تفسير النسفي - ج ٤

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (٦)

بين الأمرين بعد الأسر بين أن يمنّوا عليهم فيطلقوهم وبين أن يفادوهم ، وحكم أسارى المشركين عندنا القتل أو الاسترقاق ، والمنّ والفداء المذكوران في الآية منسوخ بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (١) لأن سورة براءة من آخر ما نزل ، وعن مجاهد : ليس اليوم منّ ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق ، أو المراد بالمنّ أن يمنّ عليهم بترك القتل ويسترقّوا ، أو يمنّ عليهم فيخلّوا لقبولهم الجزية ، وبالفداء أن يفادى بأساراهم أسارى المسلمين فقد رواه الطحاويّ (٢) مذهبا عن أبي حنيفة رحمه‌الله ، وهو قولهما ، والمشهور أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره لئلا يعودوا حربا علينا ، وعند الشافعي رحمه‌الله تعالى للإمام أن يختار أحد الأمور الأربعة القتل والاسترقاق والفداء بأسارى المسلمين والمنّ (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أثقالها وآلاتها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع (٣) ، وقيل أوزارها آثامها ، يعني حتى يترك أهل الحرب وهم المشركون شركهم بأن يسلموا ، وحتى لا يخلو من أن يتعلّق بالضرب والشدّ أو بالمنّ والفداء ، فالمعنى على كلا المتعلّقين عند الشافعي رحمه‌الله أنهم لا يزالون على ذلك أبدا إلى أن لا يكون حرب مع المشركين ، وذلك إذا لم يبق لهم شوكة ، وقيل إذا نزل عيسى عليه‌السلام ، وعند أبي حنيفة رحمه‌الله إذا علّق بالضرب والشدّ فالمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار وذلك حين لا تبقى شوكة للمشركين ، وإذا علق بالمنّ والفداء فالمعنى أنه يمنّ عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها إلا أن يتأوّل المنّ والفداء بما ذكرنا من التأويل (ذلِكَ) أي الأمر ذلك ، فهو مبتدأ وخبر ، أو افعلوا بهم ذلك ، فهو في محلّ النصب (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) لانتقم منهم بغير قتال ببعض أسباب الهلاك كالخسف أو الرّجفة أو غير ذلك (وَلكِنْ) أمركم بالقتال (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي المؤمنين بالكافرين تمحيصا للمؤمنين وتمحيقا للكافرين (وَالَّذِينَ قُتِلُوا) بصري وحفص ، قاتلوا غيرهم (فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ).

٥ ـ (سَيَهْدِيهِمْ) إلى طريق الجنة ، أو إلى الصواب في جواب منكر ونكير (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) يرضي خصماءهم ويقبل أعمالهم.

٦ ـ (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) عن مجاهد : عرّفهم مساكنهم فيها حتى لا

__________________

(١) التوبة ، ٩ / ٥.

(٢) الطحاوي : سبق ترجمته في ٣٣ / ٥٦.

(٣) الكراع : اسم يجمع الخيل.

٢٢١

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (٨) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (١٠) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) (١٢)

يحتاجون أن يسألوا ، أو طيّبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة.

٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أي دين الله ورسوله (يَنْصُرْكُمْ) على عدوّكم ويفتح لكم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) في مواطن الحرب أو على محجّة الإسلام.

٨ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) في موضع رفع بالابتداء والخبر (فَتَعْساً لَهُمْ) وعطف قوله (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) على الفعل الذي نصب تعسا ، لأنّ المعنى فقال تعسا لهم ، والتعس العثور ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد في الدنيا القتل وفي الآخرة التردي في النار.

٩ ـ (ذلِكَ) أي التعس والضلال (بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) أي القرآن (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ).

١٠ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) يعني كفار أمتك (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أهلكهم هلاك استئصال (وَلِلْكافِرِينَ) ولمشركي (١) قريش (أَمْثالُها) أمثال تلك الهلكة ، لأنّ التدمير يدلّ عليها.

١١ ـ (ذلِكَ) أي نصر المؤمنين وسوء عاقبة الكافرين (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) وليّهم وناصرهم (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) أي لا ناصر لهم فالله (٢) مولى العبد (٣) من جهة الاختراع وملك التصرف فيه والنصرة (٤) فهو مولى المؤمنين خاصة من جهة النصرة.

١٢ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) ينتفعون بمتاع الحياة الدنيا أياما قلائل (وَيَأْكُلُونَ) غافلين غير

__________________

(١) في (ظ) و (ز) مشركي.

(٢) في (ز) فإن الله.

(٣) في (ظ) و (ز) العباد جميعا.

(٤) في (ظ) و (ز) فيهم ومولى.

٢٢٢

(وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ) (١٥)

مفكّرين (١) في العاقبة (كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) في معالفها ومسارحها غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) منزل ومقام.

