مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

كنومة نمتها ثم استيقظت منها يا مبتغي العلم قدم لمقامك بين يدي الله عز وجل فإنك مثاب بعملك كما تدين تدان يا مبتغي العلم.

١٩ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن القاسم بن يحيى ، عن

______________________________________________________

فليس بين الدنيا والآخرة لهما فاصلة ، فيتحولون من الدنيا إلى الآخرة كما روي : من مات فقد قامت قيامته ، وأما المستضعفون فلما كانوا ملهي عنهم استدرك ذلك بأن حالهم في البرزخ كنوم وليلة ، فلا فاصلة بين دنيا هم وآخرتهم حقيقة ، ويحتمل أن يكون الغرض بيان قلة نعيم البرزخ وجحيمها بالنسبة إلى نعيم الآخرة وجحيمها ، فكأنهم نائمون أو لأن جل عذابهم بعد السؤال والضغطة وأمثالهما لما كان روحانيا شبه تلك الحالة بالنومة.

ولم يتعرض أحد لتحقيق هذه الفقرة مع إشكالها ومخالفتها ظاهرا للآيات والأخبار الكثيرة.

قوله (ره) : قدم ، أي العمل الصالح « لمقامك بين يدي الله عز وجل » أي للحساب « كما تدين تدان » أي كما تفعل تجازى ، فهو على المشاكلة ولا يضر تقدمه أو كما تجازي الرب تجازى ، ولا يخلو من بعد ، أو كما تجازي العباد تجازى فيكون تأسيسا قال الجوهري : دانه دينا أي جازاه كما يقال : كما تدين تدان ، أي كما تجازي تجازى بفعلك وبحسب ما عملت ، وقوله تعالى : « إِنَّا لَمَدِينُونَ » (١) أي مجزيون.

« يا مبتغي العلم » قيل : هذا افتتاح كلام آخر تركه المصنف ، وإنما ذكر ليعلم أن ما ذكره ليس جميع الخطبة كما مر بعضه في باب الصمت ، حيث قال رضي‌الله‌عنه : يا مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير « إلخ ».

الحديث التاسع عشر : ضعيف.

__________________

(١) سورة الصافّات : ٥٣.

٣٠١

جده الحسن بن راشد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثلها كمثل الراكب رفعت له شجرة في يوم صائف فقال تحتها ثم راح وتركها.

٢٠ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يحيى بن عقبة الأزدي ، عن

______________________________________________________

« ما لي وللدنيا » أي أي شغل لي مع الدنيا ، وقيل : « ما » نافية أي ما لي محبة مع الدنيا أو للاستفهام أي أي محبة لي معها حتى أرغب فيها ذكره الطيبي في شرح بعض رواياتهم « وما أنا والدنيا » أي أي مناسبة بيني وبين الدنيا ، ومن طريق العامة روي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نام على حصير فقام وقد أثر في جسده فقالوا : لو أمرتنا أن نبسط لك ونعمل؟ فقال : ما لي وللدنيا وما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.

أقول : وجه الشبه سرعة الرحيل وقلة المكث وعدم الرضا به وطنا ، وقال الكرماني في شرح البخاري : فيه فرفعت لنا صخرة أي ظهرت لأبصارنا ، وفيه أيضا فرفع لي البيت المعمور ، أي قرب وكشف وعرض وقال الجوهري : يوم صائف أي حار وليلة صائفة وربما قالوا : يوم صاف بمعنى صائف ، كما قالوا : يوم راح « فقال » القائلة الظهيرة ، يقال : أتانا عند القائلة ، وقد يكون بمعنى القيلولة أيضا ، وهي النوم في الظهيرة تقول : قال يقيل قيلولة وقيلا ومقيلا وهو شاذ فهو قائل ، وفي المصباح : راح يروح رواحا وتروح مثله ، يكون بمعنى الغدو وبمعنى الرجوع ، وقد يتوهم بعض الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار ، وليس كذلك بل الرواح والغدو عند العرب يستعملان في المسير أي وقت كان من ليل أو نهار ، وقال ابن فارس : الرواح رواح العشي وهو من الزوال إلى الليل.

الحديث العشرون : مجهول.

قال في المصباح : القز معرب ، قال الليث : هو ما يعمل منه الإبريسم ، ولهذا

٣٠٢

أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أبو جعفر عليه‌السلام مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز كلما ازدادت على نفسها لفا كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غما قال وقال أبو عبد الله عليه‌السلام كان فيما وعظ به لقمان ابنه يا بني إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا ولم يبق من جمعوا له وإنما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل ووعدت عليه أجرا فأوف عملك واستوف أجرك ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع أخضر فأكلت حتى سمنت (١) فكان حتفها عند سمنها ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها وتركتها ولم ترجع إليها آخر الدهر أخربها ولا تعمرها فإنك لم تؤمر بعمارتها واعلم أنك ستسأل غدا إذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن أربع شبابك فيما أبليته وعمرك فيما أفنيته ومالك مما اكتسبته وفيما أنفقته فتأهب لذلك وأعد له

______________________________________________________

قال بعضهم : القز الإبريسم ، مثل الحنطة والدقيق ، انتهى.

