تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ) (٢٥)

عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعندها تطير الصحف فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله) (١).

١٩ ـ (فَأَمَّا) تفصيل للعرض (مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ) سرورا به لما يرى فيه من الخيرات خطابا لجماعته (هاؤُمُ) اسم للفعل أي خذوا (اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) تقديره هاؤم كتابي اقرؤوا كتابيه فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، والعامل في كتابيه اقرؤوا عند البصريين. لأنهم يعملون الأقرب ، والهاء في كتابيه وحسابيه وماليه وسلطانيه للسكت وحقّها أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل ، وقد استحبّ إيثار الوقف إيثارا لثباتها لثبوتها في المصحف.

٢٠ ـ (إِنِّي ظَنَنْتُ) علمت ، وإنما أجري الظنّ مجرى العلم لأنّ الظنّ الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام ، ولأن ما يدرك بالاجتهاد قلّما يخلو عن الوساوس (٢) والخواطر وهي تفضي إلى الظنون فجاز إطلاق لفظ الظنّ عليها لما لا يخلو عنه (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) معاين حسابي.

٢١ ـ (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ذات رضا يرضى بها صاحبها ، كلابن (٣).

٢٢ ـ (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) رفيعة المكان ، أو رفيعة الدرجات ، أو رفيعة المباني والقصور ، وهو خبر بعد خبر.

٢٣ ـ (قُطُوفُها دانِيَةٌ) ثمارها قريبة من مريدها ينالها القاعد كالقائم (٤) يقال لهم :

٢٤ ـ (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أكلا وشربا هنيئا لا مكروه فيهما ولا أذى ، أم هنئتم هنيئا على المصدر (بِما أَسْلَفْتُمْ) بما قدّمتم من الأعمال الصالحة (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) الماضية من أيام الدنيا ، وعن ابن عباس : هي في الصائمين ، أي كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله.

٢٥ ـ (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) لما يرى فيها من الفضائح.

__________________

(١) كنز العمال ، ١٤ / ٣٨٩٣٧.

(٢) في (ز) الوسواس.

(٣) أي وزنا ، فراض كلابن واللابن صاحب اللبن.

(٤) في (ز) القائم والقاعد والمتكىء.

٤٢١

(وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (٢٦) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (٢٧) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (٣٥) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ) (٣٧)

٢٦ ـ (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) أي يا ليتني لم أعلم ما حسابي.

٢٧ ـ (يا لَيْتَها) يا ليت الموتة التي متّها (كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي القاطعة لأمري فلم أبعث بعدها ولم ألق ما ألقى.

٢٨ ـ (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أي لم ينفعني ما جمعته في الدنيا ، فما نفي ، والمفعول محذوف أي شيئا.

٢٩ ـ (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ضلّت عني حجّتي أي بطلت حجّتي التي كنت أحتجّ بها في الدنيا ، فيقول الله تعالى لخزنة جهنم :

٣٠ ـ ٣٢ ـ (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) أي اجمعوا يديه إلى عنقه (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أدخلوه (١) ، يعني ثم لا تصلوه إلّا الجحيم ، وهي النار العظمى ، أو نصب الجحيم بفعل يفسّره صلّوه (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها) طولها (سَبْعُونَ ذِراعاً) بذراع الملك عن ابن جريج (٢) ، وقيل لا يعرف قدرها إلّا الله (فَاسْلُكُوهُ) فأدخلوه ، والمعنى في تقديم السلسلة على السّلك مثله في تقديم الجحيم على التّصلية.

٣٣ ـ ٣٧ ـ (إِنَّهُ) تعليل ، كأنه قيل ما له يعذّب هذا العذاب الشديد؟ فأجيب بأنّه (كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) على بذل طعام المسكين ، وفيه إشارة إلى أنه كان لا يؤمن بالبعث لأن الناس لا يطلبون من المساكين الجزاء فيما يطعمونهم وإنما يطعمونهم لوجه الله ورجاء الثواب في الآخرة ، فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على إطعامهم ، أي أنه مع كفره لا يحرّض غيره على إطعام المحتاجين ، وفيه دليل قويّ على عظم جرم حرمان المسكين لأنه عطفه على الكفر

__________________

(١) في (ظ) و (ز) أي أدخلوه.

(٢) ابن جريج : عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، فقيه الحرم المكي ، كان إمام أهل الحجاز في عصره ولد عام ٨٠ ه‍ وتوفي عام ١٥٠ ه‍ (الأعلام ٤ / ١٦٠).

٤٢٢

(فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (٤٧)

وجعله دليلا عليه وقرينة له ، ولأنه ذكر الحضّ دون الفعل ليعلم أنّ تارك الحضّ إذا كان بهذه المنزلة فتارك الفعل أحقّ ، وعن أبي الدرداء أنه كان يحضّ امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلنخلع نصفها بهذا. وهذه الآيات ناطقة على أنّ المؤمنين يرحمون جميعا والكافرين لا يرحمون ، لأنه قسّم الخلق صنفين (١) فجعل صنفا منهم أهل اليمين ووصفهم بالإيمان فحسب بقوله : إني ظننت أني ملاق حسابيه ، وصنفا منهم أهل الشمال ووصفهم بالكفر بقوله : إنه كان لا يؤمن بالله العظيم وجاز أنّ الذي يعاقب من المؤمنين إنما يعاقب قبل أن يؤتي كتابه بيمينه (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) قريب يدفع (٢) عنه ويحترق له قلبه (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) غسالة أهل النار ، فعلين من الغسل ، والنون زائدة ، وأريد به هنا ما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) الكافرون أصحاب الخطايا ، وخطىء الرجل إذا تعمّد الذّنب.

