عن محمد بن سوقة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعا ، عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البختري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال لا تكرهوا

______________________________________________________

فيه برفق ، الإيغال : السير الشديد يقال : أوغل القوم وتوغلوا إذا أمعنوا في سيرهم ، والوغول الدخول في الشيء وقد وغل يغل وغولا يريد : سر فيه برفق ، وأبلغ الغاية القصوى منه بالرفق ، لا على سبيل التهافت والخرق ، ولا تحمل نفسك وتكلفها ما لا تطيقه فتعجز وتترك الدين والعمل.

وقال فيه : فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ، يقال للرجل إذا انقطع به في سفره وعطبت راحلته قد أنبت من البت القطع ، وهو مطاوع بت يقال بتة وأبته يريد أنه بقي في طريقه عاجزا عن مقصده لم يقض وطره وقد أعطب ظهره ، انتهى.

« ولا تكرهوا عبادة الله » كان المعنى أنكم إذا أفرطتم في الطاعات يريد الناس متابعتكم في ذلك ، فيشق عليهم فيكرهون عبادة الله ويفعلونها من غير رغبة وشوق ، ويحتمل أن يكون أوغلوا في فعل أنفسهم ولا تكرهوا في دعوة الغير ، أي لا تحملوا على الناس في تعليمهم وهدايتهم فوق سعتهم وما يشق عليهم كما مر في حديث الرجل الذي هدى النصراني في باب درجات الإيمان ، ويحتمل أن يكون عباد الله شاملا لأنفسهم أيضا ، ويمكن أن يكون الإيغال هنا متعديا أي أدخلوا الناس فيه برفق ليوافق الفقرة الثانية ، قال في القاموس : وغل في الشيء يغل وغولا دخل وتوارى ، أو بعد وذهب ، وأوغل في البلاد والعلم ذهب وبالغ وأبعد كتوغل ، وكل داخل مستعجلا موغل ، وقد أوغلته الحاجة.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح.

١٠٩

إلى أنفسكم العبادة.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن إسماعيل ، عن حنان بن سدير قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن الله عز وجل إذا أحب عبدا فعمل عملا قليلا جزاه بالقليل الكثير ولم يتعاظمه أن يجزي بالقليل الكثير له.

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن الحسن بن الجهم ، عن منصور ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال مر بي أبي وأنا بالطواف وأنا حدث وقد اجتهدت في العبادة فرآني وأنا أتصاب عرقا فقال لي يا جعفر يا بني إن الله إذا أحب عبدا أدخله الجنة ورضي عنه باليسير.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البختري وغيره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال اجتهدت في العبادة وأنا شاب فقال لي أبي عليه‌السلام يا بني

______________________________________________________

وحاصله النهي عن الإفراط في التطوعات بحيث يكرهها النفس ، ولا يكون فيها راغبا ناشطا.

الحديث الثالث : موثق.

وفي القاموس تعاظمه عظم عليه ، وكان في أكثر هذه الأخبار إشارة إلى أن السعي في زيادة كيفية العمل أحسن من السعي في زيادة كميته ، وأن السعي في تصحيح العقائد والأخلاق أهم من السعي في كثرة الأعمال.

الحديث الرابع : مجهول.

« إذا أحب عبدا » أي بحسن العقائد والأخلاق ورعاية الشرائط في الأعمال التي منها التقوى.

الحديث الخامس : حسن كالصحيح.

١١٠

دون ما أراك تصنع فإن الله عز وجل إذا أحب عبدا رضي عنه باليسير.

٦ ـ حميد بن زياد ، عن الخشاب ، عن ابن بقاح ، عن معاذ بن ثابت ، عن عمرو بن جميع ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا علي إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك فإن المنبت يعني المفرط لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما واحذر حذر من يتخوف أن يموت غدا

______________________________________________________

« دون ما أراك تصنع » دون منصوب بفعل مقدر أي أصنع دون ذلك.

الحديث السادس : ضعيف.

« فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما » أي تأن وارفق ولا تستعجل ، فإن من يرجو البقاء طويلا لا يسارع في الفعل كثيرا ، أو أن من يرجو ذلك لا يتعب نفسه بل يداري بدنه ولا ينهكه بكثرة الصيام والسهر وأمثالها ، واحذر عن المنهيات كحذر من يخاف أن يموت غدا ، قيل : ولعل السر فيه أن العبادات أعمال وفيها تعب الأركان وشغل عما سواها ، فأمر فيها بالرفق والاقتصاد كيلا تكل بها الجوارح ولا تبغضها النفس ، ولا تفوت بسببها حق من الحقوق ، فأما الحذر عن المعاصي والمنهيات فهو ترك واطراح وليس فيه كثير كد ولا ملالة ، ولا شغل عن شيء فيترك ترك من يخاف أن يموت غدا على معصية الله تعالى ، وقيل : الفرق أن فعل الطاعات نفل وفضل ، وترك المخالفات حتم وفرض.

١١١

باب

من بلغه ثواب من الله على عمل

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه.

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن سنان ، عن عمران الزعفراني ، عن محمد بن مروان قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه.

______________________________________________________

باب من بلغه ثواب من الله على عمل

الحديث الأول : حسن كالصحيح.

« كان » أي الثواب « له » وفي بعض النسخ كان له أجره.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

ويدل على صحة العمل بنية الثواب وأنها لا تنافي الإخلاص كما عرفت.

فائدة جليلة

اعلم أن أصحابنا رضوان الله عليهم كثيرا ما يستدلون بالأخبار الضعيفة والمجهولة على السنن والآداب ، ويحكمون بها بالكراهة والاستحباب ، وأورد عليه أن الاستحباب أيضا حكم شرعي كالوجوب فلا وجه للفرق بينهما والاكتفاء فيه بأخبار الضعفاء والمجاهيل ، وكذا الكراهة والحرمة لا فرق بينهما في ذلك ، وأجيب عنه بأن الحكم بالاستحباب فيما ضعف مستنده ليس في الحقيقة بذلك الخبر الضعيف ، بل بالروايات الواردة في هذا الباب وغيره.

فإن قيل : هذه الروايات أيضا ليست صحيحة على مصطلح القوم؟ قلت : الخبر الأول وإن كان حسنا لكن حسن إبراهيم بن هاشم لا يقصر عن الصحيح ، مع أنه مؤيد

١١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بالخبر الثاني ، وبما رواه الصدوق في ثواب الأعمال عن أبيه عن علي بن موسى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن هشام عن صفوان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمله كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله ، وبما رواه البرقي في المحاسن عن أبيه عن أحمد بن النضر عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له ذلك الثواب وإن كان النبي لم يقله.

مع أنه روى البرقي بسند صحيح أيضا وإن غفل عنه الأكثر وقالوا : لم يرد فيه خبر صحيح حيث روي عن أبيه عن علي بن الحكم عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله ، وقد روته العامة أيضا بأسانيد عن النبي ، فلا يبعد عده من المتواترات فمهما عملنا بخبر ضعيف لم نعمل بهذا الخبر بل بهذه الأخبار المستفيضة الدالة على جواز العمل به ، وترتب الثواب عليه.

ومع ذلك فقد يخدش بوجوه : الأول : أن مفاد الروايات أنه إذا روي أن في العمل الفلاني ثوابا معينا فعمل أحد ذلك العمل رجاء ذلك الثواب يعطي ذلك الثواب وإن كان الخبر خلاف الواقع ولم يقله المعصوم عليه‌السلام فلا تشمل هذه الأخبار ما لم يرد فيه ثواب مع أن الأصحاب يستدلون بالأخبار غير الصحيحة التي لم تشتمل على الثواب على الكراهة والاستحباب ، ويمكن أن يجاب بأن الأمر بالعبادة يستلزم ترتب الثواب عليه وإن لم يذكر في الخبر ، فإذا فعل المؤمن ذلك العمل رجاء للثواب المعلوم ترتبه على العمل وإن لم يعلم مقداره يكون داخلا في تلك الأخبار ، ولا بد أن يثاب في الجملة لاقتضائها ذلك ولا يخلو من تمحل.

