مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

وقال بعضهم الصلاة وقال بعضهم الزكاة وقال بعضهم الصيام وقال بعضهم الحج والعمرة وقال بعضهم الجهاد فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لكل ما قلتم فضل وليس به ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وتوالي أولياء الله والتبري من أعداء الله.

٧ ـ عنه ، عن محمد بن علي ، عن عمر بن جبلة الأحمسي ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المتحابون في الله يوم القيامة على أرض زبرجدة خضراء في ظل عرشه عن يمينه وكلتا يديه يمين وجوههم أشد بياضا وأضوأ من

______________________________________________________

وفتوى بالباطل وهذا حرام ، فكيف يقرر هم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ويحثهم عليه « وليس به » ضمير ليس للفضل المذكور ، وضمير « به » للأوثق ، أو ضمير ليس لكل من المذكورات وضمير به للذي أراد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوالي أولياء الله الاعتقاد بإمامة الذين جعلهم الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأعداء الله أضدادهم وغاصبوا خلافتهم أو الأعم منهم ومن سائر المخالفين والكفار.

الحديث السابع : ضعيف.

« على أرض زبرجدة » الإضافة كخاتم حديد « في ظل عرشه » قال في النهاية :

أي في ظل رحمته ، وقال النووي : قيل : الظل عبارة عن الراحة والنعيم ، نحو هو في عيش ظليل ، والمراد ظل الكرامة لا ظل الشمس لأنها وسائر العالم تحت العرش ، وقال الآبي : ومن جواب شيخنا أنه يحتمل جعل جزء من العرش حائلا تحت فلك الشمس ، وقال عياض : ظاهره أنه سبحانه يظلهم حقيقة من حر الشمس ووهج الموقف ، وأنفاس الخلائق وهو تأويل أكثرهم ، وقال بعضهم : هو كناية عن كنهم وجعلهم في كنفه وستره ، ومنه قولهم : السلطان ظل الله ، وقولهم : فلان في ظل فلان أي في كنفه وعزه ، انتهى.

وظاهر الأخبار والآيات أن العرش يوضع يوم القيامة في الموقف وأن له

٢٦١

الشمس الطالعة يغبطهم بمنزلتهم كل ملك مقرب وكل نبي مرسل يقول الناس من هؤلاء فيقال هؤلاء المتحابون في الله.

٨ ـ عنه ، عن أبيه ، عن النضر بن سويد ، عن هشام بن سالم ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال إذا جمع الله عز وجل الأولين والآخرين قام مناد فنادى يسمع الناس فيقول أين المتحابون في الله قال فيقوم عنق من الناس فيقال لهم اذهبوا إلى الجنة بغير حساب قال فتلقاهم الملائكة فيقولون إلى أين فيقولون إلى الجنة بغير حساب قال فيقولون فأي ضرب أنتم من الناس

______________________________________________________

يمينا وشمالا ، فيمكن أن يكون المقربون في يمينه ومن دونهم في شماله ، وكلاهما يمين مبارك يأمن من استقر فيهما. وقيل : يحتمل أن يراد به الرحمة ولها أفراد متفاوتة فأقواهما يمين وأدونهما يسار وكلاهما مبارك ينجي من أهوال القيامة وقال في النهاية : فيه : وكلتا يديه يمين ، أي أن يديه تبارك وتعالى بصفة الكمال لا نقص في واحدة منهما ، لأن الشمال ينقص عن اليمين ، وكل ما جاء في القرآن والحديث من إضافة اليد والأيدي واليمين وغير ذلك من أسماء الجوارح إلى الله فإنما هو على سبيل المجاز والاستعارة ، والله تعالى منزه عن التشبيه والتجسيم ، انتهى.

« يغبطهم » تقول : غبطهم كضرب غبطا إذا تمنى مثل ما ناله من غير أن يريد زواله لما أعجبه من حسنه ، وكان المعنى أن الملك والنبي مع جلالة قدرهما وعظم نعمتهما يعجبهما هذه المنزلة ويعدانها عظيمة ، فلا يستلزم كون منزلته دون منزلتهما وربما يقرأ يغبطهم على بناء التفعيل ، أي يعد أنهم ذوي غبطة ، وحسن حال أو مغبوطين للناس.

الحديث الثامن : صحيح.

« يسمع الناس » على بناء الأفعال حال عن فاعل فنادى « فتلقاهم » على بناء

٢٦٢

فيقولون نحن المتحابون في الله قال فيقولون وأي شيء كانت أعمالكم قالوا كنا نحب في الله ونبغض في الله قال فيقولون « نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ».

٩ ـ عنه ، عن علي بن حسان عمن ذكره ، عن داود بن فرقد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ثلاث من علامات المؤمن علمه بالله ومن يحب ومن يبغض.

١٠ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم وحفص بن البختري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الرجل ليحبكم وما يعرف ما أنتم عليه فيدخله الله

______________________________________________________

المجرد أو على بناء التفعيل بحذف إحدى التائين أي تستقبلهم « وأي شيء كانت أعمالكم » أي منصوب بخبرية كانت ، أي أية مرتبة بلغ تحابكم ، وأي شيء فعلتم حتى سميتم بهذا الاسم؟ قيل : هو استبعاد لكون محض التحاب سبب هذه المنزلة « نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ » المخصوص بالمدح محذوف أي أجركم وما أعطاكم ربكم.

