مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

٢٢ ـ وعنه ، عن القاسم بن يحيى ، عن جده الحسن بن راشد ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام صلوا أرحامكم ولو بالتسليم يقول الله تبارك وتعالى : « وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً » (١).

٢٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن صفوان الجمال قال وقع بين أبي عبد الله عليه‌السلام وبين عبد الله بن الحسن كلام حتى وقعت الضوضاء بينهم واجتمع الناس فافترقا عشيتهما بذلك وغدوت في حاجة فإذا أنا بأبي عبد الله عليه‌السلام على باب عبد الله بن الحسن وهو يقول يا جارية قولي لأبي محمد يخرج قال فخرج فقال يا أبا عبد الله ما بكر بك فقال إني تلوت آية

______________________________________________________

الحديث الثاني والعشرون : ضعيف.

ويدل على أن أقل مراتب الصلة الابتداء بالتسليم و، بإطلاقه يشمل ما إذا علم أو ظن أنه لا يجيب وقيل : التسليم حينئذ ليس براجح لأنه يوقعهم في الحرام ، وفيه كلام.

الحديث الثالث والعشرون : صحيح.

وقال الجوهري : الضوة الصوت والجلبة والضوضاة أصوات الناس وجلبتهم ، يقال : ضوضو بلا همز ، انتهى.

وفي تفسير العياشي وغيره مكانه : حتى ارتفعت أصواتهما واجتمع الناس عليهما.

قوله : « بذلك » أي بهذا النزاع من غير صلح وإصلاح « قولي لأبي محمد » في الكلام اختصار أي إني أتيته أو أنا بالباب ، وفي العياشي لأبي محمد هذا أبو عبد الله بالباب « ما بكربك » قال في المصباح : بكر إلى الشيء بكورا من باب قعد أسرع أي

__________________

(١) سورة النساء : ٢.

٣٨١

من كتاب الله عز وجل البارحة فأقلقتني قال وما هي قال قول الله جل وعز ذكره : « الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ

______________________________________________________

وقت كان وبكر تبكيرا مثله ، والقلق الاضطراب « الَّذِينَ يَصِلُونَ » قال الطبرسي قدس‌سره : قيل : المراد به الإيمان بجميع الرسل والكتب كما في قوله : « لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ » وقيل : هو صلة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموازرته والجهاد معه ، وقيل :

هو صلة الرحم عن ابن عباس وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام وقيل : هو ما يلزم من صلة المؤمنين أن يتولوهم وينصروهم ويذبوا عنهم. وتدخل فيه صلة الرحم وغير ذلك.

وروى جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بر الوالدين وصلة الرحم يهونان الحساب ، ثم تلا هذه الآية.

وروى محمد بن الفضيل عن الكاظم عليه‌السلام في هذه الآية قال : هي رحم آل محمد معلقة بالعرش تقول : اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني ، وهي تجري في كل رحم.

وروى الوليد عن الرضا عليه‌السلام قال : قلت له : هل على الرجل في ما له شيء سوى الزكاة؟ قال : نعم أين ما قال الله « وَالَّذِينَ يَصِلُونَ » « الآية ».

« وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ » أي يخافون عقاب ربهم في قطعها « وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ » قيل فيه أقوال : أحدها : أن سوء الحساب أخذهم بذنوبهم كلها من دون أن يغفر لهم شيء منها.

والثاني : هو أن يحاسبوا للتقريع والتوبيخ فإن الكافر يحاسب على هذا الوجه والمؤمن يحاسب ليسر بما أعد الله له.

والثالث : هو أن لا تقبل لهم حسنة ولا يغفر لهم سيئة ، روي ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

٣٨٢

الْحِسابِ » (١) فقال صدقت لكأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله جل وعز قط فاعتنقا وبكيا.

______________________________________________________

والرابع : أن سوء الحساب هو سوء الجزاء فسمي الجزاء حسابا لأن فيه إعطاء المستحق حقه ، وروى هشام بن سالم عن أبي عبد الله قال : سوء الحساب أن تحسب عليهم السيئات ولا تحسب لهم الحسنات وهو الاستقصاء وروى حماد عنه عليه‌السلام أنه قال لرجل : يا فلان ما لك ولأخيك؟ قال : جعلت فداك لي عليه شيء فاستقصيت منه حقي ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أخبرني عن قول الله : « يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ » أتراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم؟ لا والله ولكن خافوا الاستقصاء والمداقة ، انتهى.

وأقول : قال تعالى بعد ذلك بآيات : « وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ » فعلى هذا التفسير تلك الآيات من أشد ما ورد في قطع الرحم.

ثم الظاهر أن هذا كان لتنبيه عبد الله وتذكيره بالآية ليرجع ويتوب وإلا فلم يكن ما فعله عليه‌السلام بالنسبة إليه قطعا للرحم ، بل كان عين الشفقة عليه لينزجر عما أراده من الفسق بل الكفر لأنه كان يطلب البيعة منه عليه‌السلام لولده الميشوم كما مر ، أو شيء آخر مثل ذلك ، وأي أمر كان إذا تضمن مخالفته ومنازعته عليه‌السلام كان على حد الشرك بالله ، وأيضا مثله صلوات الله عليه لا يغفل عن هذه الأمور حتى يتذكر بتلاوة القرآن ، فظهر أن ذكر ذلك على وجه المصلحة ليتذكر عبد الله عقوبة الله ويترك مخالفة إمامه شفقة عليه ، ولعل التورية في قوله : أقلقتني ، القلق لعبد الله لا لنفسه لكن فيه دلالة على حسن رعاية الرحم وإن كان بهذه المثابة وكان فاسقا ضالا فتدبر.