« ولفا » تميز عن نسبة ازدادت ، وغما مفعول له أو حال « فلم يبق ما جمعوا » في بعض النسخ ما جمعوا له ، وكأنه زيد « له » من النساخ ، وعلى تقديره كان المعنى لم تبق الأغراض والمطالب الباطلة التي جمعوا لها الدنيا كالجاه والعزة والغلبة والفخر وأمثالها « فكان حتفها » أي هلاكها المعنوي فإن التمتع بالمستلذات الجسمانية موجب لقوة القوى الشهوانية وطغيانها ، وهذا استعارة تمثيلية شبه توسع الإنسان في لذات الدنيا وشهواتها وعدم مبالاته بحرامها وشبهاتها وابتلائه بعد الموت بعقوباتها بشاة وقعت في زرع أخضر فأكلت منها حيث شاءت وكيف شائت بلا مانع حتى إذا سمنت قتلها صاحبها لسمنها.

« آخر الدهر » أي إلى آخر الزمان أي أبدا « أخربها » أي دعها خرابا بترك ما لا تحتاج إليه من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمساكن ، والاقتصار على القدر الضروري في كل منها « ستسأل » قيل : السين لمحض التأكيد « فيما أبليته »

__________________

(١) كذا في الأصل والظاهر « سمنت » بالتاء.

٣٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

كلمة « ما » في المواضع الأربعة استفهامية وإثبات الألف مع حرف الجر فيها شاذ ، والثوب البالي هو الذي استعمل حتى أشرف على الاندراس.

ثم إن العمر لا يستلزم القوة والشباب ، فكل منهما نعمة يسأل عنها ، ومع الاستلزام أيضا تكفي المغايرة للسؤال عن كل منهما وأما السؤال عن المال إما لغير المؤمنين أو لغير الكاملين منهم ، لما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما كتب إلى أهل مصر : من عمل لله أعطاه الله أجره في الدنيا والآخرة وكفاه المهم فيهما ، وقد قال الله تعالى : « يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ » (١) فما أعطاهم الله في الدنيا لم يحاسبهم به في الآخرة ، قال الله تعالى : « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ » (٢) والحسنى هي الجنة ، والزيادة هي الدنيا.

وروى البرقي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ثلاثة أشياء لا يحاسب العبد المؤمن عليهن : طعام يأكله ، وثوب يلبسه ، وزوجة صالحة تعاونه ويحصن بها فرجه وقد وردت أخبار كثيرة في تفسير قوله تعالى : « لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ » أن النعيم (٣) ولاية أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد روى العياشي وغيره أنه سأل أبو حنيفة أبا عبد الله عليه‌السلام عن هذه الآية فقال له : ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال : القوت من الطعام والماء البارد ، فقال : لئن أوقفك الله بين يديه يوم القيامة حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه؟ قال : فما النعيم جعلت فداك؟ قال : نحن أهل بيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد ، الخبر.

ويمكن أن يقال : السؤال عن المال اكتسبه من حلال أو حرام أو أنفقه في حلال

__________________

(١) سورة الزمر : ١٠.

(٢) سورة يونس : ٢٦.

(٣) سورة التكاثر : ٨.

٣٠٤

جوابا ولا تأس على ما فاتك من الدنيا فإن قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه وكثيرها لا يؤمن بلاؤه فخذ حذرك وجد في أمرك واكشف الغطاء عن وجهك وتعرض

______________________________________________________

أو حرام ، لا ينافي عدم محاسبتهم على ما أنفقوه في الحلال من مأكلهم ومسكنهم وملبسهم ونحو ذلك ، أو المراد بتلك الأخبار أنهم لا يعاتبون بذلك ولا يقاص من حسناتهم بها ، فلا ينافي أصل المحاسبة كما روى الشيخ في مجالسه بإسناده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : يوقف العبد بين يدي الله فيقول : قيسوا بين نعمتي عليه وبين عمله ، فتستغرق النعم العمل ، فيقولون : قد استغرق النعم العمل ، فيقول : هبوا له نعمتي وقيسوا بين الخير والشر منه فإن استوى العملان أذهب الله الشر بالخير ، وأدخله الجنة وإن كان له فضل أعطاه الله بفضله ، وإن كان عليه فضل وهو من أهل التقوى ولم يشرك بالله تعالى ، واتقى الشرك به فهو من أهل المغفرة يغفر الله له برحمته إن شاء ويتفضل عليه بعفوه.

وقال الجوهري : تأهب استعد وأهبه الحرب عدتها وقال : الأسي مفتوح مقصور : الحزن ، وأسى على مصيبته بالكسر يأسى أسى أي حزن « لا يدوم بقاؤه » والعاقل لا يتأسف بفوات قليل لا بقاء له.

« لا يؤمن بلاؤه » أي في الدنيا والآخرة ، والعاقل لا يتأسف بفوت ما يتوقع منه الضرر والبلية ، مع أن الرب الذي فوتها عليه أعلم بمصلحته ، أو المعنى لا تحزن على ما لم يصل إليك من الدنيا فإن الصبر على قليل الدنيا وقلته سهل فإنه لا يدوم وينقضي قريبا بالموت ، والكثرة محل الآفات « فخذ حذرك » بالكسر أي ما تحذر به من مكائد النفس والشيطان في الدنيا والعذاب في الآخرة قال الراغب في قوله تعالى : « خُذُوا حِذْرَكُمْ » (١) أي ما فيه الحذر من السلاح وغيره « وجد في أمرك » أي في تهيئة سفر الآخرة والاستعداد للقاء الله من العقائد الحسنة والأعمال الصالحة

__________________

(١) سورة النساء : ٧١.