١٣ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي وكم من قرية فهي (٢) للتكثير ، وأراد بالقرية أهلها ولذلك قال أهلكناهم (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) أي وكم من قوم هم أشدّ (٣) قوة من قومك الذين أخرجوك أي كانوا سبب خروجك (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) أي فلم يكن لهم من ينصرهم ويدفع العذاب عنهم.

١٤ ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي على حجة من عنده وبرهان ، وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) هم أهل مكة الذين زيّن لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ورسوله ، وقال سوء عمله (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) للحمل على لفظ من ومعناه.

١٥ ـ (مَثَلُ الْجَنَّةِ) صفة الجنة العجيبة الشأن (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) عن الشرك (فِيها أَنْهارٌ) داخل في حكم الصلة كالتكرير لها ، ألا ترى إلى صحة قولك التي فيها أنهار ، أو حال أي مستقرة فيها أنهار (مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) غير متغيّر اللون والريح والطعم ، يقال أسن الماء إذا تغيّر طعمه وريحه ، أسن مكي (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة وغيرها (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ) تأنيث لذّ وهو اللذيذ (لِلشَّارِبِينَ) أي ما هو إلا التلذذ الخالص ليس معه ذهاب عقل ولا خمار ولا صداع ولا آفة من آفات الخمر (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) لم يخرج من بطون النحل فيخالطه الشمع وغيره (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) مثل مبتدأ خبره (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) حارا في النهاية (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) والتقدير

__________________

(١) في (ظ) و (ز) متفكرين.

(٢) في (ز) سقطت فهي.

(٣) في (ظ) قوم أشد. وفي (ز) قرية أشد.

٢٢٣

(وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (١٩)

أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار؟ وهو كلام في صورة الإثبات ومعناه النفي لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار ودخوله في حيزه ، وهو قوله : أفمن كان على بينة من ربّه كمنّ زيّن له سوء عمله. وفائدة حذف حرف الإنكار زيادة تصوير لمكابرة من يسوّي بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار وبين النار التي يسقى أهلها الحميم.

١٦ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً) هم المنافقون ، كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يلقون له بالا تهاونا منهم ، فإذا خرجوا قالوا لأولي العلم من الصحابة : ماذا قال الساعة؟ على جهة الاستهزاء (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ).

١٧ ـ (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) بالإيمان واستماع القرآن (زادَهُمْ) الله (هُدىً) علما وبصيرة أو شرح صدر (١) (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أعانهم عليها ، أو آتاهم جزاء تقواهم ، أو بيّن لهم ما يتقون.

١٨ ـ (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أي ينتظرون (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) أي إتيانها ، فهو بدل اشتمال من الساعة (بَغْتَةً) فجأة (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) علاماتها ، وهو مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانشقاق القمر والدخان ، وقيل قطع الأرحام وقلة الكرام وكثرة اللئام (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) قال الأخفش : التقدير فأنى لهم ذكراهم إذا جاءتهم.

١٩ ـ (فَاعْلَمْ أَنَّهُ) أنّ الشأن (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) والمعنى فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله وعلى التواضع وهضم النفس باستغفار ذنبك وذنوب من على دينك ، وفي «شرح التأويلات» جاز أن يكون له ذنب يأمره (٢) بالاستغفار له ، ولكنّا لا نعلمه غير أنّ ذنب الأنبياء ترك الأفضل

__________________

(١) في (ز) أي بصيرة وعلما أو شرح صدورهم.

(٢) في (ز) فأمره.

٢٢٤

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (٢٠) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (٢٢)

دون مباشرة القبيح ، وذنوبنا مباشرة القبائح من الصغائر والكبائر ، وقيل الفاءات في هذه الآيات لعطف جملة على جملة بينهما اتصال (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) في معايشكم ومتاجركم (وَمَثْواكُمْ) ويعلم حيث تستقرون من منازلكم ، أو متقلّبكم في حياتكم ومثواكم في القبور ، أو متقلّبكم في أعمالكم ومثواكم من (١) الجنة والنار ، ومثله حقيق بأن يتّقى ويخشى وأن يستغفر ، وسئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال : ألم تسمع قوله فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك ، فأمر بالعمل بعد العلم.

٢٠ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) فيها ذكر الجهاد (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) في معنى الجهاد (مُحْكَمَةٌ) مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجها إلا وجوب القتال ، وعن قتادة : كلّ سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة لأن النسخ لا يرد عليها من قبل أنّ القتال نسخ ما كان من الصفح والمهادنة وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي أمر فيها بالجهاد (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) نفاق ، أي رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي تشخص أبصارهم جبنا وجزعا كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت (فَأَوْلى لَهُمْ) وعيد بمعنى فويل لهم ، وهو أفعل من الولي وهو القرب ، ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه.