__________________

(١) سورة الرعد : ٢١.

٣٨٣

٢٤ ـ وعنه ، عن علي بن الحكم ، عن عبد الله بن سنان قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إن لي ابن عم أصله فيقطعني وأصله فيقطعني حتى لقد هممت لقطيعته إياي أن أقطعه أتأذن لي قطعه قال إنك إذا وصلته وقطعك وصلكما الله عز وجل جميعا وإن قطعته وقطعك قطعكما الله.

٢٥ ـ عنه ، عن علي بن الحكم ، عن داود بن فرقد قال قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام إني أحب أن يعلم الله أني قد أذللت رقبتي في رحمي وأني لأبادر أهل بيتي أصلهم قبل أن يستغنوا عني.

٢٦ ـ عنه ، عن الوشاء ، عن محمد بن فضيل الصيرفي ، عن الرضا عليه‌السلام قال إن رحم آل محمد الأئمة عليهم‌السلام ـ لمعلقة بالعرش تقول اللهم صل من وصلني واقطع

______________________________________________________

الحديث الرابع والعشرون : صحيح.

قوله عليه‌السلام : وصلكما الله ، لعل ذلك لأنه تصير صلته سببا لترك قطيعته فيشملهما الله برحمته لا إذا أصر مع ذلك على القطع ، فإنه يصير سببا لقطع رحمة الله عنه ، وتعجيل فنائه في الدنيا وعقوبته في الآخرة كما دلت عليه سائر الأخبار ، وفي قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : خذ على عدوك بالفضل فإنه أحد الظفرين إشارة إلى ذلك فإنه إما أن يرجع أن يستحق العقوبة والخذلان.

الحديث الخامس والعشرون : صحيح.

« إني أحب أن يعلم الله » هو كناية من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم أي أحب فعلي ذلك ، فذكر لازمه وهو العلم لأنه أبلغ أو مجاز من إطلاق السبب على المسبب فأطلق العلم وأريد معلولة وهو الجزاء.

قوله عليه‌السلام : قبل أن يستغنوا عني ، فيه إشارة إلى أن الرزق لا بد من أن يصل إليهم فأبادر إلى إيصاله إليهم قبل أن يصل إليهم بسبب آخر ومن جهة أخرى.

الحديث السادس والعشرون : مجهول.

٣٨٤

من قطعني ثم هي جارية بعدها في أرحام المؤمنين ثم تلا هذه الآية : « وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ » (١).

٢٧ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن ابن فضال ، عن ابن بكير ، عن عمر بن يزيد قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ » (٢) فقال قرابتك.

٢٨ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حماد بن عثمان وهشام بن الحكم ودرست بن أبي منصور ، عن عمر بن يزيد قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ » قال نزلت في رحم آل محمد عليه وآله السلام وقد تكون في قرابتك ثم قال فلا تكونن ممن يقول للشيء إنه في شيء واحد.

______________________________________________________

والأئمة بدل أو عطف بيان لآل محمد « ثم هي » أي الرحم أو صلتها أو الكلمة وهي : اللهم صل « إلخ ».

الحديث السابع والعشرون : موثق كالصحيح.

قوله : قرابتك ، أي هي شاملة لقرابة المؤمنين أيضا.

الحديث الثامن والعشرون : حسن كالصحيح.

« وقد تكون » كلمة قد للتحقيق أو للتقليل مجازا كناية عن أن الأصل فيها هو الأول « فلا تكونن » أي إذا نزلت آية في شيء خاص فلا تخصص حكمها بذلك الأمر ، بل عممه في نظائره ، أو المعنى إذا ذكرنا لآية معنى ثم ذكرنا لها معنى آخر فلا تنكر شيئا منهما فإن للآيات ظهرا وبطونا ، ونذكر في كل مقام ما يناسبه والكل حق ، وبهذا يجمع بين كثير من الأخبار المتخالفة ظاهرا الواردة في تفسير الآيات وتأويلها.

__________________

(١) سورة النساء : ٢.

(٢) سورة الرعد : ٢١.

٣٨٥

٢٩ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن محمد بن علي ، عن أبي جميلة ، عن الوصافي ، عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من سره أن يمد الله في عمره وأن يبسط له في رزقه فليصل رحمه فإن الرحم لها لسان يوم القيامة ذلق تقول يا رب صل من وصلني واقطع من قطعني فالرجل ليرى بسبيل خير إذا أتته الرحم التي قطعها فتهوي به إلى أسفل قعر في النار.

٣٠ ـ علي بن محمد ، عن صالح بن أبي حماد ، عن الحسن بن علي ، عن صفوان ، عن الجهم بن حميد قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام تكون لي القرابة على غير أمري ،

______________________________________________________

الحديث التاسع والعشرون : ضعيف.