٣٨ ـ ٤٠ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ) من الأجسام والأرض والسماء (وَما لا تُبْصِرُونَ) من الملائكة والأرواح ، فالحاصل أنه أقسم بجميع الأشياء (إِنَّهُ) أي إنّ القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو جبريل عليه‌السلام ، أي يقوله ويتكلّم به على وجه الرسالة من عند الله.

٤١ ـ ٤٧ ـ (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) كما تدّعون (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) كما تقولون (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) وبالياء فيهما مكي وشامي ويعقوب وسهل ، وبتخفيف الذال كوفي غير أبي بكر ، والقلة في معنى العدم ، يقال هذه أرض قلّما تنبت أي لا تنبت أصلا ، والمعنى لا تؤمنون ولا تذكرون البتة (تَنْزِيلٌ) هو تنزيل ، لأنه قول رسول نزّل عليه (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) ولو ادّعى علينا شيئا لم نقله (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) لقتلناه صبرا كما يفعل الملوك بمن يتكذّب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام ، فصوّر قتل الصبر بصورته ليكون أهول ، وهو أن يؤخذ بيده

__________________

(١) في (ظ) و (ز) نصفين.

(٢) في (ز) يرفع.

٤٢٣

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٥٢)

وتضرب رقبته ، وخصّ اليمين لأنّ القتّال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف وهو أشدّ على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه ، ومعنى لأخذنا منه باليمين لأخذنا بيمينه ، وكذا (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) لقطعنا وتينه ، وهو نياط القلب إذا قطع مات صاحبه (فَما مِنْكُمْ) الخطاب للناس أو للمسلمين (مِنْ أَحَدٍ) من زائدة (عَنْهُ) عن قتل محمد ، وجمع (حاجِزِينَ) وإن كان وصف أحد لأنه في معنى الجماعة ، ومنه قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (١).

٤٨ ـ ٥٢ ـ (وَإِنَّهُ) وإنّ القرآن (لَتَذْكِرَةٌ) لعظة (لِلْمُتَّقِينَ. وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ. وَإِنَّهُ) وإنّ القرآن (لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) به المكذبين له إذا رأوا ثواب المصدّقين به (وَإِنَّهُ) وإنّ القرآن (لَحَقُّ الْيَقِينِ) لعين اليقين ومحض اليقين (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) فسبح الله بذكر اسمه العظيم ، وهو قوله : (سُبْحانَ اللهِ) (٢).

__________________

(١) البقرة ، ٢ / ٢٨٥.

(٢) المؤمنون ، ٢٣ / ٩١. القصص ، ٢٨ / ٦٨. الصافات ، ٣٧ / ١٥٩. الطور ، ٥٢ / ٤٣. الحشر ، ٥٩ / ٢٣.

٤٢٤

سورة المعارج

مكية وهي أربع وأربعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (١) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (٢) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤)

٧٠ / ١ ـ ٤ ١ ـ (سَأَلَ سائِلٌ) هو النضر بن الحارث قال : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١) أو هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا بنزول العذاب عليهم ، ولما ضمّن سأل معنى دعا عدّي تعديته كأنه قيل دعا داع (بِعَذابٍ واقِعٍ) من قولك دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ، ومنه قوله تعالى : (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) (٢). وسال بغير همز مدني وشامي وهو من السؤال أيضا إلّا أنه خفّف بالتليين ، وسائل مهموز إجماعا.

٢ ـ (لِلْكافِرينَ) صفة لعذاب أي بعذاب واقع كائن للكافرين (لَيْسَ لَهُ) لذلك العذاب (دافِعٌ) راد.

٣ ـ ٤ ـ (مِنَ اللهِ) متصل بواقع أي واقع من عنده ، أو بدافع أي ليس له دافع من جهته تعالى إذا جاء وقته (ذِي الْمَعارِجِ) أي مصاعد السماء للملائكة جمع معرج وهو موضع العروج. ثم وصف المصاعد وبعد مداها في العلوّ والارتفاع فقال

__________________

(١) الأنفال ، ٨ / ٣٢. وفي (ز) ابن الحرث وهو هو ابن الحارث وإن اختلف الخط.

(٢) الدخان ، ٤٤ / ٥٥.

٤٢٥

(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (٦) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا) (١٠)

(تَعْرُجُ) تصعد ، وبالياء عليّ (الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) أي جبريل عليه‌السلام خصه بالذكر بعد العموم لفضله وشرفه ، أو خلق هم حفظة على الملائكة كما أنّ الملائكة حفظة علينا ، أو أرواح المؤمنين عند الموت (إِلَيْهِ) إلى عرشه ومهبط أمره (فِي يَوْمٍ) من صلة تعرج (كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) من سني الدنيا لو صعد فيه غير الملك ، أو من صلة واقع أي يقع في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم ، وهو يوم القيامة ، فإما أن يكون استطالة له لشدته على الكفار أو لأنه على الحقيقة كذلك ، فقد قيل فيه خمسون موطنا كلّ موطن ألف سنة وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر.