٣٠٥

لمعروف ربك وجدد التوبة في قلبك واكمش في فراغك قبل أن يقصد قصدك ويقضى

______________________________________________________

والأخلاق المرضية فإن من أراد سفرا يأخذ الأسلحة لدفع ضرر الطريق ويجهز ويهيئ ما يحتاج إليه في ذلك السفر « واكشف الغطاء عن وجهك » أي ارفع غطاء الغفلة عن وجه قلبك لتميز بين الحق والباطل والفاني والباقي أو عن الجهة التي تتوجه إليه ، والطريق الذي تسلكه لئلا يشتبه عليك فتسلك طريقا يؤديك إلى النار وأنت لا تعلم « وتعرض لمعروف ربك » بما به تستحق إحسانه وتفضله عليك من صالح النيات والأعمال.

« وجدد التوبة في قلبك » أي كلما ذكرت معاصيك ، وفي النسبة إلى القلب إشعار بأن التوبة أمر قلبي وهي الندامة عما مضى والعزم على عدم الإتيان بمثله فيما سيأتي ، وفيه دلالة على حسن تكرار التوبة وإن كانت عن معصية واحدة « واكمش » أي أسرع وعجل ، في الصحاح : الكمش الرجل السريع الماضي ، وقد كمش بالضم كماشة فهو كمش وكميش وكمشته تكميشا أعجلته ، وانكمش أسرع ، انتهى.

« في فراغك » أي في أن تفرغ من الأمور التي تحتاج إليه في الآخرة أو في فراغك من الدنيا وجعلك نفسك فارغة منها للآخرة أو في قصدك إلى الآخرة أو أسرع في العمل في أيام فراغك قبل أن تشتغل أو تبتلي بشيء يمنعك عنه ، فإن الفراغ خلاف الشغل ، قال في المصباح : فرغ من الشغل فروغا من باب قعد ، ومن باب تعب لغة لبني تميم والاسم الفراغ ، وفرغت للشيء وإليه قصدت.

أقول : ويؤيد المعنى الأخير ما روي في مجالس الشيخ عن ابن عمر : خذ من حياتك لموتك ، وخذ من صحتك لسقمك ، وخذ من فراغك لشغلك ، فإنك يا عبد الله لا تدري ما اسمك غدا ، وما رواه الصدوق في مجالسه عن الكاظم عن آبائه عليهم‌السلام

٣٠٦

قضاؤك ويحال بينك وبين ما تريد.

٢١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن بعض أصحابه ، عن ابن أبي يعفور قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول فيما ناجى الله عز وجل به موسى عليه‌السلام يا موسى لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين وركون من اتخذها أبا وأما يا موسى لو وكلتك إلى نفسك لتنظر لها إذا لغلب عليك حب الدنيا وزهرتها يا موسى

______________________________________________________

عن علي عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ » (١) قال : لا تنس صحتك وقوتك وفراغك وشبابك ونشاطك تطلب بها الآخرة « قبل أن يقصد » على بناء المجهول « قصدك » أي نحوك كناية عن توجه ملك الموت إليه لقبض روحه أو توجه الأمراض والبلايا من الله إليه « ويقضي قضاءك » أي يقدر ويحتم موتك ، ويحال بالموت أو الأعم بينك وبين ما تريد من التوبة والأعمال الصالحة ولا ينفعه تمنى الحياة والرجعة حيث يقول : « رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ » فيقال : « كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ » أعاذنا الله وسائر المؤمنين من ندامة تلك الساعة وأهوال هذا اليوم.

الحديث الحادي والعشرون : مرسل.

وسيأتي تمام تلك المناجاة في الروضة بسند آخر ، وبعض تلك الفقرات مذكور فيها علي خلاف الترتيب ، ويقال : ركن إليه كنصر وعلم ومنع : مال ، ويطلق غالبا على الميل القلبي « لو وكلتك » يدل على أن الزهد في الدنيا لا يحصل بدون توفيقه تعالى ، وفي القاموس : نظر لهم رثى لهم وأعانهم وقال : النظر محركة الفكر في الشيء تقدره وتقيسه ، والحكم بين القوم والإعانة والفعل كنصر ، وفي النهاية المنافسة الرغبة في الشيء والانفراد به ، وهو من الشيء النفيس الجيد في نوعه ونافست في الشيء منافسة ونفاسا إذا رغبت فيه.

__________________

(١) سورة القصص : ٧٧.

٣٠٧

نافس في الخير أهله واستبقهم إليه فإن الخير كاسمه واترك من الدنيا ما بك الغنى عنه ولا تنظر عينك إلى كل مفتون بها وموكل إلى نفسه واعلم أن كل فتنة

______________________________________________________

قوله تعالى : فإن الخير كاسمه ، لعل المعنى أن الخير لما دل بحسب أصل معناه في اللغة على الأفضلية وما يطلق عليه في العرف والشرع من الأعمال الحسنة أو إيصال النفع إلى الغير هي حير الأعمال ، فالخير كاسمه أي إطلاق هذا الاسم على تلك الأمور بالاستحقاق ، والمعنى المصطلح مطابق للمدلول اللغوي ، أو المراد به أن الخير لما كان كل من سمعه يستحسنه فهو حسن واقعا وحسنه حسن واقعي.