وفي القاموس ذلق اللسان كنصر وفرح وكرم فهو ذليق وذلق بالفتح ، وكصرد وعنق أي حديد بليغ ، وقال : طلق اللسان بالفتح والكسر وكأمير ولسان طلق ذلق وطليق ذليق وطلق ذلق بضمتين وكصرد وكتف ذو حدة وفي النهاية في حديث الرحم جاءت الرحم فتكلمت بلسان ذلق طلق أي فصيح بليغ ، هكذا جاء في الحديث على فعل بوزن صرد يقال : طلق ذلق وطليق ذليق يراد بالجميع المضاء والنفاذ ، انتهى.

« فالرجل » قيل : الفاء للتفريع على « واقطع من قطعني » واللام في الرجل للعهد الذهني « ليرى » على بناء المجهول أي ليظن لكثرة أعماله الصالحة في الدنيا « أنه بسبيل » أي في سبيل « خير » ينتهي به إلى الجنة « فتهوي به » الباء للتعدية أي تسقطه في أسفل قعور النار التي يستحقها مثله ، وربما يحمل على المستحل ويمكن حمله على من قطع رحم آل محمد عليهم‌السلام.

الحديث الثلاثون : ضعيف.

ويدل على أن الكفر لا يسقط حق الرحم ولا ينافي ذلك قوله تعالى : « لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ

٣٨٦

ألهم علي حق قال نعم حق الرحم لا يقطعه شيء وإذا كانوا على أمرك كان لهم حقان حق الرحم وحق الإسلام.

٣١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن صلة الرحم والبر ليهونان الحساب ويعصمان من الذنوب فصلوا أرحامكم وبروا بإخوانكم ولو بحسن السلام ورد الجواب.

٣٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن عبد الصمد بن بشير قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام صلة الرحم تهون الحساب يوم القيامة وهي منسأة في العمر وتقي مصارع السوء وصدقة الليل تطفئ غضب الرب.

______________________________________________________

أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ » (١) فإنها محمولة على المحبة القلبية فلا ينافي حسن المعاشرة ظاهرا ، أو المراد به الموالاة في الدين كما ذكره الطبرسي (ره) أو محمول على ما إذا كانوا معارضين للحق ويصير حسن عشرتهم سبب غلبة الباطل على الحق ولا يبعد أن يكون نفقة الأرحام أيضا من حق الرحم فيجب الإنفاق عليهم فيما يجب على غيرهم.

الحديث الحادي والثلاثون : موثق.

والمراد بالبر البر بالإخوان كما سيأتي وبر الوالدين داخل في صلة الرحم ، ورد الجواب كأنه عطف على السلام.

الحديث الثاني والثلاثون : صحيح.

وفي النهاية منسأة هي مفعلة « منه » أي مظنة له وموضع والصرع الطرح على الأرض ، والمصرع يكون مصدرا أو اسم مكان ومصارع السوء كناية عن الوقوع في البلايا العظيمة الفاضحة الفادحة ، وصلة الليل أفضل لأنه أقرب إلى الإخلاص.

__________________

(١) سورة المجادلة : ٢٢.

٣٨٧

٣٣ ـ علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حسين بن عثمان عمن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن صلة الرحم تزكي الأعمال وتنمي الأموال وتيسر الحساب وتدفع البلوى وتزيد في الرزق.

باب

البر بالوالدين

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه جميعا ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي ولاد الحناط قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » (١) ما هذا الإحسان فقال الإحسان أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين أليس يقول الله عز وجل : « لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ » (٢) قال ثم قال أبو عبد الله

______________________________________________________

الحديث الثالث والثلاثون : مرسل.

باب البر بالوالدين إنما قدم المصنف قدس‌سره باب صلة الرحم مع أن حق الوالدين أعظم لما أشرنا إليه من أن صلة الرحم يشمل برهما أيضا.

الحديث الأول : صحيح.

« وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » أي وأحسنوا بهما إحسانا « أن تحسن صحبتهما » أي بالملاطفة وحسن البشر وطلاقة الوجه والتواضع والترحم وغيرهما مما يوجب سرورهما ، وفي إلحاق الأجداد والجدات بهما نظر « وإن كانا مستغنيين » أي يمكنهما تحصيل ما احتاجا إليه بما لهما « لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ » ظاهر الخبر أن المراد بالبر في الآية بر الوالدين ، ويمكن أن يكون المراد أعم منه ويكون إيرادها

__________________

(١) سورة الإسراء : ٢٣.

(٢) سورة آل عمران : ٩٢.

٣٨٨

عليه‌السلام وأما قول الله عز وجل : « إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ

______________________________________________________

لشمولها بعمومها له.

وعلى التقديرين الاستشهاد إما لأصل البر أو لأن إطلاق الآية شامل للإنفاق قبل السؤال وحال الغناء لعدم التقييد فيها بالفقر والسؤال ، فلا حاجة إلى ما تكلفه بعض الأفاضل حيث قال : كان الاستشهاد بالآية الكريمة أنه على تقدير استغنائهما عنه لا ضرورة داعية إلى قضاء حاجتهما كما أنه لا ضرورة داعية إلى الإنفاق من المحبوب ، إذ بالإنفاق من غير المحبوب أيضا يحصل المطلوب إلا أن ذلك لما كان شاقا على النفس فلا ينال البر إلا به فكذلك لا ينال بر الوالدين إلا بالمبادرة إلى قضاء حاجتهما قبل أن يسألاه وإن استغنيا عنه ، فإنه أشق على النفس لاستلزامه التفقد الدائم ، ووجه آخر وهو أن سرور الوالدين بالمبادرة إلى قضاء حاجتهما أكثر منه بقضائها بعد الطلب كما أن سرور المنفق عليه بإنفاق المحبوب أكثر منه بإنفاق غيره ، انتهى.