الحديث التاسع : ضعيف.

« علمه بالله » أي بذاته وصفاته بقدر وسعه وطاقته « ومن يحب ومن يبغض » أي من يحبه الله من الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ومن يبغضه الله من الكفار وأهل الضلال أو الضمير في الفعلين راجع إلى المؤمن أي علمه بمن يحب أن يحبه ويحب أن يبغضه وكأنه أظهر.

الحديث العاشر : حسن كالصحيح.

قوله عليه‌السلام : إن الرجل ليحبكم ، أقول : يحتمل وجوها : الأول : أن يكون المراد بهم المستضعفين من المخالفين فإنهم يحبون الشيعة ولا يعرفون مذهبهم ، ويحتمل دخولهم الجنة بذلك.

الثاني : أن يكون المراد بهم المستضعفين من الشيعة فإنهم يحبون علماء الشيعة وصلحائهم ولكن لم يصلوا إلى ما هم عليه من العقائد الحقة والأعمال الصالحة فيدخلون بذلك الجنة ، ومنهم من يبغض العلماء والصلحاء فيدخلون بذلك النار ،

٢٦٣

الجنة بحبكم وإن الرجل ليبغضكم وما يعرف ما أنتم عليه فيدخله الله ببغضكم النار.

١١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن ابن العرزمي ، عن أبيه ، عن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا فانظر إلى قلبك فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك والمرء مع من أحب.

______________________________________________________

فإن كان بغضهم للعلم والصلاح فهم كفرة وإلا فهم فسقة كما ورد : كن عالما أو متعلما أو محبا للعلماء ولا تكن رابعا فتهلك.

الثالث : أن يكون المراد بما أنتم عليه الصلاح والورع دون التشيع كما ذكره بعض المحققين.

الرابع : أن يكون المراد بما أنتم عليه المعصية كما روي أن حفصا كان يلعب. بالشطرنج ، فالمراد أن من أحبكم لظاهر إيمانكم وتشيعكم مع عدم علمه بالمعاصي التي أنتم عليه فبذلك يدخل الجنة ، ومن أبغضكم لكونكم مؤمنين ولم يعلم فسقكم ليبغضكم لذلك فهو من أهل النار لأن بغض المؤمن لإيمانه كفر.

الحديث الحادي عشر : مجهول.

« يحب أهل طاعة الله » أي سواء وصل منهم ضرر إلى دنياه أو لم يصل « ويبغض أهل معصيته » سواء وصل منهم إليه نفع أو لم يصل « وإذا كان يبغض أهل طاعة الله » لضرر دنيوي « ويحب أهل معصيته » لنفع دنيوي ، وقيل : أصل المحبة الميل وهو على الله سبحانه محال ، فمحبة الله للعبد رحمته وهدايته إلى بساط قربه ورضاه عنه ، وإرادته إيصال الخير إليه وفعله له فعل المحب ، وبغضه سلب رحمته عنه وطرده عن مقام قربه ووكوله إلى نفسه ، وكون المرء من أحب لا يستلزم أن يكون مثله في الدرجات أو في الدركات فإن دخوله مع محبوبة في الجنة أو في النار يكفي لصدق ذلك.

٢٦٤

١٢ ـ عنه ، عن أبي علي الواسطي ، عن الحسين بن أبان عمن ذكره ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال لو أن رجلا أحب رجلا لله لأثابه الله على حبه إياه وإن كان المحبوب في علم الله من أهل النار ولو أن رجلا أبغض رجلا لله لأثابه الله على بغضه إياه وإن كان المبغض في علم الله من أهل الجنة.

١٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى الحلبي ، عن بشير الكناسي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قد يكون حب في الله ورسوله وحب في الدنيا فما كان في الله ورسوله فثوابه على الله

______________________________________________________

الحديث الثاني عشر مرسل.

قوله عليه‌السلام : لأثابه الله ، أقول : هذا إذا لم يكن مقصرا في ذلك ولم يكن مستندا إلى ضلالته وجهالته كالذين يحبون أئمة الضلالة ويزعمون أن ذلك لله فإن ذلك لمحض تقصيرهم عن تتبع الدلائل واتكالهم على متابعة الآباء وتقليد الكبراء واستحسان الأهواء بل هو كمن أحب منافقا يظهر الإيمان والأعمال الصالحة وفي باطنه منافق فاسق فهو يحبه لإيمانه وصلاحه لله وهو مثاب بذلك وكذا الثاني فإن أكثر المنافقين يبغضون الشيعة ويزعمون أنه لله وهم مقصرون في ذلك كما عرفت.

وأما من رأي شيعة يتقي من المخالفين ويظهر عقائدهم وأعمالهم ولم ير ولا سمع منه ما يدل على تشيعه فإن أبغضه ولعنه فهو في ذلك مثاب مأجور وإن كان من أبغضه من أهل الجنة ومثابا عند الله بتقية أو كأحد من علماء الشيعة زعم عقيدة من العقائد كفرا أو عملا من الأعمال فسقا وأبغض المتصف بأحدهما لله ولم يكن أحدهما مقصرا في بذل الجهد في تحقيق تلك المسألة فهما مثابان وهما من أهل الجنة إن لم يكن أحدهما ضروريا للدين.