٥ ـ (فَاصْبِرْ) متعلق بسأل سائل ، لأن استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتكذيب بالوحي ، وكان ذلك مما يضجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر بالصبر عليه (صَبْراً جَمِيلاً) بلا جزع ولا شكوى.

٦ ـ (إِنَّهُمْ) إنّ الكفار (يَرَوْنَهُ) أي العذاب ، أو يوم القيامة (بَعِيداً) مستحيلا.

٧ ـ (وَنَراهُ قَرِيباً) كائنا لا محالة ، فالمراد بالبعيد البعيد من الإمكان وبالقريب القريب منه.

٨ ـ نصب : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ) بقريبا ، أي يمكن في ذلك اليوم ، أو هو بدل عن في يوم فيمن علّقه بواقع (كَالْمُهْلِ) كدرديّ الزيت ، أو كالفضة المذابة في تلونها.

٩ ـ ١٠ ـ (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) كالصوف المصبوغ ألوانا ، لأن الجبال جدد (١) بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود فإذا بسّت (٢) وطيّرت في الجو اشبهت العهن المنفوش إذا طيّرته الريح (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) لا يسأل قريب عن قريب لاشتغاله بنفسه ، وعن البزيّ (٣) والبرجميّ بضم الياء أي ولا يسأل قريب عن قريب ، أي لا يطالب به ولا يؤخذ بذنبه.

__________________

(١) جدد : طرائق تخالف لون الجبل (القاموس ١ / ٢٨١ هامش).

(٢) بسّت : زجرت (القاموس ٢ / ٢٠٠).

(٣) البزّي : هو أحمد بن محمد بن عبد الله البزي ، أبو الحسن ، من كبار الشعراء من أهل مكة ولد عام ١٧٠ ه‍ وتوفي عام ٢٤٣ ه‍ (الأعلام ١ / ٢٠٤).

٤٢٦

(يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (١٣) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (١٤) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (١٥) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (١٦) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (١٨) إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) (١٩)

١١ ـ ١٤ ـ (يُبَصَّرُونَهُمْ) صفة ، أي حميما مبصرين معرّفين إياهم ، أو مستأنف كأنه لما قال ولا يسأل حميم حميما قيل لعلّه لا يبصره! فقيل : يبصّرونهم ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا لتساؤلهم (١) ، والواو ضمير الحميم الأول ، وهم ضمير الحميم الثاني ، أي يبصر الأحماء الأحماء فلا يحفون (٢) عليهم ، وإنما جمع الضميران وهما للحميمين لأن فعيلا يقع موقع الجمع (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) يتمنى المشرك ، وهو مستأنف أو حال من الضمير المرفوع أو المنصوب من يبصرونهم (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) وبالفتح مدني وعليّ على البناء للإضافة إلى غير متمكن (بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ) وزوجته (وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ) وعشيرته الأدنين (الَّتِي تُؤْوِيهِ) تضمّه انتهاء (٣) إليها ، وبغير همز زيد (٤) (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الناس (ثُمَّ يُنْجِيهِ) الافتداء ، عطف على يفتدي.

١٥ ـ (كَلَّا) ردع للمجرم عن الودادة وتنبيه على أنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب (إِنَّها) إنّ النار ودلّ ذكر العذاب عليها ، أو هو ضمير مبهم ترجم عنه الخبر ، أو ضمير القصة (لَظى) علم للنار.

١٦ ـ (نَزَّاعَةً) حفص والمفضّل ، على الحال المؤكدة أو على الاختصاص للتهويل. وغيرهما بالرفع خبر بعد خبر لإن ، أو على هي نزاعة (لِلشَّوى) لأطراف الإنسان كاليدين والرجلين ، أو جمع شواة وهي جلدة الرأس تنزعها نزعا فتفرّقها ، ثم تعود إلى ما كانت.

١٧ ـ (تَدْعُوا) بأسمائهم يا كافر يا منافق إليّ إليّ ، أو تهلك من قولهم : دعاك الله أي أهلكك ، أو لما كان مصيره إليها جعلت كأنها دعته (مَنْ أَدْبَرَ) عن الحقّ (وَتَوَلَّى) عن الطاعة.

١٨ ـ (وَجَمَعَ) المال (فَأَوْعى) فجعله في وعاء ولم يؤد حقّ الله منه.

١٩ ـ (إِنَّ الْإِنْسانَ) أريد به الجنس ليصحّ استثناء المصلّين منه (خُلِقَ هَلُوعاً)

__________________

(١) في (ظ) و (ز) من تساؤلهم.

(٢) في (ظ) و (ز) يخفون. والمقصود فلا يخفون عليهم أي لا يعتنون بهم أو يشفقون.

(٣) في (ظ) و (ز) انتماء.

(٤) في (ظ) و (ز) يزيد.

٤٢٧

(إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (٢٤) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٢٩) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (٣٠)

عن ابن عباس رضي الله عنهما : تفسيره ما بعده.