وأقول : سيأتي في الكتاب وروى العياشي أيضا أن في قراءة أهل البيت عليهم‌السلام « ما تنفقون » بدون من فالإطلاق بل العموم أظهر ، ويمكن أن يقال : على تقدير تعميم البر كما هو المشهور أنه لما استفيد من الآية أن الرجل لا يبلغ درجة الأبرار إلا إذا أنفق جميع ما يحب ولم يذكر الله المنفق عليهم ، وقد ثبت أن الوالدين ممن تجب نفقته فلا بد من إنفاق كل محبوب عليهم سألوا أم لم يسألوا.

قال الطبرسي (ره) : البر أصله من السعة ومنه البر خلاف البحر ، والفرق بين البر والخير أن البر هو النفع الواصل إلى الغير ابتداء مع القصد إلى ذلك ، والخير يكون خيرا وإن وقع عن سهو ، وضد البر العقوق وضد الخير الشر أي لن تدركوا بر الله لأهل الطاعة.

واختلف في البر هنا فقيل : هو الجنة عن ابن عباس وغيره ، وقيل : هو

٣٨٩

لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما » (١) قال إن أضجراك فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما إن ضرباك قال « وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً » قال إن ضرباك فقل لهما غفر الله لكما

______________________________________________________

الثواب في الجنة ، وقيل هو الطاعة والتقوى ، وقيل : معناه لن تكونوا أبرارا أي صالحين أتقياء « حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ » أي حتى تنفقوا المال ، وإنما كني بهذا اللفظ عن المال لأن جميع الناس يحبون المال ، وقيل : معناه ما تحبون من نفائس أموالكم دون رذالها كقوله تعالى : « وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ » (٢) وقيل : هو الزكاة الواجبة وما فرضه الله في الأموال عن ابن عباس وقيل : هو جميع ما ينفقه المرء في سبيل الخيرات ، وقال بعضهم : دلهم سبحانه بهذه الآية على الفتوة فقال : لن تنالوا بري بكم إلا ببركم إخوانكم ، والإنفاق عليهم من مالكم وجاهكم وما تحبون ، فإذا فعلتم ذلك نالكم بري وعطفي.

« وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ » فيه وجهان : أحدهما أن تقديره وما تنفقوا من شيء فإن الله يجازيكم به قل أو كثر لأنه عليم لا يخفى عليه شيء منه ، والآخر : أن تقديره فإنه يعلمه الله موجودا على الحد الذي تفعلونه من حسن النية أو قبحها ، فإن قيل : كيف قال سبحانه ذلك والفقير ينال الجنة وإن لم ينفق؟ قيل : الكلام خرج مخرج الحث على الإنفاق وهو مقيد بالإمكان وإن أطلق على سبيل المبالغة في الترغيب ، والأولى أن يكون المراد لن تنالوا البر الكامل الواقع على أشرف الوجوه حتى تنفقوا مما تحبون ، انتهى.

« قال إن أضجراك » « قال » كلام الراوي وفاعله الإمام عليه‌السلام أو كلام الإمام وفاعله هو الله تعالى ، وكذا قال وقل وقال إن ضرباك وما بعدهما يحتملهما ، وقيل : قال في « قال إن أضجراك » كلام الراوي وجواب أما إن أضجراك بتقدير فقال فيه إن أضجراك ، إذ لا يجوز حذف الفاء في جواب أما ، وقيل : الأف في الأصل

__________________

(١) سورة الإسراء : ٢٣.

(٢) سورة البقرة : ٢٦٧.

٣٩٠

فذلك منك قول كريم قال « وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ » قال لا تملأ

______________________________________________________

وسخ الأظفار ، ثم استعمل فيما يستقذر ثم في الضجر ، وقيل : معناه الاحتقار.

وقال الطبرسي (ره) روي عن الرضا عن أبيه عن أبي عبد الله عليهم‌السلام قال : لو علم الله لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من أف لأتى به ، وفي رواية أخرى عنه عليه‌السلام قال : أدنى العقوق أف ، ولو علم الله شيئا أيسر منه وأهون منه لنهى عنه ، فالمعنى لا تؤذهما بقليل ولا كثير « وَلا تَنْهَرْهُما » أي لا تزجرهما بإغلاظ وصياح ، وقيل : معناه لا تمتنع من شيء أراداه منك كما قال : « وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ » « وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً » وخاطبهما بقول رفيق لطيف حسن جميل بعيد عن اللغو والقبيح ، يكون فيه كرامة لهما « وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ » أي وبالغ في التواضع والخضوع لهما قولا وفعلا برا بهما وشفقة لهما ، والمراد بالذل هيهنا اللين والتواضع دون الهوان ، من خفض الطائر جناحه إذا ضم فرخه إليه فكأنه سبحانه قال : ضم أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان بك وأنت صغير ، وإذا وصفت العرب إنسانا بالسهولة وترك الإباء قالوا : هو خافض الجناح ، انتهى.