٢١ ـ (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) كلام مستأنف ، أي طاعة وقول معروف خير لهم (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) فإذا جدّ الأمر ولزمهم فرض القتال (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) في الإيمان والطاعة (لَكانَ) الصدق (خَيْراً لَهُمْ) من كراهة الجهاد.

ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب لضرب (٢) من التوبيخ والإرهاب فقال :

٢٢ ـ (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) أي فلعلكم إن أعرضتم عن دين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسنته أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في

__________________

(١) في (ز) في.

(٢) في (ظ) و (ز) بضرب.

٢٢٥

(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (٢٣) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (٢٥) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)(٢٧)

الجاهلية من الإفساد في الأرض بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضا ووأد البنات. وخبر عسى أن تفسدوا ، والشرط اعتراض بين الاسم والخبر ، والتقدير فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم إن توليتم.

٢٣ ـ (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم عن رحمته (فَأَصَمَّهُمْ) عن استماع الموعظة (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) عن إبصار (١) طريق الهدى.

٢٤ ـ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) فيعرفوا ما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة حتى لا يجسروا على المعاصي ، وأم في (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) بمعنى بل ، وهمزة التقرير للتسجيل عليهم بأنّ قلوبهم مقفلة لا يتوصل إليها ذكر ، ونكّرت القلوب لأن المراد على قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك ، والمراد على (٢) بعض القلوب وهي قلوب المنافقين ، وأضيفت الأقفال إلى القلوب لأن المراد الأقفال المختصة (٣) ، وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح نحو الرّين (٤) والختم والطّبع.

٢٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) أي المنافقون رجعوا إلى الكفر سرا بعد وضوح الحقّ لهم (الشَّيْطانُ سَوَّلَ) زيّن (لَهُمُ) جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرا لإن ، نحو إنّ زيدا عمرو مرّ به (وَأَمْلى لَهُمْ) ومدّ لهم في الآمال والأماني ، وأملي أبو عمرو ، أي امهلوا ومدّ في عمرهم.

٢٦ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) أي المنافقون قالوا لليهود (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) أي عداوة محمد والقعود عن نصرته (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) على المصدر من أسرّ حمزة وعلي وحفص. أسرارهم غيرهم جمع سرّ.

٢٧ ـ (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي فكيف يعملون وما حيلتهم حينئذ

__________________

(١) في (ظ) و (ز) إبصارهم.

(٢) ليس في (ظ) و (ز) على.

(٣) زاد في (ظ) و (ز) بها.

(٤) الرّين : الطبع والدنس ، وكل ما غلبك فقد ران بك.

٢٢٦

 

(ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (٣٢)

(يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره.

٢٨ ـ (ذلِكَ) إشارة إلى التّوفّي الموصوف (بِأَنَّهُمُ) بسبب أنهم (اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من معاونة الكافرين (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) من نصرة المؤمنين (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ).

٢٩ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أحقادهم ، والمعنى أظنّ المنافقون أنّ الله تعالى لا يبرز بغضهم وعداوتهم للمؤمنين.

٣٠ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) لعرّفناكهم ودللناك عليهم (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) بعلامتهم ، وهو أن يسمهم الله بعلامة يعلمون بها ، وعن أنس رضي الله عنه : ما خفي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم (١) (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) في نحوه وأسلوبه الحسن من فحوى كلامهم ، لأنهم كانوا لا يقدرون على كتمان ما في أنفسهم ، واللام في فلعرفتهم داخلة في جواب لو كالتي في لأريناكهم كررت في المعطوف ، وأما اللام في ولتعرفنّهم فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فيميز خيرها من شرّها.

٣١ ـ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بالقتال إعلاما لا استعلاما ، أو نعاملكم معاملة المختبر ليكون أبلغ في إظهار العدل (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) على الجهاد ، أي نعلم كائنا ما علمنا (٢) أنه سيكون (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أسراركم وليبلونّكم حتى يعلم. ويبلو أبو بكر ، وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها بكى وقال : اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا.

٣٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) وعادوه يعني

__________________

(١) ذكره الشعبي بغير سند ولم أجده ، قاله ابن حجر.

(٢) في (ظ) و (ز) علمناه.

٢٢٧

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (٣٦) إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) (٣٧)

المطعمين يوم بدر وقد مرّ (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) من بعد ما ظهر لهم أنه الحقّ وعرفوا الرسول (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) التي عملوها في مشاقة الرسول ، أي سيبطلها فلا يصلون منها إلى أغراضهم.

٣٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بالنفاق أو بالرياء.

٣٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) قيل هم أصحاب القائف (١) ، والظاهر العموم.