الحديث الثالث عشر : مجهول.

« قد يكون حب في الله ورسوله » أي لهما كحب الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام وحب

٢٦٥

وما كان في الدنيا فليس بشيء.

١٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة بن مهران ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن المسلمين يلتقيان فأفضلهما أشدهما حبا لصاحبه.

١٥ ـ عنه ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر وابن فضال ، عن صفوان الجمال ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما التقى مؤمنان قط إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لأخيه.

١٦ ـ الحسين بن محمد ، عن محمد بن عمران السبيعي ، عن عبد الله بن جبلة ، عن إسحاق بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال كل من لم يحب على الدين ولم يبغض على الدين فلا دين له.

______________________________________________________

العلماء والسادات والصلحاء والإخوان من المؤمنين لعلمهم وسيادتهم وصلاحهم وإيمانهم ولأمره تعالى ورسوله بحبهم « وحب في الدنيا » كحب الناس لبذل مال وتحصيله أو لنيل جاه وغرض من الأغراض الدنيوية « فليس بشيء » أي فأقل مراتبه أنه لا ينفع في الآخرة بل ربما أضر إذا كان لتحصيل الأموال المحرمة والمناصب الباطلة أو لفسقهم أو للعشق الباطل وأمثال ذلك.

الحديث الرابع عشر : موثق.

« فأفضلهما » أي عند الله وأكثرهما ثوابا « أشدهما حبا لصاحبه » في الله كما مر.

الحديث الخامس عشر : صحيح.

الحديث السادس عشر : مجهول.

« كل من لم يحب على الدين » إن كان المراد أنه لم يكن شيء من حبه وبغضه للدين ، فقوله : فلا دين له ، على الحقيقة لأنه لم يحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام أيضا لله ولا أبغض أعداءهم لله ، وإن كان المراد غالب حبه وبغضه أو حب أهل زمانه ، أو لم يكن جميع حبه وبغضه للدين فالمعنى لا دين له كاملا.

٢٦٦

باب

ذم الدنيا والزهد فيها

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن الهيثم بن واقد الحريري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من زهد في الدنيا أثبت الله

______________________________________________________

باب ذم الدنيا والزهد فيها

الحديث الأول : مجهول.

وقال في المغرب : زهد في الشيء وعن الشيء زهدا وزهادة إذا رغب عنه ولم يرده ، ومن فرق بين زهد فيه وعنه فقد أخطأ ، وقال في عدة الداعي : روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل جبرئيل عن تفسير الزهد فقال جبرئيل عليه‌السلام : الزاهد يحب من يحب خالقه ويبغض من يبغض خالقه ويتحرج من حلال الدنيا ولا يلتفت إلى حرامها ، فإن حلالها حساب وحرامها عقاب ويرحم جميع المسلمين كما يرحم نفسه ويتحرج من الكلام فيما لا يعنيه كما يتحرج من الحرام ويتحرج من كثرة الأكل كما يتحرج من الميتة التي قد اشتد نتنها ويتحرج من حطام الدنيا وزينتها كما يتجنب النار أن يغشاها وأن يقصر أمله وكان بين عينيه أجله.

والحكمة : العلوم الحقة المقرونة بالعمل أو العلوم الربانية الفائضة من الله تعالى بعد العمل بطاعته ، وقد مر تحقيقها في كتاب العقل وغيره.

قال الراغب : الحكمة إصابة الحق بالعلم والفعل فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها علي غاية الأحكام ، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ » (١) ونبه علي جملتها بما وصفه بها ، انتهى.

__________________

(١) سورة لقمان : ١٢.

٢٦٧

الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصره عيوب الدنيا داءها ودواءها وأخرجه من الدنيا سالما إلى دار السلام.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه وعلي بن محمد القاساني جميعا ، عن القاسم بن محمد ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن حفص بن غياث ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا ثم

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : داءها ودواءها ، كأنه بدل اشتمال للعيوب أي المراد بتبصير العيوب أن يعرفه أدواء الدنيا من ارتكاب المحرمات والصفات الذميمة المتفرعة على حب الدنيا ويعرفه ما يعالج به تلك الأدواء من التفكرات الصحيحة والمواعظ الحسنة وفعل الطاعات والرياضات ومجاهدة النفس في ترك الشهوات كان يقال : الطب معرفة الأمراض بأن يعرف ما تحصل منه ، وأصل المرض وكيفية علاجه ، أو يقال : الدنيا دنياءان دنيا بلاغ يصير سببا لتحصيل الآخرة ، ودنيا ملعونة ، فلما ذكر عيوب الدنيا فصلها وبين أن منها ما هو داء ومنها ما هو دواء.

ويحتمل حينئذ ارتكاب استخدام بأن يكون المراد بالدنيا أولا الدنيا المذمومة وبالضمير الأعم ، ويحتمل أن يكون داؤها تأكيدا لعيوب الدنيا ودوائها عطفا على العيوب ، وقيل : داؤها ودواؤها مجروران بدلا بعض للدنيا فالمراد بعيوب دواء الدنيا شدتها على النفس وصعوبتها ، وربما يقرأ دواها بالقصر بمعنى الأحمق أي المبتلي بحب الدنيا ، ولا يخفى بعده.