٢٠ ـ ٢١ ـ (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) والهلع سرعة الجزع عند مسّ المكروه وسرعة المنع عند مسّ الخير. وسأل محمد بن عبد الله بن طاهر (١) ثعلبا عن الهلع فقال : قد فسّره الله تعالى ولا يكون تفسير أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شرّ أظهر شدة الجزع وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس ، وهذا طبعه وهو مأمور بمخالفة طبعه وموافقة شرعه ، والشرّ : الضرّ والفقر. والخير : السّعة والغنى ، أو المرض والصحة.

٢٢ ـ ٢٣ ـ (إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ) أي صلواتهم الخمس (دائِمُونَ) أي يحافظون عليها في مواقيتها عن ابن مسعود رضي الله عنه.

٢٤ ـ ٢٥ ـ (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) يعني الزكاة لأنها مقدرة معلومة ، أو صدقة يوظّفها الرجل على نفسه يؤديها في أوقات معلومة (لِلسَّائِلِ) الذي يسأل (وَالْمَحْرُومِ) الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنيا فيحرم.

٢٦ ـ (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة.

٢٧ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) خائفون ، واعترض بقوله :

٢٨ ـ (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) بالهمز سوى أبي عمرو ، أي لا ينبغي لأحد وإن بالغ في الاجتهاد والطاعة أن يأمنه ، وينبغي أن يكون مترجّحا بين الخوف والرجاء.

٢٩ ـ ٣٠ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) نسائهم (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي إمائهم (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) على ترك الحفظ.

__________________

(١) محمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي ، أبو العباس ، أمير حازم من الشجعان ، وكان فاضلا أديبا ، كان مألفا لأهل العلم والأدب ولد عام ٢٠٩ ه‍ وتوفي عام ٢٥٣ ه‍ (الأعلام ٦ / ٢٢٢).

٤٢٨

(فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٣٤) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (٣٥) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ) (٣٧)

٣١ ـ (فَمَنِ ابْتَغى) طلب منكحا (وَراءَ ذلِكَ) أي غير الزوجات والمملوكات (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) المتجاوزون عن الحلال إلى الحرام. وهذه الآية تدلّ على حرمة المتعة ووطء الذكران والبهائم والاستمناء بالكفّ.

٣٢ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) لأمانتهم مكي ، وهي تتناول أمانات الشرع وأمانات العباد (وَعَهْدِهِمْ) أي عهودهم ويدخل فيها عهود الخلق والنذور والأيمان (راعُونَ) حافظون غير خائنين ولا ناقضين. وقيل الأمانات ما تدلّ عليه العقول والعهد ما أتى به الرسول.

٣٣ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ) حفص وسهل ويعقوب (١) (قائِمُونَ) يقيمونها عند الحكام بلا ميل إلى قريب وشريف وترجيح للقويّ على الضعيف إظهارا للصلابة في الدين ورغبة في إحياء حقوق المسلمين.

٣٤ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) كرر ذكر الصلاة لبيان أنها أهم ، أو لأن إحداهما للفرائض والأخرى للنوافل ، وقيل الدوام عليها الاستكثار منها ، والمحافظة عليها أن لا تضيع عن مواقيتها ، أو الدوام عليها أداؤها في أوقاتها ، والمحافظة عليها حفظ أركانها وواجباتها وسننها وآدابها.

٣٥ ـ (أُولئِكَ) أصحاب هذه الصفات (فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) هما خبران.

٣٦ ـ (فَما لِ) كتب مفصولا اتباعا لمصحف عثمان رضي الله عنه (الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ) نحوك معمول (مُهْطِعِينَ) مسرعين حال من الذين كفروا.

٣٧ ـ (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) عن يمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن شماله (عِزِينَ) حال ، أي فرقا شتى جمع عزة واصلها عزوة ، كأنّ كلّ فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى ، فهم مفترقون.

كان المشركون يحتفّون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلقا حلقا وفرقا فرقا يستمعون

__________________

(١) في (ظ) (بِشَهاداتِهِمْ) حفص بالألف وسهل ويعقوب ، وفي (ز) بشهادتهم سهل وبالألف حفص ويعقوب.

٤٢٩

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (٤٠) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (٤٤)

ويستهزئون بكلامه ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنّها قبلهم ، فنزلت :

٣٨ ـ (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ) بضم الياء وفتح الخاء سوى المفضّل (جَنَّةَ نَعِيمٍ) كالمؤمنين.

٣٩ ـ (كَلَّا) ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنة (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي من النطفة المذرة ولذلك أبهم إشعارا بأنه منصب يستحيا من ذكره ، فمن أين يتشرّفون ويدّعون التقدّم ويقولون لندخلنّ الجنة قبلهم ، أو معناه إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلّهم ومن حكمنا أن لا يدخل أحد الجنة إلا بالإيمان فلم يطمع أن يدخلها من لا إيمان له.

٤٠ ـ ٤١ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ) مطالع الشمس (وَالْمَغارِبِ) ومغاربها (إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) على أن نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم وأطوع لله (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) بعاجزين.

٤٢ ـ (فَذَرْهُمْ) فدع المكذبين (يَخُوضُوا) في باطلهم (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) فيه العذاب.