والحاصل أن ما يحكم به عقول عامة الخلق في ذلك مطابق للواقع ، أو المراد باسمه ذكره بين الناس ، يعني إن الخير ينفع في الآخرة كما يصير سببا لرفعة الذكر في الدنيا « ما بك الغناء عنه » أي ما لم تحتج إليه بل لم تضطر إليه « ولا تنظر » على بناء المجرد « عينك » بالرفع أو بالنصب بنزع الخافض ، أي بعينك ، وربما يقرأ تنظر على بناء الأفعال أي لا تجعلها ناظرة إلى كل مفتون بها أي مبتلى مخدوع بها ، والمراد النظر إلى كل من لقيه منهم ، فإنه لا يمكن النظر إلى كلهم أو كناية عن أن النظر إلى واحد منهم بالإعجاب به وبما معه من زينتها بمنزلة النظر إلى جميعهم ، لاشتراك العلة « وموكل إلى نفسه » المتبادر أنه على بناء المفعول لكن كان الظاهر حينئذ وموكول ، إذ لم يأت أو كله فيما عندنا من كتب اللغة لكن كثير من الأبنية المتداولة كذلك ، ويمكن أن يقرأ على بناء الفاعل من الإيكال بمعنى الاعتماد ، في القاموس : وكل بالله وتوكل عليه وأو كل واتكل استسلم إليه ، ووكل إليه الأمر وكلا ووكولا سلمه وتركه.

« أن كل فتنة » أي ضلاله أو بلية أو امتحان أو إثم ، في القاموس : الفتنة بالكسر الخبرة وإعجابك بالشيء والضلال والإثم والكفر والفضيحة والعذاب ، وإذابة الذهب والفضة والإضلال والجنون والمحنة والمال والأولاد ، واختلاف الناس

٣٠٨

بدؤها حب الدنيا ولا تغبط أحدا بكثرة المال فإن مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق ولا تغبطن أحدا برضى الناس عنه حتى تعلم أن الله راض عنه ولا تغبطن مخلوقا بطاعة الناس له فإن طاعة الناس له واتباعهم إياه على غير الحق هلاك له ولمن اتبعه.

٢٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن غياث بن إبراهيم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن في كتاب علي صلوات الله عليه إنما مثل الدنيا كم ثل الحية ما ألين مسها وفي جوفها السم الناقع يحذرها الرجل العاقل ويهوي إليها الصبي الجاهل

______________________________________________________

في الآراء.

وأقول : يناسب هنا أكثر المعاني « ولا تغبط أحدا » بأن تتمنى حاله « تكثر الذنوب » بصيغة المضارع من باب حسن أو مصدر باب التفعل « لواجب الحقوق » أي للتقصير في أداء الحقوق الواجبة غالبا « بطاعة الناس له » أي في الباطل.

الحديث الثاني والعشرون : حسن موثق.

وفي النهاية : السم الناقع أي القاتل ، وقد نقعت فلانا إذا قتلته ، وقيل :

الناقع الثابت المجتمع ، من نقع الماء ، انتهى.

وما أحسن هذا التشبيه وأتمه وأكمله ، وفي النهج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : مثل الدنيا مثل الحية لين مسها والسم الناقع في جوفها ، يهوي إليها الغر الجاهل ، ويحذرها ذو اللب العاقل.

وفي خبر المتن ظاهره أن الجملتين الأخيرتين لبيان المشبه به ، وفي النهج لبيان المشبه ، ويحتمل العكس في كل منهما ، وكون المشبه به أقوى لا ينافي كون ضرر الدنيا على طالبها واقعا أشد من ضرر الحية على لامسها لأن الأشدية والأظهرية إنما تعتبران بالنسبة إلى المخاطب ، والمخاطبون هنا هم أهل الدنيا

٣٠٩

٢٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن أبي جميلة قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام كتب أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى بعض أصحابه يعظه أوصيك ونفسي بتقوى من لا تحل معصيته ولا يرجى غيره ولا الغنى إلا به فإن من اتقى الله جل وعز وقوي وشبع وروي ورفع عقله عن أهل الدنيا فبدنه مع أهل الدنيا وقلبه وعقله معاين الآخرة فأطفأ بضوء قلبه ما أبصرت عيناه من حب الدنيا فقذر

______________________________________________________

المغرورون بها ، الغافلون عن مضارها وضرر الحية عندهم أشد وأبين.

الحديث الثالث والعشرون : ضعيف.

وقال الراغب : الوعظ : خبر مقترن بتخويف وقال الخليل : هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب والعظة والموعظة الاسم ، وقال : الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ من قولهم أرض واصية متصلة النبات يقال : أوصاه ووصاه «فإن من اتقى الله» علة للوصية «عز» أي بعزة واقعية ربانية لا تزول بإزلال الناس ، كما قال تعالى « وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ » (١) وقوي بقوة معنوية إلهية ، ولا تشبه القوي البدنية كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية بل بقوة ربانية «وشبع وروي» من غير اكتساب لقوله تعالى : « وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ » (٢) أو شبع بالعلوم اللدنية ، وارتوى بزلال الحكمة الإلهية « ورفع عقله » على بناء المجهول « عن أهل الدنيا » أي صار عقله أرفع من عقولهم أو أرفع من أن ينظر إلى الدنيا وأهلها ويلتفت إليهم ويعتني بشأنهم إلا لهدايتهم وإرشادهم « فبدنة مع أهل الدنيا » لكونه من جنس أبدانهم في الصورة الجسدانية « وقلبه وعقله » لشدة يقينه « معائن الآخرة » لتخليه عن العلائق الجسمانية « من حب الدنيا » من للبيان أو للتبعيض ، وإسناد الإبصار

__________________

(١) سورة المنافقون : ٨.