٣٥ ـ (فَلا تَهِنُوا) فلا تضعفوا ولا تذلّوا للعدو (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) وبالكسر حمزة وأبو بكر ، وهما المسالمة ، أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي الأغلبون ، وتدعوا مجزوم لدخوله في حكم النهي (وَاللهُ مَعَكُمْ) بالنصرة ، أي ناصركم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) ولن ينقصكم أجر أعمالكم.

٣٦ ـ (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) تنقطع في أسرع مدة (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بالله ورسوله (وَتَتَّقُوا) الشرك (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) ثواب إيمانكم وتقواكم (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي لا يسألكم جميعها بل ربع العشر ، والفاعل الله أو الرسول ، وقال سفيان ابن عيينة : غيضا من فيض.

٣٧ ـ (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ) أي يجهدكم ويطلبه كلّه ، والإحفاء المبالغة وبلوغ الغاية في كلّ شيء ، يقال أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح ، وأحفى شاربه إذا استأصله (تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ) أي الله ، أو البخل (أَضْغانَكُمْ) عند الامتناع ، أو عند سؤال الجميع ، لأنه عند مسألة المال تظهر العداوة والحقد.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) القليب ، والقائف : متّبع الأثر العالم بالأنساب.

٢٢٨

(هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)(٣٨)

٣٨ ـ (ها أَنْتُمْ) ها للتنبيه (هؤُلاءِ) موصول بمعنى الذين صلته (تُدْعَوْنَ) أي أنتم الذين تدعون (لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) هي النفقة في الغزو ، أو الزكاة ، كأنه قيل الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) بالرفع لأنّ من هذه ليست للشرط ، أي فمنكم ناس يبخلون به (وَمَنْ يَبْخَلْ) بالصدقة وأداء الفريضة (فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي يبخل عن داعي نفسه لا عن داعي ربّه ، وقيل يبخل على نفسه يقال بخلت عليه وعنه (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) أي أنه لا يأمر بذلك لحاجته إليه ، لأنه غني عن الحاجات ، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) وإن تعرضوا أيها العرب عن طاعته وطاعة رسوله والإنفاق في سبيله ، وهو معطوف على وإن تؤمنوا وتتقوا (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) يخلق قوما خيرا منكم وأطوع وهم فارس ، وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القوم وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال : (هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناله رجال من فارس) (١) (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي ثم لا يكونوا في الطاعة أمثالكم بل أطوع منكم.

__________________

(١) الترمذي وابن حبان والحاكم والطبري وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي هريرة.

٢٢٩

سورة الفتح

مدنية وهي تسع وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) (١)

١ ـ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) الفتح الظفر بالبلد عنوة أو صلحا بحرب أو بغير حرب ، لأنه منغلق (١) ما لم يظفر به ، فإذا ظفر به فقد فتح ، ثم قيل هو فتح مكة ، وقد نزلت مرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مكة عام الحديبية عدة له بالفتح ، وجيء به على لفظ الماضي لأنها في تحققها بمنزلة الكائنة ، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علوّ شأن المخبر ما لا يخفى (٢) ، وقيل هو فتح الحديبية ولم يكن فيه قتال شديد ولكن ترام بين القوم بسهام وحجارة فرموا (٣) المشركين حتى أدخلوهم ديارهم وسألوا الصلح فكان فتحا مبينا ، وقال الزّجّاج : كان في فتح الحديبية آية (٤) عظيمة ، وذلك أنه نزح ماؤها ولم يبق فيها قطرة فتمضمض رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم مجّه في البئر فدرت بالماء حتى شرب جميع الناس (٥) ، وقيل هو فتح خيبر ، وقيل معناه قضينا لك قضاء بيّنا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت ، من الفتاحة وهي الحكومة.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) مغلق.

(٢) في (ظ) المخبر به ، وفي (ز) المخبر عنه وهو الفتح ما لا يخفى.

(٣) في (ز) فرمى المسلمون المشركين.

(٤) في (ظ) الحديبية المسلمين آية عظيمة ، وفي (ز) آية للمسلمين عظيمة.

(٥) متفق عليه من حديث البراء.

٢٣٠

 

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (٢) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا) (٦)

٢ ـ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) قيل الفتح ليس بسبب للمغفرة ، والتقدير إنا فتحنا لك فتحا مبينا فاستغفر ليغفر لك الله ، ومثله : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) إلى قوله : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) (١) ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سببا للغفران ، وقيل الفتح لم يكن ليغفر له بل لإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز ، ولكنه لما عدّ (٢) عليه هذه النعم وصلها بما هو أعظم النعم ، كأنه قيل يسّرنا لك فتح مكة ، أو كذا لنجمع لك بين عزّ الدارين وأغراض العاجل والآجل (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) يريد جميع ما فرط منك ، أو ما تقدّم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعلاء دينك وفتح البلاد على يدك (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) ويثبّتك على الدين المرضيّ.