الثاني : أن الثواب كما يكون للمستحب كذلك يكون للواجب أيضا ، فلم

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

خصصوا الحكم بالمستحب ، والجواب أنك قد عرفت أنا لم نعمل بهذا الخبر الدال على الوجوب بل إنما عملنا بتلك الأخبار وهي لا تدل إلا على رجحان العمل به وترتب الثواب عليه ولا تدل على ترتب العقاب على تركه فالحكم الثابت لنار بهذا الخبر بانضمام تلك الروايات ليس إلا الحكم الاستحبابي فافهم.

الثالث : أن بين تلك الروايات وبين ما يدل على عدم جواز العمل بخبر الفاسق كقوله تعالى : « إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا » (١) عموما من وجه ، فلا وجه لتخصيص الثاني بالأول بل العكس أولى لقطعية طريقه وتأيده بالأصل ، إذ الأصل عدم التكليف وبراءة الذمة منه ، ويمكن أن يجاب بأن الآية إنما تدل على عدم العمل بخبر الفاسق بدون التثبت والتبين ، والعمل به فيما نحن فيه بعد ورود الروايات ليس عملا بلا تثبت فلم تخصص الآية بالأخبار ، بل بسبب ورودها خرجت تلك الأخبار الضعيفة عن عنوان الحكم المثبت في الآية الكريمة.

الرابع : أن هذه المسألة أي ثبوت الاستحباب بالأدلة الضعيفة إنما هو من مسائل الأصول على المشهور وجواز الاكتفاء فيه بالظن الحاصل من خبر الواحد مشكل ، والجواب أن مثل هذا الخبر المشتهر بين الفريقين الوارد بأسانيد كثيرة مما يورث القطع بمضمونه ، مع أن وجوب تحقق العلم القطعي في جميع مسائل الأصول مما يمكن المناقشة فيه.

الخامس : أن عموم العمل الذي ورد في الخبر ترتب الثواب عليه غير معلوم ، فإنه فيما سبق من الأخبار نكرة في سياق الإثبات وهي غير مفيدة للعموم ، فحينئذ يحتمل أن يكون المراد فيها أن من سمع ثوابا من الله على عمل ثابت بدليل شرعي قطعي أو ظني جائز العمل به ، ثم عمل بذلك العمل أعطي ذلك الأجر فلا يدل

__________________

(١) سورة الحجرات : ٦.

١١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

على إثبات أصل العمل بالأخبار الغير المعتبرة ، والجواب أن العمل وإن كان نكرة في إثبات وهو لا يفيد العموم إلا أنه لما كان مقنن القوانين ومن صدر عنه الحكم لما كان (١) حكيما لا يليق به أن يصدر عنه حكم مجمل لا يمكن العمل به ، ولا يفيد المخاطب فائدة تامة فلا بد من حمل النكرة على العموم ، مثلها في قوله تعالى : « عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ » (٢) وقولهم : تمرة خير من جرادة ، أو يقال أن العموم المستفاد من لفظة « من » كاف لإفادة عموم العمل أيضا فإنه يصدق على من بلغه ثواب من الله على عمل غير ثابت بدليل شرعي خارج أنه ممن بلغه الحديث ، فإن اسم الموصول وغيره من أدوات العموم كما يقتضي عموم الأفراد يقتضي عموم جميع ما يتعلق به ويتم به الصلة أو الاسم الذي دخل عليه أداة العموم.

ففي ما نحن فيه نقول : اسم الموصول دخل على بلغه ثواب من الله على عمل ، فكل شيء يصدق عليه أنه بلغه ثواب ما على عمل ما يتناوله اسم الموصول مع قطع النظر عن عمومه تناولا كتناول المطلق لأفراده ، ومعنى العموم شموله بحسب الحكم لكل ما تناوله تناولا إطلاقيا ، فلو فرضنا أن بلوغا ما أو ثوابا ما أو عملا ما خارج عن تعلق هذا الحكم لم يكن العام المفروض عاما لجميع من بلغه ثواب على عمل وهو يخل بالعموم.