(٢) سورة الطلاق : ٢.

٣١٠

حرامها وجانب شبهاتها وأضر والله بالحلال الصافي إلا ما لا بد له من كسرة منه يشد بها صلبه وثوب يواري به عورته من أغلظ ما يجد وأخشنه ولم يكن له فيما لا بد له منه ثقة ولا رجاء فوقعت ثقته ورجاؤه على خالق الأشياء فجد واجتهد وأتعب

______________________________________________________

إلى الحب علي المجاز ، أو المصدر بمعنى المفعول أو هو بالكسر ، قال في القاموس : الحب بالكسر المحبوب شبه عليه‌السلام ما أبصره أو أحبه بالنار في الإهلاك استعارة مكنية ونسبة الإطفاء إليه تخييلية « فقذر حرامها » أي عده قذرا نجسا يجب اجتنابه أو كرهه ، في الصحاح : القذر ضد النظافة وشيء قدر بين القذارة وقذرت الشيء بالكسر وتقذرته واستقذرته إذا كرهته.

« وجانب شبهاتها » وهي المشبهات بالحرام مع عدم العلم بكونها حراما كأموال الظلمة فيكون مكروها على المشهور ، أو الذي اشتبه عليه الحكم فيه فاجتنابه مستحب على المشهور وكأنه عليه‌السلام لذلك غير التعبير فعبر هنا بالاجتناب ، وفي الحرام بالحكم بالقذارة « وأضر » على بناء المعلوم كناية عن تركه وعدم الاعتناء به ، وترك الالتفات إليه ، أو على بناء المجهول أي يعد نفسه متضررة به أو يتضرر به لعلو حاله « بالحلال الصافي » من الشبهة فكيف بالحرام والشبهة.

وفي المصباح : الكسرة القطعة من الشيء المكسور ومنه الكسرة من الخبز ، وفي القاموس : الكسرة القطعة من الشيء المكسور ، والجمع كسر ، انتهى.

« يشد بها صلبه » أي يقوي بها على العبادة « من أغلظ ما يجد » ظاهره استحباب الاكتفاء بالثياب الخشنة وإن كان قادرا على الناعمة وهو مخالف لأخبار كثيرة إلا أن يحمل على أن المراد به من الأغلظ الذي يجده أي إذا لم يجد غيره أو على ما إذا لم يجد غيره إلا بارتكاب الحرام والشبهة أو بصرف جل أوقاته في تحصيله ، بحيث يمنعه عن النوافل وفواضل الطاعات ، أو على ما إذا علم أنه يصير سببا لطغيانه وإن علاج كبره وصفاته الذميمة منحصر في ذلك « ثقة ولا رجاء » أي بغيره سبحانه كما

٣١١

بدنه حتى بدت الأضلاع وغارت العينان فأبدل الله له من ذلك قوة في بدنه وشدة

______________________________________________________

بينه في الفقرة الآتية.

وفي المصباح : الجد بالكسر الاجتهاد وهو مصدر يقال منه : جد يجد من بابي ضرب وقتل والاسم الجد بالكسر « وأتعب بدنه » أي بالعبادات الشرعية لا الأعمال المبتدعة « فأبدل الله له » لأنه تعالى قال : « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » (١).

فمن بذل ما أعطاه الله من الأموال الفانية عوضه الله من الأموال الباقية أضعافها ، ومن بذل قوته البدنية في طاعة الله أبد له الله قوة روحانية لا يفنى في الدنيا والآخرة فتبدو منه المعجزات وخوارق العادات والكرامات وما لا يقدر عليه بالقوى الجسمانية ، ومن بذل علمه في الله وعمل به ورثه الله علما لدنيا يزيد في كل ساعة ، ومن بذل عزه الفاني الدنيوي في رضا الله تعالى أعطاه الله عزا حقيقيا لا يتبدل بالذل أبدا ، كما أن الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام لما بذلوا عزهم الدنيوي في سبيل الله أعطاهم الله عزة في الدارين ، لا يشبه عز غيرهم فيلوذ الناس بقبورهم وضرائحهم المقدسة ، والملوك يعفرون وجوههم على أعتابهم ويتبركون بذكرهم ، ومن بذل حياته البدنية في الجهاد في سبيله عوضه حياة أبدية يتصرفون بعد موتهم في عوالم الملك والملكوت ، وقد قال تعالى : « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ » (٢) ومن بذل نور بصره وسمعه في الطاعة أعطاه الله نورا منه ينظر في ملكوت السماوات والأرض ، وبه يسمع كلام الملائكة المقربين ووحي رب العالمين ، كما ورد : المؤمن ينظر بنور الله ، وورد : بي يسمع وبي يبصر ، وإذا تخلى من إرادته وجعلها تابعة لإرادة الله جعله الله بحيث لا يشاء إلا أن يشاء الله ، وكان الله هو الذي يدبر في بدنه وقلبه وعقله وروحه ، والكلام هنا دقيق لا تفي به العبارة والبيان ، وفي هذا المقام تزل الأقدام.