٤٣ ـ (يَوْمَ) بدل من يومهم (يَخْرُجُونَ) بفتح الياء وضم الراء سوى الأعشى (مِنَ الْأَجْداثِ) القبور (سِراعاً) جمع سريع ، حال ، أي إلى الداعي (كَأَنَّهُمْ) حال (إِلى نُصُبٍ) شامي وحفص وسهل. نصب المفضّل. نصب غيرهم ، وهو كلّ ما نصب وعبد من دون الله (يُوفِضُونَ) يسرعون.

٤٤ ـ (خاشِعَةً) حال من ضمير يخرجون ، أي ذليلة (أَبْصارُهُمْ) يعني لا يرفعونها لذلّتهم (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) يغشاهم هوان (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) في الدنيا وهم يكذّبون به.

٤٣٠

سورة نوح عليه‌السلام

مكية وهي ثمان وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤)

١ ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) قيل معناه بالسّريانية الساكن (إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ) خوّف ، أصله بأن أنذر فحذف الجار وأوصل الفعل ، ومحلّه عند الخليل جرّ وعند غيره نصب ، أو أن مفسرة بمعنى أي ، لأن في الإرسال معنى القول (قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) عذاب الآخرة أو الطوفان.

٢ ـ (قالَ يا قَوْمِ) أضافهم إلى نفسه إظهارا للشفقة (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ) مخوّف (مُبِينٌ) أبين لكم رسالة الله بلغة تعرفونها.

٣ ـ (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) وحّدوه ، وأن هذه نحو أن أنذر في الوجهين (وَاتَّقُوهُ) واحذروا عصيانه (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به وأنهاكم عنه ، وإنما أضافه إلى نفسه لأنّ الطاعة قد تكون لغير الله تعالى بخلاف العبادة.

٤ ـ (يَغْفِرْ لَكُمْ) جواب الأمر (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) للبيان كقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (١) أو للتبعيض لأن ما يكون بينه وبين الخلق يؤاخذ به بعد الإسلام

__________________

(١) الحج ، ٢٢ / ٣٠.

٤٣١

(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (٦) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا) (٨)

كالقصاص وغيره ، كذا في «شرح التأويلات» (١) (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو وقت موتكم (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي الموت (إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لو كنتم تعلمون ما يحلّ بكم من الندامة عند انقضاء أجلكم لآمنتم ، قيل : إنّ الله تعالى قضى مثلا أنّ قوم نوح إن آمنوا عمّرهم ألف سنة وإن لم يؤمنوا أهلكهم على رأس تسعمائة ، فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي تبلغوا ألف سنة ، ثم أخبر أنّ الأجل إذا جاء لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ، وقيل : إنهم كانوا يخافون على أنفسهم الإهلاك من قومهم بإيمانهم وإجابتهم لنوح عليه‌السلام ، فكأنه عليه‌السلام أمّنهم من ذلك ووعدهم أنهم بإيمانهم يبقّون إلى الأجل الذي ضرب لهم لو لم يؤمنوا ، أي أنكم إن أسلمتم بقّيتم إلى أجل مسمى آمنين من عدوكم.

٥ ـ ٦ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) دائبا بلا فتور (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) عن طاعتك ، ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده وإن لم يكن الدعاء سببا للفرار في الحقيقة ، وهو كقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (٢) والقرآن لا يكون سببا لزيادة الرجس ، وكان الرجل يذهب بابنه إلى نوح عليه‌السلام فيقول : احذر هذا فلا يغرّنّك ، فإن أبي قد وصّاني به.

٧ ـ (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إلى الإيمان بك (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) أي ليؤمنوا فتغفر لهم ، فاكتفي بذكر المسبب (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) سدّوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) وتغطّوا بثيابهم لئلا يبصرون (٣) كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله (وَأَصَرُّوا) وأقاموا على كفرهم (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) وتعظّموا عن إجابتي ، وذكر المصدر دليل على فرط استكبارهم.

٨ ـ (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) مصدر في موضع الحال ، أي مجاهرا ، أو مصدر دعوتهم كقعد القرفصاء ، لأن الجهار أحد نوعي الدعاء ، يعني أظهرت لهم الدعوة في المحافل.

__________________

(١) تأويلات القرآن للماتريدي.

(٢) التوبة ، ٩ / ١٢٥.

(٣) في (ظ) و (ز) يبصروني.

٤٣٢

 

(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ٩ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (١٢) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (١٢) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) (١٤)

٩ ـ (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي خلطت دعاءهم بالعلانية بدعاء السر ، فالحاصل أنه دعاهم ليلا ونهارا في السر ، ثم دعاهم جهارا ، دعاهم في السر والعلن ، وهكذا يفعل الآمر بالمعروف يبتدىء بالأهون ثم بالأشدّ فالأشد ، فافتتح بالمناصحة في السرّ ، فلما لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة ، فلما لم تؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان ، وثم تدلّ على تباعد الأحوال ، لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.