ومن أقوى الشواهد على ذلك أن علماءنا وعلماء العامة اتفقوا على أن قوله تعالى : « وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً » (٣) عام يشمل أولات الحمل وغيرها في قوله تعالى : « وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ » (٤) واختلفوا في

__________________

(١) كذا في النسخ والظاهر زيادة « لما كان ».

(٢) سورة التكوير : ١٤.

(٣) سورة البقرة : ٢٣٤.

(٤) سورة الطلاق : ٤.

١١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ترجيح تخصيص أيهما بالآخر لما بينهما من العموم من وجه وقصة أمير المؤمنين عليه‌السلام في ذلك مع ابن مسعود مشهورة ، ولو لا ما ذكرنا أمكن أن يقال : أن أزواجا جمع منكر فلا عموم له ، وأولات الأحمال جمع مضاف فيعم فلا تعارض.

وبهذا يظهر فساد ما في شرح المختصر في بحث دلالة الأمر على الوجوب حيث استدل عليها بقوله : « فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ » (١) الآية ، ثم اعترض بأن الاستدلال موقوف على عموم الأمر وهو مطلق ، وأجاب بأن الأمر مصدر مضاف فيعم ، وعلى ما ذكرنا تناول الأمر بإطلاقه لجميع الأوامر كاف إذ يكون المعنى حينئذ الأمر بحذر كل من يخالف أمرا ما من الأوامر فيدل على أن كل من يخالف أي أمر من الأوامر يتحقق في حقه مقتضى الحذر ، وما هو إلا استحقاق العقاب والشواهد علي ما ذكرنا كثيرة يظهر علي المتتبع.

ثم اعلم أنه يشكل ترتب الأحكام الأخر على هذا الفعل سوى ترتب الثواب عليه ، كما إذا ورد خبر ضعيف يدل على ترتب الثواب على غسل ، فعلى القول بحصول الاستباحة من الأغسال المندوبة يشكل حصول الاستباحة من هذا الغسل إلا أن يقال : لما ثبت بهذه الأخبار شرعية هذا الغسل يترتب عليه جميع الأحكام ، ولا فرق بين هذا الغسل وغيره من الأغسال المندوبة ، وكل دليل يدل على حصول الاستباحة من الأغسال الأخر ، يدل على هذا أيضا.

قال الشيخ البهائي قدس‌سره : يحتمل أن يراد بسماع الثواب مطلق بلوغه إليه ، سواء كان على سبيل الرواية أو الفتوى أو المذاكرة أو نحو ذلك ، كما لو أراه في شيء من كتب الحديث أو الفقه مثلا ، ويؤيد هذا التعميم أنه ورد في حديث آخر عن الصادق عليه‌السلام : من بلغه شيء من الثواب ، ويمكن أن يراد السماع من لفظ

__________________

(١) سورة النور : ٦٣.

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الراوي أو المفتي خاصة ، فإنه هو الشائع الغالب في الزمن السالف ، وأما الحمل على التحمل بأحد الوجوه الستة المشهورة فلا يخلو من بعد.

وظاهر الإطلاق أن ظن صدق الناقل غير شرط في ترتب الثواب ، فلو تساوى صدقه وكذبه في نظر السامع وعمل بقوله فاز بالأجر ، نعم يشترط عدم ظن كذبه لقيام بعض القرائن والظاهر أن تصريح الراوي بترتب الثواب غير شرط ، بل قوله إن العمل الفلاني مستحب أو مكروه كاف في ترتب الثواب على فعله أو تركه.

« على شيء » (١) أي على فعل شيء أو تركه « فصنعه » أي أتى بذلك الشيء سواء كان فعلا أو تركا « كان له أجره » (٢) الضمير في أجره إما أن يعود إلى الشيء أي كان له الأجر المرتب على ذلك الشيء أو إلى من ، أي كان لذلك العامل أجره أي الأجر الذي طلبه بذلك العمل « وإن لم يكن على ما بلغه » اسم يكن ضمير الشأن ويجوز عوده إلى الشيء أو الثواب أو المسموع ، ويؤيده أن في رواية أخرى وإن لم يكن الحديث كما بلغه ، انتهى.