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٧.

(٢) سورة آل عمران : ١٦٩.

٣١٢

في عقله وما ذخر له في الآخرة أكثر فارفض الدنيا فإن حب الدنيا يعمي ويصم ويبكم ويذل الرقاب فتدارك ما بقي من عمرك ولا تقل غدا أو بعد غد فإنما هلك من كان قبلك بإقامتهم على الأماني والتسويف حتى أتاهم أمر الله بغتة وهم غافلون فنقلوا على أعوادهم إلى قبورهم المظلمة الضيقة وقد أسلمهم الأولاد والأهلون

______________________________________________________

والرفض الترك « يعمى » أي بصر القلب من رؤية الحق كما قال تعالى : « فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ » (١) ويصم القلب أيضا عن سماع الحق وقبوله ، ويمكن أن يراد بها عمى البصر الظاهر لعدم انتفاعه بما يرى فكأنه أعمى ، وصمم السمع الظاهر لأنه لا ينتفع بما يسمع فكأنه أصم كما قال سبحانه : « خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ » (٢).

والبكم نسبته إلى الظاهر أظهر فإنه لما لم يتكلم بالحق وبما ينفعه فكأنه أبكم ، وإن أمكن حمله أيضا على لسان القلب ، فإن لسان الرأس معبر عنه حقيقة « ويذل الرقاب » لأنه موجب للتذلل عند أهل الدنيا لتحصيله أو يذلها لقبول الباطل من أهله من الذل بالكسر ، وهو ضد الصعوبة.

« فتدارك ما بقي » التدارك ليس هنا بمعنى التلافي ، ولا بمعنى التلاحق بل بمعنى الإدراك أي أدركه ولا تفوته كقوله تعالى : « لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ » (٣) أي أدركته بإجابة دعائه كما قاله الطبرسي (ره) ، ويحتمل أن يكون « ما بقي » ظرفا والمفعول مقدرا أي تلاف ما فات منك فيما بقي من عمرك ، لكنه بعيد.

« ولا تقل غدا » أي أتوب أو اعمل غدا « حتى أتاهم أمر الله » أي بالموت أو بالعذاب « بغتة » بالفتح ، وقد يحرك أي فجاءة « وهم غافلون » عن إتيانه « على أعوادهم » أي كائنين على السرر والتوابيت المعمولة من الأعواد « إلى قبورهم المظلمة الضيقة »

__________________

(١) سورة الحجّ : ٤٦.

(٢) سورة البقرة : ٧.

(٣) سورة القلم : ٤٩.

٣١٣

فانقطع إلى الله بقلب منيب من رفض الدنيا وعزم ليس فيه انكسار ولا انخزال أعاننا الله وإياك على طاعته ووفقنا الله وإياك لمرضاته.

٢٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة وغيره ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله.

٢٥ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء قال سمعت الرضا

______________________________________________________

فإنها على الأشقياء كذلك وإن كانت للأصفياء روضة من رياض الجنة « فانقطع » أي عن الدنيا وأهلها « بِقَلْبٍ » أي مع قلب « مُنِيبٍ » أي تائب راجع عن الذنوب ، إشارة إلى قوله تعالى : « مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ » (١) قال الطبرسي أي وافى الآخرة بقلب مقبل على طاعة الله ، راجع إلى الله بضمائره « من رفض الدنيا » من تعليل للإنابة ، أو للانقطاع ، وعزم عطف على قلب « ليس فيه انكسار » أي وهن « ولا انخزال » أي تثاقل أو انقطاع ، في القاموس : الانخزال مشية في تثاقل والاختزال الانفراد والحذف والاقتطاع ، وانخزل عن جوابي لم يعبأ به ، وفي كلامه : انقطع « لمرضاته » أي لما يوجب رضاه عنا.

الحديث الرابع والعشرون : ضعيف كالموثق أو كالحسن.

« كمثل ماء البحر » أي المالح ، وهذا من أحسن التمثيلات للدنيا وهو مجرب فإن الحريص على جمع الدنيا كلما ازداد منها ازداد حرصه عليها ، وأيضا كلما حصل منها لا بد له لحفظه ونموه وسائر ما يليق به ويناسبه من أشياء أخرى ولا ينتهي إلى حد فيصرف جميع عمره في تحصيلها حتى يموت ولا يبقى له إلا حسراتها وعقوباتها أعاذنا الله منها.

الحديث الخامس والعشرون : ضعيف على المشهور معتبر.

وقال في النهاية : فيه حواريي من أمتي أي خاصتي من أصحابي وناصري ،

__________________

(١) سورة ق : ٣٣.

٣١٤

عليه‌السلام يقول قال عيسى ابن مريم صلوات الله عليه للحواريين : يا بني إسرائيل لا تأسوا على ما فاتكم من الدنيا كما لا يأسى أهل الدنيا على ما فاتهم من دينهم إذا أصابوا دنياهم.

______________________________________________________

ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه‌السلام أي خلصائه وأنصاره ، وأصله من التحوير التبييض قيل : إنهم كانوا قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها ، ومنه : الخبز الحوارى الذي نخل مرة بعد مرة قال الأزهري : الحواريون خلصان الأنبياء وتأويله الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب ، وقال الراغب : الحواريون أنصار عيسى عليه‌السلام قيل : كانوا قصارين ، وقيل : كانوا صيادين ، وقال بعض العلماء : إنما سموا حواريين لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم ، المشار إليه بقوله : « إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً » (١) قال : وإنما قيل : كانوا قصارين على التمثيل والتشبيه ، وتصور منه من لم يتخصص بمعرفة الحقائق المهنة المتداولة بين العامة ، قال : وإنما قال : كانوا صيادين لاصطيادهم نفوس الناس من الحيرة وقودهم إلى الحق ، انتهى.