٣ ـ (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) قويا منيعا لا ذلّ بعده أبدا.

٤ ـ ٦ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) السكينة للسكون كالبهيتة للبهتان ، أي أنزل الله في قلوبهم السكون والطمأنينة بسبب الصلح ليزدادوا يقينا إلى يقينهم ، وقيل السكينة الصبر على أمر (٣) الله والثقة بوعد الله والتعظيم لأمر الله (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً. لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً. وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أي ولله جنود السموات والأرض يسلّط بعضها على بعض كما يقتضيه علمه وحكمته ، ومن قضيته أن سكّن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ووعدهم أن يفتح لهم ، وإنما قضى ذلك ليعرف

__________________

(١) النصر ، ١١٠ / ١ ـ ٣.

(٢) في (ز) عدّد.

(٣) في (ظ) و (ز) ما أمر.

٢٣١

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (٧) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (١٠)

المؤمنون نعمة الله فيه ويشكروها فيثيبهم ويعذب الكافرين والمنافقين لما غاظهم من ذلك وكرهوه (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) وقع السّوء عبارة عن رداءة الشيء وفساده ، يقال فعل سوء أي مسخوط فاسد ، والمراد ظنّهم أنّ الله تعالى لا ينصر الرسول والمؤمنين ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين فاتحيها عنوة وقهرا (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) (١) مكي وأبو عمرو ، أي ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم ، والسّوء الهلاك والدمار ، وغيرهما دائرة السوء بالفتح أي الدائرة التي يذمونها ويسخطونها ، والسّوء والسّوء كالكره والكره والضّعف والضّعف إلا أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه من كلّ شيء ، وأما السّوء فجار مجرى الشر الذي هو نقيض الخير (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) جهنم.

٧ ـ (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيدفع كيد من عادى نبيه عليه‌السلام والمؤمنين بما شاء منها (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) غالبا فلا يردّ بأسه (حَكِيماً) فيما دبّر.

٨ ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) تشهد على أمتك يوم القيامة ، وهذه حال مقدرة (وَمُبَشِّراً) للمؤمنين بالجنة (وَنَذِيراً) للكافرين بالنار (٢).

٩ ـ (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته (وَتُعَزِّرُوهُ) وتقووه بالنصر (وَتُوَقِّرُوهُ) وتعظّموه (وَتُسَبِّحُوهُ) من التسبيح أو من السّبحة ، والضمائر لله عزوجل ، والمراد بتعزير الله تعزير دينه ورسوله ، ومن فرق الضمائر فجعل الأولين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أبعد ، ليؤمنوا مكي وأبو عمرو والضمير للناس ، وكذا الثلاثة الأخيرة بالياء عندهما (بُكْرَةً) صلاة الفجر (وَأَصِيلاً) الصلوات الأربع.

١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) أي بيعة الرضوان ، ولما قال (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أكّده تأكيدا على طريقة التخييل فقال (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) يريد أنّ يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) في مصحف النسفي : السوء بضم السين وهي قراءة لذلك بدأ بذكر أصحابها.

(٢) في (ظ) و (ز) من النار.

٢٣٢

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (١١)

التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله والله منزّه عن الجوارح وعن صفات الأجسام ، وإنما المعنى تقرير أنّ عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما كقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١) وإنما يبايعون الله خبر إن (فَمَنْ نَكَثَ) نقض العهد ولم يف بالبيعة (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) فلا يعود ضرر نكثه إلّا عليه ، قال جابر بن عبد الله : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفرّ فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقا اختبأ تحت بطن بعيره ولم يسر مع القوم (٢) (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ) يقال وفّيت بالعهد وأوفيت به ، ومنه قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٣) (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) (٤) (عَلَيْهُ اللهَ) حفص (فَسَيُؤْتِيهِ) وبالنون حجازي وشامي (أَجْراً عَظِيماً) الجنة.

١١ ـ (سَيَقُولُ لَكَ) إذا رجعت من الحديبية (الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) هم الذين خلّفوا عن الحديبية ، وهم أعراب غفار (٥) ومزينة (٦) وجهينة وأسلم وأشجع (٧) والدئل (٨) ، وذلك أنه عليه‌السلام حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت ، وأحرم هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد

__________________

(١) النساء ، ٤ / ٨٠.

(٢) رواه مسلم والطبري وليس فيه : فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس ، وفيهما أنه اختبأ تحت بطن بعيره ، ولاصقا بإبط ناقته قد اختبأ إليها يستتر بها من الناس. وهذا الذي رواه مسلم والطبري ليس فيه أنه بايع ونكث بل فيه أنه لم يبايع أصلا. وروى الترمذي الحديث دون قصة جد بن قيس.

(٣) المائدة ، ٥ / ١.