« وأخرجه من الدنيا سالما » من العيوب والمعاصي « إلى دار السلام » أي الجنة التي من دخلها سلم من جميع المكاره والآلام.

الحديث الثاني : ضعيف.

« جعل الخير ». اه لما كان الزهد في الدنيا سببا لحصول جميع السعادات العلمية والعملية شبه تلك الكمالات بالأمتعة المخزونة في بيت والزهد بمفتاح

٢٦٨

قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتى لا يبالي من أكل الدنيا ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن أبي أيوب الخزاز ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إن من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا.

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه وعلي بن محمد ، عن القاسم بن محمد ، عن سليمان

______________________________________________________

ذلك البيت « لا يجد الرجل ». اه شبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإيمان بشيء حلو في ميل الطبع السليم إليه وأثبت له الحلاوة علي الاستعارة المكنية والتخييلية ، أو استعار لفظ الحلاوة لآثار الإيمان التي تلتذ الروح بها.

« حتى لا يبالي من أكل الدنيا » يحتمل أن يكون من اسم موصول وأكل فعلا ماضيا وأن يكون « من » حرف جر وأكل مصدرا ، فعلى الأول المعنى أنه لا يعتني بشأن الدنيا بحيث لا يحسد أحدا عليها ، ولو كانت كلها لقمة في فم كلب لم يغتم لذلك ، ولم ير ذلك له كثيرا ، وعلي الثاني أيضا يرجع إلى ذلك ، أو المعنى لا يعتني بأكل الدنيا والتصرف فيها.

الحديث الثالث : صحيح.

« إن من أعون الأخلاق ». اه وذلك لأن الاشتغال بالدنيا وصرف الفكر في طرق تحصيلها ووجه ضبطها ورفع موانعها مانع عظيم من تفرغ القلب للأمور الدينية وتفكره فيها بل حبها لا يجتمع مع حب الله تعالى وطاعته وطلب الآخرة كما روي : أن الدنيا والآخرة ضرتان ، إذ الميل بأحدهما يضر بالآخر.

الحديث الرابع : ضعيف.

وقد مر صدر هذا الخبر في باب الرضا بالقضاء إلى قوله : ألا إن الزهد ، و

٢٦٩

بن داود المنقري ، عن علي بن هاشم بن البريد ، عن أبيه أن رجلا سأل علي بن الحسين عليه‌السلام عن الزهد فقال عشرة أشياء فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا

______________________________________________________

كان فيه الزهد عشرة أجزاء ، ومنهم من جعل الأجزاء العشرة باعتبار ترك عشرة أشياء : المال والأولاد واللباس والطعام والزوجة والدار والمركوب والانتقام من العدو والحكومة وحب الشهرة بالخير ، وهو تكلف مستغنى عنه ، وسيأتي بعض الأقسام في الحديث الثاني عشر.

والآيات في الحديد هكذا : « اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ » إلى قوله سبحانه « وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ » ثم قال تعالى بعد آية : « ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ، لِكَيْلا تَأْسَوْا ».

قال المفسرون : أي كتبنا ذلك في كتاب لكيلا تأسوا أي تحزنوا على ما فاتكم من نعم الدنيا « وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ » أي بما أعطاكم منها ، وقال الطبرسي (ره) :

والذي يوجب نفي الأسي والفرح من هذا أن الإنسان إذا علم أن ما فات منها ضمن الله تعالى العوض عليه في الآخرة فلا ينبغي أن يحزن لذلك ، وإذا علم أن ما ناله منها كلف الشكر عليه والحقوق الواجبة فيه فلا ينبغي أن يفرح به وأيضا فإذا علم أن شيئا منها لا يبقى فلا ينبغي أن يهتم له بل يجب أن يهتم لأمر الآخرة التي تدوم ولا تبيد ، انتهى.

ولا يخفى أن هذين الوجهين لا ينطبقان على التعليل المذكور في الآية إلا أن يقال : أن هذه الأمور أيضا من الأمور المكتوبة ، ولذا قال غيره : أن العلة في ذلك أن من علم أن الكل مقدر هان عليه الأمر.

٢٧٠

ألا وإن الزهد في آية من كتاب الله عز وجل : « لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ » (١).

٥ ـ وبهذا الإسناد ، عن المنقري ، عن سفيان بن عيينة قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام

______________________________________________________

وقال بعض الأفاضل : هو تعليل لقوله قبل ذلك بثلاث آيات : « اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ » وهذا وجه حسن بحسب المعنى ولا تكلف في التعليل حينئذ لكنه بحسب اللفظ بعيد وإن كانت الآيات متصلة بحسب المعنى مسوقة لأمر واحد وقد مر وجه آخر في تأويل الآية في كتاب الحجة وأنها نازلة في أهل البيت عليهم‌السلام وقد بيناه هناك.

وقال البيضاوي : المراد منه نفي الأسي المانع عن التسليم لأمر الله والفرح الموجب للبطر والاختيال « وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ » إذ قل من يثبت نفسه حالي السراء والضراء ، انتهى.