وقال البيضاوي : واخفض لهما ، أي تذلل لهما وتواضع فيهما ، جعل للذل جناحا وأمر بخفضها مبالغة وأراد جناحه كقوله : واخفض جناحك للمؤمنين ، وإضافته إلى الذل البيان والمبالغة ، كما أضيف حاتم إلى الجود ، والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل ، وقرئ الذل بالكسر وهو الانقياد ، انتهى.

والضجر والتضجر التبرم قوله : لا تمل (١) ، الظاهر لا تملأ بالهمزة كما في مجمع البيان وتفسير العياشي ، وأما على ما في نسخ الكتاب فلعله أبدلت الهمزة حرف علة ثم حذفت بالجازم فهو بفتح اللام المخففة ولعل الاستثناء في قوله : إلا برحمة ، منقطع والمراد بملإ العينين حدة النظر ، والرقة رقة القلب ، وعدم رفع الصوت نوع من الأدب كما قال تعالى : « لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ » (٢).

__________________

(١) هذا على ما في النسخ الموجودة عند الشارح (ره) والا ففي التي عندنا « لا تملأ » كما في المتن.

(٢) سورة الحجرات : ٢.

٣٩١

عينيك من النظر إليهما إلا برحمة ورقة ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما ولا تقدم قدامهما

______________________________________________________

« ولا يدك فوق أيديهما » الظاهر أن المراد أن عند التكلم معهما لا ترفع يدك فوق أيديهما كما هو الشائع عند العرب أنه عند التكلم يبسطون أيديهم ويحركونها ، وقال الوالد قدس الله روحه : المراد أنه إذا نلتهما شيئا فلا تجعل يدك فوق أيديهما وتضع شيئا في يدهما بل أبسط يدك حتى يأخذا منها ، فإنه أقرب إلى الأدب ، وقيل : المعنى لا تأخذ أيديهما إذا أرادا ضربك « ولا تقدم قدامهما » أي في المشي أو في المجالس أيضا.

ثم اعلم أنه لا ريب في رعاية تلك الأمور من الآداب الراجحة لكن الكلام في أنها هل هي واجبة أو مستحبة ، وعلى الأول هل تركها موجب للعقوق أم لا بحيث إذا قال لهما أف خرج من العدالة واستحق العقاب؟ فالظاهر أنه بمحض إيقاع هذه الأمور نادرا لا يسمى عاقا ما لم يستمر زمان ترك برهما ، ولم يكونا راضيين عنه لسوء أفعاله وقلة احترامه لهما ، بل لا يبعد القول بأن هذه الأمور إذا لم يصر سببا لحزنهما ولم يكن الباعث عليها قلة اعتنائه بشأنهما واستخفافهما لم تكن حراما بل هي من الآداب المستحبة وإذا صارت سبب غيظهما واستمر على ذلك يكون عاقا وإذا رجع قريبا وتداركهما بالإحسان وأرضاهما لم تكن في حد العقوق ولا تعد من الكبائر.

ويؤيده ما رواه الصدوق في الصحيح قال : سأل عمر بن يزيد أبا عبد الله عليه‌السلام عن إمام لا بأس به في جميع أموره عارف غير أنه يسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما أقرأ خلفه؟ قال : لا تقرأ خلفه ما لم يكن عاقا قاطعا ، والأحوط ترك الجميع.

وقد روى الصدوق بأسانيد عن الرضا عليه‌السلام أنه قال : أدنى العقوق أف ، ولو لو علم الله عز وجل شيئا أهون من أف لنهى عنه.

٣٩٢

٢ ـ ابن محبوب ، عن خالد بن نافع البجلي ، عن محمد بن مروان قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا رسول الله أوصني فقال لا تشرك بالله شيئا وإن حرقت بالنار وعذبت إلا وقلبك مطمئن بالإيمان ووالديك فأطعهما وبرهما حيين كانا أو ميتين وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك

______________________________________________________

وروي في الخصال بسند معتبر عن الصادق عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : من أحزن والدية فقد عقهما.

ورأيت في بعض كتب الحسين بن سعيد عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لو علم الله شيئا أدنى من أف لنهى عنه وهو من العقوق ، وهو أدنى العقوق ، ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى أبويه يحد إليهما النظر.

الحديث الثاني : مجهول.

« لا تشرك بالله شيئا » أي لا بالقلب ولا باللسان ، أو المراد به الاعتقاد بالشريك ، فعلى الأول الاستثناء متصل أي إلا إذا خفت التحريق أو التعذيب فتتكلم بالشرك تقية « وقلبك مطمئن بالإيمان » كما قال سبحانه في قصة عمار حيث أكره على الشرك وتكلم به : « إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ » (١).

« ووالديك فأطعهما » الظاهر أن والديك منصوب بفعل مقدر يفسره الفعل المذكور ، والكلام يفيد الحصر والتأكيد إن قدر المحذوف بعده ، والتأكيد فقط إن قدر قبله ، كذا قيل.

وأقول : يمكن أن يقدر فعل آخر أي وارع والديك فأطعهما « وبرهما » بصيغة الأمر من باب علم ونصر « حيين » كما مر « وميتين » كما سيأتي في السابع ، أي بطلب المغفرة لهما وقضاء الديون والعبادات عنهما وفعل الخيرات والصدقات وكل ما يوجب حصول الثواب عنهما « وإن أمراك أن تخرج من أهلك » أي من زوجتك بطلاقها « ومالك » بهبته « فإن ذلك من الإيمان » أي من شرائطه أو من

__________________

(١) سورة النحل ١٠٦.