١٠ ـ ١٢ ـ (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) من الشرك ، لأنّ الاستغفار طلب المغفرة ، فإن كان المستغفر كافرا فهو من الكفر ، وإن كان عاصيا مؤمنا فهو من الذنوب (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) لم يزل غفارا لذنوب من ينيب إليه (يُرْسِلِ السَّماءَ) المطر (عَلَيْكُمْ مِدْراراً) كثيرة الدّرور ، ومفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) يزدكم أموالا وبنين (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) بساتين (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) جارية لمزارعكم وبساتينكم ، وكانوا يحبون الأموال والأولاد فحرّكوا بهذا على الإيمان ، وقيل لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة أو سبعين ، فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخصب ورفع عنهم ما كانوا فيه. وعن عمر رضي الله عنه أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار ، فقيل له : ما رأيناك أستسقيت؟ فقال : لقد استسقيت بمجاديح (١) السماء التي يستنزل بها المطر (٢) شبه عمر الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء وقرأ الآيات. وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال : استغفر الله ، وشكا إليه آخر الفقر وآخر قلة النسل وآخر قلة ريع أرضه فأمرهم كلّهم بالاستغفار ، فقال له الربيع بن صبيح (٣) : أتاك رجال يشكون أبوابا فأمرتهم كلّهم بالاستغفار ، فتلا الآيات.

١٣ ـ ١٤ ـ (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) لا تخافون لله عظمة. عن الأخفش قال :

__________________

(١) مجاديح السماء : أنواؤها (القاموس ١ / ٢١٧).

(٢) عبد الرزاق وابن أبي شيبة والطبراني في الدعاء وغيرهم من رواية الشعبي ورجاله ثقات إلا أنه منقطع.

(٣) الربيع بن صبيح السعدي ، أبو بكر ، أول من صنف بالبصرة ، كان عابدا ورعا ، خرج غازيا إلى السند فمات في البحر ودفن في إحدى الجزر عام ١٦٠ ه‍ (الأعلام ٣ / ١٥).

٤٣٣

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (١٦) وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) (٢٠)

والرجاء هنا الخوف لأنّ مع الرجاء طرفا من الخوف ومن اليأس ، والوقار : العظمة ، أو لا تأملون له توقيرا أي تعظيما. والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) في موضع الحال ، أي ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه ، وهي حال موجبة للإيمان به ، لأنه خلقكم أطوارا أي تارات وكرّات ، خلقكم أولا نطفا ، ثم خلقكم علقا ، ثم خلقكم مضغا ، ثم خلقكم عظاما ولحما.

نبههم أولا على النظر في أنفسكم لأنها أقرب ، ثم على النظر في العالم وما سوّي فيه من العجائب الدالة على الصانع بقوله :

١٥ ـ ٢٠ ـ (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) بعضا (١) على بعض (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) أي في السماوات ، وهو في السماء الدنيا لأن بين السماوات ملابسة من حيث إنها طباق وجاز أن يقال فيهنّ كذا وإن لم يكن في جميعهن ، كما يقال في المدينة كذا وهو في بعض نواحيها. وعن ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهم أن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماوات وظهورهما مما يلي الأرض (٢) فيكون نور القمر محيطا بجميع السماوات لأنها لطيفة لا يحجب نوره (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) مصباحا يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره ، وضوء الشمس أقوى من نور القمر ، وأجمعوا على أنّ الشمس في السماء الرابعة (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أنشأكم ، استعير الإنبات للإنشاء (نَباتاً) فنبتم نباتا (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) بعد الموت (وَيُخْرِجُكُمْ) يوم القيامة (إِخْراجاً) أكده بالمصدر أي أيّ إخراج (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) مبسوطة (لِتَسْلُكُوا مِنْها) لتتقلبوا عليها كما يتقلب الرجل على بساطه (سُبُلاً) طرقا (فِجاجاً) واسعة أو مختلفة.

__________________

(١) في (ز) بعضا.

(٢) ابن مردويه وعبد الرزاق والطبري.

٤٣٤

(قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (٢١) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (٢٢) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا)(٢٣)

٢١ ـ ٢٢ ـ (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) فيما أمرتهم به من الإيمان والاستغفار (وَاتَّبَعُوا) أي السّفلة والفقراء (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ) أي الرؤساء وأصحاب الأموال والأولاد. وولده مكي وعراقي غير عاصم وهو جمع ولد كأسد وأسد (إِلَّا خَساراً) في الآخرة (وَمَكَرُوا) معطوف على لم يزده ، وجمع الضمير وهو راجع إلى من لأنه في معنى الجمع ، والماكرون هم الرؤساء ، ومكرهم احتيالهم في الدنيا وكيدهم لنوح وتحريش الناس على أذاه وصدّهم عن الميل إليه (مَكْراً كُبَّاراً) عظيما وهو أكبر من الكبار وقرىء به ، وهو أكبر من الكبير.

٢٣ ـ (وَقالُوا) أي الرؤساء لسفلتهم (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) على العموم أي عبادتها (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا) بفتح الواو وضمّها وهو قراءة نافع لغتان ، صنم على صورة رجل (وَلا سُواعاً) هو على صورة امرأة (وَلا يَغُوثَ) هو على صورة أسد (وَيَعُوقَ) هو على صورة فرس وهما لا ينصرفان للتعريف ووزن الفعل إن كانا عربيين ، وللتعريف والعجمة إن كانا أعجميين (وَنَسْراً) هو على صورة نسر ، أي هذه الأصنام الخمسة على الخصوص ، وكأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فخصّوها بعد العموم ، وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب فكان ود لكلب (١) ، وسواع لهمدان (٢) ، ويغوث لمذحج (٣) ، ويعوق لمراد (٤) ، ونسر لحمير (٥) ، وقيل هي أسماء رجال صالحين كان الناس يقتدون بهم بين آدم ونوح فلما ماتوا صوروهم ليكون ذلك أدعى لهم إلى العبادة ، فلما طال الزمان قال لهم إبليس إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم.