(٤) البقرة ، ٢ / ١٧٧.

(٥) غفار : قبيلة تنسب إلى غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر ، منها الصحابي أبو ذر الغفاري رضي الله عنه (الأنساب ٤ / ٣٠٤).

(٦) مزينة : قبيلة تنسب إلى مزينة بن أد بن طابخة بن الياس ، منها الصحابي أبو حاتم المزني رضي الله عنه (الأنساب ٥ / ٢٧٧).

(٧) أشجع : اسم قبيلة عربية تنسب إلى أشجع بن ريث بن غطفان (القاموس ٣ / ٤٣).

(٨) الدئل : حي من كنانة ينسب إلى الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، ومنه أبو الأسود الدؤلي (الأنساب ٢ / ٥٠٨).

٢٣٣

(بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا (١٢) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (١٤)

حربا ، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا : نذهب إلى قوم غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فيقاتلهم! وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة (١) (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) هي جمع أهل ، اعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم وأنه ليس لهم من يقوم بأشغالهم (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) ليغفر لنا الله تخلّفنا عنك (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) تكذيب لهم في اعتذارهم ، وأنّ الذي خلّفهم ليس ما يقولون وإنما هو الشكّ في الله ، والنفاق ، فطلبهم الاستغفار أيضا ليس بصادر عن حقيقة (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه (إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) ما يضرّكم من قتل أو هزيمة ، ضرا حمزة وعلي (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) من غنيمة وظفر (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

١٢ ـ (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) زيّنه الشيطان (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) من غلوّ الكفر وظهور الفساد (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) جمع بائر كعائذ وعوز ، من بار الشيء هلك وفسد ، أي وكنتم قوما فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم ، أو هالكين عند الله مستحقين لسخطه وعقابه.

١٣ ـ (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) أي لهم ، فأقيم الظاهر مقام الضمير للإيذان بأنّ من لم يجمع بين الإيمانين الإيمان بالله والإيمان برسوله فهو كافر ، ونكّر (سَعِيراً) لأنها نار مخصوصة كما نكّر : (ناراً تَلَظَّى) (٢).

١٤ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يدبره تدبير قادر حكيم (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) يغفر ويعذب بمشيئته وحكمته ، وحكمته المغفرة للمؤمنين وتعذيب الكافرين (٣) (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) سبقت رحمته غضبه.

__________________

(١) البيهقي في الدلائل.

(٢) الليل ، ٩٢ / ١٤.

(٣) في (ظ) و (ز) والتعذيب للكافرين.

٢٣٤

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ١٥ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (١٦)

١٥ ـ (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) الذين تخلفوا عن الحديبية (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) إلى غنائم خيبر (لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) كلم الله حمزة وعلي ، أي يريدون أن يغيروا موعد الله لأهل الحديبية ، وذلك أنه وعدهم أن يعوّضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منهم شيئا (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) إلى خيبر ، وهو إخبار من الله بعدم اتباعهم ، ولا يبدل القول لديه (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) من قبل انصرافهم إلى المدينة : إنّ غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية دون غيرهم (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي لم يأمركم الله بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنيمة (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ) من كلام الله (إِلَّا قَلِيلاً) إلّا شيئا قليلا ، يعني مجرد القول ، والفرق بين الاضرابين أنّ الأول ردّ أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أطمّ (١) منه وهو الجهل وقلة الفقه.

١٦ ـ (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) هم الذين تخلّفوا عن الحديبية (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) يعني بني حنيفة قوم مسيلمة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه ، لأن مشركي العرب والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وقيل هم فارس وقد دعاهم عمر رضي الله عنه (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام ، ومعنى يسلمون على هذا التأويل ينقادون ، لأن فارس مجوس تقبل منهم الجزية ، وفي الآية دلالة صحة خلافة الشيخين حيث وعدهم الثواب على طاعة الداعي عند دعوته بقوله (فَإِنْ تُطِيعُوا) من دعاكم إلى قتاله (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) فوجب أن يكون الداعي مفترض الطاعة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي عن الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) في الآخرة.

__________________

(١) أطم : أفظع.

٢٣٥

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (١٧) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (١٨) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٩) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) (٢٠)

١٧ ـ (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) نفى الحرج عن ذوي العاهات في التخلّف عن الغزو (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الجهاد وغير ذلك (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَ) يعرض عن الطاعة (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) ندخله ونعذبه مدني وشامي.