٣٩٣

فافعل فإن ذلك من الإيمان.

______________________________________________________

مكملاته وظاهره وجوب طاعتهما فيما لم يكن معصية وإن كان في نفسه مرجوحا لا سيما إذا صار تركه سببا لغيظهما وحزنهما ، وليس ببعيد لكنه تكليف شاق بل ربما انتهى إلى الحرج العظيم.

قال المحقق الأردبيلي قدس الله روحه : العقل والنقل يدلان على تحريم العقوق ، ويفهم وجوب متابعة الوالدين وطاعتهما من الآيات والأخبار ، وصرح به بعض العلماء أيضا.

قال في مجمع البيان : « وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » أي قضى بالوالدين إحسانا أو أوصى بهما إحسانا وخص حال الكبر وإن كان الواجب طاعة الوالدين على كل حال ، لأن الحاجة أكثر في تلك الحال ، وقال الفقهاء في كتبهم : للأبوين منع الولد عن الغزو والجهاد ما لم يتعين عليه بتعيين الإمام أو بهجوم الكفار على المسلمين مع ضعفهم ، وبعضهم ألحقوا الجدين بهما.

قال في شرح الشرائع : وكما يعتبر إذنهما في الجهاد يعتبر في سائر الأسفار المباحة والمندوبة ، وفي الواجبة الكفائية مع قيام من فيه الكفاية فالسفر لطلب العلم إن كان لمعرفة العلم العيني كإثبات الواجب تعالى وما يجب له ويمتنع والنبوة والإمامة والمعاد لم يفتقر إلى إذنهما ، وإن كان لتحصيل الزائد منه على الفرض العيني كدفع الشبهات وإقامة البراهين المروجة للدين زيادة على الواجب كان فرضه كفاية فحكمه وحكم السفر إلى أمثاله من العلوم الكفائية كطلب التفقه إن كان هناك قائم بفرض الكفاية اشترط إذنهما ، وهذا في زماننا فرض بعيد فإن فرض الكفاية في التفقه لا يكاد يسقط مع وجود مائة مجتهد في العالم ، وإن كان السفر إلى غيره من العلوم المادية مع عدم وجوبها توقف على إذنهما.

هذا كله إذا لم يجد في بلده من يعلمه ما يحتاج إليه بحيث لا تجد في السفر

٣٩٤

إلّا ماله عند نفسك ، فان تكن الدنيا على غير ما وصفت لك فتحوّل إلى دار المستعتب ،

______________________________________________________

الثاني : أن يكون المراد لا تسأل أحدا عما لك عند الله من الأجر والرزق وأمثالهما فإنها بيد الله وعلمها عنده ولا ينفعك السؤال عنها بل سل العلماء عما لله عندك من الطاعات لتعلم شرائطها وكيفياتها.

الثالث : أن يكون المعنى أنك لا تحتاج إلى السؤال عما لك عند الله من الثواب فإنه بقدر ما لله عندك من عملك فيمكنك معرفته بالرجوع إلى نفسك وعملك فعلى هذا يحتمل أن يكون التقدير لا تسأل عما لك عند الله من أحد إلا مما له عندك فيكون ما له عنده مسئولا والاستثناء متصلا لكن في السؤال تجوز.

ويؤيد الأخير على الوجهين ما روي في المحاسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أحب أن يعلم ما له عند الله فليعلم ما لله عنده ، وفي تحف العقول في هذا الخبر مكان هذه الفقرة هكذا : وانظر ما لله عندك في حياتك فكذلك يكون لك العهد عنده في مرجعك.

قوله عليه‌السلام : فإن تكن الدنيا ، أقول : هذه الفقرة أيضا تحتمل وجوها :

الأول : ما ذكره بعض المحققين أن المعنى إن تكن الدنيا عندك على غير ما وصفت لك فتكون تطمئن إليها فعليك أن تتحول فيها إلى دار ترضى فيها ربك يعني أن تكون في الدنيا ببدنك وفي الآخرة بروحك تسعى في فكاك رقبتك وتحصيل رضا ربك عنك حتى يأتيك الموت.

الثاني : ما ذكره بعض الأفاضل أن المعنى إن تكن الدنيا عندك على غير ذلك فانتقل إلى مقام التوبة والاستعتاب والاسترضاء فإن هذه عقيدة سيئة.

الثالث : ما خطر بالبال أن المعنى إن لم تكن الدنيا عندك على ما وصفت لك فتوجه إلى الدنيا وانظر بعين البصيرة فيها وتفكر في أحوالها من فنائها وتقلبها بأهلها ليتحقق لك حقية ما ذكرت ، وإنما عبر عليه‌السلام عن ذلك بالتحول إشعارا بأن من أنكر ذلك فكأنه لغفلته وغروره ليس في الدنيا فليتحول إليها ليعرف ذلك.

٣٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الثالث : لو دعواه إلى فعل وقد حضرت الصلاة فليؤخر الصلاة وليطعهما لما قلناه.