وروي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : الزهد كلمة بين كلمتين في القرآن ، قال الله سبحانه : « لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ » فمن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.

الحديث الخامس : كالسابق.

وروي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : الزهد كلمة بين كلمتين في القرآن ، قال الله سبحانه : « لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ » فمن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.

الحديث الخامس : كالسابق.

وقد مر الحديث في باب الإخلاص مع زيادة في صدره وهو قوله : قال سألته عن قول الله عز وجل « إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » قال : القلب السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه ، وقال : وكل قلب. اه ، وفيه دلالة على أن حب الدنيا متفرع على الشك أي عدم اليقين الكامل بالآخرة ، والشرك أي عدم التوكل التام على الله تعالى في الرزق وغيره ، والاعتماد على السعي والعمل والاشتغال بتحصيل الدنيا والتوسل بغيره تعالى ، وهو إحدى مراتب الشرك الخفي

__________________

(١) سورة الحديد : ٢٣.

٢٧١

وهو يقول كل قلب فيه شك أو شرك فهو ساقط وإنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة.

٦ ـ علي ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إن علامة الراغب في ثواب الآخرة زهده في عاجل زهرة الدنيا أما إن زهد الزاهد في هذه الدنيا لا ينقصه مما قسم الله

______________________________________________________

« فهو ساقط » أي عن درجة الاعتبار والقبول ، والترديد على سبيل منع الخلو « وإنما أرادوا » أي الأنبياء والأوصياء وخلص أصحابهم « بالزهد » الباء زائدة زيادتها في قوله تعالى : « وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ » (١).

الحديث السادس : حسن كالصحيح.

« إن علامة الراغب » إشارة إلى ما عرفت من أن الدنيا والآخرة ضرتان لا يجتمع حبهما في قلب ، فالراغب في أحدهما زاهد في الآخر لا محالة وإنما أدخل العاجل لأنه السبب لاختيار الناس الدنيا غالبا على ثواب الآخرة آجلا ، أو لدلالته على عدم الثبات ، وقيل : لأن زهرة الدنيا المتعلقة بالآجلة والآخرة كقدر ما يحتاج به الإنسان لتحصيل ما ينفع في الآخرة لا ينافي الرغبة في ثوابها بل معين لحصوله ، والمراد بزهرة الدنيا بهجتها ونضارتها أو متاعها تشبيها له بزهرة النبات لكونها أقل الرياحين ثباتا ، وهو إشارة إلى قوله تعالى : « وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى » (٢).

قال في القاموس : الزهرة ويحرك النبات ونوره أو الأصفر منه ، ومن الدنيا بهجتها ونضارتها وحسنها ، انتهى.

قوله عليه‌السلام : في هذه الدنيا الإشارة للتحقير « وإن زهد » أي بالغ في الزهد ، وكذا قوله : وإن حرص ، أو المراد بقوله : وإن زهد ، وإن سعى في صرفها عن نفسه ،

__________________

(١) سورة الحجّ : ٢٥.

(٢) سورة طه : ١٣١.

٢٧٢

عز وجل له فيها وإن زهد ، وإن حرص الحريص على عاجل زهرة [ الحياة ] الدنيا لا يزيده فيها وإن حرص فالمغبون من حرم حظه من الآخرة.

٧ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن يحيى الخثعمي ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما أعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الدنيا إلا أن يكون فيها جائعا خائفا.

______________________________________________________

وبقوله : إن حرص أي بالغ في تحصيلها فالمراد بالزهد والحرص الأولين القلبيان وبالآخرين الجسمانيان.

والحاصل أن الرزق لكل أحد مقدر وإن كان وصولها إليه مشروطا بقدر من السعي على ما أمره الشارع من غير إفراط يمنعه عن الطاعات ولا تقصير كثير بترك السعي مطلقا ولا مدخل لكثرة السعي في كثرة الرزق ، فمن ترك الطاعات وارتكب المحرمات في ذلك حرم ثواب الآخرة ولا يزيد رزقه في الدنيا فهو مغبون ، وهذا على القول بأن مقدار الرزق معين مقدر لا يزيد بالسعي ولا ينقص بتركه ، وعلى القول بأن الرزق المقدر الواجب على الله تعالى هو القدر الضروري ويزيد بالكسب والسعي ، فيحتاج الخبر إلى تأويل بعيد ، وسيأتي الكلام عليه في محله إنشاء الله تعالى.

الحديث السابع : ضعيف كالموثق.

« إلا أن يكون فيها » كان الاستثناء منقطع ويحتمل الاتصال « جائعا » أي بسبب الصوم أو الإيثار على الغير أو لأن الجوع موجب للقرب من الله تعالى بخلاف الشبع فإنه موجب للبعد مع أن في الجوع الاضطراري والصبر عليه والرضا بقضائه سبحانه لذة للمقربين « خائفا » أي من عذاب الآخرة أو من العدو في الجهاد أيضا أو لأن الضراء في الدنيا مطلقا موجب للسراء في الآخرة ، وقد أشبعنا الكلام في جوعه وقناعته وتواضعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المأكل والملبس والمجلس وسائر أحواله في كتابنا الكبير ، وذكرها هنا يوجب الإطناب.