__________________

(١) كلب : قبيلة عربية تنسب إلى كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة (الأنساب ٥ / ٨٧ هامش).

(٢) همدان : قبيلة من اليمن نزلت الكوفة وهمدان اسمه أوسلة بن خيار بن كهلان بن سبأ ، وفي همدان بطون كثيرة منها سبيع ويام ومرهبه وأرحب (الأنساب ٥ / ٦٤٧).

(٣) مذحج : قبيلة من اليمن مدحها النبي عليه‌السلام (الأنساب ٥ / ٢٤٠).

(٤) مراد : قبيلة من اليمن تنسب إلى مراد وهو يحابر بن مذحج. وينسب إلى مراد خلق كثير من الجاهلية والصحابة ومن بعدهم. (الأنساب ٥ / ٢٤٧ هامش).

(٥) حمير : قبيلة من اليمن تنسب إلى حمير بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك ومنازلهم في اليمن غربي صنعاء (معجم البلدان ٢ / ٣٥٢).

٤٣٥

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (٢٤) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا (٢٥) وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) (٢٨)

٢٤ ـ ٢٥ ـ (وَقَدْ أَضَلُّوا) أي الأصنام كقوله : (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ) (١) (كَثِيراً) من الناس أو الرؤساء (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) عطف على ربّ إنهم عصوني على حكاية كلام نوح عليه‌السلام بعد قال وبعد الواو النائبة عنه ، ومعناه قال ربّ إنهم عصوني وقال لا تزد الظالمين أي قال هذين القولين ، وهما في محل النصب لأنهما مفعولا قال (إِلَّا ضَلالاً) هلاكا كقوله : ولا تزد الظالمين إلا تبارا (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) خطاياهم أبو عمرو ، أي ذنوبهم (أُغْرِقُوا) بالطوفان (فَأُدْخِلُوا ناراً) عظيمة ، وتقديم مما خطيئاتهم لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان وإدخالهم في النيران إلا من أجل خطيئاتهم ، وأكد هذا المعنى بزيادة ما ، وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا ، فإنّ كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم وإن كانت كبراهنّ ، والفاء في فأدخلوا للإيذان بأنهم عذّبوا بالإحراق عقيب الإغراق فيكون دليلا على إثبات عذاب القبر (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله.

٢٦ ـ ٢٧ ـ (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي أحدا يدور في الأرض ، وهو فيعال من الدّور ، وهو من الأسماء المستعملة في النفي العام (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ) ولا تهلكهم (يُضِلُّوا عِبادَكَ) يدعوهم إلى الضلال (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) إلا من إذا بلغ فجر وكفر ، وإنما قال ذلك لأنّ الله تعالى أخبره بقوله : (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (٢).

٢٨ ـ (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) وكانا مسلمين واسم أبيه لمك واسم أمه شمخاء ، وقيل هما آدم وحواء ، وقرىء ولولديّ يريد ساما وحاما (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) منزلي أو مسجدي أو سفينتي (مُؤْمِناً) لأنه علم أنّ من دخل بيته مؤمنا لا يعود إلى الكفر (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إلى يوم القيامة ، خصّ أولا من يتصل به لأنهم أولى وأحقّ بدعائه ، ثم عمّ المؤمنين والمؤمنات (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) أي الكافرين (إِلَّا تَباراً) هلاكا ، فأهلكوا. قال ابن عباس رضي الله عنهما : دعا نوح عليه‌السلام بدعوتين

__________________

(١) إبراهيم ، ١٤ / ٣٦.

(٢) هود ، ١١ / ٣٦.

٤٣٦

إحداهما للمؤمنين بالمغفرة وأخرى على الكافرين بالتبار ، وقد أجيبت دعوته في حقّ الكفار بالتبار ، فاستحال أن لا تستجاب دعوته في حقّ المؤمنين. واختلف في صبيانهم حين أغرقوا ، فقيل : أعقم الله أرحام نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة فلم يكن معهم صبيّ حين أغرقوا ، وقيل علم الله براءتهم فأهلكوا بغير عذاب (١).

__________________

(١) زاد في (ز) والله أعلم.

٤٣٧

سورة الجن

مكية وهي ثمان وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) (٢)

١ ـ (قُلْ) يا محمد لأمتك (أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ) أنّ الأمر والشأن ، أجمعوا على فتح أنه لأنه فاعل أوحي ، وأن لو استقاموا ، وأن المساجد للعطف على أنّه استمع ، فأن مخففة من الثقيلة ، وأن قد أبلغوا لتعدي يعلم إليها ، وعلى كسر ما بعد فاء الجزاء وبعد القول نحو : فإنّ له نار جهنم ، وقالوا إنا سمعنا لأنه مبتدأ محكيّ بعد القول ، واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من : أنه تعالى جدّ ربنا إلى وأنا منا المسلمون ففتحها شامي وكوفي غير أبي بكر عطفا على أنه استمع ، أو على محلّ الجار والمجرور في آمنا به تقديره صدّقناه وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربّنا ، وأنه كان يقول سفيهنا إلى آخرها ، وكسرها غيرهم عطفا على إنا سمعنا وهم يقفون على آخر الآيات (اسْتَمَعَ نَفَرٌ) جماعة من الثلاثة إلى العشرة (مِنَ الْجِنِ) جنّ نصيبين (فَقالُوا) لقومهم حين رجعوا إليهم من استماع قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلاة الفجر (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) عجيبا بديعا مباينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه ، والعجب ما يكون خارجا عن العادة ، وهو مصدر وضع موضع العجيب.