١٨ ـ (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) هي بيعة الرّضوان سميت بهذه الآية ، وقصتها أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزل بالحديبية بعث خراش بن أمية الخزاعي رسولا إلى مكة ، فهموا به ، فمنعه الأحابيش ، فلما رجع دعا بعمر ليبعثه ، فقال : إني أخافهم على نفسي لما عرف من عداوتي إياهم ، فبعث عثمان بن عفان فخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا للبيت ، فوقروه واحتبس عندهم ، فأرجف بأنهم قتلوه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا نبرح حتى نناجز القوم) ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه على أنّ يناجزوا قريشا ولا يفروا تحت الشجرة ، وكانت سمرة ، وكان عدد المبايعين ألفا وأربعمائة (١) (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الإخلاص وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) أي الطمأنينة والأمن بسبب الصلح على قلوبهم (وَأَثابَهُمْ) وجازاهم (فَتْحاً قَرِيباً) هو فتح خيبر غبّ انصرافهم من مكة.

١٩ ـ (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) هي مغانم خيبر وكانت أرضا ذات عقار وأموال فقسمها عليهم (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) منيعا فلا يغالب (حَكِيماً) فيما يحكم فلا يعارض.

٢٠ ـ (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) هي ما أصابوه مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعده إلى يوم القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) المغانم يعني مغانم خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ

__________________

(١) الطبري في تفسيره.

٢٣٦

وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢١) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (٢٣)

(النَّاسِ عَنْكُمْ) يعني أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد (١) وغطفان (٢) حين جاؤوا لنصرتهم فقذف الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا ، وقيل أيدي أهل مكة بالصلح (وَلِتَكُونَ) هذه الكفة (آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) وعبرة يعرفون بها أنهم من الله عزوجل بمكان ، وأنه ضامن نصرهم (٣) والفتح عليهم وفعل ذلك (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) ويزيدكم بصيرة ويقينا وثقة بفضل الله.

٢١ ـ (وَأُخْرى) معطوفة على هذه ، أي فعجّل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى هي مغانم هوازن في غزوة حنين (٤) (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) لما كان فيها من الجولة (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) أي قدر عليها واستولى وأظهركم عليها ، ويجوز في أخرى النصب بفعل مضمر يفسره قد أحاط الله بها تقديره وقضى الله أخرى قد أحاط بها ، وأما لم تقدروا عليها فصفة لأخرى ، والرفع على الابتداء لكونها موصوفة بلم تقدروا ، وقد أحاط الله بها خبر المبتدأ (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) قادرا.

٢٢ ـ (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة ولم يصالحوا أو من حلفاء أهل خيبر (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) لغلبوا وانهزموا (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يلي أمرهم (وَلا نَصِيراً) ينصرهم.

٢٣ ـ (سُنَّةَ اللهِ) في موضع المصدر المؤكّد أي سنّ الله غلبة أنبيائه سنة ، وهو قوله : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (٥) (الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) تغييرا.

__________________

(١) أسد : اسم قبائل عدة من العرب تنسب إلى : أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ، وأسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ، وأسد بن ربيعة بن نزار (الأنساب ١ / ١٣٨).

(٢) غطفان : قبيلة من قيس عيلان : نزلت الكوفة ، وغطفان بن قيس جهينة بطن من جهينة بن زيد بن ليث. (الأنساب ٤ / ٣٠٢).

(٣) في (ظ) و (ز) نصرتهم.

(٤) حنين : واد قريب من مكة بينة وبينها ثلاث ليال (معجم البلدان ٢ / ٣٥٩).

(٥) المجادلة ، ٥٨ / ٢١.

٢٣٧

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (٢٥)

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) أي أيدي أهل مكة (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) عن أهل مكة ، يعني : قضى بينهم وبينكم المكافّة والمحاجزة بعد ما خوّلكم الظفر عليهم والغلبة وذلك يوم الفتح ، وبه استشهد أبو حنيفة رضي الله عنه على أن مكة فتحت عنوة لا صلحا ، وقيل كان في غزوة الحديبية لمّا روي أنّ عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة (١) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أظهر المسلمين عليهم بالحجرة حتى أدخلوهم البيوت (بِبَطْنِ مَكَّةَ) أي بمكة أو بالحديبية لأن بعضها منسوب إلى الحرم (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي أقدركم وسلّطكم (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) وبالياء أبو عمرو.

٢٥ ـ (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ) هو ما يهدى إلى الكعبة ، ونصبه عطفا على كم في صدوكم ، أي وصدوا الهدي (مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ) محبوسا عن (٢) أن يبلغ ، ومعكوفا حال. وكان عليه‌السلام ساق سبعين بدنة (مَحِلَّهُ) مكانه الذي يحلّ فيه نحره ، أي يجب ، وهذا دليل على أنّ المحصر محل هديه الحرم ، والمراد المحلّ المعهود وهو منّى (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) بمكة (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) صفة للرجال والنساء جميعا (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بدل اشتمال منهم ، أو من الضمير المنصوب في تعلموهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) إثم وشدة ، وهي مفعلة من عرّه بمعنى عراه إذا دهاه ما يكرهه ويشقّ عليه ، وهو الكفارة إذا قتله خطأ ، وسوء قالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز ، والإثم إذا قصّر (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بأن تطؤوهم ، يعني أن تطؤوهم غير عالمين بهم ، والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة ، والمعنى أنه كان بمكة قوم من المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم ، فقيل ولو لا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة لما كف أيديكم عنهم ، وقوله

__________________

(١) الطبري عن ابن أبزى بأتم منه.