الرابع : هل لهما منعه من الصلاة جماعة؟ الأقرب أنه ليس لهما منعه مطلقا بل في بعض الأحيان لما يشق عليهما مخالفته كالسعي في ظلمة الليل إلى العشاء والصبح.

الخامس : لهما منعه من الجهاد مع عدم التعيين لما صح أن رجلا قال يا رسول الله أبايعك على الهجرة والجهاد ، فقال : هل من والديك أحد؟ قال : نعم كلاهما ، قال : أتبغي الأمر من الله؟ قال : نعم قال : فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما.

السادس : الأقرب أن لهما منعه من فروض الكفاية إذا علم قيام الغير أو ظن لأنه حينئذ يكون كالجهاد الممنوع منه.

السابع : قال بعض العلماء : لو دعواه في صلاة النافلة قطعها ، لما صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن امرأة نادت ابنها وهو في صلاته قالت : يا جريح قال : اللهم أمي وصلاتي قالت : يا جريح فقال : اللهم أمي وصلاتي ، فقال : لا يموت حتى ينظر في وجوه المومسات ، الحديث (١) وفي بعض الروايات أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لو كان جريح فقيها لعلم أن أجابه أمه أفضل من صلاته ، وهذا الحديث يدل على قطع النافلة

__________________

(١) روى القمّيّ (ره) في السفينة عن أبي جعفر (ع) قال : كان في بني إسرائيل عابد يقال له : جريح وكان يتعبد في صومعة فجائته أمّه وهو يصلي فدعته فلم يجبها فانصرفت ثمّ أتته فدعته فلم يلتفت إليها ، فانصرفت ثمّ أتته فدعته فلم يلتفت إليها فانصرفت ثمّ أتته ودعته فلم يجبها ولم يكلمها فانصرفت وهي تقول : أسأل إله بني إسرائيل أن يخذلك ، فلمّا كان من الغد جائت فاجرة وقعدت عند صومعته قد أخذها الطلق فادّعت أنّ الولد من جريح ففشا في بني إسرائيل أنّ من كان يلوم الناس على الزنا قد زنى ، وأمر الملك بصلبه فأقبلت أمّه إليه تلطم وجهها ، فقال لها : اسكتى إنّما هذا لدعوتك فقال الناس لمّا سمعوا ذلك منه : وكيف لنا بذلك؟ قال : هاتوا الصبيّ ، فجاؤا به فقال : من أبوك؟ فقال : فلان الراعي لبني فلان ، فأكذب الله الذين قالوا ما قالوا في جريح ، فحلف جريح ألاّ يفارق أمّه يخدمها.

٣٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

لأجلها ، ويدل بطريق الأولى على تحريم السفر لأن غيبة الوجه فيه أكثر وأعظم ، وهي كانت تريد منه النظر إليها والإقبال عليها.

الثامن : كف الأذى عنهما وإن كان قليلا بحيث لا يوصله الولد إليهما ويمنع غيره من إيصاله بحسب طاقته.

التاسع : ترك الصوم ندبا إلا بإذن الأب ولم أقف على نص في الأم.

العاشر : ترك اليمين والعهد إلا بإذنه أيضا ما لم يكن فعل واجب أو ترك محرم ولم أقف في النذر على نص خاص إلا أن يقال هو يمين يدخل في النهي عن اليمين إلا بإذنه.

تنبيه (١) بر الوالدين لا يتوقف على الإسلام لقوله تعالى : « وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ». « وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً » وهو نص وفيه دلالة على مخالفتهما في الأمر بالمعصية وهو كقوله عليه‌السلام : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

فإن قلت : فما تصنع بقوله تعالى : « فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ » (٢) وهو يشمل الأب ، وهذا منع من النكاح فلا يكون طاعته واجبة فيه أو منع من المستحب فلا يجب في ترك المستحب.

قلت : الآية في الأزواج ولو سلم الشمول أو التمسك في ذلك بتحريم العضل فالوجه فيه أن للمرأة حقا في الإعفاف والتصون ودفع ضرر مدافعة الشهوة والخوف من الوقوع في الحرام وقطع وسيلة الشيطان عنهم بالنكاح وأداء الحقوق واجب

__________________

(١) هذا التنبيه أيضا من تتمة كلام الشهيد (ره).

(٢) سورة البقرة : ٢٣٢. والعضل : المنع.

٣٩٧

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن سيف ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال يأتي يوم القيامة شيء مثل الكبة فيدفع في ظهر المؤمن فيدخله الجنة فيقال هذا البر.

______________________________________________________

على الآباء للأبناء كما وجب العكس ، وفي الجملة النكاح مستحب وفي تركه تعرض لضرر ديني أو دنيوي ومثل هذا لا يجب طاعة الأبوين فيه ، انتهى كلام الشهيد (ره).

ثم قال المحقق : ويمكن اختصاص الدعاء بالرحمة بغير الكافرين إلا أن يراد من الدعاء بالرحمة في حياتهما بأن يوفق لهما الله لما يوجب ذلك من الإيمان فتأمل ، والظاهر أن ليس الأذى الحاصل لهما بحق شرعي من الحقوق مثل الشهادة عليهما لقوله تعالى : « أَوِ الْوالِدَيْنِ » فتقبل شهادته عليهما وفي القول بوجوبها عليهما مع عدم القبول لأن في القبول تكذيب لهما بعد واضح وإن قال به بعض ، وأما السفر المباح بل المستحب فلا يجوز بدون إذنهما لصدق العقوق ، ولهذا قاله الفقهاء وأما فعل المندوب فالظاهر عدم الاشتراط إلا في الصوم والنذر على ما ذكروه وتحقيقه في الفقه ، انتهى.