٢٧٣

٨ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن القاسم بن يحيى ، عن جده الحسن بن راشد ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو محزون فأتاه ملك ومعه مفاتيح خزائن الأرض فقال يا محمد هذه مفاتيح خزائن الأرض يقول لك ربك افتح وخذ منها ما شئت من غير أن تنقص شيئا عندي فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له فقال الملك والذي بعثك بالحق نبيا لقد سمعت هذا الكلام من ملك يقوله في السماء الرابعة حين أعطيت المفاتيح.

______________________________________________________

الحديث الثامن : ضعيف.

« خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » أي من البيت أو إلى بعض الغزوات « وهو محزون » لعل حزنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لضعف المسلمين وعدم رواج الدين وقوة المشركين وقلة أسباب الجهاد « من غير أن تنقص » على بناء المجهول ، قال الجوهري : نقص الشيء ونقصته أنا يتعدى ولا يتعدى ، انتهى.

ويمكن أن يقرأ على بناء المعلوم فالمستتر راجع إلى المفاتيح ، وفي بعض النسخ على الغيبة أي ينقص أخذك شيئا من المنزلة والدرجة التي لك عندي « من لا دار له » أي في الآخرة فالمعنى أن الذي يهتم لتحصيل الدنيا وتعميرها ليست له دار في الآخرة ، أو يختار الدنيا من لا يؤمن بأن له دارا في الآخرة أو من لا دار له أصلا ، فإن دار الآخرة قد فوتها ودار الدنيا لا تبقى له « ولها » أي للدنيا والعيش فيها.

« يجمع الأموال » والأسباب « من لا عقل له » لأن العاقل لا يختار الفاني على الباقي ، وربما يقرأ يجمع على بناء الأفعال من العزم والاهتمام.

في القاموس : الإجماع الاتفاق ، وصر أخلاف الناقة جمع ، وجعل الأمر جمعا بعد تفرقه والأعداد والإيناس وسوق الإبل جميعا والعزم على الأمر أجمعت الأمر وعليه والأمر مجمع ، انتهى.

ويناسب هنا أكثر المعاني لكن الأول أظهر.

٢٧٤

٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بجدي أسك ملقى على مزبلة ميتا فقال لأصحابه كم يساوي هذا فقالوا لعله لو كان حيا لم يساو درهما فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذا الجدي على أهله.

١٠ ـ علي بن إبراهيم ، عن علي بن محمد القاساني عمن ذكره ، عن عبد الله بن القاسم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إذا أراد الله بعبد خيرا زهده في الدنيا وفقهه في الدين وبصره عيوبها ومن أوتيهن فقد أوتي خير الدنيا والآخرة وقال لم

______________________________________________________

الحديث التاسع : حسن كالصحيح.

وقال في النهاية : فيه أنه مر بجدي أسك ، أي مصطلم الأذنين مقطوعهما ، وفي القاموس : السكك محركة الصمم وصغر الأذن ولزوقها بالرأس وقلة أشرافها أو صغر قوف الأذن وضيق الصماخ يكون في الناس وغيرهم وسككت وهو أسك وهي سكاء.

وأقول : روى مسلم في صحيحه هذا الحديث بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مر بالسوق فمر بجدي أسك ميت فتناوله فأخذ بإذنه ثم قال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ قال : تحبون أنه لكم؟ قالوا : والله لو كان حيا كان عيبا فيه لأنه أسك فكيف وهو ميت؟ فقال : فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ، والمزبلة بفتح الباء والضم لغة : موضع يلقى فيه الزبل بالكسر وهو السرقين.

الحديث العاشر : ضعيف.

« وبصره عيوبها » أي الدنيا « ومن أوتيهن » أي تلك الخصال الثلاث وفيه إشعار بأنه لا يتيسر إلا بتوفيق الله تعالى « فَقَدْ أُوتِيَ » كأنه إشارة إلى قوله تعالى : « وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً » (١) فالحكمة العلم بالدين أصوله وفروعه وبعيوب

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٦٩.

٢٧٥

يطلب أحد الحق بباب أفضل من الزهد في الدنيا وهو ضد لما طلب أعداء الحق قلت جعلت فداك مما ذا قال من الرغبة فيها وقال ألا من صبار كريم فإنما

______________________________________________________

الدنيا والزهد فيها « لم يطلب أحد الحق » أي الدين الحق « بباب » أي بسبب ووسيلة أفضل من ترك الدنيا ، فإنه ليس الباعث لاختيار الباطل مع وضوح الحق وظهوره إلا حب الدنيا فإنها غالبا مع أهل الباطل ، ويمكن تعميم الحق في كل حكم ومسألة فإن الأغراض الدنيوية تعمى القلب عن الحق ، أو المراد بالحق الرب تعالى أي قربه ووصاله « وهو » أي الزهد « ضد لما طلب أعداء الحق » وقوله : مما ذا ، طلب لبيان ما طلبه أعداء الحق فبين عليه‌السلام بقوله : من الرغبة فيها ، والرغبة وإن كانت عين الطلب لكن جعلها مطلوبهم مبالغة.