٢ ـ (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) يدعو إلى الصواب ، أو إلى التوحيد والإيمان (فَآمَنَّا بِهِ) بالقرآن ، ولمّا كان الإيمان به إيمانا بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) من خلقه ، وجاز أن يكون الضمير في به لله تعالى ، لأن قوله بربّنا يفسّره.

٤٣٨

(وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (٣) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (٥) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) (٨)

٣ ـ (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) عظمته ، يقال جدّ فلان في عيني أي عظم ، ومنه قول عمر أو أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا ، أي عظم في عيوننا (١) (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً) زوجة (وَلا وَلَداً) كما يقول كفار الجنّ والإنس.

٤ ـ (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) جاهلنا أو إبليس إذ ليس فوقه سفيه (عَلَى اللهِ شَطَطاً) كفرا ، لبعده عن الصواب ، من شطت الدار أي بعدت ، أو قولا يجوز فيه عن الحقّ ، وهو نسبة الصاحبة والولد إليه ، والشطط مجاوزة الحدّ في الظلم وغيره.

٥ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) قولا كذبا ، أي (٢) مكذوبا فيه ، أو نصب على المصدر إذ الكذب نوع من القول ، أي كان في ظننا أنّ أحدا لن يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد إليه ، فكنا نصدّقهم فيما أضافوا إليه حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم.

كان الرجل من العرب إذا نزل بمخوف (٣) من الأرض قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، يريد كبير الجنّ ، فقال :

٦ ـ (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ) أي زاد الإنس الجنّ باستعاذتهم بهم (رَهَقاً) طغيانا وسفها وكبرا بأن قالوا : سدنا الجن والإنس ، أو فزاد الجنّ الإنس رهقا إثما لاستعاذتهم بهم ، وأصل الرّهق غشيان المحذور (٤).

٧ ـ (وَأَنَّهُمْ) وأنّ الجنّ (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) يا أهل مكة (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) بعد الموت ، أي أنّ الجنّ كانوا ينكرون البعث كإنكاركم ، ثم بسماع القرآن اهتدوا وأقروا بالبعث ، فهلّا أقررتم كما أقرّوا؟

٨ ـ (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام (٥) أهلها ، واللمس

__________________

(١) سبق تخريجه في أواخر البقرة.

(٢) في (ظ) و (ز) أو.

(٣) مخوف من الأرض : طريق يخاف فيه ... لأن الطريق لا تخيف وإنما يخيف قاطعها (القاموس ٣ / ١٣٩).

(٤) في (ظ) و (ز) المحظور.

(٥) ليس في (ز) كلام.

٤٣٩

(وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا (٩) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا) (١٢)

المسّ فاستعير للطلب لأنّ الماسّ طالب متعرّف (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً) جمعا أقوياء من الملائكة يحرسون ، جمع حارس ، ونصب على التمييز ، وقيل الحرس اسم مفرد في معنى الحرّاس كالخدم في معنى الخدّام ولذا وصف بشديد ، ولو نظر إلى معناه لقيل شدادا (وَشُهُباً) جمع شهاب أي كواكب مضيئة.

٩ ـ (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها) من السماء قبل هذا (مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) لاستماع أخبار السماء ، يعني كنا نجد بعض السماء خالية من الحرس والشّهب قبل المبعث (فَمَنْ يَسْتَمِعِ) يريد الاستماع (الْآنَ) بعد المبعث (يَجِدْ لَهُ) لنفسه (شِهاباً رَصَداً) صفة لشهابا بمعنى الراصد أي يجد شيئا (١) شهابا راصدا له ولأجله ، أو هو اسم جمع للراصد على معنى ذوي شهاب راصدين بالرّجم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع ، والجمهور على أنّ ذلك لم يكن قبل مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل كان الرجم في الجاهلية ولكن الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأوقات ، فمنعوا من الاستراق أصلا بعد مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٠ ـ (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ) عذاب (أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) بعدم استراق السمع (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) خيرا ورحمة.

١١ ـ (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) الأبرار المتقون (وَمِنَّا) قوم (دُونَ ذلِكَ) فحذف الموصوف وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه ، أو أرادوا الطالحين (٢) (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) بيان للقسمة المذكورة أي كنا ذوي مذاهب متفرقة أو أديان مختلفة ، والقدد جمع قدة وهي القطعة ، من قددت السّير (٣) أي قطعته.

١٢ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا) أيقنا (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ) لن نفوته (فِي الْأَرْضِ) حال أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) مصدر في موضع الحال ،

__________________

(١) ليس في (ظ) و (ز) شيئا.

(٢) في (ظ) و (ز) غير الصالحين.

(٣) السير : شريط الحذاء.

٤٤٠