الحديث الثالث : حسن كالصحيح.

« مثل الكبة » أي الدفعة والصدمة أو مثل كبة الغزل في الصغر أو مثل البعير في الكبر ، قال الفيروزآبادي : الكبة الدفعة في القتال والجري ، والحملة في الحرب والزحام ، والصدمة بين الخيلين ، ومن الشتاء شدته ودفعته ، والرمي في الهوة ، وبالضم الجماعة والجروهق (١) من الغزل والإبل العظيمة والثقل ، وقال الجزري : الكبة بالضم الجماعة من الناس وغيرهم ، فيه : وإياكم وكبة السوق أي جماعة السوق ، والكبة بالفتح شدة الشيء ومعظمه ، وكبة النار صدمتها ، وكان فيه تصحيفا ولم أجده في غير الكتاب ، والبر يحتمل الأعم من بر الوالدين.

__________________

(١) قال الجوهريّ في مادة « كبَّ » الجروهق : ما جمع مستديرا كهيئة الكبة ، فارسي معرّب.

٣٩٨

٤ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء ، عن منصور بن حازم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت أي الأعمال أفضل قال الصلاة لوقتها وبر الوالدين والجهاد في سبيل الله عز وجل.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن درست بن أبي منصور ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال سأل رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ما حق الوالد على ولده قال لا يسميه باسمه ولا يمشي بين يديه ولا يجلس قبله ولا يستسب له.

______________________________________________________

الحديث الرابع : ضعيف على المشهور.

لوقتها أي لوقت فضلها.

الحديث الخامس : ضعيف.

« أن لا يسميه باسمه » لما فيه من التحقير وترك التعظيم والتوقير عرفا بل يسميه بالكنية لما فيها من التعظيم عند العرب أو الألقاب المشتملة على التعظيم أو اللطف والإكرام ، كقوله : يا أبه ، وقال أبي أو والدي ونحو ذلك « ولا يجلس قبله » أي زمانا أو رتبة والأول أظهر ، ويحتمل التعميم وإن كان بعيدا « ولا يستسب له » أي لا يفعل ما يصير سببا لسب الناس له كان يسبهم أو أباهم وقد يسب الناس والد من يفعل فعلا شنيعا قبيحا ، وسيأتي في الروضة في حديث عرض الخيل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن جماعة إلى أن قال : ومن لعن أبويه ، فقال رجل : يا رسول الله أيوجد رجل يلعن أبويه؟ فقال : نعم ، يلعن آباء الرجال وأمهاتهم فيلعنون أبويه.

وهذان الحديثان مرويان في طرق العامة قال في النهاية في حديث أبي هريرة : لا تمشين أمام أبيك ولا تجلس قبله ، ولا تدعه باسمه ، ولا تستسب له ، أي لا تعرضه للسب وتجره إليه بأن تسب أبا غيرك فيسب أباك مجازاة لك ، وقد جاء مفسرا في الحديث الآخر : أن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه ، قيل : و

٣٩٩

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن بحر ، عن عبد الله بن مسكان عمن رواه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال وأنا عنده لعبد الواحد الأنصاري في بر الوالدين في قول الله عز وجل : « وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » فظننا أنها الآية التي في بني إسرائيل « وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ [وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً] » فلما كان بعد سألته فقال هي التي في لقمان « وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما » فقال إن

______________________________________________________

كيف يسب والديه؟ قال : يسب الرجل فيسب أباه وأمه ، انتهى.

وأقول : مع قطع النظر عن هذا الخبر العامي هل يمكن الحكم بأن من فعل ذلك فعل كبيرة باعتبار أن سب الأب كبيرة؟ الظاهر العدم لأن سب الغير إذا لم ينته إلى الفحش لا يعلم كونه كبيرة ، وليس هذا سب الأب حقيقة بل الظاهر أن الإسناد على المبالغة والمجاز ، وفعل السبب ليس حكمه حكم المسبب إلا إذا كان السبب بحيث لا يتخلف عنه المسبب كضرب العنق بالنسبة إلى القتل ، مع أن الرواية ضعيفة يشكل الاستدلال بها علي مثل هذا الحكم ، وكذا خبر الروضة ضعيف على المشهور ، مع أن الاستدلال باللعن على كونه كبيرة مشكل ، نعم ظاهره التحريم وإن ورد في المكروهات أيضا.

الحديث السادس : ضعيف.

وهو من الأخبار العويصة الغامضة التي سلك كل فريق من الأماثل فيها واديا فلم يأتوا بعد الرجوع بما يسمن أو يغني من جوع ، وفيه إشكالات لفظية ومعنوية.

أما الأولى : فهي أن الآيات الدالة على فضل بر الوالدين كثيرة وما يناسب المقام منها ثلاث : الأولى : الآية التي في بني إسرائيل : « وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » (١) الثانية : الآية التي في سورة العنكبوت وهي : « وَوَصَّيْنَا

__________________

(١) الآية : ٢٣.

٤٠٠