ويحتمل أن يكون ما في قوله لما طلب مصدرية فلا يكون هنا للبيان بل للتعليل كما سيأتي ، ويحتمل أن يكون ضمير هو راجعا إلى الحق أي الحق ضد لمطلوب أعداء الحق فمن في قوله : مما للتعليل « وما ذا » للاستفهام أي لأي علة صار ضد الحق مطلوبهم ، قال : لرغبتهم في الدنيا ، وقيل : أي مما ذا طلب أعداء الحق مطلوبهم ، والهمزة في ألا للاستفهام ولا للنفي ، ومن زائدة لعموم النفي ، والمعنى ألا يوجد صبار كريم النفس يصبر عن الدنيا وعلى فقرها وشدتها ويزهد فيها؟ وقد يقرأ صبار بكسر الصاد وتخفيف الباء مصدر باب المفاعلة مضافا إلى كريم ، وقرأ بعضهم إلا بالتشديد استثناء من الرغبة فيها ، أي إلا أن تكون الرغبة فيها من صبار كريم يطلبها من طرق الحلال ويصبر عن الحرام وعلى إخراج الحقوق المالية وإعانة الفقراء فإن الرغبة في هذه الدنيا إنما هي للآخرة وأول الوجوه أظهرها.

ثم رغب عليه‌السلام في الزهد وسهل تحصيله بقوله : فإنما هي ، أي الدنيا « أيام قلائل » وهي أيام العمر فالصبر على ترك الشهوات وتحمل الملاذ فيها سهل يسير

٢٧٦

هي أيام قلائل ألا إنه حرام عليكم أن تجدوا طعم الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا.

قال وسمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إذا تخلى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حب الله وكان عند أهل الدنيا كأنه قد خولط وإنما خالط القوم حلاوة

______________________________________________________

سيما إذا كان مستلزما للراحة الطويلة الدائمة « ألا إنه » ألا حرف تنبيه وشبه حصول الإيمان الكامل في القلب بحيث يظهر أثره في الجوارح بإدراك طعم شيء لذيذ مع أن اللذات الروحانية أعظم من اللذات الجسمانية.

قوله : إذا تخلى المؤمن من الدنيا ، أي جعل نفسه خالية من حب الدنيا وقطع تعلقه بها أو تفرغ للعبادة مجتنبا من الدنيا ومعرضا عنها ، قال في النهاية :

أن تقول أسلمت وجهي إلى الله وتخليت ، التخلي التفرغ ، يقال : تخلى للعبادة وهو تفعل من الخلو والمراد التبرؤ من الشرك وعقد القلب على الإيمان ، وقال : السمو العلو يقال : سما يسمو سموا فهو سام ، ويقال : فلان يسمو إلى المعالي إذا تطاول إليها ، انتهى.

أي ارتفع من حضيض النقص إلى أوج الكمال ، أو مال وارتفع إلى عالم الملكوت وارتفعت همته عن التدنس بما في عالم الناسوت « كأنه قد خولط » قال في القاموس : خالطه مخالطة وخلاطا : مازجه والخلاط بالكسر أن يخالط الرجل في عقله وقد خولط ، وفي النهاية فيه : ظن الناس أن قد خولطوا وما خولطوا ولكن خالط قلبهم هم عظيم يقال : خولط فلان في عقله إذا اختل عقله ، فقوله : خولط بهذا المعنى وخالط بمعنى الممازجة ، وهذا أعلى درجات المحبين حيث استقر حب الله تعالى في قلوبهم وأخرج حب كل شيء غيره منها فلا يلتفتون إلى غيره تعالى ويتركون معاشرة عامة الخلق لمباينة طوره أطوارهم فهم يعدونه سفيها مخالطا كما نسبوا الأنبياء عليهم‌السلام إلى الجنون لذلك.

٢٧٧

حب الله فلم يشتغلوا بغيره قال وسمعته يقول إن القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتى يسمو.

______________________________________________________

« إن القلب إذا صفا » أي إن القلب أي الروح الإنساني لما كان من عالم الملكوت وإنما أهبط إلى هذا العالم الأدنى وابتلي بالتعلق بالبدن لتحصيل الكمالات وحيازة السعادات كما أن الثوب قد يلوث ببعض الكثافات ليصير بعد الغسل أشد بياضا وأصفى مما كان ، فإذا اختار الشقاوة وتشبث بهذه العلائق الجسمانية والشهوات الظلمانية لحق بالأنعام بل هو أضل سبيلا وإن تمسك بعروة الشريعة الحقة وعمل بالنواميس الإلهية والرياضات البدنية ، حتى انفتح له عين اليقين فنظر إلى الدنيا ولذاتها بتلك العين الصحيحة رآها ضيقة مظلمة فانية موحشة غدارة غرارة ملوثة بأنواع النجاسات المعنوية والصفات الدنية ، استوحش منها وتذكر عالمه الأصلي فرغب إليها وتعلق بها فجانب المتعلقين بهذا العالم وأنس بالمتعلقين بالملأ الأعلى فلحق بهم ، وضاقت به الأرض وصارت همته رفيعة عالية فلم يرض إلا بالصعود إلى سدرة المنتهى وجنة المأوى ، فهم مع كونهم بين الخلق أرواحهم معلقة بالملأ الأعلى ، ويستصعدون بقرب المولى.