وقال المحقق الدواني في أنموزجه : اتفقوا على أن الحديث الضعيف لا تثبت به الأحكام الشرعية ثم ذكروا أنه يجوز بل يستحب العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال ، وممن صرح بذلك النووي في كتبه ، لا سيما كتاب الأذكار ، وفيه إشكال لأن جواز العمل واستحبابه كلاهما من الأحكام الخمسة الشرعية فإذا استحب العمل بمقتضى الحديث الضعيف كان ثبوته بالحديث الضعيف ، وذلك ينافي ما تقرر من عدم ثبوت الأحكام بالأحاديث الضعيفة ، وقد حاول بعضهم التفصي عن ذلك وقال : مراد النبوي أنه إذا ثبت حديث حسن أو صحيح في فضيلة عمل من الأعمال يجوز رواية الحديث الضعيف في هذا الباب ، ولا يخفى أن هذا لا يرتبط بكلام النووي أصلا فضلا عن أن يكون مراده ذلك ، فلم يكن جواز العمل واستحبابه

__________________

(١) تتمة كلام الشيخ البهائي (ره).

(٢) كلمة « أجره » غير موجود في أكثر النسخ كما صرّح به الشارح (ره) أيضا.

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

مجرد نقل الحديث ، على أنه لو لم يثبت الحديث الصحيح والحسن في فضيلة عمل يجوز نقل الحديث الضعيف فيها ، لا سيما مع التنبيه على ضعفه ، ومثل ذلك في كتب الحديث وغيره شائع كثير يشهد به من تتبع أدنى تتبع ، والذي يصلح للتعويل عليه حينئذ أنه إذا وجد حديث ضعيف في فضيلة عمل من الأعمال ، ولم يكن هذا العمل مما يحتمل الحرمة والكراهة فإنه يجوز العمل به ويستحب لأنه مأمون الخطر ومرجو النفع ، إذ دائر بين الإباحة والاستحباب ، فالاحتياط العمل به رجاء الثواب ، وأما إذا دار بين الحرمة والاستحباب فلا وجه لاستحباب العمل به ، وإذا دار بين الكراهة والاستحباب فمجال النظر فيه واسع إذ في العمل دغدغة الوقوع في المكروه ، وفي الترك مظنة ترك المستحب ، فلينظر إن كان خطر الكراهة أشد بأن تكون الكراهة المحتملة شديدة والاستحباب المحتمل ضعيفا فحينئذ يترجح الترك على الفعل ، فلا يستحب العمل به وإن كان الكراهة أضعف بأن تكون الكراهة على تقدير وقوعها كراهة ضعيفة دون مرتبة ترك العمل على تقدير استحبابه فالاحتياط العمل به ، وفي صورة المساواة تحتاج إلى نظر تام ، وأظن أنه يستحب أيضا لأن المباحات تصير بالنية عبادة فكيف ما فيه شبهة الاستحباب لأجل الحديث الضعيف ، فجواز العمل واستحبابه مشروطان ، أما جواز العمل فبعدم احتمال الحرمة وأما الاستحباب فبما ذكرنا مفصلا.

بقي هيهنا شيء وهو أنه إذا عدم احتمال الحرمة فجواز العمل ليس لأجل الحديث إذ لو لم يوجد يجوز العمل أيضا لأن المفروض انتفاء الحرمة ، لا يقال : الحديث الضعيف ينفى احتمال الحرمة؟ لأنا نقول : الحديث الضعيف لا يثبت به شيء من الأحكام الخمسة ، وانتفاء الحرمة يستلزم ثبوت الإباحة ، والإباحة حكم شرعي فلا يثبت بالحديث الضعيف ، ولعل مراد النووي ما ذكرنا ، وإنما ذكر

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الجواز توطئة للاستحباب ، وحاصل الجواب أن الجواز معلوم من خارج ، والاستحباب أيضا معلوم من القواعد الشرعية الدالة على استحباب الاحتياط في أمر الدين ، فلم يثبت شيء من الأحكام بالحديث الضعيف بل أوقع الحديث الضعيف شبهة الاستحباب ، فصار الاحتياط أن يعمل به ، واستحباب الاحتياط معلوم من قواعد الشرع ، انتهى.