والأسي الحزن على فوت الفائت ، والغرض لا يكن أهل الدنيا علي باطلهم أشد حرصا منكم على الحق.

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣.

٣١٥

باب

١ ـ الحسين بن محمد الأشعري ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي عبيدة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إن الله عز وجل يقول وعزتي وجلالي وعظمتي وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هوى

______________________________________________________

باب

إنما لم يعنون هذا الباب لأنه قريب من الباب الأول فكأنه داخل في عنوانه لأنه فيه المنع عن إيثار هوى الأنفس وشهواتها على رضا الله تعالى ، وليس هذا الإيثار إلا لحب الدنيا وشهواتها ، لكن لما لم تذكر في الخبرين ذكر الدنيا صريحا أفرد لهما بابا وألحقه بالباب السابق.

الحديث الأول : ضعيف على المشهور ، ولا يضر عندي ضعف المعلى.

قوله تعالى : وعزتي ، العزة القوة والشدة والغلبة ، وقيل : عزته عبارة عن كونه منزها عن سمات الإمكان وذل النقصان ، ورجوع كل شيء إليه وخضوعه بين يديه ، والعظمة في صفة الأجسام كبر الطول والعرض والعمق ، وفي وصفه تعالى عبارة عن تجاوز قدره عن حدود العقول والأوهام حتى لا تتصور الإحاطة بكنه حقيقته عند ذوي الأفهام وعلوه علو عقلي على الإطلاق بمعنى أنه لا رتبة فوق رتبته ، وذلك لأن أعلى مراتب الكمال العقلي هو مرتبته العلية ولما كانت ذاته المقدسة مبدأ كل موجود حسي وعقلي ، لا جرم كانت مرتبته أعلى مراتب العقلية مطلقا وله العلو المطلق في الوجود العاري عن الإضافة إلى شيء ، وعن إمكان أن يكون فوقه ما هو أعلى منه ، وهذا معنى قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : سبق في العلو فلا أعلى منه ، وارتفاع مكانه كناية عن عدم إمكان الإشارة إليه بالعقول والحواس « لا يؤثر عبد هواي على هوى نفسه » المراد بهوى النفس ميلها إلى ما هو مقتضى طباعها من اللذات الحاضرة الدنيوية والخروج عن الحدود الشرعية ، وبإيثار هواه سبحانه

٣١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

إعراضها عن هذا الميل ورجوعها إلى ما يوجب قرب الحق تعالى ورضاه ، وقد قال تعالى مخاطبا لداود عليه‌السلام : « إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ » (١) فبين سبحانه أن متابعة الهوى أي ما تهوي الأنفس مخالفة لاتباع سبيل الله وسلوك طريق الحق.

ثم بين أن متابعة الهوى متفرع على نسيان يوم الحساب فإن من تذكر الآخرة ونعيمها وعذابها لا يتبع الأهواء النفسانية والدواعي الشهوانية وقال سبحانه : « فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ، وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى » (٢) فأشار إلى أن إيثار الحياة الدنيا مقابل لنهي النفس عن الهوى واتباع الهوى إيثار الحياة الدنيا ولذاتها على الآخرة. وقال سبحانه : « أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً » (٣) وقال عز من قائل : « فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ » (٤) ومثله في الكتاب العزيز كثير.

قوله عليه‌السلام : ألا كففت عليه ضيعته ، قال في النهاية : فيه أمرت أن لا أكف شعرا ولا ثوبا يعني في الصلاة يحتمل أن يكون بمعنى المنع أي لا أمنعها من الاسترسال حال السجود ، ليقعا على الأرض ، ويحتمل أن يكون بمعنى الجمع أي لا يجمعهما ويضمهما ، ومنه الحديث : المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ، أي يجمع عليه

__________________

(١) سورة ص : ٢٦.

(٢) سورة النازعات : ٤٠.

(٣) سورة الفرقان : ٤٣.

(٤) سورة القصص : ٥٠.

٣١٧

نفسه إلا كففت عليه ضيعته وضمنت السماوات والأرض رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر.

______________________________________________________

معيشته ويضمها إليه ، وقال في حديث سعد : إني أخاف على الأعناب الضيعة أي أنها تضيع وتتلف ، والضيعة في الأصل المرة من الضياع ، وضيعة الرجل في غير هذا ما يكون منه معاشه كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك ، ومنه الحديث : أفشى الله عليه ضيعته أي أكثر عليه معاشه ، انتهى.

وأقول : هذه الفقرة تحتمل وجوها : الأول : ما ذكره في النهاية أي جمعت عليه ضيعته ومعيشته ، والتعدية بعلى لتضمين معنى البركة أو الشفقة ونحوهما ، أو على بمعنى إلى كما أومأ إليه في النهاية فيحتاج أيضا إلى تضمين.