أو يقال : لما كانت الأرض أعظم أجزاء الإنسان وكانت قواه الظاهرة والباطنة مائلة إليها بالطبع لكمال النسبة بينهما كانت الدواعي إلى زهراتها حاضرة والبواعث إلى لذاتها ظاهرة فربما اشتغل بها واكتسب الأخلاق والأعمال الفاسدة لتحصيل المقاصد حتى تصير النفس تابعة لها راضية بأثرها مشعوفة بعملها متكدرة بالشهوات منغمسة في اللذات فتحب الاستقرار في الأرض وتركن إليها ، وأما إذا منعت تلك القوي عن مقتضاها وصرفتها عن هواها وروضتها بمقامع الشريعة وأدبتها بآداب الطريقة حتى غلبت عليها وصفت عن كدوراتها وطهرت عن خبائث لذاتها وتحلت بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة والآداب السنية والأطوار الرضية ضاقت

٢٧٨

١١ ـ علي [ ، عن أبيه ] ، عن علي بن محمد القاساني ، عن القاسم بن محمد ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن عبد الرزاق بن همام ، عن معمر بن راشد ، عن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب قال سئل علي بن الحسين عليه‌السلام أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل فقال ما من عمل بعد معرفة الله جل وعز ومعرفة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من بغض الدنيا وإن لذلك لشعبا كثيرة وللمعاصي شعبا فأول ما عصي الله به الكبر وهي معصية إبليس حين « أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ » والحرص وهي معصية آدم وحواء حين قال الله عز وجل لهما « فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ » (١) فأخذا ما لا حاجة بهما إليه فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة وذلك أن أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه ثم الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله فتشعب من ذلك حب النساء وحب

______________________________________________________

بها الأرض حتى تسمو إلى عالم النور فتشاهد العالم الأعلى بالعيان وتنظر إلى الحق بعين العرفان ويزداد لها نور الإيمان والإيقان ، فتعاف جملة الدنيا والاستقرار في الأرض فبدنها في هذه الدنيا وهي في العالم الأعلى فيصير كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو لا الآجال التي كتبت عليهم لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرفة عين.

ولذا قال مولى المؤمنين عند الشهادة : فزت ورب الكعبة.

الحديث الحادي عشر : ضعيف.

« وأن لذلك » أي لبغض الدنيا « لشعبا » أي من الصفات الحسنة والأعمال الصالحة ، وهي ضد شعب المعاصي كالتواضع مع الكبر والقنوع مع الحرص والرضا بما آتاه الله مع الحسد ، وقد مر ذكر الأضداد كلها في باب جنود العقل والجهل ، وإنما ذكر هنا معظمها.

« وهي معصية آدم » هي عند الإمامية مجاز والنهي عندهم نهي تنزيه « فدخل ذلك » أي الحرص ، أو أخذ ما لا حاجة به إليه « وذلك أن أكثر ما يطلب » إنما

__________________

(١) سورة البقرة : ٣٥.

٢٧٩

الدنيا وحب الرئاسة وحب الراحة وحب الكلام وحب العلو والثروة فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهن في حب الدنيا فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك حب الدنيا رأس كل خطيئة والدنيا دنياءان دنيا بلاغ ودنيا ملعونة.

______________________________________________________

قال : أكثر لأن قدر الكفاف لا بد منه « فتشعب من ذلك » أي من ذلك المذكور وهو الكبر والحرص والحسد ، والتخصيص بالحسد بعيد معنى « حب النساء » أي لمحض الشهوة لا لاتباع السنة ، أو إذا انتهى إلى الحرام والشبهة « وحب الدنيا » أي حياة الدنيا وكراهة الموت لئلا ينافي اجتماعهن في حب الدنيا وإن احتمل أن يكون المراد اجتماع الخمسة ، أو الظرفية المجازية « وحب الرئاسة » أي بغير استحقاق أو الباطلة أو لمحض الاستيلاء والغلبة.

« وحب الراحة » كان النوم أيضا داخل فيها « وحب الكلام » أي بغير فائدة أو للفخر والمراء « وحب العلو » أي في المجالس أو الأعم « وحب الثروة » أي الكثرة في الأموال أو الأعم منها ومن الأولاد والعشائر والأتباع.

وروي في المحاسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أول ما عصى الله به ست : حب الدنيا ، وحب الرئاسة ، وحب الطعام ، وحب النساء ، وحب النوم ، وحب الراحة.

قوله عليه‌السلام : والعلماء ، أي الأوصياء أو الأعم وقولهم أما بالوحي أو بعلومهم الكاملة ، ثم لما كان هنا مظنة أن ارتكاب كل ما في الدنيا مذموم قسم عليه‌السلام الدنيا إلى « دنيا بلاغ » أي تبلغ به إلى الآخرة ويحصل بها مرضات الرب تعالى أو دنيا تكون بقدر الضرورة والكفاف فالزائد عليها « ملعونة » أي ملعون صاحبها فالإسناد على المجاز أو هي ملعونة أي بعيدة من الله ومن الخير والسعادة قال في النهاية : البلاغ ما يتبلغ ويتوصل به إلى الشيء المطلوب ، وفي المصباح : البلغة ما يتبلغ به من العيش ولا يفضل يقال : تبلغ به إذا اكتفى به ، وفي هذا بلاغ وبلغة وتبلغ أي كفاية.

٢٨٠