(٢) ليس في (ظ) و (ز) عن.

٢٣٨

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (٢٦)

(لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) تعليل لما دلت عليه الآية وسيقت له من كفّ الأيدي عن أهل مكة والمنع عن قتلهم صونا لمن بين أظهرهم من المؤمنين ، كأنه قال : كان الكفّ ومنع التعذيب ليدخل الله في رحمته أي في توفيقه لزيادة الخير والطاعة مؤمنيهم ، أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم (لَوْ تَزَيَّلُوا) لو تفرقوا وتميز المسلمون من الكافرين ، وجواب لو لا محذوف أغنى عنه جواب لو ، ويجوز أن يكون لو تزيلوا كالتكرير للولا رجال مؤمنون لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا) هو الجواب ، تقديره ولو لا أن تطؤوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات ولو كانوا متميزين لعذبناهم بالسيف (مِنْهُمْ) من أهل مكة (عَذاباً أَلِيماً) ، والعامل في.

٢٦ ـ (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي قريش لعذبنا أي لعذبناهم في ذلك الوقت ، أو اذكر (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) المراد بحمية الذين كفروا وهي الأنفة ، وسكينة المؤمنين وهي الوقار ، ما يروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل بالحديبية بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص على أن يعرضوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ، ففعل ذلك وكتبوا بينهم كتابا ، فقال عليه‌السلام لعليّ رضي الله عنه : (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل وأصحابه : ما نعرف هذا ، ولكن اكتب باسمك اللهم ، ثم قال : (اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل مكة) فقالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة ، فقال عليه‌السلام : (اكتب ما يريدون فأنا أشهد أني رسول الله وأنا محمد بن عبد الله) فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك ويشمئزوا منه فأنزل الله على رسوله السكينة ، فتوقروا وحلموا (١) (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) الجمهور على أنها كلمة الشهادة ، وقيل بسم

__________________

(١) البيهقي في الدلائل من رواية عروة في قصة الحديبية ، وفي الصحيح من رواية البراء بن عازب ومن رواية مروان والمسور ، وفي النسائي مختصرة من رواية ثابت البناني عن عبد الله بن مغفل.

٢٣٩

(لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)(٢٧)

الله الرحمن الرحيم ، والإضافة إلى التقوى باعتبار أنها سبب التقوى وأساسها ، وقيل كلمة أهل التقوى (وَكانُوا) أي المؤمنون (أَحَقَّ بِها) من غيرهم (وَأَهْلَها) بتأهيل الله إياهم (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيجري الأمور على مصالحها.

٢٧ ـ (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) أي صدقه رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب ، فحذف الجار وأوصل الفعل كقوله : (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (١) روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصّروا ، فقصّ الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا : إنّ رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق ، فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبيّ وغيره : والله ما حلقنا ولا قصّرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت (٢) (بِالْحَقِ) متعلق بصدق أي صدقه فيما رأى وفي كونه وحصوله صدقا ملتبسا بالحقّ أي بالحكمة البالغة ، وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص (٣) وبين من في قلبه مرض ، ويجوز أن يكون بالحقّ قسما إما بالحقّ الذي هو نقيض الباطل أو بالحقّ الذي هو من أسمائه ، وجوابه (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) وعلى الأول هو جواب قسم محذوف (إِنْ شاءَ اللهُ) حكاية من الله تعالى قول (٤) رسوله لأصحابه وقصّهم عليه (٥) ، أو تعليم لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك متأدبين بأدب الله ومقتدين بسنته (آمِنِينَ) حال ، والشرط معترض (مُحَلِّقِينَ) حال من الضمير في آمنين (رُؤُسَكُمْ) أي جميع شعورها (وَمُقَصِّرِينَ) بعض شعورها (لا تَخافُونَ) حال مؤكدة (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي من دون فتح مكة (فَتْحاً قَرِيباً) وهو فتح خيبر لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود.

__________________

(١) الأحزاب ، ٣٣ / ٢٣.

(٢) روى الطبري والبيهقي في الدلائل نحوه وليس فيه قول المشككين.

(٣) في (ظ) و (ز) الخالص.

(٤) في (ز) ما قال.

(٥) في (ظ) وقصته عليهم ، وفي (ز) وقص عليهم.

٢٤٠