واعترض عليه الشيخ البهائي قدس‌سره بأن خطر الحرمة في هذا الفعل الذي تضمن الحديث الضعيف استحبابه حاصل كلما فعله المكلف لرجاء الثواب ، لأنه لا يعتد به شرعا ولا يصير منشأ لاستحقاق الثواب إلا إذا فعله المكلف بقصد القربة ، ولاحظ رجحان فعله شرعا ، فإن الأعمال بالنيات وفعله على هذا الوجه مردد بين كونه سنة ورد الحديث في الجملة ، وبين كونه تشريعا وإدخالا لما ليس من الدين فيه ، ولا ريب أن ترك السنة أولى من الوقوع في البدعة ، فليس الفعل المذكور دائرا في وقت من الأوقات بين الإباحة والاستحباب ، بل هو دائما دائر بين الحرمة والاستحباب فتاركه متيقن للسلامة وفاعله متعرض للندامة.

على أن قولنا بدورانه بين الحرمة والاستحباب إنما هو على سبيل المماشاة وإرخاء العنان ، وإلا فالقول بالحرمة من غير ترديد ليس عن السداد ببعيد ، والتأمل الصادق على ذلك شهيد ، هذا.

وقد تفصى بعض الفضلاء عن أصل الإشكال بأن معنى قولهم يجوز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال دون مسائل الحرام والحلال ، أنه إذا ورد حديث صحيح أو حسن في استحباب عمل وورد حديث ضعيف في أن ثوابه كذا وكذا ، جاز العمل بذلك الحديث الضعيف ، والحكم بترتب ذلك الثواب على ذلك الفعل ، وليس هذا الحكم أحد الأحكام الخمسة التي لا تثبت بالأحاديث الضعيفة.

وبعضهم بأن معنى قولهم الأحكام لا تثبت بالأحاديث الضعيفة أنها لا تستقل

١١٩

باب الصبر

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي

______________________________________________________

بإثباتها لا أنها لا تصير مقوية ومؤكدة لما ثبت به ، ومعنى تجويزهم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال أنه إذا دل على استحباب عمل حديثان صحيح وضعيف مثلا ، جاز للمكلف حال العمل ملاحظة دلالة الضعيف أيضا عليه ، فيكون عاملا به في الجملة ولا يخفى ما في هذين الكلامين من الخلل ، أما الأول فلمخالفة منطوق عبارات القوم فإنها صريحة في استحباب الإتيان بالفعل إذا ورد في استحبابه حديث ضعيف غير قابلة لهذا التأويل السخيف ، وأما الثاني فمع بعده وسماجته يقتضي عدم صحة التخصيص بفضائل الأعمال دون مسائل الحرام والحلال ، فإن العمل بالحديث الضعيف بهذا المعنى لا نزاع بين أهل الإسلام في جوازه في جميع الأحكام.

باب الصبر

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

وقال المحقق الطوسي قدس‌سره : الصبر حبس النفس عن الجزع عند المكروه ، وهو بمنع الباطن عن الاضطراب ، واللسان عن الشكاية ، والأعضاء عن الحركات غير المعتادة ، انتهى.

وقد مر وسيأتي أن الصبر يكون على البلاء وعلى فعل الطاعة وعلى ترك المعصية ، وعلى سوء أخلاق الخلق ، قال الراغب : الصبر الإمساك في ضيق ، يقال : صبرت الدابة حبستها بلا علف وصبرت فلانا حلفته حلفة لا خروج له منها ، والصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه ، فالصبر لفظ عام وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه ، فإن كان حبس النفس لمصيبة سمي صبرا لا غير ، ويضاده الجزع ، وإن كان في محاربة سمي شجاعة ويضاده الجبن ،

١٢٠