الثاني : أن يكون الكف بمعنى المنع وعلى بمعنى عن والضيعة بمعنى الضياع ، أي أمنع عنه ضياع نفسه وما له وولده وسائر ما يتعلق به ، ويؤيده أن الصدوق (ره) رواه في الخصال عن ابن الوليد عن الصفار عن الحسن بن علي بن فضال عن عاصم عن أبي عبيدة ، وفيه : وكففت عنه ضيعته.

الثالث : ما ذكره بعض المحققين وتبعه غيره أنه من الكفاف وهو ما يفي بمعيشته ويغنيه عن غيره ، أي جعلت معيشته مباركا عليه كفافا له ، ولا يخفى بعده لفظا إذ لا تساعده اللغة.

قوله تعالى : وضمنت ، على صيغة المتكلم من باب التفعيل أي جعلت السماوات والأرض ضامنتين لرزقه كناية عن تسبيب الأسباب السماوية والأرضية له وربما يقرأ بصيغة الغائب على بناء المجرد ، ورفع السماوات والأرض ، وهو بعيد « وكنت له من وراء تجارة كل تاجر » الوراء فعال ولامه همزة عند سيبويه وأبي علي الفارسي ، وياء عند العامة ، وهو من ظروف المكان بمعنى قدام وخلف ، والتجارة مصدر بمعنى البيع والشراء للنفع وقدير أدبها ما يتجر به من الأمتعة ونحوها على تسمية المفعول باسم المصدر ، وهذه الفقرة أيضا تحتمل وجوها :

٣١٨

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن ابن سنان ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال الله عز وجل وعزتي وجلالي وعظمتي وبهائي وعلو ارتفاعي لا يؤثر عبد مؤمن هواي على هواه في شيء

______________________________________________________

الأول : أن يكون المعنى كنت له عقب تجارة كل تاجر أسوقها إليه أي ألقى محبته في قلوب التجار ليتجروا له ويكفوا مهماته.

الثاني : أن يكون المعنى كنت له عوضا من تجارة كل تاجر فإن كل تاجر يتجر لمنفعة دنيوية أو أخروية ، ولما أعرض عن جميع ذلك كنت أنا ربح تجارته ، وهذا معنى رفيع دقيق خطر بالبال ، لكن لا يناسب إلا من بلغ في درجات المحبة أقصى مراتب الكمال.

الثالث : الجمع بي المعنيين أي كنت له بعد حصول تجارة كل تاجر له.

الرابع : ما قيل : أن كل تاجر في الدنيا للآخرة يجد نفع تجارته فيها من الجنة ونعيمها ، والله سبحانه بذاته المقدسة والتجليات اللائقة وراء هذا لهذا العبد ، ففيه دلالة على أن للزاهدين في الجنة نعمة روحانية أيضا وهو قريب من الثالث.

الخامس : أن يكون الوراء بمعنى القدام أي كنت له أنيسا ومعينا ومحبا ومحبوبا قبل وصوله إلى نعيم الآخرة الذي هو غاية مقصود التاجرين لها.

السادس : ما قيل : أي أنا أتجر له فأربح له مثل ربح جميع التجار لو اتجروا له ، ولا يخفى بعده.

الحديث الثاني : صحيح.

والبهاء الحسن والمراد الحسن المعنوي ، وهو الاتصاف بجميع الصفات الكمالية « إلا جعلت غناه في نفسه » أي أجعل نفسه غنية قانعة بما رزقته ، لا بالمال فإن الغني بالمال الحريص في الدنيا أحوج الناس ، وإنما الغني غنى النفس فكلمة في للتعليل ، و

٣١٩

من أمر الدنيا إلا جعلت غناه في نفسه وهمته في آخرته وضمنت السماوات والأرض رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر.

باب القناعة

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن عمار بن مروان ، عن زيد الشحام ، عن عمرو بن هلال قال قال أبو جعفر عليه‌السلام إياك أن تطمح بصرك إلى من فوقك فكفى بما قال الله عز وجل ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله « فَلا تُعْجِبْكَ

______________________________________________________

يحتمل الظرفية أيضا بتكلف « وهمته » أي عزمه وقصده في آخرته ففي للتعليل أيضا ، أو المعنى أنها مقصورة في آخرته ولا يوجه همته إلى الدنيا أصلا.

باب القناعة

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« أن تطمح بصرك » الظاهر أنه على بناء الأفعال ونصب البصر ، ويحتمل أن يكون على بناء المجرد ورفع البصر أي لا ترفع بصرك بأن تنظر إلى من هو فوقك في الدنيا ، فتتمنى حاله ولا ترضى بما أعطاك الله ، وإذا نظرت إلى من هو دونك في الدنيا ترضى بما أوتيت وتشكر الله عليه وتقنع به ، قال في القاموس : طمح بصره إليه كمنع فهي طامح ، وأطمح بصره رفعه ، انتهى.

« فكفى بما قال الله » الباء زائدة أي كفاك للاتعاظ ولقبول ما ذكرت ما قال الله لنبيه وإن كان المقصود بالخطاب غيره « وَلا تُعْجِبْكَ » كذا في النسخ التي عندنا والظاهر « فلا » إذ الآية في سورة التوبة في موضعين أحدهما « فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ » (١) والأخرى : « وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ » (٢) وما ذكر هنا لا يوافق شيئا منهما ، وإن احتمل أن يكون نقلا بالمعنى إشارة إلى الآيتين معا.

__________________

(١) الآية : ٥٥.

(٢) الآية : ٨٥.

٣٢٠